الأربعاء 28 / ربيع الأوّل / 1446 - 02 / أكتوبر 2024
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ۗ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم، وَمَغْفِرَةٌ أي عفو وغَفْر عن ظلم قولي أو فعلي، خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ عن خلقه، حَلِيمٌ أي يحلم ويغفر، ويصفح، ويتجاوز عنهم".
القول المعروف من كلمة طيبة، أو دعاء لمسلم في حال الاعتذار، وكذا التلطف من العبد في الكلام، والعبارة؛ خير وأفضل من العطاء مع الأذية، وجرح المشاعر، أو المن عليه، أو إبداء الضجر منه، والناس قد تذهب أجور صدقاتهم بسبب هذه الأمور المحتفة بها وقد قال دريد:
لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن تُرى مسئولاً
لا تجبهن برد وجه مؤمل فبقاء عزك أن تُرى مأمولاً
قوله سبحانه: وَمَغْفِرَةٌ قال: أي عفو وغَفْر عن ظلم قولي أو فعلي صدر من هذا السائل، إذ إنه قد يصدر منه إساءة، أو يتكلم بكلام لا يليق، أو يلح في الطلب...، وبعضهم جعل معنى المغفرة من الغَفْر: وهو الستر مع العفو، والتجاوز في عدم المؤاخذة بالإساءة؛ ومنه سُمي المِغْفَر الذي يوضع على الرأٍس بذلك؛ لأنه يستر رأس لابسه، ويقيه الضرب، والمعنى أن تستر خلته حين أظهر لك حاجته، ومسغبته، وقصدك في الطلب دون غيرك، واختار هذا الرأي كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وقيل: المغفرة بالنسبة للسائل نفسه بمعنى أن السائل ينبغي له أن يقدِّر، وأن يلتمس العذر، ويغفر للإنسان الذي سأله فلم يعطه، وهذا المعنى بعيد.
قوله: وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يحتمل في المعنى إذا ربطناه بالآية أن الله غني عن صدقاتكم، حليم فلا يعجل العقوبة لهذا المانِّ، ويحتمل معنى آخر وهو أن الله مع غناه الكامل المطلق إلا أنه حليم برغم ذلك، وأنتم مع فقركم وقلة ما في أيديكم تضجرون حينما تُسألون شيئاً من هذا الحطام الذي في أيديكم، والمعنى الذي قبله أحسن منه، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

"قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [البقرة:263] هو ردّ السائل بجميل من القول: كالدعاء له، والتأنيس."

هذه كما قال ابن دريد:

لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولًا

إذا فكر الإنسان في هذا خير دهرك أن تُرى مسئولا، يعني: الناس يطمعون بنوالك، وعطائك، ويسألونك ما هو أنت

الذي تسأل، يقول: 

لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولًا

هذه منزلة الله وضعك بها أن هؤلاء الناس يأملون منك، ويسألونك، ولم تكن أنت السائل، ولا المؤمل، ولم تكن أيضًا بحالٍ ييأس الناس منه فلا يأتون إليه.

"قوله تعالى: وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263]: عفوٌ عن السائل إذا وجد منه جفاء، وقيل: مغفرة من الله لسبب الردّ الجميل، والمعنى: تفضيل عدم العطاء إذا كان بقولٍ معروفٍ، ومغفرة، على العطاء الذي يتبعه أذى."

وبعضهم يقول: المغفرة قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] يعني: مغفرة من جهة السائل إذا اعتذر منه، لكن هذا بعيد، المتبادر: أن القول المعروف، والمغفرة كل ذلك يرجع إلى المسئول، وهذه المغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذى، القول المعروف، والمغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، فهو مأمور بأن يقول القول المعروف، وأن يتجاوز عن هذا السائل؛ لأن هذا السائل قد يأتي في وقت غير مناسب، في وقت راحة، في وقت انشغال قد يُلحف في المسألة، قد يقطع عليه حديثه، قد يتكلم بكلامٍ غير مناسب فيستفز السامع، فهنا يحتاج إلى غفر قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ.

وهذا المعنى، يعني: أن ذلك يرجع إلى المسئول وَمَغْفِرَةٌ يعني: عفوٌ عن السائل إذا وجد منه شيء، هذا الذي اختاره ابن جرير[1] وابن كثير[2] وهو المتبادر أن ذلك يرجع إلى المسؤول، كل ذلك يرجع جميعًا إليه مَغْفِرَةٌ ويكون في معنى أيضًا مغفرة؛ لأن فيها بمعنى الغفر، ويكون بذلك أيضًا ستر خلت هذا السائل، وفاقته، وترك أذيته، وترك المؤاخذة، هذا من المؤاخذة، والستر، فيستره.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ فلا يتكلم أيضًا في المجالس، ويقول: فلان يسأل، ويتكلم، ويطلب، ولا يحسن خطاب، ولا طريقة السؤال، ونحو ذلك، كذلك قد يُعطيه، أو لا يُعطيه، لكن يتكلم أنه جاء، وسأل، وطلب، وذاك قد يكون جاءه بصفة خاصةٍ، ولا يُريد من الآخرين أن يعرفوا أنه طلب، أو احتاج، فيتحدث عن أنه جاء إليه، وأنه يطلب مساعدة، ونحو ذلك، وهذا لا يليق. 

  1. تفسير الطبري (5/520).
  2. تفسير ابن كثير (1/693).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما للمنفقين في سبيله من الأجر والثواب المُضاعف، ما لم يُتبعوا تلك النفقات بالمنّ والأذى، قال بعد ذلك: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [سورة البقرة:263].

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ القول الذي لا عيب فيه، وليس فيه ما يجرح ويؤذي ويُسيء إلى السائل.

وَمَغْفِرَةٌ وهي: التجاوز عن هذا السائل، فقد يبدر منه ما يستفز هذا المسؤول، وقد يشتمل سؤاله على شيء من الإلحاح والإلحاف والوسائل والطرق والعبارات التي ربما تبعث على شيء من الضجر، أو الغضب، وربما لا يوفق إلى اختيار الوقت المناسب، والحال المناسبة، فقد يراك وأنت مشغول مع غيرك تتحدث معه في أمر قد شغلك، فيقطع الحديث، ويقول: أعطني، فلا ينتظر ولا يتنحى قليلاً حتى تنتهي، وإنما يقطع عليك هذا الحديث.

وقد يأتي في وقت الظهيرة، والناس قد أخلدوا إلى الراحة، ويطرق الباب في مثل هذا الوقت، وربما دخل الدار من غير استئذان، يجد الباب مفتوحًا، فيُفاجأ أهل الدار بأنه قد حل بوسطها، من غير استئذان، ثم بعد ذلك يقول: أنا محتاج، وربما يستعمل بعض الأساليب غير المناسبة من التمويه، حيث يُشعر بعض الأولاد أو الصغار، أو نحو ذلك بأنه يعرف أباهم، أو أن هذه المرأة السائلة تعرف أمهم، فتقول: أريد الوالدة، أنا أم فلان، وتأتي بكنية من الكُنى، فيفتح هؤلاء الصغار الباب، فتدخل مباشرة، وتُفاجئ بها هذه المرأة في غرفتها، أو في وسط دارها، فالتجاوز عن مثل هذه التصرفات والمزاولات هو المطلوب.

والستر أيضًا فلا يتحدث ويقول: جاءني فلان؛ لأن الغفر -كما ذكرنا في بعض المناسبات- يتضمن أمرين: التجاوز إضافة إلى الستر، ومنه: المغفر يقي الرأس، وأيضًا يستره، فقد يعطيه لكنه يتحدث عند الآخرين أنه أعطاه، وأن فلان قد جاء إليه وسأله، ونحو ذلك، فهذا القول المعروف والمغفرة أفضل من صدقة -وإن عظُمت- يتبعها أذى من المُتصدق وإساءة، والله غني عن العباد، وعن صدقاتهم ونفقاتهم، حليم لا يُعاجلهم بالعقوبة.

فيُؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن الحرمان والمنع مع اللطف أفضل من العطاء مع العنف، اثنان أحدهما اعتذر لكن تلطف بهذا السائل، والآخر أعطاه لكنه نهره وزجره، وأغلظ عليه، فالأول أفضل، لا سيما أن هذا المنّ والأذى -كما سبق- يُبطل هذه النفقة، فهي باطلة لا يجد ثوابها عند الله -تبارك وتعالى، إضافة إلى أنه قد آذى هذا السائل، وخالف أمر الله -تبارك تعالى- وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10].

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى تنكير قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ليصدق على أقل ما يتحقق فيه هذا الإطلاق والوصف قَوْلٌ مَعْرُوفٌ يعني أدنى قول معروف، وهذا فيه حث على الكلام الطيب، لا سيما مع الضعفاء والمنكسرة قلوبهم، وأصحاب الحاجات، وفيه أيضًا حث على المغفرة لمن أساء، فاليد العليا خير من اليد السفلى، ولكن ذلك لا يعني الاستطالة.

وأيضًا هذا يدل على تفاضل الأعمال الصالحة خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ فخير هنا أفعل تفضيل، وقد ذكرنا في بعض المناسبات أن خير وشر تأتي بمعنى أخير وأشر، يعني: أفضل من صدقة، فإذا كان هذا التفاضل يقع في الأعمال -كما هو معلوم- فكذلك هو يقع بين العاملين، فهم يتفاضلون، بماذا يتفاضل الناس؟ يتفاضلون بما يقوم في قلوبهم، وبأعمالهم أيضًا، فهذا مما يتمايز به الناس، ويكون الخلق على درجات، كما لا يخفى.

وفي قوله -تبارك وتعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى قول معروف يصدر من المسؤول، ومغفرة صادرة عنه، خير من صدقة يتبعها أذى، وتفسيره بهذا أولى، من قول بعضهم: قول معروف ومغفرة من الله لهذا المسؤول، خير من صدقة يتبعها أذى، فتكون المغفرة هذه بسبب الرد الجميل، يعني: مغفرة من الله بسبب الرد الطيب والكلام الطيب، لكن هذا فيه بُعد، والأصل أن يكون ذلك على نسق واحد، وأن يتحد مرجع الضمائر.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى الصدقة هنا نكرة خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعني ولو كانت عظيمة، فلو تصدق بصدقة عظيمة، لكن حصل بعدها منّ، كأن يكون بنى لهؤلاء الفقراء دورًا ومساكن، وأسكنهم فيها، ومكنهم وملكهم، وكتبها بأسمائهم، ولكنه صار يتحدث، فكلما رأى واحدًا منهم، قال لجلسائه: هذا ممن أسكنته في المساكن التي بنيتها خصيصًا للفقراء والمساكين والمحتاجين، كم رقم الدار التي تسكنها؟ يقول: يا عمي أنا أسكن في دار رقم 13، يعني: هو يُقرره ويستنطقه، ليتكلم بفضله ونعمته عليه، فهذا من المن، ولو كانت صدقة عظيمة، يعني: الإنسان قد يُنفق أحيانًا ملايين، وقد يبني قرية للفقراء، ولكنه يُتبع ذلك بالمنّ والأذى، فيكون ذلك سببًا للبطلان، فيذهب ماله الذي أنفقه ولم يحتفظ به، ويتمتع به، ولم يحصل على الأجر؛ لأنه يؤذي بذلك أو يمُنّ، والمنّ لا شك أنه نوع من الأذى.

وقال هنا: خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ولم يقل: أو منّ، وهناك قال: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [سورة البقرة:264] وهنا اكتفى بذكر الأذى؛ لأن المنّ نوع من الأذى، فهو داخل في جملة الأذى، لكنه ذكره هناك ونص عليه لكثرة وقوعه، وعُسر التحفظ منه، سواء كان هذا المنّ صريحًا، أو كان غير صريح.

لكن الفقير الذي يقوم ويخطب أمام الناس، ويقطع عليهم الأذكار، ويشكو الخالق إلى المخلوقين، هذا لا يليق، ولا يُمكن من هذا السؤال، لكن من غير زجر ولا نهر، وإنما يقال له: اجلس بارك الله فيك، والناس يعطونك، وبعضهم قد يجترئ ويقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10] فيقال: ما نهرك أحد، لكن اجلس، والناس يعطونك، فلا يُمكن من هذا السؤال، وذكرت قول عكرمة كان يُشدد في هذا يقول: "الناس يأتون للصلاة والذكر وهؤلاء يأتون للسؤال" يعني: يأتون المسجد للسؤال.

والفقهاء لهم كلام في هذا بعضهم يُشدد فيه، وبعض الفقهاء من الحنفية من أوصل الأمر إلى حد أنه لا يقبل شهادة من يتصدق على فقير في المسجد، يقول في المحيط البرهاني: "ولا ينبغي أن يتصدق على السائل في المسجد الجامع؛ لأنه إعانة لهم على أذى الناس، وقد قال خلف بن أيوب: لو كنت قاضيًا لم أقبل شهادة من يتصدق في المسجد الجامع، وقال الفقيه أبو بكر بن إسماعيل الواهب بفلس يحتاج إلى سبعين فلسًا ليصير كفارة له"[1].

لكن هذا غير صحيح، بل يُتصدق عليه، ولا يصل الأمر إلى هذا، ولكن لا يُمكن من هذه الخُطب أمام الناس، وشكوى المخلوق على الخالق، بل يجلس، والناس يعطونه، والمساجد ما بُنيت لهذا، والله أعلم.

وقال: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ فهذا يبعث على معانٍ في نفوس أهل الإيمان، وأهل الصدقات، فهذا الغني الذي ينفق يتذكر أن الله غني، فهو يعوضه ويُعطيه، فهي مخلوفة، والأجر محفوظ ومُضاعف، وأيضًا فالله غني عن هذا وعن صدقته، إذا كان يصدر عنه المنّ والأذى، فالله هو الذي يُعطي عباده، ويوليهم المُسيء والمُحسن، فهناك من نسب إلى الله الصاحبة والولد، ومن يسب الدهر، ويسب الله -تبارك وتعالى، ومع ذلك يرزقهم ويُعافيهم، فهو غَنِيٌّ حَلِيمٌ لا يُعاجل بالعقوبة، فهنا ذكر هذين الاسمين الغنى والحلم معًا، هذا فيه وصف ثالث؛ لأن الغنى في كثير من الأحيان ربما يبعث صاحبه على شيء من الاستطالة، وسرعة الغضب، ويعتقد أن كل شيء يريده يجب أن يُنفذ مُباشرة، وأن أمواله تخدمه، وليس لأحد أن يُكدر مزاجه بحال من الأحوال، فهو أبعد ما يكون عن الحلم، فالغنى مع الحلم كمال.

وأيضًا ختْم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين الكريمين، يُؤخذ منه: أن هذا الذي يمنّ ويؤذي بصدقته أن الله غني عنه، وحليم، حيث لم يُعاجله بالعقوبة، وأيضًا فالذي يخرج عن طوره، ويؤذي هذا الفقير والمحتاج، الله غني حليم، فالله -تبارك وتعالى- مع غناه يُعطي الخلق، ويوليهم، ويتفضل عليهم، مع إساءاتهم، فهو حليم، فينبغي على العبد أن يكون كذلك، فلا يحمله سوء تصرف هذا الفقير، أو السائل على شيء من الإساءة إليه، أو معاقبته، أو أذاه، فهذا ربنا -تبارك تعالى- كامل الغنى، ومع كثرة إساءات الخلق وذنوبهم ومعاصيهم، لا يُعاجلهم بالعقوبة، فهو حليم، فصار ذلك من الجهتين، من جهة المعطي، فينبغي أن يتصف بذلك، وأيضًا: فالله غني عنه، ولم يُعاجله بالعقوبة، حيث يمن أو يؤذي، فهذا كله مما يؤخذ من هذا الموضع، فهو لا يُعاجل من عصاه، بل يرزقه ويُعطيه، مع عصيانه وكفره.

والمقصود -أيها الأحبة- في ذكر هذا المعنى، هو مفهوم ينبغي أن يُدركه كل مؤمن، وكل مُنفق ومُحسن: أن الإسلام لم يقصد بالإنفاق مجرد سد الخلة، وأن يملأ بطون هؤلاء، لكن من غير مراعاة لمشاعرهم، وإنما ذلك يتصل بلون من التزكية والتهذيب للمعطي، وأيضًا هناك مشاعر لهذا المُعطَى والسائل يجب أن تُراعى، فليست القضية أن نملأ بطنه، ولكننا في الوقت نفسه نُوسعه شتمًا وذمًا وعيبًا وتشهيرًا، ونحو ذلك، إنما القضية أن نستشعر أن هذا فقير ومحتاج، وبحاجة إلى رعاية، وأن الرابطة الإيمانية تقتضي مواساته، وأن نشعر بشعوره.

وكما ذكرنا في آيات الصيام بأن ذلك يستجيش المشاعر، فيشعر الإنسان بإخوانه الفقراء الذين يعانون من الجوع، فإذا جاع الغني شهرًا في السنة في نهار رمضان، فينبغي أن يحمله ذلك على الإحسان إلى إخوانه الفقراء والمحتاجين، فيكون ذلك تذكيرًا لنا بنعمة الله -تبارك وتعالى، والمقام لا يقتضي، ولا يحتمل بحال من الأحوال المنّ والأذى، إنما هي إحسان بالمال، وهو إحسان أيضًا بالقول والمشاعر، وارتباط إيماني بين الأغنياء والفقراء، وأن يكون هناك تراحم، وعطف على هذا الفقير، وأن يشعر الأغنياء بإخوانهم الفقراء في المجتمع.

لكن المنّ إنما يقع من نفوس مريضة، تشعر بشيء من الالتذاذ بإذلال الآخرين وتركيعهم وإهانتهم، فهو يمنّ عليهم، والأذى يُشعر بنزق وبطباع شرسة، وقلوب قاسية، فهذا المحتاج بحاجة إلى رحمة، وليس بحاجة إلى أذية، فيكفيه ذل المسألة، فيجبر كسره، ويقوي قلبه، ويسد حاجته وخلته، مع حفظ كرامته؛ ولذلك يوجد -ولله الحمد- من الجمعيات التي ترعى الفقراء ما يكون معه إيصال هذه المساعدات بصور راقية، لا يحتاج الفقير أبدًا أن يمشي إليها، وأن يسأل، ويكون هذا من غير مشاهدة أحد من الناس، وفي بعض دور الأيتام لا يسمحون  للمتصدق أن يأتي إلى اليتيم، وأن يعطيه بنفسه.

والإنسان قد يقصد أن يُرقق قلبه، فيفعل هذا؛ لأن هذا من أسباب ترقيق القلوب، فبعض الناس يريد أن يعطي اليتيم، وأن يرى الفرحة والابتسامة من هذا اليتيم، ويريد أن يرى السعادة على وجهه، بعضهم هكذا، لكن يبقى أن هذا اليتيم سيشعر بأنه يمد يده، وأن الآخرين جاءوا قصدًا إلى هذا المكان من أجل أن يُحسنوا إليه، وأن يتفرجوا على مشاعره بعد العطاء، فيكون ذلك كسرًا لنفسه، مهما كان اليد العليا خير من اليد السفلى، فهؤلاء لا يسمحون للمعطي أن يذهب إلى هذه الدور، ويعطي اليتيم بنفسه، وإنما يأخذونها منه، ويضعونها في أماكن هؤلاء الأيتام، فيجدونها ولا يعرفون مصدرها، وبطرق راقية، وتفاصيل في التعامل.

وهذا لا شك أنه جيد، وينبغي أن يُكثر ويُشهر، وأن يكون ذلك ثقافة للجمعيات، ويوجد أيضًا جمعيات خيرية ترعى الفقراء والأرامل ونحو ذلك، يوصلون إليهم في دورهم، من غير أن يشعر بهم أحد، وما يحتاج الفقير أن يأتي ويقدم طلبًا إليهم، أبدًا، هم يذهبون إليه في مكانه، ولو كان بعيدًا، ويجعلون في كل ناحية، ممن يثقون به، من إمام المسجد، أو نحو ذلك، وفي قرى وهِجر وأماكن بعيدة وبين جبال، من يتحسس حاجة الناس هؤلاء، ومن الفقراء، ومن المتعفف، فيجدون ذلك عند بيوتهم من غير طلب، ولا مسألة، وهكذا في المناسبات والأعياد، ونحو ذلك يجدون من الملابس وغيرها.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى فهنا أحوال:

الأول: يقول قولاً معروفًا ويتصدق فهذا الأكمل والأفضل.

الثاني: أن يقول قولاً معروفًا، ولا يتصدق.

الثالث: أن يقول قولاً سيئًا، يعني أذى ولكنه يتصدق.

الرابع: وهو أسوء الحالات، وهو أن يقول قولاً سيئًا، ولا يتصدق، يؤذيه ويُزجره ويقول له: لا نراك، ولا تأتي، وأنتم غير صادقين، ونحو ذلك من العبارات المؤذية، ولا يتصدق عليه، فصارت أربع مراتب، والله أعلم. 

  1. المحيط البرهاني في الفقه النعماني (5/ 402).