الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنۢبُلَةٍ مِّا۟ئَةُ حَبَّةٍ ۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261] هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله، وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف".
ابن جرير ذكر وجهاً للارتباط والمناسبة بين هذه الآية، والآيات السابقة فقال: وهذه الآية مردودة إلى قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]، والآيات التي بعدها التي ذكرت قصص بني إسرائيل، وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبأ الذي حاجّ إبراهيم، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، اعتراض من الله - تعالى ذكره - بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجاً منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث، وقيام الساعة، وحضّاً منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 244]، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم، وكثر عدَد عدوّهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم، ومفرِّق جمعهم، ومُوهِنُ كيدهم، وقطعًا منه ببعض عذر اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجر رسول الله ﷺ، بما أطلع نبيَّه عليه من خفيِّ أمورهم، ومكتوم أسرار أوائلهم، وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم؛ ليعلموا أن ما أتاهم به محمد ﷺ من عند الله، وأنه ليس بتخرُّص، ولا اختلاق، وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد ﷺ أن يُحِلَّ بهم من بأسه، وسطوته، مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها.
ثم عاد - تعالى ذكره - إلى الخبر عن الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا وما عنده له من الثواب على قَرْضه، فقال: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم، وأموالهم.
وأما معنى قوله سبحانه: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فبعضهم جعله مقدراً بقوله: مثل نفقة الذين ينفقون؛ لأن التشبيه للنفقة وليس للمنفقين، ويمكن أن يكون التقدير مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أي كمثل زارع حبة، فيكون ضرب المثل بهم.
"فقال: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قال سعيد بن جبير: يعني في طاعة الله، وقال مكحول: يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل، وإعداد السلاح وغير ذلك".
على قول سعيد بن جبير تكون الآية محمولة على العموم، فتشمل النفقة في سبيل الله كل باب من أبواب الخير، كالدعوة إلى الله ، والعلم، والجهاد، والفقراء، وسائر وجوه البر في النفقات.
والغالب في القرآن الكريم إذا أطلق فيه لفظ في سبيل الله أريد به الجهاد في سبيل الله - تبارك وتعالى -، ولذلك جعلوا هذه المضاعفة للحسنات إلى سبعمائة ضعف للنفقة في الجهاد فقط، وأما في الأبواب الأخرى فإن الحسنة بعشر أمثالها كما قال الله : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160].
"وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف روى الإمام أحمد عن ابن مسعود : أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة[1] ورواه مسلم والنسائي، ولفظ مسلم: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله، فقال: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة[2]، حديث آخر: روى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة[3] وكذا رواه مسلم".
ظاهر هذه المضاعفة المذكورة في الحديث إلى سبعمائة ضعف أنها عامة في جميع الأعمال سواء كانت في الجهاد أو في غير الجهاد من النفقات في سبيل الله، إلا أنه قد جاء ما يخالف هذا الفهم في حديث آخر عن أبي عبيدة مرفوعاً إلى النبي ﷺ: من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو ماز أذى- يعني أماط أذى- فالحسنة بعشر أمثالها[4] فدلالة الحديث ظاهرة في اختصاص المضاعفة إلى سبعمائة ضعف في الأجر بالنفقة في الجهاد، وأما النفقة في غير الجهاد فتلك الحسنة بعشر أمثالها، والله أعلم.
"وقوله هاهنا: وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء أي بحسب إخلاصه في عمله، وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عَلِيمٌ بمن يستحق، ومن لا يستحق، سبحانه وبحمده".
يُحتمل في المراد من المضاعفة في الآية أمران:
أن الله يضاعف هذه المضاعفة يعني من العشرة إلى السبعمائة ضعف لمن شاء وأراد من خلقه، وليس كل الناس يحظون وتشملهم هذه المضاعفة في الأجر.
أن الله يضاعف هذا العدد (السبعمائة) فيزيد في الجزاء والأجر على السبعمائة لمن يشاء، فيعطيه أكثر من السبعمائة، والذي يفهم من السياق أن المضاعفة في العدد، فيجازي الله ويضاعف الحسنات للإنسان إلى سبعمائة، ويزيد من شاء فوق السبعمائة، وهذا الذي اختاره ابن جرير وابن القيم - رحمهما الله - ولعل مرد هذا العطاء والمضاعفة في الأجر والثواب إلى حال المنفق والنفقة، واعتبار الموضع والزمان، فإذا كانت النفقة في وقتٍ الناس أحوج ما يكونون إليها كمجاعة مثلاً، فهي أعظم من النفقة في حال زهد الناس فيها، وإذا كانت من أطيب الكسب فهي أفضل مما دونها من الكسب، وإذا أخرجها العبد وهو طيب النفس، كامل اليقين بجزاء الله ، وأن يخلفه على هذه النفقة خيراًَ كانت أفضل ممن يخرجها وهو يشعر أنها مغرم، أو يكون متردداً في إخراجها، أو أن قلبه متعلق بها، فالجزاء والأجر في النفقات بحسب ما يقوم بقلب الإنسان من الإخلاص، واليقين، وعموم النفقة، ونفعها، وحاجة الناس إليها، وثمنها، ونفاستها، فهذه الأمور سبب لمضاعفة الأجر، وزيادته، والله تعالى أعلم.
  1. رواه النسائي برقم (3187) (6/49)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (3187).
  2. رواه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها برقم (1892) (3/1505).
  3. رواه مسلم في كتاب الصيام - باب فضل الصيام برقم (1151) (2/806)، ورواه أحمد في مسنده برقم (9712) (2/443)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  4. رواه أحمد في مسنده برقم (1690) (1/195)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

مرات الإستماع: 0

" فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]: ظاهره الجهاد، وقد يُحمل على جميع وجوه البر."

"سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]" في القرآن إذا أُطلق بعض أهل العلم يقولون: المراد به الجهاد مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261] قال: في الجهاد، وهذا مروي عن مكحول الدمشقي - رحمه الله -.

وفي حديث أبي عبيدة مرفوعًا: من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فسبعمائة.

لاحظ الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]: يعني: سبعمائة.

أي هذا الحديث: من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه، وأهله، أو عاد مريضًا، أو ماز أذى - يعني أزال أذى - فالحسنة بعشر أمثالها[1].

وفي حديث أبي مسعود : جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلها مخطومة[2].

، وهذا يحتمل أن يكون في سبيل الله يُحمل عليها في سبيل الله، يعني في الجهاد.

في حديث أبي هريرة : كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله : إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به[3].

كل عمل ابن آدم، فهذا يُمكن أن يستدل به من يقول: في سبيل الله سائر وجوه البر، وهذا هو القول الآخر، يقولون: قد يُحمل على جميع وجوه البر، وهذا الذي قال به بعض أهل العلم؛ كسعيد بن جبير[4] وهو اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله - مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]: يعني في وجوه البر، يعني: في أي بابٍ منها لا يختص ذلك بالجهاد، فيكون إلى سبعمائة ضعف[5].

أن المضاعفة إلى سبعمائة لا تختص بالجهاد، والدليل على هذا: حديث أبي هريرة: كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله : إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به وهذه المضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنها تكون بحسب ما يحتف بالعمل[6] يعني بحسب ما يقوم بقلب صاحبه من الإخلاص، والإخبات وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60].

وبحسب طيب هذه النفقة، وبحسب أيضًا الجهة المنفق فيها، فهذا يتفاضل كما قال الله : فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11 - 16] فهذا الإطعام في اليوم شديد الحاجة، وكذلك اليتيم القريب لا شك أنه أعظم، وأبلغ أثرًا، وأعظم عائدةً على صاحبه من الأجر.

على كل حال: أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - يجعل هذه الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261] مردودة إلى الآية الخامسة، والأربعين بعد المائتين، وهي قوله - تبارك، وتعالى -: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245][7].

ما هذه الأضعاف الكثيرة؟ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] كل هذا تفصيل لما سبق من الأضعاف الكثيرة، فيكون ذلك بيانًا للإجمال في الأضعاف؛ لأنه لم يُبيَّن هذه الأضعاف ما قدرها، فهنا بيَّن أن ذلك إلى سبعمائة ضعف.

"قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة:261] كل ما يُزرع، ويُقتات (وفي جميع النسخ: يزدرع، ويقتات) وأشهره: القمح، وفي الكلام حذف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة، أو يقدر في آخر الكلام، (قال: وفي بعض النسخ: في أجزاء الكلام) كمثل صاحب حبة."

هذا مضى الكلام عليه في شرح الأمثال في القرآن تفصيلًا، يعني هذا المثل المضروب مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة:261] فهنا ظاهر اللفظ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ الأشخاص في المنفقين، هل المنفقون كحبة؟ المنفق كحبة؟ فهذا يحتاج إلى تقدير، لاحظ! فهنا يقول: "وفي الكلام حذف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون" مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

مثل نفقة هؤلاء كمثل حبة، فيكون الحبة بإزاء النفقة، هذه النفقة تضاعف، أو يكون ذلك في آخر الكلام، التقدير في آخر الكلام، يعني في الأول: مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة، يعني: شبه النفقة بحبة أنبتت سبع سنابل، فالمشبه: هو النفقة، والمشبه به: الحبة، أو في آخر الكلام: فيكون: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل كمثل صاحب حبة" جعلناه في آخر التقدير في آخر الكلام: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كحبة؛ كصاحب حبة، صاحب حبة أنبتت له سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبة، واضح؟ فهنا، أو يقدر ليس في أجزاء الكلام، وإنما في آخر الكلام، إما في الأول: فيكون ذلك تمثيلًا للنفقة بحبة، أو يكون التمثيل لصاحب النفقة بصاحب حبة.

يعني: على القول الأول يكون التقدير في الأول: "مثل نفقة الذين ينفقون" وعلى القول الثاني: لا تقدير في الأول مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التقدير في المشبه به: "كمثل صاحب حبة" لاحظتم؟ وإنما اقتضى ذلك التقدير سواءً في البداية، أو في الآخر أن الكلام لا يستقيم إلا به، كلام الله في غاية الفصاحة، والبلاغة، والعرب تحذف من الكلام؛ اختصارًا ثقةً بفهم السامع.

"قوله تعالى: أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261]: بيانٌ أن الحسنة بسبعمائة كما جاء في الحديث: أن رجلًا جاء بناقةٍ، فقال هذه في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة[8] وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] أي يزيده على سبعمائة، وقيل: هو تأكيدٌ، وبيانٌ للسبعمائة، والأول: أرجح؛ لأنه ورد في الحديث ما يدلُّ عليه."

يعني: هنا في قوله: "وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]: يحتمل أن المقصود: يضاعف هذه المضاعفة من العشر إلى السبعمائة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، من الذي يصل إلى السبعمائة؟ هذا لمن شاء الله - تبارك، وتعالى - فيكون تأكيدًا، وبيانًا للسبعمائة.

يعني: ليس أكثر من سبعمائة، لكن ما جاء في الحديث: إلا الصوم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فيكون بلوغ السبعمائة لمن يشاء، ويحتمل أنه زيادة على السبعمائة، والله يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء، وهذا كأنه هو المتبادر زيادة على السبعمائة، كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله: بحسب إخلاصه في عمله[9] فيكون المعنى: يضاعف هذه المضاعفة على القول بأن ذلك بيان، وتأكيد للسبعمائة، ابن جرير[10] والحافظ ابن القيم[11] يقول: "وَاللَّهُ يُضَاعِفُ [البقرة:261]" أي: هذا العدد، يضاعف هذا العدد لمن يشاء، والآية تحتمل على كل حال - والله أعلم -. 

سؤال: كيف تأسيس مقدم على التوكيد؟

جواب: لا مدخل للقاعدة هنا؛ لأن الكلام ليس في زيادة لفظة فيُقال: هي مؤسسة، أو مؤكدة، لا. لا الكلام ليس في هذا وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] يُضاعف فوق العشر إلى السبعمائة هذا معنى، أن ذلك لا يكون لكل أحد، أو يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء - والله أعلم -. 

"قوله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ [البقرة:262] الآية: قيل: نزلت في عثمان[12] وقيل: في عليّ، وقيل: في عبد الرحمن بن عوف."

على كل حال: ورد فيه روايات، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، أذكر بعض الروايات الصحيحة في سبب النزول، هذه الآية قوله - تبارك، وتعالى -: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]: القول بأن الآية نزلت في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، هذا مروي عن الكلبي، وغيره، هذا لا يصح، يقول: نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، أما عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء إلى النبي ﷺ بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي، ولعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله ﷺ بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت.

وأما عثمان فقال: علي جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها، وأحلاسها، وتصدق برومة - كية كانت له - على المسلمين، فنزلت فيهما هذه الآية[13] وهذا لا يصح.

وهكذا مرويات أخرى: حديث أبي سعيد قال: رأيت رسول الله ﷺ رافعًا يده يدعو لعثمان يقول: يا رب، إن عثمان بن عفان رضيت عنه، فما زال رافعًا يده حتى طلع الفجر، فأنزل الله فيه: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262][14].

وكذلك يقول ابن الجوزي في زاد المسير[15] وكذلك جاء في البغوي[16] قال ابن السائب، ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك، وشرائه بئر رومة بالمدينة، تصدق بها على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم، وكانت نصف ماله، هذا ليس بصريح في سبب، لكن الأول، والثاني صريحان، لكن لا يصح منهما شيء.

وهنا ذكر في الحاشية بأن قوله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262] يقول: الصحيح أنها نزلت في عثمان، فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة، وضعها في حجر رسول الله ﷺ، فرأينا النبي ﷺ يُدخل يده، ويقلبها، ويقول: ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262][17] هذا عند الترمذي، وأحمد، وقال الترمذي: حديثٌ حسن غريبٌ من هذا الوجه، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

المقصود: أن الروايات التي تذكر عبد الرحمن بن عوف، وكذلك علي  فذلك لا يصح منه بشيء، تبقى هذه الرواية على كل حال أنها نزلت في عثمان - رضي الله عن الجميع -.

  1.  أخرجه أحمد (3/220)، رقم: (1690).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله، وتضعيفها، رقم: (1892).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما يذكر في المسك، رقم: (5927)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم: (1151).
  4.  تفسير ابن كثير (1/691).
  5.  إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/141).
  6.  تفسير ابن كثير (1/691).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/512).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله، وتضعيفها، رقم: (1892).
  9.  تفسير ابن كثير (1/693).
  10.  تفسير الطبري (5/515).
  11.  طريق الهجرتين، وباب السعادتين (ص:364).
  12.  سنن الترمذي، باب في مناقب عثمان بن عفان وله كنيتان، يقال: أبو عمرو، وأبو عبد الله، رقم: (3701).
  13.  أسباب النزول ت الحميدان (ص:87).
  14.  المصدر السابق.
  15.  زاد المسير في علم التفسير (1/238).
  16.  تفسير البغوي (1/325).
  17.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه، وسلم، باب في مناقب عثمان بن عفان رقم: (3701)،

مرات الإستماع: 0

بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) خبر الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، وأن إبراهيم قال له: ربي الذي يحُي ويُميت، وذكر أيضًا خبر الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنّى يحُي هذه الله بعد موتها، وسؤال إبراهيم أن يُريه كيف يحي الموتى؟

لما ذكر هذه الدلائل التي تدل على القدرة الإلهية، وأن الله -تبارك وتعالى- يُحي النفوس، ويبعث الأجساد من جديد، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالإنفاق؛ وذلك أن المال عزيز إلى النفوس، وهو شقيق الأرواح، فلا يخرجه الإنسان وقد جد واجتهد في جمعه وتحصيله وكسبه، مع ما جُبلت نفسه على التعلق به، كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [سورة آل عمران:14].

فالله -تبارك وتعالى- ذكر الحث على الإنفاق، ووجوه هذا الإنفاق، وما يُبطله، ويؤثر عليه إلى غير ذلك من التفاصيل التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في ثنايا هذه الآيات، وقد وافق الحديث عنها مستهل شهر شعبان، الذي هو الشهر الذي يتهيأ فيه المسلمون لاستقبال شهر رمضان، شهر الجود والبذل والإنفاق، فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُبلغنا وإياكم رمضان، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن يُعيينا وإياكم على ذكره وشكره، وحُسن عبادته.

يقول الله -تبارك وتعالى- في أول هذه الآيات: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].

مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مثل المؤمنين المنفقين للأموال في مرضاة الله -تبارك وتعالى- كَمَثَلِ حَبَّةٍ وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا المثل مضروب لنفقة المنفقين، يعني: مثل نفقة المنفقين كمثل حبة، النفقة كحبة، وليس المقصود: أن المُنفق كحبة، وإنما ذلك مُقدر معلوم من سياق الكلام، مثل نفقة المُنفق كمثل حبة، فجعلوا المقدر أولاً، وبعض أهل العلم جعله آخرًا، أي: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، كمثل صاحب حبة، أو باذر حبة، فعلى هذا يكون المثل مضروب للمنفق بصاحب حبة، أو باذر حبة، فهذه الحبة بُذرت في أرض طيبة، فأخرجت ساقًا، تشعب منها سبع شُعب، لكل واحدة من هذه الشُعب سُنبلة، وفي كل سُنبلة مائة حبة.

وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ بعض المفسرين يقول: يُضاعف هذه المضاعفة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيُضاعف إلى سبعمائة لمن يشاء، بحسب ما يقوم في قلب المنفق، وبحسب حال هذه النفقة.

وبعضهم يقول: بأن هذه النفقة تُضاعف فوق السبعمائة، بحسب ما يقوم في قلب العبد، وبحسب حال هذه النفقة، وكأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب، وفضل الله -تبارك وتعالى- واسع؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ وَاسِعٌ كثير العطاء، واسع الجود والفضل، عَلِيمٌ بمن يستحق ذلك، مُطلع على مُكنونات الصدور، عالم بهذه النفقات، وأحوالها.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: فائدة ضرب الأمثال، فهي تُقرب المعنى المعقول بصورة محسوسة، كأنك تُشاهدها، وكثير من الأمثال القرآنية هي من هذا النوع، تعرض لك المعنى المعقول؛ ليُفهم ويُدرك، ويتضح بصورة محسوس يتجسد أمامك كأنك تراه، تقريبًا للأفهام، وهذا أيضًا من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده أن يُبين لهم حقائق الأشياء، ويُقربها لهم، حتى تتضح، وتكون في غاية الوضوح والجلاء، فهذا القرآن كما قال الله -تبارك وتعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89].

ويُؤخذ أيضًا من قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ الحث على الإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، وإذا كانت هذه المضاعفة في أرض مخلوقة، تُعطي بالحبة سبعمائة حبة، وتنبت الحبة سبع سنابل، فكيف بعطاء الله -تبارك وتعالى؟! مع أن بعض المفسرين استبعد في الواقع وجود حبة تُخرج هذا القدر (سبعمائة حبة) فقالوا: هذا مثل مضروب للتقريب من أجل بيان سعة فضل الله، وجزاءه لعباده، وإلا فالواقع لا يوجد فيه حبة واحدة تُخرج سبعمائة.

وقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فعبّر بالفعل المضارع (يُنفقون) ولم يقل: مثل الذين أنفقوا، والفعل المضارع يدل على الاستمرار، فالإنفاق لا يكون مرة واحدة، ثم ينقطع، أو يكون في شهر رمضان، ثم بعد ذلك يقبض يده، أو يكون في حال شدة يُلاقيها فينفق ويجود، فإذا فرج الله كربته نسي وترك الإنفاق، فهذا لا يليق، فالنفقة تكون مستمرة، وهو يتعامل مع الله -تبارك وتعالى، ويُحصل الأجور والأرباح في هذه التجارة، التي لا يخيب من اتجر بها، وأرباحها مضمونة.

وأضاف الأموال إليهم في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ليفيد الملكية، وليبين أن الناس يملكون هذه الأموال وإن كانت من فضل الله -تبارك وتعالى- وعطائه، حيث رزقهم هذه الأموال.

وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا يُشير إلى شروط قبول العمل، فهذا لا بد أن يكون خالصًا لوجه الله -تبارك وتعالى؛ لأنه إذا كان للرياء والسمعة، فإنه ليس في سبيل الله، وإذا كان الإنسان يُرجي من وراء هذه النفقة عائدة دنيوية، من الجاه، أو المحمدة، أو شُكر الناس، أو نحو ذلك، فإن هذا لا يكون في سبيل الله، فالذي ينفق يتجرد في نفقته، يريد ما عند الله -تبارك وتعالى- فحسب؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [سورة الإنسان:9]، فالذي ينتظر الشكر من الناس لا يكون ممن يتصف بهذا الوصف الذي ذكره الله ؛ ولهذا كانت عائشة -رضي الله عنها- إذا بعثت بصدقة توصي من بعثته فتقول: انظروا ما يقولون، يعني: إذا قالوا: جزاكم الله خيرًا، فقولوا: بل أنتم جزاكم الله خيرًا؛ لئلا يكون ذلك مكافأة على هذه النفقة والإحسان.

والشرط الآخر: وهو أن يكون هذا الإنفاق على الوجه المشروع، لا بد من ذلك، وإلا فإذا أنفق في معصية، أو بدعة، أو ضلالة، أو نحو ذلك، فإن هذا لا يكون في سبيل الله، لماذا؟ لأن سبيل الله هي التي شرعها، فالذي ينفق الأموال على القبور والأضرحة وإضاءتها وإسراجها، أو في طعام للعكوف عندها، أو نحو ذلك من أوقافٍ عليها، فهذا في سبيل الشيطان، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، صوابًا فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] وصلاح العمل لا يتحقق إلا بالمتابعة للنبي ﷺ، والمتابعة هي التي يكون الإنفاق فيها على هذا الوصف في سبيل الله، مع ما ينبغي ملاحظته حتى يكون الإنفاق على وجهه الصحيح وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67].

وفي قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ مثّل هذه النفقات بالحبة، وهذه الحبة أنتجت هذا العدد الكثير، مما يدل على أن الصدقة تبلغ ذلك، وأنها قد تزيد في الأجر والثواب وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وغيره: يُضاعف لمن يشاء بحسب ما يحتف بهذه الصدقة مما يقوم في قلب صاحبها من الإخبات والإخلاص[1].

ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: الرجل الذي تصدق، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، من شدة الإخفاء، فصار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، انظر كيف بلغت هذه الصدقة لشدة الإخلاص عند صاحبها.

وقد يكون ذلك بحسب الحاجة والوقت فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16] فالنفقة في وقت الحاجة الشديدة، وعلى قريب، فإن ذلك يكون أعظم، وثوابه أكثر، وأبواب الإنفاق كثيرة، لكنها تتفاضل، فيحتاج العبد إلى أن يتحرى في نفقته؛ ليعظُم أجرها، وتعظُم عائدتها عليه.

وأيضًا قد تكون هذه المُضاعفة بحسب الزمان، كعشر ذي الحجة، أو رمضان، وقد يكون ذلك باعتبار المكان، كالحرم، فإن الحسنة تعظُم فيه.

وفي قوله: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ فيه إثبات الصفات الفعلية التي تتعلق بمشيئة الله، وإرادته، وإثبات المشيئة، يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وهذا يدعو العبد إلى سؤال الله -تبارك وتعالى- القبول، وتعظيم الأجور؛ لأن الله هو الذي يملك ذلك، ويُضاعف لمن يشاء، فلو كان الناس في مرابحة ومساهمة وتجارة دنيوية، فإذا أُعطي نسبة من هذا الربح، وأُعطي غيره أكثر، ربما ضاق ذرعًا بذلك، وسلك كل سبيل من أجل تحصيل المزيد من هذه الأرباح، فنحن في تعاملنا مع الله -تبارك وتعالى- في تجارة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [سورة التوبة:111] فسمّى ذلك بيعًا فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [سورة التوبة:111] وسماه: تجارة وشراء، وسمى الخسارة في ذلك غبنًا، وسمى اليوم الآخر بيوم التغابن، لما يحصل فيه من الغبن الكثير بين الناس.

وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فهذا يرجع إلى مشيئته، وحكمته، واختياره، لا مُعقب لحكمه؛ وذلك مبني على علمه بأحوال العباد، ومقاصدهم، كما سيأتي في ختم هذه الآية. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء برقم: (2363) ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها برقم: (2244).
  2. تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (5/ 157).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء برقم: (2363) ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها برقم: (2244).

مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].

مضى الكلام في الليلة الماضية عن صدر هذه الآية، وبقي من المعاني والهدايات التي تُستخرج من هذه الآية ما دلَّ عليه قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وقلنا: إن الراجح أن هذه المضاعفة في الزيادة على السبعمائة لمن شاء الله -تبارك وتعالى، فهذا يدل على سعة فضل الله -تبارك وتعالى- وثوابه لعباده، فيجزي العاملين على أعمالهم التي هداهم إليها، ووفقهم، وعلمهم إياها، ويجزيهم على نفقاتهم التي كانت تلك الأموال من رزقه وفضله وعطائه ومنه، فهو يُعطي ويوفق العبد ويهديه ويدله على سبيل مرضاته، ثم يُسمي ذلك أجرًا، والأجر هو ما يُعطى للعامل إزاء عمله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي هدى، وهو الذي وفق، وهو الذي علّم.

ولم تكن الحسنة بحسنة فقط، كما يُقال في أعمال الناس، وما يحصل بينهم من فصل الخصومات، إذا اختلفوا على الأجرة، ونحو ذلك، فالمعلوم أنه يُعطى أُجرة المِثل، ما لم يكن هناك اتفاق يوضح ما له من الأجر، أما هنا فالحسنة، وهي الصدقة، بسبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، فهذا لا يوجد إلا في عطاء الله -تبارك وتعالى، فهو يُعامل بالفضل؛ ولهذا كان من أسمائه الشكور، فهو يجزي العاملين على أعمالهم، فلا تضيع عنده، ويُنميها، ويُربي هذه الصدقات، فتزيد وتضعف وتربو عند الله -تبارك وتعالى.

أتظنون أن هذه الصدقات التي تقدمونها تجدونها كما هي: الريال بريال، والمائة بالمائة، والتمرة بتمرة؟ أبدًا، فلو تبرع بما هو أعظم من التمرة كأن أعطى وجبة لفقير، أو قارورة ماء لعامل في الشمس، فهو عند الله عظيم، وتلك المرأة البغي التي سقت الكلب، ماذا كان جزاؤها عند الله -تبارك وتعالى؟ وهو عمل قد لا تحسب له حسابًا، ولكن له عند الله شأن آخر، وهكذا المعاملة مع الله، ومن رحمته أن السيئة بواحدة.

ولهذا يقول العلماء -رحمهم الله: "هلك من غلبت آحاده عشراته"[2]، الآحاد هي السيئات، سيئة بسيئة، والوزن عند الله -تبارك وتعالى- بحسب الرُجحان في كفة الحسنات والسيئات، فمن غلبت آحاده عشراته، فمعنى ذلك أنه في غاية التفريط، فإذا كانت الحسنة بعشر إلى سبعمائة، ومع ذلك رجحت كفة السيئات، فمعنى هذا أن هذا الإنسان قد ضيع حظه ونصيبه وربحه وتجارته مع الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فهو لم يُقدم شيئًا ينفعه من الحسنات، ولم يتوق ما لاح له من السيئات، فرجحت سيئاته على حسناته، والفوز عند الله -تبارك وتعالى- هو برُجحان كفة الحسنات على السيئات.

فانظر إلى فضل ربنا العظيم، حبة بسبعمائة، ألف بسبعمائة ألف، إلى أضعاف كثيرة، مليون بسبعمائة مليون، ولو قيل للناس: مساهمة، ادفع ريال بسبعمائة ريال، وألف بسبعمائة ألف، ماذا سيصنع الناس؟ لباع الناس ثيابهم وأثاثهم ودورهم ومراكبهم وطعامهم، في مساهمات دون ذلك، ولا تبلغ عُشر معشار هذا، باع الناس بيوتهم وأغنامهم وإبلهم، وما عندهم من مؤسسات، وغير ذلك من أجل الدخول في تلك المساهمات التي قيل لهم: إنها قد تصل إلى ثلاثين وأربعين بالمائة، يعني ليست الضعف، يعني قريب من الثُلث، وهناك سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فهذا هو التعامل مع الله -تبارك وتعالى، ولكن ضعف اليقين -أيها الأحبة- هو الذي يُقعدنا عن ذلك، والطريق مفتوح في كل كبد رطبة أجر[3]، فكم من عامل وفقير محتاج، وتوجد جمعيات تكفيك مؤنة البحث عن المحتاجين والأرامل والفقراء والمساكين، يعرفونهم وقد أحصوهم إحصاءً دقيقًا، لكن بقي هذه النفس التي تحتاج إلى مجاهدة.

ولاحظ هذا التمثيل والتصوير في هذه الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261] يصور لك ذلك كأنك تشاهده، حبة يخرج منها ساق، ينشعب منه سبع شُعب، ثم في كل شُعبة تكون سُنبلة فيها مائة حبة، ويكون مجموع ذلك سبعمائة حبة، فهذا يُقرب للأذهان -كما سبق، وفيه ما فيه من ضروب البلاغة، حيث مثّل هذه النفقة ومثل الذين ينفقون، كمثل حبة وزارعيها، فذكر المُنفق أولاً مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ لأن ذلك في مقام الثناء عليهم، فأبرز حال هؤلاء.

وفي هذا المثل أيضًا: الحث على البذل والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى، حيث شبهه بالزرع والزرع ينمو ونماؤه لا ينقطع ولا يتوقف، وهذا العدد الكثير الذي ذكره، لا شك أنه يُلفت الأنظار مقابل الحبة سبعمائة! فهذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- يفعل ذلك في أعمال العاملين، وصدقات المتصدقين، وقربات أهل البذل والجود والإحسان، فهذا كله من لطفه ورحمته وفضله وإحسانه، حيث ضرب لنا الأمثال، وبيّنها غاية البيان، ثم ختم هذه الآية بقوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فلا يُستكثر مثل هذا؛ لأنه واسع، ومن معاني الواسع -كما تحدثنا في الكلام على الأسماء الحسنى- أنه واسع الغنى، والجود، والعطاء، فكل ذلك من معانيه، وهو واسع الأوصاف والكمالات، وذلك لا يُنقص مما في خزائنه.

وهو كذلك أيضًا (عليم) بهذه النفقات وبهؤلاء المنفقين، وبمواضع هذه النفقة، وبما يقوم في قلوب هؤلاء من صدق الرغبة والإخفاء، وحب الخير، والرحمة بالناس، عليم بنفقاتهم، فلا يحتاج الواحد منهم أن يُعلم الآخرين، أو يُعلن عن صدقته وإحسانه، فالله -تبارك وتعالى- يعلم ذلك، فإذا بذلت وقدمت وبنيت مسجدًا، أو أقمت وقفًا، أو نحو ذلك فلا داعي لإشهار ذلك باسم يُرقم عليه، فالله عليم.

وهكذا نجد في ختم الآيات من الأسماء الحسنى ما يُنمي هذه المعاني في القلوب، ويربط الناس بربهم وخالقهم ومليكهم ، وتقدست أسماؤه، فيكون التعامل معه، فالله عليم بهذه النفقات، ولو بُذلت هذه النفقات للقرابات، ومن يحتف به، ثم بعد ذلك وجد شيئًا من التنكر من قِبل هؤلاء، أو من بعضهم، فالله عليم؛ ولهذا لا يحتاج الإنسان إلى أن يوثق هذه العطاءات، ويوثق هذا الإحسان، بتصوير ولا بتوقيع، ولا بغير ذلك؛ لأن التعامل مع العليم.

فالواسع يحفز النفوس على مزيد من البذل والعطاء والإحسان، ولن ينقص ذلك من خزائن الله -تبارك وتعالى- شيئًا إطلاقًا، المخلوق حينما يقول: بأنه سيعطي شيئًا من الأرباح الكثيرة بالنظر إلى عطاءات المخلوقين، وأرباح المخلوقين ربما يُستكثر ذلك عليه، ويُنظر في أرصدته، وما عنده من إمكانات، وهل سيستطيع الوفاء بهذا أو لا؟ وهل سيستطيع النهوض به أم لا؟

أما الله -تبارك وتعالى- فهو واسع، فما أنفقه منذ خلق السماوات والأرض لم ينقص من خزائنه وملكه شيئًا، فلو اجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، وسألوا فأعطى كل واحد مسألته، واجتهدوا -كل هؤلاء- في السؤال، وكل واحد يتخيل ما يريد ويسأل ما يشاء، لو قال مثلاً: أريد مثل الأرض عشر مرات، وأعطي كل واحد مسألته، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله، إلا كما ينقص المخيط -الإبرة- إذا وضعت في البحر، ماذا تُنقص الإبرة إذا وضعت في كأس ماء، وليس في البحر؟! فهذا ربنا -تبارك وتعالى، فالتعامل معه -أيها الأحبة- ينبغي أن يكون على حال لائقة من نوع البذل، فلا يتخير الإنسان رديء النفقات، وقليل الفئات من النقود، ولا يكون ذلك أيضًا مشوبًا بالمقاصد الفاسدة، فالله واسع وعليم، وإذا عرف العبد أنه يتعامل مع من هو بهذه المثابة والصفة، فهنا التعامل ينبغي أن يكون دقيقًا، أخف هذه الصدقة غاية الإخفاء.

فـ(عليم) صيغة مبالغة على وزن (فعيل) لا يخفى عليه شيء إطلاقًا، ولا يضيع عليك شيء إطلاقًا، ولن يُنسى شيء إطلاقًا، كل ذلك ستجده مُحصى، فيا لها من معانٍ -أيها الأحبة- تُربي الأرواح والقلوب، فتسمو وترتفع، وتتخلص من كثير من الشُح وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9] فالشُح مركب في النفوس؛ ولذلك أضافه إليها شُحَّ نَفْسِهِ [سورة الحشر:9] وأشار إليهم بإشارة البعيد فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9]. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء برقم: (2363) ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها برقم: (2244).
  2. تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (5/ 157).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء برقم: (2363) ومسلم في السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها برقم: (2244).