الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۦمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [(سورة البقرة:260] ذكروا لسؤال إبراهيم أسباباً منها: أنه لما قال للنمرود: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة البقرة:258]، أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[1] فمعناه أننا نحن أحق بطلب اليقين".
أراد إبراهيم بطلبه أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال وهي علم اليقين إلى مرتبة أعلى منها وهي عين اليقين، ذلك أن مراتب اليقين ثلاث:
الأولى: علم اليقين: وهو الاعتقاد الجازم الثابت الذي لا يتطرق إليه شك، ولا يقبل التشكيك.
الثانية: عين اليقين: وهذا لا يتوصل إليه إلا بالمشاهدة.
الثالثة: حق اليقين: وهذه لا تتحقق إلا بملابسة الشيء، والدخول فيه.
فإبراهيم أراد أن ينتقل من مرحلة التصديق الجازم إلى المشاهدة الواقعة ليحقق عين اليقين، فكان له ما أراد، يقول ابن القيم في كتابه "التبيان في أقسام القران" معقباً على كلامه عن مرتبة عين اليقين: "وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى!؛ ليحصل له مع علم اليقين عين اليقين، فكان سؤاله زيادة لنفسه، وطمأنينة لقلبه، فيسكن القلب عند المعاينة، ويطمئن لقطع المسافة التي بين الخبر والعيان، وعلى هذه المسافة أطلق النبي لفظ الشك حيث قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، ومعاذ الله أن يكون هناك شك من إبراهيم، وإنما هو عين بعد علم، وشهود بعد خبر، ومعاينة بعد سماع".
وعلى افتراض اعتبار طلب نبي الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - شكاً، فيحمل على ما يعرض للإنسان من الخواطر التي يدفعها بمجرد قدحها في الذهن، ولا يسترسل معها، فلا يكلف بها ويحاسب عليها، ومن أمثلة وروده في الوحيين ما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [سورة يوسف:110] والمعني تخلف الوعد، فهذا مما يخطر على النفوس، ولكنها لا تسترسل معه فيكون مغتفراً، ومثله ذلك الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه، ثم يذرّوه بعد ذلك، فلما كان إقدامه على هذا الصنيع ليس شكاً في قدرة الله على جمعه، وإحيائه من جديد، إنما حصل له بسبب غلبة الخوف؛ تجاوز الله عنه، وصفح.
والحواريون حينما طلبوا من عيسى ﷺ كما حكاه الله على لسانهم بقولهم: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [سورة المائدة:112]، وكانت علتهم: نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:113] ولا يعقل أن يكون خاصة أصحاب المسيح - عليه الصلاة والسلام - مشككين في قدرة الله ، بدليل أن الاستطاعة تأتي مستفهَماً عنها في بعض الأحيان، مراداً بها الفعل مثل قولك: هل تستطيع أن تذهب معي إلى مكان كذا وكذا؟ لأجل ذلك لم يؤاخذوا.
والخلاصة أن الآية يمكن أن تحتمل المعنيين إلا أن الأحسن حملها على القول الأول وهو أن إبراهيم أراد أن ينتقل من مرتبة عالية في اليقين إلى مرتبة أعلى منها.
وبهذا التوضيح ينتفي استشكال ورود لفظ الشك في الحديث بما قرره ابن القيم ورجحه، وإذا عُلم أن الشك في البعث ينفر منه كثير من آحاد الناس، فيكف بأبي الأنبياء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مَن عُرف برسوخ الإيمان، وثباته، والله أعلم.
"وقوله: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ أن وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن".
الروايات الإسرائيلية المنقولة في تحديد هذه الطيور تجدها في غاية الاختلاف، وهذا يدل على تطرق الكذب إليها، ولا يوجد مستند صحيح يعتمد عليه في تحديد نوعها.
"وقوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ: أي قطعهن، قاله ابن عباس - ا -، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك".
أقوال المفسرين تباينت في تفسير قوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فبعضهم يقول: قطعهن، وبعضهم يقول: أَمِلْهن، من قولهم: رجل أصور أي مائل العنق، والمعنى مختلف، والذي يظهر أن كل معنى من هذه المعاني يرجع إلى قراءة، فإذا قرأت فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بالصاد مضمومة فهي بمعنى الإمالة أي اجعلهن نحوك، وبعضهم فسره بمعنى ضمهن إليك وهو لا يخالف هذا المعنى، وإذا قرأت فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ بكسر الصاد يكون المعنى قطعهن، فلا حاجة للترجيح بين القولين، والقراءات إذا وجد لكل منها معنى يخصها فهي بمنزلة الآيات، وقيل غير هذا مما ظاهره التكلف، والله أعلم.
"فذكروا: أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن، ونتف ريشهن، ومزقهن، وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، قيل: أربعة أجبل، وقيل: سبعة، قال ابن عباس - ا -: وأخذ رءوسهن بيده، ثم أمره الله أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً؛ ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم فإذا قدّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته، ولهذا قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب في قوله: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قال: قال ابن عباس - ا -: "ما في القرآن أرجى عندي منها".
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [سورة الزمر:53] الآية، فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى فرضي من إبراهيم قوله بلى، فهذا لما يعترض في النفوس، ويوسوس به الشيطان، وهكذا رواه الحاكم في المستدرك مثله, ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
  1. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4263) (4/1650)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة برقم (151) (1/133).

مرات الإستماع: 0

"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [البقرة:260] الآية: قال الجمهور: لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة؛ لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع، والحيات (قال في جميع النسخ: والحيتان)."

لا. لا، أكلتها السباع، والحيتان! كيف يكون هذا؟ السباع في البر، والحيتان في البحر.

قد أكلتها السباع، والحيات.

كأنه يقصد الحيات ربما يقصد الدود.

 "فسأل ذلك السؤال، ويدل على ذلك قوله: كَيْفَ [البقرة:259] فإنها سؤال عن حال الإحياء، وصورته لا عن وقوعه."

لا شك أن إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى، وهو إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام، ولكن أراد أن ينتقل من مرتبةٍ إلى مرتبة، يعني: أراد أن ينتقل من علم اليقين، وقد كان يتقن بهذا، أراد أن ينتقل إلى مرتبةٍ أعلى، وهي عين اليقين، إذ المراتب في اليقين ثلاث:

المرتبة الأولى: علم اليقين، وهي العلم بالشيء الذي لا يتطرق إليه الشك، والتردد، ولا يقبل التشكيك.

والمرتبة الثانية: وهي عين اليقين إذا شاهده.

والمرتبة الثالثة: هي حق اليقين.

وللحافظ ابن القيم كلام على هذا فعلم المؤمن بالجنة؛ بوجود الجنة هذا علم يقين، فإذا رآها فهذا عين اليقين، فإذا دخلها فهذا حق اليقين، علمك بهذا المسجد علم اليقين، فإذا رأيته فذلك عين اليقين، فإذا دخلت فيه فهذا حق اليقين، مثلَّ ابن القيم لهذا بأمثلة العسل، تعلمون عنه شيئًا علمًا يقينيًّا أنه حلو المذاق مثلًا، فإذا رأيته كان ذلك علم اليقين، فإذا ذُقته فهذا حق اليقين.

إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى مرتبة أعلى، وهي عين اليقين، وقول النبي ﷺ نحن أحق بالشك من إبراهيم[1] حمله الحافظ ابن القيم - رحمه الله - على المسافة التي تكون بين علم اليقين، وعين اليقين، أن ذلك يُقال له شك، ليس الشك بمعنى التردد، أو مستوي الطرفين، وإنما أُطلق على هذا المعنى[2] - والله أعلم -. 

وبعضهم يحمل قول النبي ﷺ نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم يعني: لو وقع ذلك منه، لو حصل منه، لكنه لم يحصل.

"قوله تعالى: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] أي بالمعاينة، قوله: أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260] قيل: هي الديك، والطاووس، والحمام، والغراب."

على كل حال هذا لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.

"فقطعها، وخلط أجزاءها، ثم جعل من المجموع جزءًا على كل جبل، وأمسك رؤوسها بيده، ثم قال: تعالين - بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت، وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء، فجاءته تسعى، حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت - بإذن الله.

قوله: فَصُرْهُنَّ أي ضمهن."

هذا على قراءة الضم، فصُرهن - بضم الصاد - يوجه لهذا المعنى الضم، قراءة الضم أي ضمه، يعني: أملهن إليك، واجمعهن، وبعضهم يقول: صح بهن، فصُرهن، يعني بالنداء يُنادي على هذه الأجزاء، فتأتي، يدعهن.

"وقيل: قطّعهن على كل جبل."

هذا يوجه أيضًا على قراءة الكسر للصاد فصِرهن - بكسر الصاد - فيكون بمعنى قطعهن، يعني هنا قد تُذكر أقوال، ويكون كل قول عائد إلى قراءة، هذا مثال له، توجيه أقوال المفسرين باعتبار القراءات، وهذه من الطرق التي يُمكن أن يُجمع فيها بين أقوال المفسرين، يعني يكون هذا القول حق، وهذا القول حق، هذا بناءً على قراءة، وهذا بناءً على قراءة، ولا نحتاج إلى ترجيح، ما نحتاج إلى ترجيح.

فيكون فَصُرْهُنَّ يعني اجمعهن، أملهن إليك.، وصِرهن قطعهن، يعني: قطعهن، واجمعهن إليك، ونكون جمعنا بين المعنيين بناءً على القراءتين.

"قيل: أربعة جبال، وقيل سبعة، وقيل: الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد."

على كل حال لا دليل على تحديد العدد، فبقي عندنا معنيان بناءً على قراءتين: صُرهن يعني: ضمهن، واجمعهن، ونحو ذلك، أو صح بهـن، أو أملهن إليك، وصِرهن، يعني: قَطِّعهن، قيل: رجل أصور إذا كان مائل العنق، هذا المعنى أملهن إليك، وهذا لا يختلف - والله أعلم - مع قوله: اجمعهن، ضمهن. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله : ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه [الحجر:52]، رقم: (3372)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، رقم: (151).
  2. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/469).

مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:260].

فقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ يعني: واذكر إذ قال إبراهيم، حيث سأل ربه -تبارك وتعالى- أن يريه إحياء الموتى، فيُشاهد ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى- له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي: لأزداد من اليقين، فأراد -كما سبق- أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وهي مرتبة المشاهدة، فيُشاهد إحياء الموتى بعد أن كان معلومًا له متيقنًا، فأمره الله -تبارك وتعالى- أن يأخذ أربعة من الطير، ولم يُحدد أنواع هذه الطيور الأربعة، ولم يرد ذلك عن رسول الله ﷺ، وما ورد فيه من الإخبار فهو مُتلقى عن بني إسرائيل، فلا يعول عليه، ولا فائدة من معرفته.

فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ يعني: فضممهن إليك، واذبحهن، وقطعهن، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا فتكون هذه القِطع والأجزاء على هذه الجبال، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا يأتينك مسرعات، ففعل إبراهيم ما أمره الله به، فجاءه، فعاد كل جزء من أجزاء هذه الطيور بأمر الله -تبارك وتعالى- الرأس إلى الجزء الذي يتصل به، والرجل، وهكذا الجناح، ونحو ذلك، فالتأمت واجتمعت، ثم جاءته مُجيبة إلى موضعه حيث دعاها، قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لا يُغالب، حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله وشرعه، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فهو عزيز قادر على أن يُحيي الموتى، وأن يُعيدهم من جديد، وهو حكيم أيضًا حيث جعل هذه الحياة للابتلاء والاختبار، ثم يُعيد الأجساد ثانية من أجل الجزاء والحساب، وإقامة العدل، وما إلى ذلك.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ فتوسل إليه -تبارك وتعالى- بهذا الاسم الكريم، وهو اسم الرب الذي يجمع صفات الأفعال، وأكثر دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن بهذا الاسم الكريم (ربي) لأن من معاني الرب الإحياء والإماتة والرزق والعطاء والمنع والنفع، وما إلى ذلك، وكل هذا من معاني ربوبيته، فالمؤمن يمكن أن يدعو في كل شأنٍ بما يتفق معه من أسماء الله ، كأنه يقول: يا رزاق ارزقني، يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، ويمكن أن يدعو بهذا الاسم الكريم يقول: يا رب اغفر لي، يا رب ارحمني، وهكذا، فهذا يصلح مع كل مسألة، ولجميع الحاجات، فإجابة الدعاء من معاني الربوبية، والتوسل بهذا الاسم بين يدي هذا الدعاء مبالغة في استدعاء الإجابة.

وهذا الطلب من إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى إنما هو طلب زيادة اليقين، فالإنسان يمكن أن يطلب ما يزداد به يقينه، وكما ذكرنا أن العلم مراتب، فطلب إبراهيم هذه المرتبة الأعلى، ولم يكن شاكًا في قدرة الله على البعث، وإحياء الموتى، وهو إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فقال الله له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى يعني: لم يقل: بلى آمنت يا رب، مع أن (لم) في قوله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ نافية، والهمزة للاستفهام، والجواب في مثل هذا أن يُقال: بلى، وإذا سئل الإنسان: هل آمنت؟ يكون الجواب: نعم، لكن من الناس من إذا قيل له: أليس الله بقادر على إحياء الموتى؟ يقول: نعم، وهذا غلط؛ لأن قول: نعم في مثل المقام في النفي هو تقرير للنفي (أليس) والصحيح أن يقول: بلى، كما جاء في الحديث: أن رجلاً كان يصلي فوق بيته، وكان إذا قرأ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سورة القيامة:40] قال: "سبحانك، فبلى"[1]، فإذا قلت لإنسان مثلاً: أولم أُعطك؟ فقال: نعم، فمعناه: أنك لم تعطه، فيكون الإثبات تقريرًا للنفي، فالصحيح أن يقول: بلى، وحينما يُقال: أفهمت؟ إذا قلت: نعم، فالجواب صحيح، لكن حينما يُقال: أو لم تتضح لك المسألة؟ فإذا قلت: نعم، معناه: أنها لم تتضح، فأنت تُقر النفي، والصحيح أن تقول: بلى، يعني: اتضحت.

فإبراهيم قال: بلى، وهذا أيضًا يدل على أنه يجوز الاقتصار على مثل ذلك في الإقرار، يعني: حينما يقول الإنسان مثلاً لغيره: أنكحتك موليتي، فيقول: نعم، فهذا يعتبر قبول، يعني: لا يحتاج أن يقول: قبلت نكاحها، أو قبلتها زوجة، فيكفي أن يقول: نعم، وحينما يُقال: ألا توافق على بيع هذه السعة بكذا؟ فإذا قال: بلى، فهذا إقرار، يعني: لا يحتاج أن يقول: بعتها لك، أو قبلت البيع، أو نحو ذلك، فيكفي أن يقول: بلى، فهنا إبراهيم اقتصر على ذلك، فقال: بلى، ولو قيل لإنسان: ألم تُطلق امرأتك؟ إذا قال: نعم، معناه: أنه لم يُطلق، وإذا قال: بلى، معناه: أنه طلق.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: إثبات صفة الكلام لله -تبارك وتعالى: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ هذا كلام الله -تبارك وتعالى- يخاطب به إبراهيم ، فالله يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وكما يليق بجلاله وعظمته، يتكلم بحرف وصوت يُسمع، فسمع إبراهيم كلام الله.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: رحمة الرب -تبارك وتعالى- بعباده، حيث يؤيدهم بالبراهين والدلائل الدالة على قدرته، وأنه يُحيي الموتى، فالله أجاب إبراهيم على هذا الطلب والسؤال، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير، وعلمه كيف يصنع، فيُقطع هذه الأربعة، ويجعل على كل جبل منها جزءًا، ثم يدعوها إليه، فتأتيه سعيًا؛ ولماذا قال: سعيًا ولم يقل مثلاً: فتأتيه طيرانًا؟ والسعي يُقال للمشي، ويقال لضرب من المشي، وهو الإسراع في المشي، أجاب عن هذا بعض أهل العلم، كالبغوي -رحمه الله- إذ يقول: "والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد عن الشبهة؛ لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير، وأن أرجلها غير سليمة، لم تحلها الحياة، والله أعلم"[2]، وأيضًا قد تطير وهي ناقصة الأعضاء والأبعاض، قد يكون لا أرجل لها، ولم تلتئم أرجلها، فلا تستطيع المشي، فجاءته تسعى، فهذا أبلغ، والله تعالى أعلم.

ثم قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أمره أن يعلم، وهذا توكيد، و(أن) هذه بمنزلة إعادة الجملة مرتين أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ولم يقل: واعلم أني عزيز حكيم، وإنما أظهر لفظ الجلالة لما فيه من تربية المهابة، فهذا مقام عظمة لله -تبارك وتعالى، وهو إحياء للموتى، ولا أحد يستطيع أن يُحي الموتى إلا الله -تبارك وتعالى.

وجاء بالجملة الاسمية وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ التي تدل على الثبوت، فهذه أوصاف ثابتة لله -تبارك وتعالى، وكذلك (العزيز) و(الحكيم) كل ذلك على وزن (فعيل) يعني صيغة مبالغة، فالله -تبارك وتعالى- بالغ العزة، وهو أيضًا بالغ الحكمة، لا يُغالب ، وأيضًا يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، واجتماع هذين الاسمين فيه كمال ثالث، وهو أن العزة في المخلوقين قد تكون سببًا لشيء من العسف والقهر والتسلط بغير حق والظلم، ونحو ذلك، لكن إذا كان معها حكمة، فهذا هو الكمال، فتكون هذه العزة مزمومة بالحكمة.

وكذلك قد توجد الحكمة بالنسبة للمخلوقين، لكن ليس معها عزة، فيكون ضعيفًا، ولا رأي لمن لا يُطاع مهما كانت حكمته، لكن إذا كان معها عزة، فيستطيع أن يُحقق بها ما يُريد، فهذا لا شك أنه غاية الكمال، فلا تكتمل الحكمة إلا مع العزة، ولا العزة إلا مع الحكمة.

وهنا طي في الكلام، فالله -تبارك وتعالى- قال له: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا فهو فعل هذا، فجعل على كل جبل منهم جزءًا، فطوى هذا ولم يذكره، فلم يقل: فقام إبراهيم، وأخذ مجموعة من الطيور وقطعها، ثم جعل على كل جبل منها جزءًا، ثم دعاها فجاءته سعيًا، أعرض عن هذا اختصارًا للكلام؛ لأنه مفهوم على طريقة العرب في البلاغة والاختصار في الكلام، فالعرب تطوي من الكلام ثقة بفهم المخاطب، وهذا كثير في القرآن.

وهذا التعدد هذه الطيور فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ لزيادة التحقق في الإحياء، فحينما تكون متعددة، ويحصل لها الإحياء في لحظة واحدة، تأتيه سعيًا، بمجرد ما يدعوها، وهو مخلوق بأمر الله ، فهذا أدل على القدرة، سواء كانت هذه الطيور من نوع واحد، أو كانت من أنواع شتى، فذلك أبلغ من الطائر الواحد؛ لئلا يتوهم متوهم أن ذلك ممكن بالنسبة للواحد، لكنه يتعسر ويتعذر بالنسبة للمجموع، هذا ما ذكره بعض أهل العلم، والله تعالى أعلم.

وأيضًا في قوله: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فهذا إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء -عليه الصلاة والسلام، وخليل الرحمن، ويقول: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فهو يبحث عن ما يطمئن به قلبه، وما يُثبت إيمانه، فهكذا شأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يطلبون ما يُثبت الإيمان، وكان النبي ﷺ يُكثر من الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[3] لكن ذَكَرَ الله فئة أخرى من الناس، وهم الذين في قلوبهم زيغ، قال عنهم: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7].

وقد قال النبي ﷺ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[4] فشتان بين من يطلب اليقين، وكماله، وبين من يتتبع الشبهات، ويُنقر عنها، فيورثه ذلك الشكوك، وزعزعة الإيمان، فمن الناس -للأسف- من يتتبع هذا، ويقرأ في مواقع الشُبه، ويستمع لأصحاب الشُبه، وإذا قرأ القرآن صار يبحث عن مواطن الإشكالات، التي تُشكل عليه، ثم يطلب الجواب عنها، وقد لا يقتنع، وقد يكون فهمه سقيمًا، وملكته في اللغة سقيمة، وليس له ذوق لغوي، ثم بعد ذلك يستشكل هذه الأمور؛ ولماذا ذكر الله كذا بعد كذا؟ وهو لا يُحسن مثل ذلك، فمثل هذا لا يُحسن به أن يتتبع هذا؛ لأنه لا يوجد عنده أهلية أصلاً، وقد يُشرح له، ولا تصل معه إلى الحد الذي يفهم ويفقه فيه ذلك؛ لعدم وجود الملكة أصلاً، الذوق اللغوي مفقود، والله المستعان. 

  1. أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب الدعاء في الصلاة برقم (884) وصححه الألباني.
  2. تفسير البغوي - إحياء التراث (1/ 359).
  3. أخرجه الترمذي في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم: (2140) وصححه الألباني.
  4. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [سورة آل عمران: 7] برقم: (4547) ومسلم في العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن برقم: (2665).