الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُوا۟ مَنًّا وَلَآ أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:262-264]: "يمدح - تبارك وتعالى - الذين ينفقون أموالهم في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات، والصدقات؛ مناً على من أعطوه، فلا يمنون به على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل.
وقوله: وَلاَ أَذًى أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان، ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك فقال: لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه، وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك".

فقد سبق الكلام على أن الأقرب في حمل الآيات المادحة للمنفقين أموالهم في سبيل الله على العموم في الجهاد وغير الجهاد.
وقوله سبحانه: ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى المن: نوع من الأذى، ولكنه خاص منه، فالمن: أن يمتن على المعطى بالعطية بأن يذكره، ويبكته بها، أو يقرره بإحسانه إليه...
والأذى: يحصل بهذا المن، ويحصل بغيره، كأن يعطيه ثم يسمعه ما يكره بأن يغلظ عليه بالقول، أو يشتمه، أو يجرح مشاعره، أو يرفع صوته، أو يبدي امتعاضه وتذمره منه، أو نحو ذلك من الكلام، فهذه الأمور قد تذهب بأجر صدقته، سواء كان ذلك بطريق مباشر، أو غير مباشر.

مرات الإستماع: 0

"مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]: المن: ذكر النعمة على معنى التعديد لها، والتقريع بها، والأذى: السب."

المن، والأذى، "المن: ذكر النعمة" المنَّ من المخلوق نقص، وعيب، ومن الله - تبارك، وتعالى - ليس كذلك، وقد مضى الكلام على هذا في شرح الأسماء الحسنى، المنان فالله يمنَّ على عباده - تبارك، وتعالى - ولا يكون ذلك نقصٌ، وليس بأذى للمعطَين، فالله سبحانه هو الأول، والآخر، فالنعم منه مبتدئة، وإليه المرجع، والمآب.

فهنا، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا، ولا أذى "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]" هذه نفقة خالصة، لكن ذكر المبطل الآخر، وهو المن، والأذى، والمن، والأذى هذا غير الرياء، والسمعة، مما يبطل العمل مما يكون قبله، أو في أثنائه، أو في يكون بعده حينما يُسمِّع به، فيذكره في التسميع طلبًا للسمعة، بينما المن، والأذى هذا يكون للمعطَى، فالمن: يكون بذكر النعمة له على سبيل التقريع، ونحو ذلك.

والأذى يقول: "السب" وما يُكره، ويُغتم به كل ذلك من الأذى، فحينما يُذكره بالنعمة، والعطاء فيقول: بأي طريق كان هذا من المنَّ، وقد قال بعض السلف: إذا كان تسليمك عليه يعني يؤذيه، يعني تتصل عليه مثلًا، وتقول: أنا أردت أن أُسلم، وأطمئن، إذا كان يثقل عليه فدعه، فهذا المن سواء كان صريحًا تقول له: أعطيتك، وأحسنت إليك، أو كان ذلك تعريضًا فإنه يكون سببًا لذهاب الأجر، وكذلك الأذى أثناء العطية، أو بعد ذلك كأن يقول له مثلًا: خذ هذا، ولا تأتي، لا أراك بعد اليوم، فيذمه، ويزجره، ويرفع صوته عليه، ويُسِمعه ما يكره، بعض الناس يفعل هذا يُعطي، ولكنه يؤذي.

ولهذا قال الله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263] يعني: كأن يُقال له: أبشر إذا جاءنا الشيء أعطيناك، نسأل الله أن يفرج عنك، وييسر أمرك خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263] هذا أفضل من أن يُعطيه، ويقول له كلامًا يجرحه، فمراعاة حال هذا السائل، ومراعاة مشاعر هؤلاء الناس هذا مطلب شرعي، ليس فقط هو سد الحاجة بالمال بل أيضًا قال الله - تبارك، وتعالى -: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10]؛ لأنه يكفيه ذل السؤال، فلا يجتمع عليه هذا، وهذا.

ذكرت في لعله في الكلام على قوله - تبارك، وتعالى - في سورة الإسراء: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28] إذا ما كان عندك شيء، وتنتظر عطاء الله، ورزقه فقل لهم قولًا ميسور، يكون بإذن الله إذا أعطانا الله، ووسع علينا أعطيناكم، وتعدهم العدة الحسنة فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28].

إلا تكن ورقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العودِ

إذا ما كان عندك شيء تعطيه (إلا تكن ورقٌ يومًا أجود بها) إذا ما عندك ذهب، فضة، ورق تجود بها (للسائلين فإني لين العودِ)، يعني: أرد بالكلام الجميل، والكلام الطيب.

لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي

إما أعطيهم، وإما يجدون الرد الحسن، أما الرد الجارح فهذا غير وارد لا مع العطاء، ولا مع الحرمان، وهو مع الحرمان أشد، فإذا كان يُذم في المعطي مع مثل هذه الكلمات، والعبارات، فكيف بالمنع؟ 

مرات الإستماع: 0

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262].

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يبذلونها في مرضاته -تبارك وتعالى، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا وبذلوا مَنًّا على من أعطوه، وأحسنوا إليه، وَلا أَذًى بقول، أو فعل، فهؤلاء لهم ثوابهم العظيم عند الله -تبارك وتعالى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ونفي الخوف مطلقًا -كما سيأتي- يمكن أن يُحمل ذلك على الدنيا، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على شيء فاتهم وتركوه ورائهم.

وهذه الآية الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ جاءت بعد بيان فضل الإنفاق، والترغيب فيه، فبيّن هنا كيفية هذا الإنفاق، وصفته التي يحصل بها الثواب، ويثبت عند الله -تبارك وتعالى، فبيّن أن هذه النفقة كحبة أنبتت سبع سنابل، في كل سُنبلة مائة حبة، والله يُضاعف لمن يشاء، لمن يكون ذلك؟ لمن أنفق ماله في سبيل الله، ولم يُتبع ذلك بما يُبطله من المن والأذى، وهكذا ابتدأها بما يُشعر بالمدح والثناء، فقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وفي قوله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ عُبر بالفعل المضارع، فدلّ ذلك على الاستمرار، وأن نفقتهم غير منقطعة، وأنها على سبيل الدوام، ومُلازمة لهذه الصفة: لا يُتبعونها منًا ولا أذى، وفي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يدل على ما يُطلب في ذلك من شروط قبول الأعمال، والاتباع للمشروع: وهو أن تكون هذه النفقة في وجه مشروع، وأن تكون خالصة لله -تبارك وتعالى- ليست للرياء، ولا للسمعة، وقد ذكرنا في الآية السابقة ما يتعلق بإضافة الأموال إليهم مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [سورة البقرة:261] وهنا قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فأضاف الأموال إليهم؛ وذلك يدل على أنهم مالكون لهذه الأموال، فيصح نسبتها إليهم؛ ولهذا يتصرفون فيها بالهبة والهدية والمعاوضات والصدقة، ونحو ذلك، وإن كان الذي استخلفهم في ذلك كله هو الله -تبارك وتعالى، فهو المُتفضل على عباده أولاً وآخرًا.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى فـ(ثم) تُفيد الترتيب مع التراخي، وهذا التراخي أحيانًا يكون في الزمن، تقول: جاء زيد، ثم عمرو، يعني: أن عمرًا جاء بعده، وأحيانًا يكون ذلك لبيان التفاضل في الرتبة، وهذه الآية تحتمل المعنيين، ولا يبعُد أن يُجمع بينهما، فعلى القول بأن ذلك للترتيب في الزمن، المعنى: أنهم إذا أنفقوا لم يحصل لهم بعد هذا الإنفاق والإعطاء والبذل منٌّ، وإذا كانت للرتبة يعني أنهم مع الإنفاق فهم متحققون بوصف من أوصاف الكمال الواجب، وهو أنهم لا يتبعون ما أنفقوا منًا، ولا أذى.

فعلى الأول: أنها للرتبة، كما قال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البلد:17] مع أن الإيمان شرط في قبول الأعمال، يعني: إضافة إلى ذلك، وليس للزمن، فهو بحسب السياق، فهنا على القول بأن ذلك للتفاوت، ثم لا يُتبعون، يُبين التفاوت بين النفقة التي قد يتبعها منٌ أو أذى، أو النفقة المطلقة، والنفقة التي لا يتبعها منّ ولا أذى، فبينهما مراتب شاسعة، وهذا أيضًا ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ يدل على علو مرتبة هذا المذكور بعدها ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ يعني: هم إضافة إلى ذلك لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى، ويحتمل أن تدل (ثم) هذه على دوام الفعل ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا وإرخاء أيضًا الطول في الإمهال أو التوسعة في ذلك، يعني: أنهم ماضون على هذا الوصف، ومستمرون وباقون وثابتون عليه، فلا يحصل منهم شيء من المن أو الأذى.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر هنا ملحظًا، وهو أن المن والأذى -على القول بأنها للترتيب الزمني- يُبطل الصدقة، ولو طال وقوعه بعدها[1] يعني: تصدق على أحد، وبعد عشر سنوات بدأ يذكره بهذه الصدقة، ويمن عليه، كأن يقول: تتذكر حينما أعطيتك، تتذكر حينما أحسنت إليك، أو يؤذيه بهذه الصدقة، فيقول: أنا أعطيتك وأنت لا تستحق، وأعطيتك وأنت لست بأهل، ونحو ذلك، هذا منّ وأذى، فهذا إذا كان بعد مدة من الإنفاق، يُبطل كما سيأتي، فكيف بالمنّ والأذى المُقارن للصدقة؟ فهذا من باب أولى، يعني: إذا كانت تبطل بمنّ وأذى يقع بعد مدة، كأسبوع أو شهر أو سنة أو عشر سنوات، فإذا كان المنّ والأذى مقارنًا لهذه النفقة فهذا من باب أولى أنه يُبطلها.

وهذا أيضًا يدل على أنه يوجد من الأسباب ما يُبطل الأعمال بعد الفراغ منها، فالأعمال قد تبطل بسبب أمر سابق لها، كالنية الفاسدة مثلاً، وقد تبطل بسبب أمر مقارنٍ لها، مثل لو أنه طرأت عليه نية فاسدة، واسترسل معها، أو أثناء هذا الإنفاق يؤذي ويمُنّ كأن يقول: خُذ ولا أراك بعد اليوم، خُذ وتذكر إحساني إليك، وأني صاحب نعمتك، أو خُذ ولا تطرق بابنا بعد اليوم، ولا تقف عند هذا الباب، ولا أراك هنا، فهذا أذى يُبطل الصدقة، يعني حتى لو أعطاه ألف أو مائة ألف أو أكثر من ذلك أو أقل، يُبطلها، فكل هذه المعاني -والله أعلم- قريبة وصحيحة، فالمنّ والأذى يُبطلها إذا قارنها، ويُبطلها إذا كان تابعًا لها، فلا يحصل لصاحب المنّ والأذى مقصود الإنفاق.

يقول ابن القيم: "لو جاء بالواو، فقال: (ولا يتبعون) لأوهم تقييد ذلك بالحال أثناء الإنفاق[2] يعني: ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يُتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى، أي: في الوقت نفسه، لكن لما قال: (ثم) دلّ على معنى زائد، فـ(ثم) للعطف مثل (الواو) لكن تدل أيضًا على التفاوت في الرُتبة، أو التراخي في الزمن، فدل على أن المنّ والأذى يُبطل ولو بعد حين، قد يكتب له رسالة، ويُرسلها إليه عبر وسائل التواصل، أو غير ذلك، يُذكره بالعطية، أو يُرسل له صورة حينما أعطاه، أو نحو هذا، أو يقول: نسيت كل شيء عندي موثق، حينما جئت لا تملك شيئًا، من الذي أعطاك المال ووظفك وشغلك وأحسن إليك؟ وقد جئت لا تملك من الدنيا شيئًا.

فينبغي للمؤمن إذا أعطى أن ينسى هذه العطية، فقد استودعها من لا يضل، ولا ينسى، فهي محفوظة مصونة، تنمو وتزداد، فإذا ذكرت بها من أعطيته تلاشت؛ ولهذا كان بعض السلف يقول: إذا كان المُعطى والمُحسن إليه يتأذى بالسؤال عن حاله والسلام، فلا تسأل عن حاله، يعني: إذا كان اتصالك عليه وقولك له: كيف الحال؟ فيقول لك: الحمد لله، أنا لا زلت ممتن لك بهذه النِعمة، وهذا الإحسان، ونحو ذلك، كأنك تُذكره بذلك، فإذا كان هذا يشُق عليه ويؤذيه، فلا داعي للاتصال، ولا للسؤال ولا لهذا السلام، والله المستعان.

والتنكير للمن والأذى في سياق النفي ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى يدل على أن قليل المنّ والأذى يُبطل النفقة، مَنًّا وَلا أَذًى يعني: أي منّ، وأي أذى، ولو قلّ، نكرة في سياق النفي.

كذلك هذا النفي لا يُتْبِعُونَ مع الفعل يدل على العموم، فهم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى مطلقًا، في أي حال، وفي أي زمان، وفي أي وقت، قرُب العهد أم بعُد، فلا يصدر عنهم شيء من ذلك، وإذا حصل هذا فإنه يبطل أجره، كما يدل عليه قوله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مفهوم المخالفة إنهم إن لم يكونوا كذلك، يعني إن أتبعوها منًا وأذى، فإن أجرهم يبطل، فالذين يتصفون بهذه الصفة لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم.

وقدم المنّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا على الأذى، ربما لكثرة وقوعه، فالغالب هو المنّ، وهذا المنّ قد يكون بحظرة من يمُنّ عليه، يوجه إليه الخطاب بطريقة مُباشرة، يقول: ألم أوليك كذا؟ ألم أُعطك كذا؟ ألم أُحسن إليك؟!

وقد يكون بطريقة غير مُباشرة، كأن يُعطيه لباسًا، فإذا رآه قال: ما شاء الله، ما هذه الحُلل عليك؟ وقد يعطيه طعامًا فيقول: ما شاء الله يظهر على وجهك أثر النعمة، كأنه يريد أن يقول: أنت موليها ومُسديها -نسأل الله العافية، أو يعطيه طيبًا فإذا قابله قال: ما شاء الله، ما هذا الرائحة الجميلة؟ وهذا العطر الجذاب ما شممت مثله قط، فيقول: هذا من حضرتكم وبعض فضلكم وكرمكم وجودكم وإحسانكم، هو يريد أن يقول له هذا، فهذا أذى ومنّ، وقد يكون ذلك لغيره، كأن يتحدث عند الآخرين، كأولاده، وأقاربه، وأصحابه، ويقول: فلان جاء ما يملك من الدنيا شيء، وهذا التاجر الثري جاء يوم من الأيام وعليه ديون، ولا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، وأنا الذي وقفت معه، وأعطيته، وقضيت ديونه، ووجهته إلى أعمال ومزاولات وتجارات، وأقرضته المال، ووقفت معه حتى نهض على قدمه، انظروا حتى العيد ما يرفع السماعة ويتصل علينا، فهذا يُبطل الإحسان، وقد لا يذكر هذا له مباشرة، لكن يتحدث عند الآخرين، فهذا يؤذيه، فلا يجوز، والله المستعان.

ولم يقل: وأذى، وإنما قال: وَلا أَذًى ليدل على أصالة كل واحد في إبطال العمل، المنّ يستقل بذلك، والأذى كذلك؛ ليشمل النفي كل واحد على سبيل الاستقلال، يعني: لو قال مثلاً: (منًّا وأذى) لفهم أن المقصود وجود المجموع، يعني: إذا حصل المنّ والأذى معًا بطلت الصدقة.

فالصدقة لها شروط سابقة، حتى تُقبل، ولها شروط مصاحبة كاستصحاب النية، ولها مبطلات أيضًا سابقة، ومُصاحبة، ولاحقة، فالإخلاص لا بد منه قبلها وفي أثنائها، ومتابعة للعمل المشروع للنبي ﷺ، فهذا المنّ في الصدقة قبيح، ولا يحسُن من العبد، وفي الحديث: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره [3] فهذا يدل على أن المن من الكبائر، فهذه قضية ليست سهلة، بل هي من أهم المُهمات، يعني: لو أنه ما أنفق لكان خيرًا، لكن صار بهذه المثابة، ممن لا يكلمهم الله، أعطى لكن للأسف أعطى بعطية تذهب بحظه من الله -تبارك وتعالى- وبثوابه وأجره، والله المستعان، فصارت هذه العطية نقصًا عليه، والمنّ لا يصلح إلا لله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [سورة الحجرات:17].

وأيضًا فهذا المّان مترفع متعالي لمن يمن عليه، ومستبعد له، ولا شك أن هذا يحصل فيه من الابتذال والامتهان لهذا الممنون عليه، ما لا يخفى، وهذا لا يليق، هذه الصدقات وهذا الإحسان إنما قُصد به جبر هؤلاء الضعفاء والمحتاجين، لا كسر النفوس، وتحطيمها، وإذلالها، فيكفيه ذُل الحاجة عن ذُل آخر من قِبل هذا المُعطي. 

  1. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
  2. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم برقم (106).
  4. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262].

فتحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة في ليلة مضت، وبقي اليوم الحديث عن آخرها، فهؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفة الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: على حال من الإخلاص والمتابعة لشرع الله -تبارك وتعالى، بحيث لا يحصل ما يُبطل هذا العمل من المنّ والأذى، فهؤلاء لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فجاء بيان الجزاء بما يدل على الثبوت، حيث عبّر بالجملة الاسمية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وأيضًا قدّم الضمير المتعلق بهم على ذكر الأجر، فقال: لَهُمْ ولم يقل: أجرهم لهم؛ ليدل على الاهتمام، يعني قدم الأهم، فهؤلاء في عملهم ونفقتهم وبذلهم إنما يبتغون ما عند الله -تبارك وتعالى، فذكر الضمير المتعلق بهم أولاً لَهُمْ تطمينًا للنفوس، من أجل أن يكون ذلك تقريرًا لما يحصل لهؤلاء من الثواب، وأنه تحقق مطالبهم وغاياتهم ومرادهم.

وسمى الله -تبارك وتعالى- ذلك أجرًا، فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ مع أنه هو الذي أعطى، ورزق، ووفق للعمل، ومع ذلك سماه أجرًا، فهو المتفضل أولاً وآخرًا، وقد تكلمنا في الأسماء الحسنى على أسمائه: الأول والآخر، وقلنا: إن من المعاني الداخلة تحته: أنه المُبتدئ بالنِعم والعطاء والإحسان، وهو الأول، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [سورة النحل:53] وهو الآخر فإليه يُرجع الناس، وإليه المرجع والمآب والمصير، وهو الآخر الذي يرث الأرض ومن عليها، فهذه الأموال التي بأيدي الناس استخلفهم فيها سترجع إليه.

وذكر العندية هنا لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يدل على رفعة هذا الثواب والأجر، وعِظمه وتحققه، فإذا أضاف الأجر إليه، فقال: عنده، فهذا يعني أن هذا الأجر عنده محفوظ وثابت، ولا يضيع، وأنه شيء عظيم؛ لأن الله عظيم، وعطاءه واسع، فيكفي هذا في بيان عِظم هذا الجزاء، فحينما يقول الكبير من الناس: جزاءك عندي، وحقك عندي، وأجرك عندي، فهذا يبعث النفوس على الطمأنينة بأن ذلك لا يضيع، وأيضًا أنه شيء عظيم.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فهذا كأنه شيء ثابت مستقر؛ ولذلك لم يُعلق هنا بالفاء، فلم يقل: فلهم أجرهم عند ربهم، فقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ليس مترتبًا على ما قبله ترتب الجزاء على الشرط، بخلاف لو قال مثلاً: "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى فلهم أجرهم" فمعناه: أن هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة يستحقون الأجر والثواب بناء على الاتصاف بهذا الوصف، واستيفاء هذه الاشتراطات: الإخلاص، والمتابعة، وترك المنّ والأذى، وهذا لا شك أنه مطلوب، وأنه شرط في قبول العمل أو في صحته، لكن هنا المراد بيان استحقاق الأجر والثواب، دون النظر إلى ما قبله، فهو يريد أن يُقرر أن أجر هؤلاء ثابت لهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بينما في الآية الأخرى -سيأتي الكلام عليها إن شاء الله- الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274] فجاء بالفاء في الجزاء، أما هذه الآية التي نحن فيها الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ فهذا ابتداء عطاء من الله -تبارك وتعالى، وليس مرتبًا على ما قبله، وليس هذا مقام بيان هذا الترتب، أن هذا الجزاء بناء على ذلك الوصف، فليس ذلك في هذا المقام مُسببًا عن إنفاقهم وبذلهم بهذه الصفة.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على الآيتين، وذكر أن الفاء إذا دخلت على خبر المُبتدأ الموصول، أو الموصوف، مثل: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274] فهذا شرط وجزاء، وبيان أن هذا الجزاء يكون مترتبًا على ذلك الشرط[4] يعني: الذين يُحققون هذه الأوصاف هم الذين يجزيهم الله ، ويُثيبهم ويأجرهم هذا إذا دخلت الفاء، لكن هنا المقام يختلف، فهو مقام بيان استحقاق الأجر المذكور، وبيان أن هذا متحقق لهم وثابت، يريد أن يُطمئن نفوسهم: أن أجرهم متحقق، بخلاف من يُنفق لغير الله ، أو يمُن، ويؤذي بنفقته، فهذا المقام ليس مقام شرط وجزاء، بل هو مقام بيان للمستحِق للأجر من غيره.

أما الآية الأخرى، وهي: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274] هذا لبيان المستحقين للأجر دون التعرض لغيرهم، ففي الآية الأخرى ذكر الإنفاق في الأحوال كلها، في الليل والنهار، والسر والعلانية، فذكر عموم الأوقات، وعموم الأحوال، فجاءت الفاء فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الخبر، وهذا ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وُجد من ليل أو نهار، وعلى آية حالة وُجد، من سر وعلانية، فإنه سبب للجزاء على كل حال، يعني: على العبد أن يُبادر متى ما قامت الحاجة، فإذا كان في الليل لا يقول: إذا أصبحنا، والصباح رباح، وإذا كان في النهار لا يؤخر إلى الليل، فيقول: من أجل أن تكون سرًا، ولا يشعر بها أحد، وإنما مباشرة بمجرد ما توجد الحاجة يكون البذل والعطاء.

فالذي يؤخر إلى الليل مثلاً يريد صدقة السر، وبخاصة إذا كان يقتضي المقام البذل علانية، فقد يقول: أنا لا أُخرج في هذا المقام أو في هذا الموقف؛ لأني أريد أن تكون سرًا، فبيّن الله تعالى أن جزاء هذه الصدقة مترتب عليها، على كل حال، سواء كانت سرًا أم جهرًا، بالليل أو بالنهار، فالجزاء مترتب عليها، فلن يضيع من أجره شيء فلا يتردد، وعليه أن يُبادر، ومن ثَم فإنه لا يؤخر نفقة الليل إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، رجاء الأجر أو الثواب، أو المزيد منه، فالله يقول: هؤلاء الذين ينفقون بالليل والنهار، سرًا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، فالجزاء مترتب على هذه النفقات، على أي وجهٍ كانت، بينما هناك يُبين المستحقين للجزاء من هم؟ وهم أهل الإخلاص الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأهل المتابعة؛ لأن سبيل الله هو الذي شرعه، ثم لا يحصل منهم مُبطل لهذه النفقات، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ من الذي يستحق الأجر؟ هم هؤلاء، لكن غير المُخلص وغير المتبع لشرع النبي ﷺ، أو المؤذي بنفقته والمنان، فهذا ليس له أجره عند الله -تبارك وتعالى.

وفي قوله: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الخوف هنا نكرة في سياق النفي، فتعم جميع أنواع الخوف، فيمكن حمله على الخوف في الدور الثلاث، لا خوف عليهم في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة.

وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فالخوف قلق على أمر مستقبل، والحزن على أمر فائت، وإنما تدور هموم الناس على هذين، فالذي يشوش القلب الحزن على أمر فائت، أو الخوف من مكروه يتوقعه في المستقبل، فلا خوف عليهم، وأيضًا نفى عنهم الحزن، فمن انتفى عنه الخوف والحزن طاب عيشه، وكان في راحة وطمأنينة وسعادة.

وهذا يدل -والله أعلم- على أن الإنفاق في سبيل الله والبذل في سبيله من أسباب السعادة، وهذا أمر مشاهد، فالإنسان الذي يشعر بضيق في صدره، له علاجات طويلة، وهناك علاجات قصيرة، فالعلاجات الطويلة كثرة ذكر الله ، وحُسن الصلة بالله، والتوكل عليه، والثقة به، وقراءة القرآن بالتدبر، وترك المعاصي والذنوب، فإنها تورث في القلب وحشة، وترك أنواع الغفلة، وكثرة النوم، والأكل، والشرب، والضحك، والمخالطة، فكل هذا يورث غفلة، يتبعها وحشة.

لكن هناك علاج لحظي إذا وجدت الضيق اذهب بنفسك وأعطي هذا الفقير ولو شربة ماء، ستجد أثر هذا مُباشرة، في نفس اللحظة، فلو أعطيت فقيرًا آخر لوجدت ضعف ذلك، ولو أعطيت ثالثًا ورابعًا وخامسًا لرجعت إلى بيتك والدنيا لا تسعك من الانشراح، تُحلق عاليًا، ويجد الإنسان من الراحة والأُنس والسعادة وتتغير الدنيا، والمنظار هذا الأسود الذي كان في عينيه، يتحول شيئًا فشيئًا، مع كثرة الإحسان إلى بياض، وجرب هذا، ستجد الأثر مُباشرة، ولو كان بشيء يسير. 

يعني: أحيانًا قد لا يكون إنفاق مال، تحمل هذا وتوصله، وتقف لهذا حتى يجتاز، وتفسح لهذا في المجلس، أي نوع من أنواع الإحسان، فكل نوع من الإحسان هو يشرح الصدر؛ ولهذا قال في المجالس -مجالس الجمعة مثلاً وغيرها من المجالس على الراجح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا لاحظ الجزاء يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المجادلة:11] فرتبه على هذا، والجزاء من جنس العمل، فالذي يفسح للناس يُجازيه الله بجنس عمله، فيفسح له، وهذا الفسح لم يقيده الله بقيد، فيشمل المعاني التي ذكرها المفسرون من السلف فمن بعدهم، يفسح الله لكم في الصدر.

وهذا مُشاهد، فالإنسان حينما ينوء بجانبه، ولا يريد أن يجلس أحد بهذه الفجوة في الصف، يجد ضيقًا، وحينما لا يفسح للآخرين في وقوف مركباتهم، أو نحو ذلك يجد ضيقًا، لكن حينما يفسح في المجلس، وفي غير المجلس، يحصل له انشراح، وفسح في الصدر والرزق والقبر والآخرة، وفي منزله في الجنة، لماذا؟ لأنه أطلقه قال: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ولم يقل: يفسح لكم في الصدر، أو يفسح لكم في القبر، أو يفسح لكم في الجنة، أو يفسح لكم في الرزق، والأصل أن حذف المتعلق يُحمل على العموم المناسب له، فكل ذلك يحصل.

فالمقصود: أن الإحسان إلى الناس -أيها الأحبة- بكل وجوهه، وصوره، هو من أعظم أسباب الانشراح، وما يُعانيه كثير من الناس اليوم من الضيق سببه هذا؛ ولذلك يحاولون تبديد هذا الضيق بممارسات لا توصلهم إلى الراحة، كمتابعة التافهين عبر وسائل التواصل الجديدة، أُناس يُظهرون الجنون بحركاتهم وتصرفاتهم، ويُظهرون السفه بكل معانيه، ويُتابعهم خلق لا يُحصيهم إلا الله، لماذا يتابعون هذه الأعمال التافهة والتصرفات التي تدل على ترحل العقل بالكلية؟ سفه بكل ما تحمل هذه الكلمة.

يعني: إنسان يتصرف تصرفات المجانين فيتابعه الكثيرون؛ لأنهم يريدون طرد الهم، ويبحثون عن السعادة، فيتابعون التافهين والمجانين أو من يتشبهون بالمجانين، وهكذا كثرة الخروج والتنزه والاستراحات بشكل يومي أحيانًا، فلماذا ضاقت بالناس البيوت؟ والذهاب إلى الأسواق من غير حاجة، يبحثون عن شيء يُشبع نفوسهم، ويبعث على الراحة، ويجلب السعادة، هذا لا يتحقق لهم.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فأثبت الأجر ينضاف إلى ذلك نفي الخوف والحزن، ولاحظ إعادة (لا) النافية هنا، فلم يقل: ولا خوف عليهم، ولا حزن يلحقهم، وإنما قال: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ليدل ذلك على تأكيد النفي، وأن هذا النفي يتصل بكل واحد منهما على سبيل الاستقلال وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقدّم الضمير المتعلِّق بهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأن هؤلاء هم المعتنى بهم، فانظر إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء المنفقين.

فمن أراد الراحة والسعادة، فعليه أن يسير على هذا المنهاج القويم، ويتدبر كلام الله -تبارك وتعالى، ويُطبق ما فيه، فإنه يوصله إلى كل خير، فهذه النفس تشقى وتُظلم حينما تبتعد عن مصدر النور، وبقدر بُعدها عن هذا المصدر يكون ما فيها من الظلمة، وإذا أظلمت النفس يشقى صاحبها فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا هذا في الدنيا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:123، 124]. 

  1. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
  2. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم برقم (106).
  4. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).