الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُۥ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِا۟ئَةَ عَامٍ فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَٱنظُرْ إِلَى ٱلْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259]: "تقدم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ [سورة البقرة:258] وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه، ولهذا عطف عليه بقوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا روى ابن أبي حاتم عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير، ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه، وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا -، والحسن، وقتادة، والسدي، وسليمان بن بريدة، وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل، وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بخت نصّر لها، وقتل أهلها".
فالمشهور عند المفسرين أن عطف هذه الآية على ما قبلها محمول على العطف في المعنى ليس غير، وأما بخصوص تحديد صاحب القصة بأنه عزير فلم يثبت في تعيينه شيء صحيح، بل قال بعضهم: إنه حزقيل، وقيل: أرميا، وكذا تحديد هذه القرية الصواب أنه لم يثبت في تحديدها شيء، ولا طائل من معرفة ذلك، فالأولى أن لا يشتغل المرء بمثل هذه المبهمات؛ لأنه ليس فيها مراجع موثّقة يستند عليها، ولا طريق للوصول إلى التأكد من صحتها، ومصداقيتها، والله أعلم.
"وَهِيَ خَاوِيَةٌ أي ليس فيها أحد، قوله: عَلَى عُرُوشِهَا أي ساقطة سقوفها، وجدرانها على عرصاتها".
أشار بقوله سبحانه: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا إلى خلو القرية، والمعنى أنها غدت خالية من الساكنين، تقول: هذه الديار خاوية على عروشها أي لا ساكن فيها، مع أن تفسيرها الأقرب إلى اللفظ المعبر به هو سقوط السقوف، وتهاوي الجدران؛ لأن العروش هي السقوف، فإذا سقطت بسبب تداعي الزمن سقطت على أثرها الجدران، لكن هذا المعنى ملازم للذي قبله، وهو يدل على خراب القرية.
"فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال: أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وذلك لما رأى من دثورها، وشدة خرابها، وبعدها عن العَوْد إلى ما كانت عليه".
اختلف أهل التأويل في المراد بقوله سبحانه: أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فقيل: أهل القرية، وقيل: هذه القرية.
والقرية تارة تطلق ويراد بها البنيان، وتارة تطلق ويراد بها أهل القرية، والأقرب في الدلالة على المقصود هو القول الأول: إنهم أهل القرية، وذلك أن الله لما أماته ثم أراه الإحياء؛ إنما أراد بذلك أن يريه قدرته على إحياء الموتى، ولذلك ذكر الله أنه أراه العظام كيف يقيمها!، ويركب بعضها على بعض!، وأراه بعد ذلك كيف ينشزها لحماً!، فجعل الله له هذه آية في نفسه.
ويحتمل أن يكون المراد الأمرين: أهل القرية مع القرية، ولكن ذلك لم ينقل بطريق يعتمد عليه، وما ورد من الروايات أنها عمرت من جديد وقامت كله من الإسرائيليات، فلا يعول عليها، والله أعلم.
"قال الله تعالى: فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قال: وعمرت القرية بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله بعد موته كان أول شيء أحيى الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه! فلما استقل سوياً قال الله له - أي بواسطة الملك -: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالوا: وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ".
على هذا التفسير يكون المراد بقوله - تبارك وتعالى -: وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا أنها عظام نفسه، وخلقته، يدعوه ربه إلى التأمل في قدرته على تركيب عظامه بعضها على بعض!، ثم كيف يكسوها لحماً!، وبعد ذلك أراه نفس الآية في حماره الذي تفرقت عظامه يميناً، وشمالاً.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد عظام حماره، والله أعلم.
وأما قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ قيل: من السَّنة أي لم تغيره مضي السنون بل بقي على حاله، وبعضهم يقول: إن أصله لم يتسنَّ الهاء للسكت، والمعنى أنه لم يتغير، بالرغم من كون الطعام يسرع إليه الفساد والتغير أكثر من بدن الإنسان، أو الحيوان، إشارة ودلالة على  قدرة الله وعظمته، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
"وذلك أنه كان معه - فيما ذكر - عنب، وتين، وعصير؛ فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض، ولا أنتن، ولا العنب تعفن".
لا فائدة تذكر من تحديد ماهية هذا الطعام، وليس هناك نصوص يعتمد عليها في هذا.
"وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ أي: كيف يحييه الله وأنت تنظر".
ما يظهر من الآية أن الله لفت نظره إلى إحياء الحمار بعد موته لأجل أن ينظر إلى قدرة الله في إحياء الموتى، وبعض أهل العلم قال: إن المقصود انظر إليه أي الحمار قائماً هذه المدة لم يتغير، ولم يحصل له شيء، ولكن المشهور القول الأول وهو أن حماره قد مات، وتلاشى، واضمحل، فأراه الله قدرته على الإحياء بهذا الحمار، والله أعلم.
"وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ أي دليلاً على المعاد، وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا أي نرفعها فيركب بعضها على بعض".
وأصل النشوز الارتفاع تقول: أرض ناشزة بمعنى مرتفعة، وامرأة ناشز بمعنى أنها ترفعت عن طاعة الزوج.
"وقد روى الحاكم في مستدركه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه : أن رسول الله ﷺ قرأ كَيْفَ نُنشِزُهَا بالزاي، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه[1]، وقرأ ننشرها: أي نحييها قاله مجاهد ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا".
قراءة الزاي هي قراءة حفص عن عاصم، والكوفيين، وابن عامر، وأما الباقون فقرءوها بالراء كيف ننشرها وهي قراءة سبعية متواترة، ومعناها من النشور وهو الإحياء بعد الإماتة، يقال: أنشره الله إذا أحياه بعد إماتة، ولذلك قيل لليوم الآخر (يوم القيامة): يوم النشور، ويوم النشر.
"وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه، حتى صار حماراً قائماً من عظامٍ لا لحم عليها، ثم كساها الله لحماً، وعصباً، وعروقاً، وجلداً، وبعث الله ملكاً فنفخ في منخري الحمار فنهق، كله بإذن الله .
وذلك كله بمرأى من عزير، فعند ذلك لما تبين له هذا كله قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أي أنا عالم بهذا، وقد رأيته عياناً، فأنا أعلم أهل زماني بذلك.
وقرأ آخرون: قال اعلمْ على أنه أمر له بالعلم".
  1. رواه الحاكم في مستدركه برقم (2918) (2/255)، وعلق الذهبي في التلخيص: في السند إسماعيل بن قيس من ولد زيد بن ثابت ضعفوه.

مرات الإستماع: 0

"أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259] تقديره: (أو رأيت مثل الذي) فَحُذِف لدلالة (ألم تر) عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب، (وفي جميع النسخ: كلمتا تعجيب)، ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية، وهذا المارّ قيل: إنه عزير، وقيل: الخضر."

فقوله: "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259] تقديره: أو رأيت مثل الذي" مر على قرية، يقول: "لدلالة ألم تر" يعني: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258] أو رأيت مثل الذي مر على قرية.

يقول: "فَحُذِف لدلالة ألم تر عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب" يعني: ألم تر "ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية" فهو للعطف حملًا على المعنى أَوْ هذه للعطف، العطف على ما قبلها، أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر، أو رأيت مثل الذي مر على قرية.

أما ما يتعلق باسم المار عزير، أو الخضر هذا لا دليل عليه، كل ذلك من أخبار بني إسرائيل، والقول بأنه الخضر: هذا بناءً على أن الخضر لم يمت، وأنه حي، وهذا لا دليل عليه، والنبي - صلى الله عليه، وآله، وسلم - قال: أرأيتم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها، لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد[1].

كل الناس هؤلاء سيموتون، فهذا يشمل الخضر، وغير الخضر، والقول بحياة الخضر أنها مستمرة بَنى عليها الصوفية كثيرًا من الأباطيل، والمختلقات، والدعاوى.

وعلى كل حال: لا دليل على تسميته، وهذا ما يسمى بالمبهمات في القرآن، قد مضى الحديث عن شيءٍ من هذا، وألف فيها السهيلي كتابه المشهور، وألف آخرون كُتبًا منها ما يتمم كتابه، ويستدرك عليه ما فاته، قد سميت طائفةً منها في بعض المناسبات في شرح رسالة السيوطي في الكلام على المبهمات، وذكرت أنه لا فائدة من تتبعها، وأنها قد تفيد قليلًا لدفع تهمةٍ، أو بيان منقبةٍ، وإلا فالغالب لا فائدة من معرفتها.

وبعضهم يقول غير ما ذُكر، بعضهم يقول هو: حِزقيل، وبعضهم يقول: أرمياء، وبعضهم يقول: هو رجل من بني إسرائيل، المقصود العظة، والعبرة، هذا مر على قرية، وهي خاوية على عروشها، فاستبعد إحياء الله - تبارك، وتعالى - لها بعد موتها، والمقصود إحياء أهل القرية أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] فالذي يموت هو أهلها، استبعد ذلك، ولا يدل ذلك على أنه لا يؤمن بالبعث، وقدرة الله على الإعادة، لكنه يقول ذلك مستفهمًا مع إيمانه، يمكن أن يكون هذا، فأراه الله هذه الآية، وهذا أحد المواضع الخمسة كما ذكرنا في هذه السورة الكريمة؛ سورة البقرة التي وجد فيها هذا النوع من الأدلة على قدرة الله على البعث، وهي إحياء من ماتوا.

قال - رحمه الله -: فقوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ [البقرة:259] ليس إنكارًا للبعث، ولا استبعادًا، ولكنه استعظام لقدرة الذي يحيي الموتى، أو سؤالٌ عن كيفية الإحياء، وصورته، لا شك في وقوعه، وذلك مقتضى كلمة أنّى فأراه الله ذلك عيانًا ليزداد بصيرة، وقيل: بل كان كافرًا، وقالها إنكارًا للبعث، واستبعادًا، فأراه الله الحياة بعد الموت في نفسه، وذلك أعظم برهان."

على كل حال: مثل هذا لا يؤثر في العبرة، والعظة التي من أجلها ذُكِرَ ذلك، يعني: سواء كان مؤمنًا، أم كان كافرًا، المقصود: بيان قدرة الله - تبارك، وتعالى - على إعادة الحياة، وإحياء الموتى.

"قوله - رحمه الله - في قوله تعالى: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259] أي: خالية من الناس، وقال السدّي: سقطت سقوفها[2] وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السُقُف."

قوله: "خالية من الناس،" خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]: أي خالية، هذا تفسيرٌ على المعنى، يعني هذا مثال للتفسير على المعنى، يعني: ليس معنى هذه الجملة خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا بمعنى أنها خالية من الناس أقصد من ناحية اللغة العربية في بيان معاني الألفاظ، والتراكيب، لكن المعنى المراد أنها خالية من الناس، ففرق بين التفسير على اللفظ، والتفسير على المعنى، والسلف كثيرًا ما يفسرون على المعنى، فالمقصود: أن هذا مثال له.

يقول: "وقال السدّي:" السدي قال هذا أيضًا، والضحاك، "سقطت سقوفها، وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السقف" خَاوِيَةٌ عَلَى هذا من قبيل التفسير على اللفظ، والأول تفسير على المعنى؛ لأن العروش هي السقوف، خاوية على عروشها سقطت عروشها فسقطت الحيطان على السقوف، وأصل كلمة الخوى أصلها: تأتي بمعنى الخلو، والسقوط، والخلاء، والأصل في العروش ،كلمة العرش، عروش: جمع عرش يُقال: ارتفاع في شيءٍ مبني يُقال له: عرش.

"قال - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ [البقرة:259] ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب، ولكن المعنى: إحياء أهلها بعد موتهم؛ لأنّ ذلك هو الذي يمكن فيه الشك، والإنكار، ولذلك أراه الله الحياة بعد موته، والقرية كانت بيت المقدس لما خربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف."

قوله: "أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ [البقرة:259]" أَنَّى هذا حرف للبحث عن الحال "أَنَّى" وكذلك المكان، بمعنى كيف هذا بالنسبة للحال، كيف يحي الله هذه القرية بعد موتها، وبالنسبة للمكان أين، تأتي أنى بمعنى: أين، أنى كنتم بمعنى أين كنتم، أنى تأتي بهذا، يعني: كيف تأتي به.

وتحديد القرية هذا أيضًا من المبهمات؛ لأن المبهمات منها ما يكون في ذوات الأشخاص، ومنها ما يكون في الأمكنة، ومنها ما يكون في الأزمنة، والأوقات إلى غير ذلك، فهذا من المبهمات في المكان، هذه القرية، وتحديد ذلك لا دليل عليه، ولا حاجة للاشتغال به - فالله أعلم -.

"قوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ [البقرة:259]: قال: سؤال على وجه التقرير قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]."

هذا باعتبار أن الله - تبارك، وتعالى - يعلم كم لبث، ليس ذلك باستفهام حقيقي يُتعرف منه على ما خفي، وإنما هو للتقرير.

"قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]: استقل مدّة موته، قيل: أماته الله غدوة يومٍ، ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام، فظنّ أنه يوم واحد، ثم رأى بقية من الشمس، فخاف أن يكذب في قوله: يومًا فقال: أو بعض يوم."

يحتمل هذا على كل حال في سبب قوله: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولا يلزم - والله أعلم - يعني: لا يلزم أن يكون حصل له ذلك عند غروب الشمس، أو بعد الغروب، أو قبل الغروب، فالعلم عند الله - تبارك، وتعالى -.

لكن هذا الجواب هو الجواب في خبر أصحاب الكهف، فقد بقوا مدة أطول من هذه، ثلاثمائة، وتسع سنوات، فكان جوابهم: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فهكذا لو بقوا ألف سنة، والذين يبعثهم الله أيضًا يوم القيامة، ويتساءلون يقولون كذلك: بأنهم لبثوا يومًا، فهكذا الحياة هي كيوم، أو بعض يوم، ولو نظر الإنسان في اليقظة إلى ما مضى من أيام العمر كأنها يوم، أو بعض يوم، ولو نظر أيضًا إلى الوقت الذي ينقضي عليه، وهو في حال نومٍ، وإن طال، فإن ذلك بالنسبة إليه قصير، في غاية القصر، يستوي فيه طول الزمان، وقصره، يعني: لو أنه نام نهارًا كاملًا، أو نام ساعتين هو لا يشعر بشيء من الوقت الذي مضى عليه، فهكذا لو تطاول به الوقت، يعني: لو أنه أُغمي عليه أسبوعًا، أو شهرًا، أو نحو ذلك، ثم أفاق كأنها يوم، أو بعض يوم.

"قوله تعالى: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ [البقرة:259]: قيل: كان طعامه تينًا، وعنبًا، وأنّ شرابه كان عصيرًا، ولبنًا."

لو يُعرض عن هذا في كتب التفسير؛ لأنه لا فائدة فيه، ولا دليل عليه، وهذه الأقوال المأخوذة عن بني إسرائيل تدل على أن ذلك كذب في تحديد الطعام، والأقاويل، وكذلك تحديد الشراب ما يدل على أن ذلك فيه من الاختلاق.

"في جميع النسخ: إن طعامه كان تينًا."

لا بأس ما يتغير المعنى، إن كان طعامه تينًا، وأن شرابه كان..

"قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259] قال: معناه: لم يتغير، بل بقي على حاله طول مائة عام، وذلك أعجوبة إلهية."

يعني: الطعام، والشراب يقول بعض أهل العلم: بأنه ذكر الطعام، والشراب؛ ليكون ذلك أدلَّ على قدرة الله - تبارك، وتعالى -؛ لسرعة تغيره، الطعام، والشراب يُسرع إليه التغير، فلم يتغير، بينما الحمار صار إلى تلك الحال.

"قال: واللفظ يحتمل أن يكون مشتقًّا من السَنَة؛ لأنّ لامها هاء، فتكون الهاء في يتسنه أصلية، أي: لم تغيره السنون، ويُحتمل أن يكون مشتقًا من قولك تسنن الشيء إذا فسد، ومنه الحمأ المسنون، ثم قُلِبَت النون حرف علة كقولهم: قصيت أظفاري، ثم حُذِفَ حرف العلة للجازم، والهاء على هذا هاء السكت."

بعضهم يقول: إن أصله يتنسى، والمعنى يختلف تمامًا لم تغيره السنون، أو لم يتسنه بمعنى: لم يتغير، وكلام أهل العلم في أصل هذه المادة، واشتقاقها، فيه تفاصيل لكن هذه خلاصة، لم يتسنه في هذا الكتاب معجم مفردات الإبدال، والإعلال، وأصل هذه المادة مأخوذة من كتاب الحلبي، وهو الدر المصون.

يقول: "لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]": فعل مضارع اختلف في اشتقاقه، وتصريفه على ثلاثة أقوال:

الأول: ذهب الفراء إلى أن الهاء فيه أصل، ووزنه يتفعل، وهو مشتق من لفظ السَنة على لغة من يقول: إن لامها هاء، لام الكلمة - يعني: آخر حرف فيها - على وزن فعل بمعنى: سَنَهَ، فالمعنى لم يتغير بمرور السنين عليه، وأصل سنةٌ؛ أصل كلمة سنة على هذا سنهه.

الثاني: ذهب المبرد إلى أن الهاء للسكت، يعني: زائدة ليست أصلية، فيكون وزنه: يتفعه، يتسنه، وإثباتها وصلًا من قبيل إجراء الوصل مجرى الوقف، يعني: لماذا لا تُحذف في حال الوصل إذا كانت للسكت؟ فقال: بأن ذلك من قبيل إجراء الوصل مجرى الوقف، وأن أصل الكلمة مشتقٌ من السنة، ولامها واو، فأصله يتنسى ألف مقصورة، ثم حذفت اللام للجزم، اللام الحرف الأخير، وقبل ذلك كان: يتسنو، بمعنى: أنها كانت في الأصل واو، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، يتسنو، والواو يتنسو مضمومة، يصعب النطق بهذا، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا "يتسنى" أو هو مشتق من لفظ "مسنون" وهو المتغير، فالأصل يتسنن فاستثقل توالي ثلاثة أمثال، يعني ثلاثة حروف، حرف النون، يتسنَّن مشدد بحرفين، والثالث النون الأخيرة، فأُبدلت الأخيرة ياء، ثم تحركت الياء، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، ثم حُذِفَت جزمًا "لَمْ يَتَسَنَّهْ".

الثالث: يقول ذهب النقاش إلى أنه مأخوذ من أسِن الماء، أي: تغير، وهذا لا يصح؛ لأن تفعل من أَسِنَ تأسن، إلا إذا ادعي بقلب المكاني بأن أُخرت فائه؛ يعني الحرف الأول إلى لامها، فصار يتسنأ بالهمز، ثم أُبدت الهمزة ألفاً، ثم حُذِفَت جزمًا، هذه ثلاثة أقوال.

"قوله تعالى: وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259] قيل: بقي حماره حيًّا طول المائة عام، دون علف، ولا ماء، وقيل: مات، ثم أحياه الله، وهو ينظر إليه."

ما ذكره ابن جُزي قبل ذلك في قوله: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]: معناه لم يتغير، بل بقي، وأن هذه أعجوبة إلهية، بمعنى: أن الطعام يُسرع إليه كما سبق التلف، والتغير، فبقي هذه المدة لم يتغير بينما الحمار تحول، ثم أعاده الله هذا بناءً على القول الآخر أن الحمار تحلل، ثم أعاد الله خلقه.

القول الآخر: أن الحمار لم يتغير "وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]": أي كذلك لم تغيره السنون، لكن كأن في الآية قرينة تدل على أن الحمار تغير ما هي؟ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة:259] فهذا يدل على أنه تغير، وأن الله أعاده أمامه شيئًا فشيء، وهو ينظر - والله أعلم -.

وعلى كل حال: القول بأنه مات - يعني الحمار - ثم أحياه الله، وهو ينظر إليه، هذا الذي اختاره الحافظ بن كثير - رحمه الله -[3] يعني: بقي الطعام، والشراب لم يتغير، والحمار تحلل، وإعادة الحمار أبلغ من الطعام، والشراب؛ لأنه ذو روح، هذا هو الإحياء.

"قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]: التقدير: فعلنا بك هذا لتكون آية للناس، وروى أنه قام شابًّا على حالته يوم مات فوجد أولاده، وأولادهم شيوخًا."

الله أعلم.

"قوله: وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259]: قال: هي عظام نفسه، وقيل: عظام الحمار على القول بأنه مات."

يعني: - مثلًا - من يقول: بأن الحمار لم يتغير، ولم يمت، كيف يُجيب عن هذه القرينة في الآية؟ "وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259]" قال: "إلى عظام نفسه" لكن كأن الأول أقرب - والله أعلم - أن ذلك عظام الحمار؛ لأنه لم يشعر بشيء قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259] هو لم يستنكر شيئًا، ولم ير شيئًا يدل على حصول أمرٍ يعجب منه بالنسبة إلى حاله هو.

"قوله تعالى: ننشرها بالراء نحييها، وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء."

القراءة بالزاي هي قراءة ابن عامر، والكوفيين الثلاثة، والقراءة بالراء هي قراءة الباقين، ننشرها من الإنشار: وهو الإحياء، نشور الإحياء، ننشرها نحييها، وانظر إلى العظام كيف ننشرها بمعنى الإحياء، وهذا المعنى فسره فسر الآية به مجاهد - رحمه الله -[4].

يقول: "وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء" باعتبار أن أصل معنى النشز الارتفاع، والعلو، المكان الناشز، يعني: المرتفع وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]: يعني الترفع على الزوج على طاعته، لا تُطيعه، تترفع عن طاعته، هذا النشوز، ففيه معنى الارتفاع، والعلو، فيكون نُنشِزُهَا [البقرة:259] يعني: نرفعها إلى مواضعها، ونحرك بعضها إلى بعض، فيُركب بعضها على بعض، يعني: بعد ما كانت ترابًا أصبحت هذه العظام عادت، وبدأت تتركب هذا في الساق، وهذا في العضد، وهذا في الظهر، وهذا في الرأس، كل عظمٍ يعود إلى موضعه، ويرتفع هذا الجسد من جديد كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259] نرفعها.

قوله تعالى: قَالَ أَعْلَمُ [البقرة:259] بهمزة قطع، وضم الميم أي: قال الرجل ذلك اعترافًا، وقرئ بألف وصل، والجزم على الأمر، أي قال له الملك ذلك.

"قَالَ أَعْلَمُ [البقرة:259] بهمزة قطع، وضم الميم" يعني: هو يتحدث عن نفسه، ويكون ذلك من قوله هو إقرارًا، واعترافًا، أعلم بهمزة القطع، فهو يخبر عن نفسه، وهذه قراءة الجمهور.

"قال اعلم" هكذا بالجزم، وهمزة الوصل هذه قراءة حمزة، والكسائي، "قال اعلم" فيكون من قول الله - تبارك، وتعالى - "قال أعلم".

والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فيكون هنا "قَالَ أَعْلَمُ" هذا إقرار منه كأنها آية مستقلة، هو يقر بذلك، هذا كلام الله وهذه القراءات هي عائدة إلى الأحرف السبعة، وهي، وما تضمنته من المعنى حق، "قال اعلم" فيكون ذلك من قول الله "قال اعلم" فيكون الله خاطبه بذلك، فيكون هو أيضًا قد أقر به، "قَالَ أَعْلَمُ" فليس ذلك من الاحتمالات، والمعاني التي تتطرق إلى اللفظ، ويكون أحدها صحيحًا، لا. لا، هذه كأنهما آيتان، فيكون قيل له ذلك، وقال هو أيضًا، يعني يقول: أنا عالم بهذا أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] أعلم، أنا عالم به، وقد رأيته عيانًا أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

  1.  أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب ذكر العشاء، والعتمة، ومن رآه واسعا، رقم: (564)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب قوله ﷺ "لا تأتي مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم" رقم: (2537).
  2.  تفسير الطبري (5/446).
  3.  تفسير ابن كثير (1/688).
  4.  تفسير ابن كثير (1/688).

مرات الإستماع: 0

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].

وقبل ذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- خبر ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه، أن آتاه الله الملك، فقال الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [سورة البقرة:258] ثم عطف عليه هذه الواقعة، والخبر العجيب، الدال على قدرة الله -تبارك وتعالى- على إحياء الموتى، وعلى البعث والنشور، فقرن بين هذين الخبرين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ [سورة البقرة:258] أو رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أن آتاه الله الملك، هكذا يقول بعض أهل العلم في العطف، وقيل غير ذلك.

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني: كالذي مر على قرية، وقد تهدمت، وسقطت سقوفها، وحيطانها، فأصبحت خاوية على عروشها، والقرية حينما تكون بهذه المثابة، تكون خالية من السكان مهجورة، ولا تصلح للسُكنى؛ ولهذا بعضهم يُفسر خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني: قد خلت من أهلها، والواقع أن هذا تفسير له بلازمه، فإذا سقطت السقوف والحيطان، فمعنى ذلك أنه لا يوجد ساكن.

فهذا الرجل لما أتى على هذه القرية تعجب، فقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؟! فيحتمل أن المراد بـ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا أهل القرية، فأطلق القرية على الساكنين، وهذا إطلاق معروف في كلام العرب، فالقرية تُطلق ويُراد بها تارة المحل والموضع (موضع السُكنى) وهي البيوت والدور، وما يتبعها، وتارة تُطلق ويُراد بها الحال بالقرية، وهو الساكن فيها.

فهنا يسأل عن أهلها أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ هذه البلدة والقرية، وكلمة (أنى) تدل على تعجب واستبعاد، وهذا الرجل لا شأن لنا بتحديد شخصه؛ لأنه لم يرد، لكن قد يُحتاج إلى معرفة صفته، من أجل أن يُبنى عليه المعنى، فبعضهم يقول: هو مؤمن، بل قال بعضهم: هو نبي، فعلى هذا يكون هذا التعجب هو من باب الاستعظام، لا استبعاد قدرة الله ؛ لأن المؤمن لا يستبعد هذا، المؤمن يؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادر على إعادة الأجساد ثانية، وإحياء الموتى، فكان يقول ذلك على سبيل الاستعظام؛ لأن هذا في مجاري العادات أمر في غاية البعد، لكنه بالنسبة لله أمر يسير.

وبعضهم يقول: كان هذا الرجل من الكفار، وأن قوله هذا على سبيل الاستبعاد، فهو يستبعد أن تُعاد من جديد، لكن الجمهور على الأول، سواء قيل بأنه نبي، أو قيل بأنه غير نبي، لكنه كان مؤمنًا، وأنه لم يقل ذلك مستبعدًا على الله -تبارك وتعالى، فقد كان يُؤمن بالبعث.

فجعله الله آية فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثم رد إليه روحه، فسأله: كم لبثت؟ أي: ما هي المدة التي قضيتها ميتًا؟ فقال: بقيت يومًا، أو بعض يوم، وبعضهم يقول: ربما كان ذلك في أول النهار، يعني: أتى على هذه القرية وقال ما قال، فأماته الله ، وحينما أحياه كان قد بقي على النهار بقية من آخر النهار، فقال: لَبِثْتُ يَوْمًا لأنه في آخر النهار، فلما رأى بعض النهار باقي، قال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ هو شاك هل هو يوم كامل، أو بعض يوم؟ واليوم يكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

فالشاهد: أن هذا الرجل كان يعتقد أنه لبث يومًا، أو بعض يوم، فأخبره الله -تبارك وتعالى- أنه بقي مائة عام، وأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه، كيف حفظهما الله -تبارك وتعالى- من التغيير، مع أن الطعام والشراب يُسرع إليهما التغير والتحول، ومع ذلك في هذه المدة (مائة سنة) بقيا لم يتحولا، بصرف النظر عن نوع هذا الطعام، وما ذكره المفسرون، فهذا مبناه على أخبار إسرائيلية، ولا فائدة في معرفته، لكن العبرة أن هذا الطعام بقي ولم يتغير ولم يتحول إلى تراب، ثم أعاده الله ، بل إن الأبلغ في ذلك هو أن يبقى هذا الطعام من غير تغير، والماء كذلك فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ يعني: لم يتغير، ولم يحصل له تغير، حتى طعم الشراب لم يتحول ويتغير، والماء إذا بقي مدة طويلة صار آسنًا، وهذا لم يتغير شرابه، ولم يتغير طعامه، لم تغيره السنون، وبقي على حاله.

وأيضًا أمره الله أن ينظر إلى حماره وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ والجمهور من المفسرين يقولون: إن هذا الحمار تحول وتحلل، وصار ترابًا، وهذا في إعادته من جديد حينما يتحول إلى تراب لا شك أن ذلك أدعى وأدل على قدرة الله -تبارك وتعالى، فتحول هذا الحمار وتحلل إلى أجزاء، ثم أراه الله ما سأل عنه أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فأمره أن ينظر إلى هذا الحمار وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا نُنشزها يعني نرفعها، الشيء الناشز المُرتفع، وأرض ناشزة يعني مرتفعة، وامرأة ناشز على زوجها يعني مرتفعة عن طاعته، كيف تُرفع هذه العظام بعضها فوق بعض، ويُبنى بعضها فوق بعض، ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا تُغلف هذه العظام باللحم، وتعود الحياة إلى هذا الحمار من جديد، وهذا يُشاهد.

وعامة أهل العلم يقولون: إن هذا الحمار قد مات وتحلل، ثم أعاده الله أمامه؛ لأن الله ذكر العظام وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [سورة البقرة:259] خلافًا لمن قال: إن الحمار أيضًا لم يمت، فهذا لا يدل عليه ظاهر السياق.

كيف نُنشزها نوصل بعضها ببعض، ونركب بعضها على بعض، ونرفع بعضها فوق بعض، ثم تُكسى وتلتئم باللحم، وتُعاد الحياة، فلما رأى ذلك أمامه أقر واعترف، فقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259] فعلى القول بأنه مؤمن يكون انتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، حيث شاهد ذلك بعينه، وهذه مرتبة أقوى، وكما سيأتي في سؤال إبراهيم في الآية بعدها حينما سأل ربه -تبارك وتعالى- أن يريه كيف يحيي الموتى؟ فأراد إبراهيم أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين؛ ليُشاهد ذلك، فهذه مرتبة أعلى، وأعلى منها مرتبة: حق اليقين، يعني: نحن نستيقن بوجود الجنة، فهذا علم اليقين، فإذا رأينها فهذا عين اليقين، فإذا دخلناها فهذا حق اليقين، فهنا قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أقر واعترف، وعلى القراءة الأخرى المتواترة بالأمر (اعلم)[1] أي: أن الله أمره أن يعلم أن الله على كل شيء قدير.

ويُؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد والعِبر والعِظات: أنه قد تُطلق القرية على المساكن، وقد تُطلق على الساكنين، وهذه لغة القرآن أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ هنا المساكن بلا إشكال، وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا سقطت السقوف والحيطان، فهذه المساكن قطعًا، لكن في قوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فهنا يحتمل أن يكون المراد الساكن في هذه القرية، فهذا أيضًا إطلاق صحيح، وبين المعنيين ملازمة، كما ذكرت.

أيضًا لما أبهم الله -تبارك وتعالى- اسم هذا الرجل، واسم هذه القرية، دل على أنه لا فائدة من طلب ذلك، وإنما المقصود أخذ العبرة والعِظة، وكثير من الناس حينما تُساق إليهم العِبر والوقائع والأحداث التي ينبغي أن يعتبروا بها ينشغلون بأمور أخرى، أين وقع؟ وما نوع هذا المركَب؟ وفي أي وقت كان؟ وكم عدد هؤلاء؟ وما أسماؤهم؟ ونحو ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لا يترتب على معرفتها فائدة، فهذا خروج عن المقصود، وعن موطن العِظة والعبرة، واللائق بالإنسان أن يعتبر بما يسمع ويتعظ، ويترك تتبع التفاصيل التي لا فائدة فيها.

تسوق عبرة أحيانًا لجمع من الناس أو لفرد من الناس، ثم بعد ذلك ينشغل وربما يدخل معك في جدل وتفاصيل، إنسان كان يُسرع فوقع له مكروه، فهذه عِظة وعبرة في السرعة، ينشغل أين؟ وما نوع السيارة؟ وما نوعها؟ وأين يسكن؟! ثم يدخل معك أحيانًا في جدل: أنه يسكن في المكان الفلاني أو يسكن في المكان الفلاني؟ فنحن لا نريد أن نُحقق المسألة: أين يسكن هذا الإنسان؟

العبرة أن هذه السرعة لا تؤدي إلى نتيجة صالحة، فهذا هو المقصود، فيتحول الجدل والنقاش في أمور لا علاقة لها بالعبرة، وهذا كثير، وهو خروج عن المقصود؛ وذلك يفوت على الإنسان مواطن العِبر والعظات، وانظر إلى البحث الكثير في آثار أصحاب الكهف، أو سفينة نوح، أو نحو ذلك، وليس هذا هو المطلوب، إنما المقصود أن يتعظ الناس، ويدركوا: كيف أهلك الله أهل الأرض جميعًا، ونجى هذه الفئة القليلة المؤمنة؟! كذلك يُنجي الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان.

وهذه الآية الكريمة: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا هي أحد الأدلة الخمسة في القرآن على إحياء الله الموتى، وأدلة البعث والنشور كثيرة ومتنوعة، وكل نوع تحته أفراد من الأدلة، لكن هذا النوع من الأدلة، وهو أن الله أحيا أقوامًا قد ماتوا، فهذا تحته في سورة البقرة فقط خمسة أمثلة، أُناس ماتوا فأحياهم، فهذا واحد منهم، وسيأتي بعده طيور إبراهيم ، وقبله: الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [سورة البقرة:243] وكذلك في بني إسرائيل لما أخذتهم الصاعقة، قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56] فهو موت حقيقي، أحياهم الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك، وهكذا.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن مجرد الاستعظام لوقوع شيء من الأمور التي في هذا الكون يُجريها الله -تبارك وتعالى- ويُدبرها لا يكون كفرًا، فهذا رجل لم يشك في قدرة الله على البعث والنشور، وإنما كان يستعظم ذلك في مجاري العادات.

وفي الحديث: أن رجلاً كان قبلكم، رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرًا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله ، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته [2] فهذا الرجل -كما يقول شيخ الإسلام- كان يشك في قدرة الله على إعادته، وفعل ذلك لجهله[3] وهذه قضية من المعلوم من الدين بالضرورة، وقد ذكرتها في الكلام على القضايا التي ربما تقع لبعض الناس، ولا يكفر بسببها؛ فهذا وقع فيما وقع فيه لجهله.

ولاحظ التعجب أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وكذلك قوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ فلم يقل: أنى يُحيي الله هذه بعد موتها، وإنما قدّم ما يتعلق بالقرية؛ لأن هذا موضع التعجب، وليس العجب من قدرة الله، وإنما العجب من حال هذه القرية التي تساقطت بهذه الهيئة.

ويُؤخذ من هذه الآية: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أن الله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء، وأن الأفعال الاختيارية تقوم به ، فهو -تبارك وتعالى- موصوف بصفات الكمال، فصفاته الفعلية متعلقة بمشيئته وإرادته، فهو يتكلم متى شاء، ويخلق، ويُحيي ويُميت، ويُدبر أمر الخليقة، ويزرق ويُعطي ويمنع، جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

فهذا الرجل أماته الله مائة عام، ثم بعثه على القول -وهو قول الجمهور- بأنه كان على الإيمان، وهذه بالنسبة إليه تعتبر كرامة، وعلى القول بأنه نبي تعتبر آية ومعجزة؛ لأن هذا أمر خارق للعادة، وكل ذلك في الواقع يرجع إلى آيات الأنبياء، كما يُقال، ولها في القرآن براهين وآيات، ونحو ذلك، وأطلق عليها المتأخرون مما يتصل بالأنبياء: المعجزات، وما يتصل بالأولياء أطلقوا عليها الكرامات، والواقع أن ذلك من باب واحد، وسماها المتقدمون بدلائل النبوة.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: قَالَ كَمْ لَبِثْتَ جواز امتحان العبد في معلوماته، فيُسأل ويوجه إليه السؤال، ولا غضاضة في ذلك.

وأيضًا في جواب الرجل: قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يُؤخذ منه جواز الجواب بما يغلب على الظن، فهو تكلم بحسب غلبة الظن، ولم يتوقع أنه جلس مائة عام، فأخطأ في الجواب. 

 

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].

وقد تحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة، وما يُستخرج منها من الهدايات، ومن ذلك: أن الله -تبارك وتعالى- يتكلم حقيقة على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، قَالَ كَمْ لَبِثْتَ، قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة التي دل عليها القرآن، ودل عليه سنة رسول الله ﷺ، وهي اعتقاد السلف الصالح ، فالله يتكلم بحرف وصوت يُسمع لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11].

ويُؤخذ من هذه الآية: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أنه ينبغي النظر والتفكر في دلائل قدرة الله -تبارك وتعالى- وعظمته فيما نُشاهده في هذا الخلق، فالله أرشده إلى التفكر والاعتبار والنظر فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ يعني: لم يتحول ولم يتغير على مر السنين، والطعام يتغير في أيام، وهذا من غير حفظ في مُبردات ولا غير ذلك، ومع ذلك بقي مائة سنة، فهذا لا يُعقل في مجاري العادات!

وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا أي: كيف تُرفع هذه العظام التي صارت هامدة مفرقة متفتتة، وتُبنى من جديد، ثم تُكسى باللحم، فدلائل القدرة كثيرة، وقد أرشد الله إلى ذلك في مواضع من كتابه ، وتقدست أسماؤه، حيث أرشد إلى النظر في السماء والأرض، والجبال، والإبل كيف خُلقت؟ وهكذا النظر إلى البحار، وإلى ما ركب الله به جسد هذا الإنسان، وما فيه من الغرائب والعجائب، والطير وهي سابحة في الفضاء من الذي يُقيمها؟ والفلك وهي تجري في البحر، والنجوم والأفلاك والكواكب من الذي يُدبرها على مر هذه الدهور المتطاولة؟ فهذا نظر في الآيات المشهودة، والنظر الآخر في الآيات المتلوة بالتدبر والتفكر، واستخراج العِظات والعِبر والهدايات والحِكم والأحكام.

وتبيّن الآية أيضًا مِنة الله على عبده بإظهار ما يقوي اليقين، ويُبرهن على الاعتقاد الصحيح، فالله -تبارك وتعالى- يسوق لعباده من الآيات والدلائل والبراهين على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- معجزات وخوارق العادات، كما قال ﷺ: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر [4] يعني: أُعطي من الآيات ما يؤمن البشر على مثله، فالله -تبارك وتعالى- من رحمته بعباده أظهر لهم هذه الآيات تارة لبيان صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وتارة لتثبيت المؤمنين؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أن كرامات الأولياء تكون في آخر الزمان أكثر مما يقع لسلف هذه الأمة من الصحابة [5] لا لمزية وفضيلة للمتأخرين، ولكن لأنهم بحاجة إلى تثبيت؛ لبُعد العهد والغُربة، بينما الذين كانوا في زمن النبي ﷺ عندهم الرسول، والوحي ينزل، فالتثبيت حاصل بنزول الوحي، وبوجود النبي ﷺ بين أظهرهم، لكن المتأخرين يحصل لهم التثبيت بما يُظهره الله من دلائل صدق النبي ﷺ، وصحة ما دعا إليه.

والمقصود: أن رحمته -تبارك وتعالى- بعباده واسعة، ومن ذلك: ما أظهره الله لهذا الرجل في هذه الآيات العجيبة، وهذا يدل على كمال قدرة الله الذي إذا أراد شيئًا، فإنما يقول له: كن فيكون، فالعبد بحاجة إلى لجأٍ إلى الله، وتوكل عليه، وحُسن ظن به، وثقة به، فهو القادر على أن يرفع ما بالعبد من بلاء وشدة، وهو القادر على نصره وإعانته، وشفائه، ورزقه وزوال المكاره عنه.

فهذا الطعام والشراب بقي مائة سنة ولم يتغير، من يستطيع هذا؟ لا أحد يستطيع غير الله ، كل ما أوتي الناس من وسائل علمية ووسائل الصناعات، وحفظ المواد، وما إلى ذلك لا يستطيعون أن يُبقوا الطعام والشراب مائة سنة دون تغير، لكن الله إذا أراد كان، ومن الذي يستطيع إحياء الميت ورده فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۝ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الواقعة:86، 87] الروح إذا بلغت الحلقوم من الذي يستطيع أن يُرجعها؟

لا أحد يستطيع، ولو كان أقوى الناس وأقدرهم وأغناهم، والله يستطيع أن يرد ذلك إليه بعد ما فارقت الروح بمائة سنة وأكثر بآلاف السنين، فيبعث الناس من قبورهم، وإذا شاء أماتهم وأحياهم، كما في هذا المثال، وإذا شاء أنامهم، كما حصل في أصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنوات، والجميع يقوم ويقول نفس الجواب؛ لما سأله الله : كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنوات قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [سورة المؤمنون:113].

وهكذا الذين يقومون في البعث يوم القيامة، تبقى هذه الحياة كلها يوم أو بعض يوم.

فهذا يدل على أن هذه الحياة قصيرة، لا تستحق أن يبذل الإنسان دينه من أجلها، ولا تستحق أن تنقضي هذه الحياة القصيرة بالهم والقلق والضيق، وما أشبه ذلك، فذلك نقص في الحياة، ويعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن حياته الحقيقية هي اللحظة والثانية التي يعيش فيها، ما مضى فات، لا يمكن يُستدرك، ولا يُسترجع بالأحزان والمواجع، وتجديد الآلام، وما سيأتي هو غيب في علم الله ، لا يدري الإنسان ما يصنع الله به؟

فكم من إنسان كان يتخوف الفقر، فأصابه الغنى، وكما إنسان كان يتخوف الفقر فمات قبل ذلك، وكم من إنسان كان يتخوف المرض، فمات بغيره، وكم من مريض مات صحيحًا، وهو على قيد الحياة، ينتظر أجله، فهذه عِبر وعظات، ينبغي على العبد أن يقف عندها.

وأيضًا ينبغي أن يكون نظر العبد بكل طريق مستطاع، فينظر بنظر مُجمل، وينظر بنظر مُفصل؛ ليهتدي ويصل إلى العِظة والعبرة، فيحصل له الانتفاع بذلك.

وتدل هذه القصة أيضًا على: أن الله -تبارك وتعالى- قد يصنع بعبده ما يصير به آية للناس وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ومن ذلك قوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:91].

ويظهر أيضًا من هذا الخلق (خلق الإنسان) كيف جعل الله اللحم كسوة للعظام وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [سورة البقرة:259] أي: كيف نرفعها، ونبني بعضها على بعض، ثم نكسوها لحمًا، فتُكسى العظام بهذا اللحم، وتصور لو كان الإنسان بلا عظام، قطعة لحم ساقطة، لا يستطيع الانتقال، ولا الحركة، ولا تحصيل مصالحه ومطالبه ولا دفع المكاره عنه، ولو كان الإنسان مجرد هيكل عظمي، فإن ذلك أيضًا يجعله عُرضة للكسر؛ ولهذا كُسيت هذه العظام باللحم ليكون ذلك حماية لها ووقاية، فقد يُصاب اللحم بشيء من الجراح، ونحو ذلك، ويقع عليه الضرب، لكن ذلك أسهل من وقوعه على العظام.

وأيضًا يدل هذا على أن الإنسان بالتدبر والتأمل والنظر في آيات الله -تبارك وتعالى- يظهر له ما كان خافيًا عليه، أو غافلاً عنه، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].

ويؤخذ منها أيضًا: أن هذا النظر يورث العلم واليقين؛ ولذلك كان التفكر في آيات الله -تبارك وتعالى- المتلوة والمشاهدة من المطالب الشرعية، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259] ولاحظ التعبير قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فـ(أعلم) فعل مضارع، وهذا يدل على التجدد والاستمرار، فعلمه بذلك مستمر ومتجدد، فهو عنده أصل هذا العلم، ولكن صار إلى مرتبة من العلم أعلى، فانتقل في إحياء الموتى من علم اليقين إلى عين اليقين.

قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وفي القراءة الأخرى على صيغة الأمر[6] أمر بالعلم، فهذا أيضًا أمر من الله لعباده أن يوقنوا بأن الله على كل شيء قدير، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى، فهما بمنزلة الآيتين، فينبغي على العبد أن يعلم ذلك، وأن يتيقنه، وإذا حصل له مثل هذا العلم حصل له التوكل، والخوف من الله، والرجاء، وحصلت له هذه الأعمال القلبية. 

  1. معاني القراءات للأزهري (1/ 223) وحجة القراءات (ص:144).
  2. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار برقم (3478) ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه برقم (2756).
  3. الاستقامة (1/ 164).
  4. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل برقم: (4981) ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ برقم: (152).
  5. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:166).
  6. معاني القراءات للأزهري (1/ 223) وحجة القراءات (ص:144).