بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) خبر الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، وأن إبراهيم قال له: ربي الذي يحُي ويُميت، وذكر أيضًا خبر الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنّى يحُي هذه الله بعد موتها، وسؤال إبراهيم أن يُريه كيف يحي الموتى؟
لما ذكر هذه الدلائل التي تدل على القدرة الإلهية، وأن الله -تبارك وتعالى- يُحي النفوس، ويبعث الأجساد من جديد، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالإنفاق؛ وذلك أن المال عزيز إلى النفوس، وهو شقيق الأرواح، فلا يخرجه الإنسان وقد جد واجتهد في جمعه وتحصيله وكسبه، مع ما جُبلت نفسه على التعلق به، كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [سورة آل عمران:14].
فالله -تبارك وتعالى- ذكر الحث على الإنفاق، ووجوه هذا الإنفاق، وما يُبطله، ويؤثر عليه إلى غير ذلك من التفاصيل التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في ثنايا هذه الآيات، وقد وافق الحديث عنها مستهل شهر شعبان، الذي هو الشهر الذي يتهيأ فيه المسلمون لاستقبال شهر رمضان، شهر الجود والبذل والإنفاق، فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُبلغنا وإياكم رمضان، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يُعيينا وإياكم على ذكره وشكره، وحُسن عبادته.
يقول الله -تبارك وتعالى- في أول هذه الآيات: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].
مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مثل المؤمنين المنفقين للأموال في مرضاة الله -تبارك وتعالى- كَمَثَلِ حَبَّةٍ وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا المثل مضروب لنفقة المنفقين، يعني: مثل نفقة المنفقين كمثل حبة، النفقة كحبة، وليس المقصود: أن المُنفق كحبة، وإنما ذلك مُقدر معلوم من سياق الكلام، مثل نفقة المُنفق كمثل حبة، فجعلوا المقدر أولاً، وبعض أهل العلم جعله آخرًا، أي: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل صاحب حبة، أو باذر حبة، فعلى هذا يكون المثل مضروب للمنفق بصاحب حبة، أو باذر حبة، فهذه الحبة بُذرت في أرض طيبة، فأخرجت ساقًا، تشعب منها سبع شُعب، لكل واحدة من هذه الشُعب سُنبلة، وفي كل سُنبلة مائة حبة.
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ بعض المفسرين يقول: يُضاعف هذه المضاعفة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيُضاعف إلى سبعمائة لمن يشاء، بحسب ما يقوم في قلب المنفق، وبحسب حال هذه النفقة.
وبعضهم يقول: بأن هذه النفقة تُضاعف فوق السبعمائة، بحسب ما يقوم في قلب العبد، وبحسب حال هذه النفقة، وكأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب، وفضل الله -تبارك وتعالى- واسع؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ وَاسِعٌ كثير العطاء، واسع الجود والفضل، عَلِيمٌ بمن يستحق ذلك، مُطلع على مُكنونات الصدور، عالم بهذه النفقات، وأحوالها.
ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: فائدة ضرب الأمثال، فهي تُقرب المعنى المعقول بصورة محسوسة، كأنك تُشاهدها، وكثير من الأمثال القرآنية هي من هذا النوع، تعرض لك المعنى المعقول؛ ليُفهم ويُدرك، ويتضح بصورة محسوس يتجسد أمامك كأنك تراه، تقريبًا للأفهام، وهذا أيضًا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده أن يُبين لهم حقائق الأشياء، ويُقربها لهم، حتى تتضح، وتكون في غاية الوضوح والجلاء، فهذا القرآن كما قال الله -تبارك وتعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89].
ويُؤخذ أيضًا من قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ الحث على الإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، وإذا كانت هذه المضاعفة في أرض مخلوقة، تُعطي بالحبة سبعمائة حبة، وتنبت الحبة سبع سنابل، فكيف بعطاء الله -تبارك وتعالى؟! مع أن بعض المفسرين استبعد في الواقع وجود حبة تُخرج هذا القدر (سبعمائة حبة) فقالوا: هذا مثل مضروب للتقريب من أجل بيان سعة فضل الله، وجزاءه لعباده، وإلا فالواقع لا يوجد فيه حبة واحدة تُخرج سبعمائة.
وقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فعبّر بالفعل المضارع (يُنفقون) ولم يقل: مثل الذين أنفقوا، والفعل المضارع يدل على الاستمرار، فالإنفاق لا يكون مرة واحدة، ثم ينقطع، أو يكون في شهر رمضان، ثم بعد ذلك يقبض يده، أو يكون في حال شدة يُلاقيها فينفق ويجود، فإذا فرج الله كربته نسي وترك الإنفاق، فهذا لا يليق، فالنفقة تكون مستمرة، وهو يتعامل مع الله -تبارك وتعالى، ويُحصل الأجور والأرباح في هذه التجارة، التي لا يخيب من اتجر بها، وأرباحها مضمونة.
وأضاف الأموال إليهم في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ليفيد الملكية، وليبين أن الناس يملكون هذه الأموال وإن كانت من فضل الله -تبارك وتعالى- وعطائه، حيث رزقهم هذه الأموال.
وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا يُشير إلى شروط قبول العمل، فهذا لا بد أن يكون خالصًا لوجه الله -تبارك وتعالى؛ لأنه إذا كان للرياء والسمعة، فإنه ليس في سبيل الله، وإذا كان الإنسان يُرجي من وراء هذه النفقة عائدة دنيوية، من الجاه، أو المحمدة، أو شُكر الناس، أو نحو ذلك، فإن هذا لا يكون في سبيل الله، فالذي ينفق يتجرد في نفقته، يريد ما عند الله -تبارك وتعالى- فحسب؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [سورة الإنسان:9]، فالذي ينتظر الشكر من الناس لا يكون ممن يتصف بهذا الوصف الذي ذكره الله ؛ ولهذا كانت عائشة -رضي الله عنها- إذا بعثت بصدقة توصي من بعثته فتقول: انظروا ما يقولون، يعني: إذا قالوا: جزاكم الله خيرًا، فقولوا: بل أنتم جزاكم الله خيرًا؛ لئلا يكون ذلك مكافأة على هذه النفقة والإحسان.
والشرط الآخر: وهو أن يكون هذا الإنفاق على الوجه المشروع، لا بد من ذلك، وإلا فإذا أنفق في معصية، أو بدعة، أو ضلالة، أو نحو ذلك، فإن هذا لا يكون في سبيل الله، لماذا؟ لأن سبيل الله هي التي شرعها، فالذي ينفق الأموال على القبور والأضرحة وإضاءتها وإسراجها، أو في طعام للعكوف عندها، أو نحو ذلك من أوقافٍ عليها، فهذا في سبيل الشيطان، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، صوابًا فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] وصلاح العمل لا يتحقق إلا بالمتابعة للنبي ﷺ، والمتابعة هي التي يكون الإنفاق فيها على هذا الوصف في سبيل الله، مع ما ينبغي ملاحظته حتى يكون الإنفاق على وجهه الصحيح وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67].
وفي قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ مثّل هذه النفقات بالحبة، وهذه الحبة أنتجت هذا العدد الكثير، مما يدل على أن الصدقة تبلغ ذلك، وأنها قد تزيد في الأجر والثواب وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وغيره: يُضاعف لمن يشاء بحسب ما يحتف بهذه الصدقة مما يقوم في قلب صاحبها من الإخبات والإخلاص.
ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: الرجل الذي تصدق، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، من شدة الإخفاء، فصار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، انظر كيف بلغت هذه الصدقة لشدة الإخلاص عند صاحبها.
وقد يكون ذلك بحسب الحاجة والوقت فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16] فالنفقة في وقت الحاجة الشديدة، وعلى قريب، فإن ذلك يكون أعظم، وثوابه أكثر، وأبواب الإنفاق كثيرة، لكنها تتفاضل، فيحتاج العبد إلى أن يتحرى في نفقته؛ ليعظُم أجرها، وتعظُم عائدتها عليه.
وأيضًا قد تكون هذه المُضاعفة بحسب الزمان، كعشر ذي الحجة، أو رمضان، وقد يكون ذلك باعتبار المكان، كالحرم، فإن الحسنة تعظُم فيه.
وفي قوله: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ فيه إثبات الصفات الفعلية التي تتعلق بمشيئة الله، وإرادته، وإثبات المشيئة، يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وهذا يدعو العبد إلى سؤال الله -تبارك وتعالى- القبول، وتعظيم الأجور؛ لأن الله هو الذي يملك ذلك، ويُضاعف لمن يشاء، فلو كان الناس في مرابحة ومساهمة وتجارة دنيوية، فإذا أُعطي نسبة من هذا الربح، وأُعطي غيره أكثر، ربما ضاق ذرعًا بذلك، وسلك كل سبيل من أجل تحصيل المزيد من هذه الأرباح، فنحن في تعاملنا مع الله -تبارك وتعالى- في تجارة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [سورة التوبة:111] فسمّى ذلك بيعًا فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [سورة التوبة:111] وسماه: تجارة وشراء، وسمى الخسارة في ذلك غبنًا، وسمى اليوم الآخر بيوم التغابن، لما يحصل فيه من الغبن الكثير بين الناس.
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فهذا يرجع إلى مشيئته، وحكمته، واختياره، لا مُعقب لحكمه؛ وذلك مبني على علمه بأحوال العباد، ومقاصدهم، كما سيأتي في ختم هذه الآية.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].
مضى الكلام في الليلة الماضية عن صدر هذه الآية، وبقي من المعاني والهدايات التي تُستخرج من هذه الآية ما دلَّ عليه قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وقلنا: إن الراجح أن هذه المضاعفة في الزيادة على السبعمائة لمن شاء الله -تبارك وتعالى، فهذا يدل على سعة فضل الله -تبارك وتعالى- وثوابه لعباده، فيجزي العاملين على أعمالهم التي هداهم إليها، ووفقهم، وعلمهم إياها، ويجزيهم على نفقاتهم التي كانت تلك الأموال من رزقه وفضله وعطائه ومنه، فهو يُعطي ويوفق العبد ويهديه ويدله على سبيل مرضاته، ثم يُسمي ذلك أجرًا، والأجر هو ما يُعطى للعامل إزاء عمله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي هدى، وهو الذي وفق، وهو الذي علّم.
ولم تكن الحسنة بحسنة فقط، كما يُقال في أعمال الناس، وما يحصل بينهم من فصل الخصومات، إذا اختلفوا على الأجرة، ونحو ذلك، فالمعلوم أنه يُعطى أُجرة المِثل، ما لم يكن هناك اتفاق يوضح ما له من الأجر، أما هنا فالحسنة، وهي الصدقة، بسبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، فهذا لا يوجد إلا في عطاء الله -تبارك وتعالى، فهو يُعامل بالفضل؛ ولهذا كان من أسمائه الشكور، فهو يجزي العاملين على أعمالهم، فلا تضيع عنده، ويُنميها، ويُربي هذه الصدقات، فتزيد وتضعف وتربو عند الله -تبارك وتعالى.
أتظنون أن هذه الصدقات التي تقدمونها تجدونها كما هي: الريال بريال، والمائة بالمائة، والتمرة بتمرة؟ أبدًا، فلو تبرع بما هو أعظم من التمرة كأن أعطى وجبة لفقير، أو قارورة ماء لعامل في الشمس، فهو عند الله عظيم، وتلك المرأة البغي التي سقت الكلب، ماذا كان جزاؤها عند الله -تبارك وتعالى؟ وهو عمل قد لا تحسب له حسابًا، ولكن له عند الله شأن آخر، وهكذا المعاملة مع الله، ومن رحمته أن السيئة بواحدة.
ولهذا يقول العلماء -رحمهم الله: "هلك من غلبت آحاده عشراته"، الآحاد هي السيئات، سيئة بسيئة، والوزن عند الله -تبارك وتعالى- بحسب الرُجحان في كفة الحسنات والسيئات، فمن غلبت آحاده عشراته، فمعنى ذلك أنه في غاية التفريط، فإذا كانت الحسنة بعشر إلى سبعمائة، ومع ذلك رجحت كفة السيئات، فمعنى هذا أن هذا الإنسان قد ضيع حظه ونصيبه وربحه وتجارته مع الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فهو لم يُقدم شيئًا ينفعه من الحسنات، ولم يتوق ما لاح له من السيئات، فرجحت سيئاته على حسناته، والفوز عند الله -تبارك وتعالى- هو برُجحان كفة الحسنات على السيئات.
فانظر إلى فضل ربنا العظيم، حبة بسبعمائة، ألف بسبعمائة ألف، إلى أضعاف كثيرة، مليون بسبعمائة مليون، ولو قيل للناس: مساهمة، ادفع ريال بسبعمائة ريال، وألف بسبعمائة ألف، ماذا سيصنع الناس؟ لباع الناس ثيابهم وأثاثهم ودورهم ومراكبهم وطعامهم، في مساهمات دون ذلك، ولا تبلغ عُشر معشار هذا، باع الناس بيوتهم وأغنامهم وإبلهم، وما عندهم من مؤسسات، وغير ذلك من أجل الدخول في تلك المساهمات التي قيل لهم: إنها قد تصل إلى ثلاثين وأربعين بالمائة، يعني ليست الضعف، يعني قريب من الثُلث، وهناك سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فهذا هو التعامل مع الله -تبارك وتعالى، ولكن ضعف اليقين -أيها الأحبة- هو الذي يُقعدنا عن ذلك، والطريق مفتوح في كل كبد رطبة أجر، فكم من عامل وفقير محتاج، وتوجد جمعيات تكفيك مؤنة البحث عن المحتاجين والأرامل والفقراء والمساكين، يعرفونهم وقد أحصوهم إحصاءً دقيقًا، لكن بقي هذه النفس التي تحتاج إلى مجاهدة.
ولاحظ هذا التمثيل والتصوير في هذه الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261] يصور لك ذلك كأنك تشاهده، حبة يخرج منها ساق، ينشعب منه سبع شُعب، ثم في كل شُعبة تكون سُنبلة فيها مائة حبة، ويكون مجموع ذلك سبعمائة حبة، فهذا يُقرب للأذهان -كما سبق، وفيه ما فيه من ضروب البلاغة، حيث مثّل هذه النفقة ومثل الذين ينفقون، كمثل حبة وزارعيها، فذكر المُنفق أولاً مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ لأن ذلك في مقام الثناء عليهم، فأبرز حال هؤلاء.
وفي هذا المثل أيضًا: الحث على البذل والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، حيث شبهه بالزرع والزرع ينمو ونماؤه لا ينقطع ولا يتوقف، وهذا العدد الكثير الذي ذكره، لا شك أنه يُلفت الأنظار مقابل الحبة سبعمائة! فهذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- يفعل ذلك في أعمال العاملين، وصدقات المتصدقين، وقربات أهل البذل والجود والإحسان، فهذا كله من لطفه ورحمته وفضله وإحسانه، حيث ضرب لنا الأمثال، وبيّنها غاية البيان، ثم ختم هذه الآية بقوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فلا يُستكثر مثل هذا؛ لأنه واسع، ومن معاني الواسع -كما تحدثنا في الكلام على الأسماء الحسنى- أنه واسع الغنى، والجود، والعطاء، فكل ذلك من معانيه، وهو واسع الأوصاف والكمالات، وذلك لا يُنقص مما في خزائنه.
وهو كذلك أيضًا (عليم) بهذه النفقات وبهؤلاء المنفقين، وبمواضع هذه النفقة، وبما يقوم في قلوب هؤلاء من صدق الرغبة والإخفاء، وحب الخير، والرحمة بالناس، عليم بنفقاتهم، فلا يحتاج الواحد منهم أن يُعلم الآخرين، أو يُعلن عن صدقته وإحسانه، فالله -تبارك وتعالى- يعلم ذلك، فإذا بذلت وقدمت وبنيت مسجدًا، أو أقمت وقفًا، أو نحو ذلك فلا داعي لإشهار ذلك باسم يُرقم عليه، فالله عليم.
وهكذا نجد في ختم الآيات من الأسماء الحسنى ما يُنمي هذه المعاني في القلوب، ويربط الناس بربهم وخالقهم ومليكهم ، وتقدست أسماؤه، فيكون التعامل معه، فالله عليم بهذه النفقات، ولو بُذلت هذه النفقات للقرابات، ومن يحتف به، ثم بعد ذلك وجد شيئًا من التنكر من قِبل هؤلاء، أو من بعضهم، فالله عليم؛ ولهذا لا يحتاج الإنسان إلى أن يوثق هذه العطاءات، ويوثق هذا الإحسان، بتصوير ولا بتوقيع، ولا بغير ذلك؛ لأن التعامل مع العليم.
فالواسع يحفز النفوس على مزيد من البذل والعطاء والإحسان، ولن ينقص ذلك من خزائن الله -تبارك وتعالى- شيئًا إطلاقًا، المخلوق حينما يقول: بأنه سيعطي شيئًا من الأرباح الكثيرة بالنظر إلى عطاءات المخلوقين، وأرباح المخلوقين ربما يُستكثر ذلك عليه، ويُنظر في أرصدته، وما عنده من إمكانات، وهل سيستطيع الوفاء بهذا أو لا؟ وهل سيستطيع النهوض به أم لا؟
أما الله -تبارك وتعالى- فهو واسع، فما أنفقه منذ خلق السماوات والأرض لم ينقص من خزائنه وملكه شيئًا، فلو اجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، وسألوا فأعطى كل واحد مسألته، واجتهدوا -كل هؤلاء- في السؤال، وكل واحد يتخيل ما يريد ويسأل ما يشاء، لو قال مثلاً: أريد مثل الأرض عشر مرات، وأعطي كل واحد مسألته، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله، إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا وضعت في البحر، ماذا تُنقص الإبرة إذا وضعت في كأس ماء، وليس في البحر؟! فهذا ربنا -تبارك وتعالى، فالتعامل معه -أيها الأحبة- ينبغي أن يكون على حال لائقة من نوع البذل، فلا يتخير الإنسان رديء النفقات، وقليل الفئات من النقود، ولا يكون ذلك أيضًا مشوبًا بالمقاصد الفاسدة، فالله واسع وعليم، وإذا عرف العبد أنه يتعامل مع من هو بهذه المثابة والصفة، فهنا التعامل ينبغي أن يكون دقيقًا، أخف هذه الصدقة غاية الإخفاء.
فـ(عليم) صيغة مبالغة على وزن (فعيل) لا يخفى عليه شيء إطلاقًا، ولا يضيع عليك شيء إطلاقًا، ولن يُنسى شيء إطلاقًا، كل ذلك ستجده مُحصى، فيا لها من معانٍ -أيها الأحبة- تُربي الأرواح والقلوب، فتسمو وترتفع، وتتخلص من كثير من الشُح وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9] فالشُح مركب في النفوس؛ ولذلك أضافه إليها شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9] وأشار إليهم بإشارة البعيد فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9].