أراد إبراهيم بطلبه أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال وهي علم اليقين إلى مرتبة أعلى منها وهي عين اليقين، ذلك أن مراتب اليقين ثلاث:
الأولى: علم اليقين: وهو الاعتقاد الجازم الثابت الذي لا يتطرق إليه شك، ولا يقبل التشكيك.
الثانية: عين اليقين: وهذا لا يتوصل إليه إلا بالمشاهدة.
الثالثة: حق اليقين: وهذه لا تتحقق إلا بملابسة الشيء، والدخول فيه.
فإبراهيم أراد أن ينتقل من مرحلة التصديق الجازم إلى المشاهدة الواقعة ليحقق عين اليقين، فكان له ما أراد، يقول ابن القيم في كتابه "التبيان في أقسام القران" معقباً على كلامه عن مرتبة عين اليقين: "وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى!؛ ليحصل له مع علم اليقين عين اليقين، فكان سؤاله زيادة لنفسه، وطمأنينة لقلبه، فيسكن القلب عند المعاينة، ويطمئن لقطع المسافة التي بين الخبر والعيان، وعلى هذه المسافة أطلق النبي لفظ الشك حيث قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، ومعاذ الله أن يكون هناك شك من إبراهيم، وإنما هو عين بعد علم، وشهود بعد خبر، ومعاينة بعد سماع".
وعلى افتراض اعتبار طلب نبي الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - شكاً، فيحمل على ما يعرض للإنسان من الخواطر التي يدفعها بمجرد قدحها في الذهن، ولا يسترسل معها، فلا يكلف بها ويحاسب عليها، ومن أمثلة وروده في الوحيين ما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [سورة يوسف:110] والمعني تخلف الوعد، فهذا مما يخطر على النفوس، ولكنها لا تسترسل معه فيكون مغتفراً، ومثله ذلك الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه، ثم يذرّوه بعد ذلك، فلما كان إقدامه على هذا الصنيع ليس شكاً في قدرة الله على جمعه، وإحيائه من جديد، إنما حصل له بسبب غلبة الخوف؛ تجاوز الله عنه، وصفح.
والحواريون حينما طلبوا من عيسى ﷺ كما حكاه الله على لسانهم بقولهم: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112]، وكانت علتهم: نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:113] ولا يعقل أن يكون خاصة أصحاب المسيح - عليه الصلاة والسلام - مشككين في قدرة الله ، بدليل أن الاستطاعة تأتي مستفهَماً عنها في بعض الأحيان، مراداً بها الفعل مثل قولك: هل تستطيع أن تذهب معي إلى مكان كذا وكذا؟ لأجل ذلك لم يؤاخذوا.
والخلاصة أن الآية يمكن أن تحتمل المعنيين إلا أن الأحسن حملها على القول الأول وهو أن إبراهيم أراد أن ينتقل من مرتبة عالية في اليقين إلى مرتبة أعلى منها.
وبهذا التوضيح ينتفي استشكال ورود لفظ الشك في الحديث بما قرره ابن القيم ورجحه، وإذا عُلم أن الشك في البعث ينفر منه كثير من آحاد الناس، فيكف بأبي الأنبياء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مَن عُرف برسوخ الإيمان، وثباته، والله أعلم.
"وقوله: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ أن وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن".
الروايات الإسرائيلية المنقولة في تحديد هذه الطيور تجدها في غاية الاختلاف، وهذا يدل على تطرق الكذب إليها، ولا يوجد مستند صحيح يعتمد عليه في تحديد نوعها.
"وقوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ: أي قطعهن، قاله ابن عباس - ا -، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك".
أقوال المفسرين تباينت في تفسير قوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فبعضهم يقول: قطعهن، وبعضهم يقول: أَمِلْهن، من قولهم: رجل أصور أي مائل العنق، والمعنى مختلف، والذي يظهر أن كل معنى من هذه المعاني يرجع إلى قراءة، فإذا قرأت فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بالصاد مضمومة فهي بمعنى الإمالة أي اجعلهن نحوك، وبعضهم فسره بمعنى ضمهن إليك وهو لا يخالف هذا المعنى، وإذا قرأت فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ بكسر الصاد يكون المعنى قطعهن، فلا حاجة للترجيح بين القولين، والقراءات إذا وجد لكل منها معنى يخصها فهي بمنزلة الآيات، وقيل غير هذا مما ظاهره التكلف، والله أعلم.
"فذكروا: أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن، ونتف ريشهن، ومزقهن، وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، قيل: أربعة أجبل، وقيل: سبعة، قال ابن عباس - ا -: وأخذ رءوسهن بيده، ثم أمره الله أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً؛ ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم فإذا قدّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته، ولهذا قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب في قوله: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قال: قال ابن عباس - ا -: "ما في القرآن أرجى عندي منها".
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [سورة الزمر:53] الآية، فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى فرضي من إبراهيم قوله بلى، فهذا لما يعترض في النفوس، ويوسوس به الشيطان، وهكذا رواه الحاكم في المستدرك مثله, ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
- رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4263) (4/1650)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة برقم (151) (1/133).