أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:258].
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، هل رأيت أعجب من حال هذا الذي حاج إبراهيم في توحيد الله -تبارك وتعالى- وربوبيته وذلك لأن الله -تبارك وتعالى- قد أعطاه الملك فكان ذلك سببًا لكبريائه وأنفه وجحده لربه وموليه هذه النِعم، فهذا الجبار قال له إبراهيم : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، هو الذي يملك الإحياء والإماتة، هو الذي يسلب الحياة وهو الذي يعطيها فهو المتفرد بذلك وحده، هذا المُكابر قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
من أهل العلم من يقول بأنه ادعى ذلك حقيقة، الإحياء والإماتة باعتبار أنه يملكها؛ ولهذا انتقل معه إبراهيم إلى أمر لا يمكن معه المُكابرة فقال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، إذا كان حقًا ما تقول أنك تحيي وتميت فيكون هذا أعني قوله: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ كالمقدمة لما بعده من قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ على قول طائفة من أهل العلم وهو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله.
كثير من المفسرين يقولون بأن قوله: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، يعني: أنه يأتي إلى من أراد قتله فيُعتق هذا المحكوم عليه بالقتل، ويأتي إلى آخر فيقتله، فهذه الإحياء والإماتة وهذه ليست بإحياء وإماتة حقيقية، وبعض أهل العلم يقولون: هذا مراده، وكان ذلك أيضًا على سبيل المكابرة والجدل الباطل، فإبراهيم انتقل معه إلى أمر لا يمكن معه المكابرة فقال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، إن ربي الذي أعبده هو الذي يأتي بالشمس من مشرقها فأتِ بها من الناحية الأخرى من المغرب إن كنت تزعم أنك تتصرف وتدبر في هذا الكون، هل تستطيع تغيير هذه السنة الإلهية؟! فتحير هذا الكافر وانقطعت حجته كما هو الشأن بالنسبة للظالمين.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:258]، لا يهديهم لحجة، ولا يهديهم للحق والإيمان، وهنا سؤال يرد يذكره أهل العلم وهو أن كثيرًا من الظالمين هداهم الله فآمنوا، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، كثير من الكافرين هداهم الله فآمنوا، المقصود بذلك ومحمله أن الله لا يهدي القوم الظالمين حال ظلمهم وحال الإصرار على هذا الظلم، لا يهدي القوم الكافرين المصرين على الكفر، كما قال الله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، فالجزاء من جنس العمل، قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل: 5-10]، فهذا من كمال عدله -تبارك وتعالى.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات والمعاني والفوائد أن المحاجة لإبطال الباطل وإحقاق الحق هذا من مقامات الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
فهذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، فالله -تبارك وتعالى- قص على رسوله على نبيه ﷺ خبر ذلك بأشرف كتاب وكان المحاج هو أبو الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم ، فمسألة الجدال والمحاجة هذه حالة عارضة ليست هي الأصل، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [سورة النحل:125]، فهذا هو الطريق، فقال: ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة، يكون مستصحبًا للحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، يتكلم في المقام الذي يناسب فيه الكلام، ويتكلم مع كل طائفة بما يصلح لمثلها، والموعظة الحسنة، وقيدها بالحسنة ولم يقيد الحكمة؛ لأن الحكمة تكون حسنة دائمًا لا تحتاج إلى تقييد، لا يقال: حكمة حسنة، لكن الموعظة قد تكون بالتي هي أخشن، قد تكون الموعظة قاسية، وقد تكون جارحة، لا، الواجب أن تكون الموعظة حسنة.
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعظ بكلام لا يجرح، بكلام طيب مُحبب إلى النفوس تقبله ويستميلها إلى الحق، وفي المجادلة لم يقل: والمجادلة الحسنة، مثل ما قال والموعظة الحسنة، ما قال والمجادلة الحسنة، قال: وَجَادِلْهُمْ [سورة النحل:125] فجاء بالفعل، هنا: بِالْحِكْمَةِ اسم، والموعظة اسم، وقيد الموعظة بالحسنة، في المجادلة قال والمجادلة ما جاء بالاسم، وإنما قال: وَجَادِلْهُمْ، فتغير الأسلوب، فيُفهم من هذا مثل ما ذكره أهل العلم أن التعبير بالفعل بالنسبة للمجادلة أنها حالة استثنائية هي ليست الأصل إنما هذه يُحتاج إليها مع من عنده شيء من الشبهات، عنده موانع صوارف من شُبه تحتاج إلى تجلية، تحتاج إلى مناقشة وإلا فالمجادلة يكون معها من حضور النفس ما يجعل ذلك في الغالب سببًا للتصلب والتعصب للرأي والاعتقاد والمذهب، ولهذا ذكر بعض أهل العلم -ابن قدامة على سبيل المثال- ما يحصل من حضور النفوس، مجادلات بين فقهاء، يقول: فتحمر الوجوه، ولربما يدنوا هذا إلى هذا أثناء المجادلة، ولربما جذب لحيته، ولربما قذفه في عرضه من شدة احتدام النفوس.
فقال هنا: وَجَادِلْهُمْ، ولم يقل: مجادلة حسنة، قال: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125] فالمجادلة تحتاج إلى الأحسن، بالتي هي الأحسن، لعل ذلك يكون سببًا للقبول، ولذلك فإن من يُجادل الناس ويُناظر ويخرج في القنوات أو في مواقع فيها مناظرات أو نحو ذلك ينبغي أن يتحرى مثل هذا الأسلوب، القضية ليست محتملة للاستفزاز واستخدام العبارات العنيفة وإنما إن كان المقصود هداية هؤلاء الناس فيتكلم بألطف عبارة، ويبحث دائمًا عن الأحسن، الأحسن من الأساليب والعبارات وهكذا، فهذا إن كان لذلك فهو من مقامات الرسل، وإلا كثير من المجادلات والمناظرات قد يُقصد بها إبطال الحق أو تقرير الباطل، أو يكون الجدل من أجل الجدل.
من الناس من عنده هواية يُجادل من أجل كل شيء فهذا مذموم، ولذلك لا تكاد تُذكر المجادلة في القرآن إلا على سبيل الذم، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ [سورة غافر:5]، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [سورة الأنفال:6]، ونحو ذلك، إلا في مواضع قليلة مقيدة: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة العنكبوت:46]، فهي حالة عارضة، وهذه الآية في مجادلة إبراهيم لهذا الرجل الجبار دليل أيضًا على جواز المحاجة والمجادلة إذا كان ذلك يُقصد به إحقاق الحق وإبطال الباطل.
وكذلك أيضًا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، هذه حالة تقتضي التعجب، ولذلك تعجب الله نبيه ﷺ من حال هذا الرجل، أَلَمْ تَرَ، فجاء بهمزة الاستفهام، ثم "لم" التي تدل على النفي فدخلت عليها همزة الاستفهام فهذا حال عجيب، وذلك أن الرجل أعطاه الله الملك فكان ذلك سببًا لجحوده ومكابرته ومجادلته في ربه -تبارك وتعالى، فهذا قد يدل وقد يُفهم منه أن النِعمة أحيانًا قد تكون سببًا للطغيان كما قال الله -تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7].
لذلك قد يُمنع العبد من بعض النِعم، قد يُمنع من الغنى، قد يُمنع من ولاية أو منصب أو نحو ذلك فيكون ذلك خيرًا له، فلا ينبغي له أن يجزع وأن يتسخط حينما يرى الآخرين يصعدون، أو حينما يرى الآخرين يملكون فإن الله قد صرفه عن أمر قد يكون فيه عطبه، هذا المال الذي قد يحصل له، هذه الرتبة التي قد تحصل له قد توقعه في شيء من الطغيان والتنكر للحق والكِبر ولربما التنكر لأقرب الناس إليه، فكم من امرأة تقول: تزوجته وهو طالب لا يملك إلا مكافأة في الكلية وصبرت سنين طويلة حتى تخرج، ثم بعد ذلك واصل دراسته، ثم بعد ذلك صار يعمل شيئًا فشيئًا حتى صار غنيًا، ثم بعد ذلك أنكرني ولا يراني شيئًا البتة، وتزوج عليها بعد ذلك، هي ليست القضية في الزواج لكن القضية في النكران، أنه يحتقر هذه المرأة ويُعيرها أنها غير متعلمة، وأنها جاهلة، ونحو ذلك وهي التي صبرت عليه وقبلت به وهو طالب على مقاعد الدراسة، فالإنسان أحيانًا يترفع يتكبر.
ولهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- شيئًا عن سُكر الرئاسة يقول: "قد يتولى الإنسان ولاية فيتنكر لأقرب الناس إليه يتنكر لأصحابه، يتغير عليهم تمامًا، فيستغربون هذا ويعجبون، يقول: بينما لو شرب المُسكر فتغير بسببه لا يعجبون، يقول: فسُكر الرئاسة أعظم من سُكر الخمر" إلا من هداه الله ووفقه وصرف عنه دواعي الشر.
فهذه الآية: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [سورة البقرة:258]، يعني: بسبب أن الله -تعالى- آتاه الملك صار بهذه المثابة والمكابرة والإنسان قد يسوق الله إليه ما يكسره ويذكره بربه -تبارك وتعالى؛ لئلا يحصل له مثل هذا الطغيان، يعني: يحصل له مثل هذا الشيء من الحاجة والفقر، يصيبه المرض ونحو ذلك فيتذكر ربه ويقترب منه ويناجيه ويدعوه ويرق قلبه، لكن إذا كان في عافية وغنى فإن ذلك مظنة لكثير من الغفلة فيحتاج إلى شيء من التذكير بين حين وآخر فيسوق الله له بلية مصيبة ألم مرض يمرض ولده تمرض زوجته تمرض بنته يصيبه شيء من الخسارة في التجارة ونحو ذلك فيتذكر الضعف والحاجة إلى الله، والفقر إليه، فيبدأ يدعوه، يبدأ يحافظ على صلاته، يحافظ على عبادته، يحافظ على علاقته بالله -تبارك وتعالى.
فهذه المحن التي تقع للناس هي منح من الله تردهم إليه، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، لكن الله يُدني عبده، يذكره ويكون ذلك أيضًا تطهيرًا لخطاياه وسيئاته.
ويؤخذ من هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [سورة البقرة:258]، الله -تبارك وتعالى- حينما يذكر هذه المحاجة والمناظرة هذا تعليم من الله أيضًا لعباده، طُرق المحاجة وقطع المخالف والمنازع والخصم بأقرب طريق، يعني: لاحظ هنا ما احتاجت المناظرة إلى كلام طويل ومجالس طويلة وإنما بجملتين وانقطع هذا الجبار.
فهذا تعليم من الله ، فتعلم طُرق الحجاج هذا لا إشكال فيه، وهذا علم معروف، وألف فيه العلماء مؤلفات في آداب الجدل والمناظرة والمحاجة بأسماء متنوعة لكنها ترجع إلى حقيقة واحدة، آداب البحث والمناظرة أحيانًا يسمونه كما صنف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- ذلك في جزأين صغيرين لطلاب كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية آنذاك، وكان تأليفه بإشراف سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- حينما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية، وكان الشيخ محمد الأمين -رحمه الله- يُدرس فيها، فكان الشيخ محمد الأمين -رحمه الله- يقول: لابد لهؤلاء الطلاب في قسم الدعوة من معرفة طرق المناظرة، وكان الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- يتخوف أن يدخل في ذلك علوم المنطق، والسلف حذروا من هذا العلم، فكان الشيخ -رحمه الله- يقترح الشيخ محمد الأمين أن يكتب وأن يعرض على سماحة الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- ما كتب فإن ارتضاه دُرس، عرض عليه ذلك ثم صار ذلك يُدرس وهو مطبوع متداول هذا الكتاب.
ومن أجمع الكتب في هذا الباب كتاب منهج الجدل والمناظرة في مجلدين كبيرين وهو كتاب حافل جيد جمع فأوعى، وكتاب نظيف كتبه مؤلف على عقيدة صحيحة وهو رسالة دكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود، كتاب جيد للغاية، حافل إذا قرأته قد لا تحتاج إلى قراءة غيره، "منهج الجدل والمناظرة"، كتاب جيد حافل جامع، وذكرت فيه عيون المناظرات، يعني: وقائع وأمثلة في مناظرات وقعت عبر التاريخ، ذكرها جميلة ومفيدة.
والشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله- في آخر كتابه الفتاوى، هناك فيه مناظرات ذكرها يعني بين المستعين بالله والمهتدي بالله مثلاً فتأتي مسألة فقهية هل الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو إلى قسمين؟ فيقول المستعين بالله: كذا، ويقول المهتدي بالله: كذا، يعلمهم طريقة المناظرة والمحاجة والمجادلة، فهذا يُحتاج إليه فقد يكون الإنسان من أوعية العلم لكن لا بصر له في المناظرة هي مهارة، فلابد من تعلم ذلك.
ويوجد في هذا العصر من المناظرين في النصارى يوجد كتاب "منهج القرآن في الحوار مع النصارى" الشيخ أحمد ديدات -رحمه الله- كان في ذلك في غاية الحِذق والبراعة، وبعده الآن يوجد أحد كِبار المناظرين من القارة الهندية، وهو الدكتور هو طبيب اسمه أحمد نايك هذا جيد للغاية في المناظرة، وأيضًا هو يعرض ما يقدمه وما يُناظر فيه وما يُجادل فيه على متخصصين في العلوم الشرعية من أهل الحديث في القارة الهندية، يعني: عنده لجنة مستشارين من أهل الحديث بحيث تكون على عقيدة صحيحة، وجادة صحيحة، ومنهج صحيح، له مناظرات موجودة في الشبكة يمكن الاطلاع عليها مُبهرة، يعني: مناظرة خاصة مثلاً في الرياضيات في الكتاب المقدس كما يسمونه في جامعة من الجامعات الغربية تجد هؤلاء في صدمة يذكر لهم الأعداد ويحفظها حفظًا دقيقًا ولا يحمل معه ورقة، فسألته عن ذلك كيف هذا الاستحضار؟ فقال: هذا سهل، هذا يكون بدراسة يقول: نقيم فيه دورات، فهو علم يُتعلم، فقد يكون الإنسان حاذقًا في أبواب العلم ولكنه لا يُحسن المناظرة بمجرد ما يخرج مناظرة مع أحد ينقطع، وبعض الناس على باطل ولو أردت أن يُقنعك أن هذه السارية من ذهب لفعل، وهذا أيضًا له اشتراطات وله متطلبات وله آداب، ومن تناظر، ومن الذي يُناظر، وماذا تكون المناظرة، ليس ذلك لكل أحد.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:258].
مما يؤخذ من الهدايات من هذه الآية الكريمة هنا: طريقة العرض أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، فهذا فيه من جذب الأفهام، وفيه من التشويق وذلك أيضًا يدل على أهمية ما يُذكر بعده؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد ساقه بطريقة تُثير انتباه المخاطب، فهذه من طرق الخطاب التي ينبغي أن تُراعى في مخاطبات الناس وذلك أن العرب تستعمل من الأساليب في كل مقام بحسب ما يليق بذلك المقام، والقرآن قد جاء على معهود العرب في الخطاب، فالعرب من شأنها إذا أرادت جذب الانتباه وإثارة الاهتمام أن تُعبر بمثل هذا.
كذلك أيضًا: حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، هذا الرجل يُحاج في ربوبية الله ؛ لأنه يدعي أنه يُحيي ويُميت، مثل هذا يُنازع في الربوبية، فهذا يدل على أنه وجد من يُنازع في توحيد الربوبية من كان في زمن إبراهيم ، يعني: منذ القِدم، نعم أكثر النزاع بين الرسل وأتباعهم كان في توحيد الإلهية توحيد العبادة أن الله واحد، لكن يوجد بعض المنحرفين من كان يُنازع في توحيد الربوبية أيضًا مثل هذا، يعني: قضية الإحياء والإماتة هي من معاني توحيد الربوبية، هي مما يدخل في توحيد الربوبية وليس ذلك في توحيد الإلهية، توحيد الإلهية هو في توحيد القصد والطلب والوجِهة بتوجيه جميع الرغبة والرهبة والعمل والطاعة إلى معبود واحد، أن نتوجه بجميع أعمالنا التي نتقرب بها إلى الله، هذا توحيد الإلهية توحيد العبادة أن لا نعبد سواه، فلا نصلي إلا له، ولا ندعوا سواه ولا نعبد غيره، توحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله هو، توحيد الإلهية أن توحده بأفعالك أنت، ما هي أفعالك؟ الصلاة، الصوم، النذر، الحج، الصدقة، الذكر، الدعاء، الطواف، هذه أفعال العبد التي يتقرب بها، ينبغي أن يوحد الوجِهة فيها.
فلواحدٍ كن واحدًا في واحدِ |
أعني سبيل الحق والإيمانِ. |
هذا توحيد الإلهية، توحيد الربوبية أن توحد الله بأفعاله هو فتقول: لا خالق إلا الله، لا رزاق إلا الله، لا نافع إلا الله، لا ضار إلا الله، لا معطي إلا الله، لا محيي إلا الله، لا مميت إلا الله، هذا توحيد الربوبية.
هذا الذي كان يُجادل إبراهيم كان يدعي أنه هو يحيي ويميت، أنه يُدبر مع الله، ولذلك جاء الحجر الذي فلغ فاه وهو فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، هو يدعي أنه يُدبر هذا الكون.
كذلك فرعون، فرعون كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، فادعى الربوبية كما ادعى الإلهية قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38]، فالانحراف في هذين التوحيدين كان منذ القِدم، لكن في الغالب أن النزاع كان في توحيد الإلهية، وهذا الرجل المنازع لإبراهيم في التوحيد وقعت منه هذه المنازعة؛ لأن الله أعطاه وأولاه ووهبه الملك طغى فكان ذلك سببًا لهذه الدعاوى العريضة وهذا الكفر، أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، وقد تكلمنا على قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، وأن الإنسان قد يُمنع من مال أو ولاية رحمة به فلا تجزع، إذا فاتك من ذلك شيء فلا تجزع.
ثم أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك تعالى: أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، أن الذي يؤتي الملك هو الله -تبارك وتعالى، أَنْ آتَاهُ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [سورة آل عمران:26]، فالعز من الله، والذل من الله، يُذل من يشاء ويُعز من يشاء، يُعطي الملك من شاء وينزع الملك ممن يشاء، فالملك الحقيقي من الله -تبارك وتعالى، فإذا كان الملك من الله فينبغي أن يكون ذلك الملك فما دونه من الولايات أن يكون ذلك سببًا للشكر وتسخير ذلك فيما يُرضي الله -تبارك وتعالى- ويُقرب إليه، فلا يصح بحال من الأحوال أن الإنسان إذا صارت له ولاية وتحته من يرأسهم ويُدريهم ويُدبرهم أن يكون ذلك سببًا للتعاظم والتعالي فينسى ربه وينسى ما يجب عليه من القيام على هؤلاء على الوجه الذي يُرضي الله -تبارك وتعالى، وقد صح عن النبي ﷺ: أنه ما من أحد يلي عشرة فما فوق إلا وجاء وهو مقيد بذلك بعمله هذا فإما أن يعتقه عمله وإما أن يوبقه .
فالحرص على الولاية، الحرص على الرئاسات، المنافسة فيها، هذا أمر لا يُحمد، ولهذا قال النبي ﷺ: فنعم المرضعة وبئست الفاطمة فسره جمع من الشُراح بأن المُرضعة هي الولاية، كذلك أيضًا قال النبي ﷺ أحاديث في هذا الباب وأنها تكون في يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذ ذلك بالعدل وقام بالحق، فهذا الحرص وهذا التنافس على تحصيل الولايات هذا أمر لا يُحمد، ولذلك لا يصح أن نُنشأ الناشئة على طلب الرئاسات، منذ أن يكون الطفل صغيرًا نقول له: إن شاء الله تكون كذا وتكون كذا وتكون كذا، فنعلق قلوبهم بهذا، يصير الإنسان في حال من الصراع والعراك ويحمل الأحقاد، منافسات غير شريفة من أجل أن يصل إلى هذا الهدف، هذا غير صحيح، ولذلك مثل هذا الإنسان الذي يحصل له ذلك يُدعى له بالإعانة والتوفيق والسداد والمقام ليس مقام تهنئة، يُهنئ على ماذا؟! هذه أمانة كبيرة وحِمل عظيم، هو بحاجة إلى دعاء بأن يُسدد وأن يُهدى وأن يُوفق وأن يُعان، وإلا فإذا أُسلم العبد إلى نفسه ضاع.
كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية حينما قال إبراهيم : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، هذا مثال يؤخذ منه أن الله -تبارك وتعالى- هو المنفرد بجميع أنواع التدبير والتصرف في هذا الكون، لا يُشاركه معه غيره، فهو الذي يملك النفع والضر وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [سورة الأنعام:17]، لا يمكن أن يملك لا طبيب ولا غني ولا حكيم ولا غير ذلك النفع لأحد واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك فهذا أمر قد فُرغ منه.
وهنا في هذا اللفظ الذي وقع فيه إظهار في موضع يصح فيه الإضمار، لما قال إبراهيم ، وذكرنا هذا أنه من قبيل الانتقال وأن ذلك مُكمل للاحتجاج الأول وأنه كالمقدمة الأول للثاني كما قال ابن القيم -رحمه الله: " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فلما كابر في هذا أعطاه الثاني الذي لا يستطيع المكابرة معه فكان ذلك التدرج بالاحتجاج".
الشاهد هنا أن الله قال: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، الحوار بين إبراهيم وهذا الذي يُحاجه قال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، لم يقل: فبُهت وإنما قال: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فإبراز هذا الوصف الكفر مقصود هنا ولذلك جاء به مُظهرًا فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، ولم يقل: فبُهت ذلك الملك، وإنما جاء بهذا الوصف الذي يُبين فيه عن سبب هذه المحاجة في ربوبية الله -تبارك وتعالى، وأن ذلك هو العلة الباعثة له على هذا الجدال فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وفي ذلك من التبكيت له والوضع من حاله ومرتبته ومنزلته فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، هذا فيه ذم له بذكر هذا الوصف الذي هو أقبح الأوصاف الكفر فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.
وهكذا فإن كل من يُحاج في الله -تبارك وتعالى- يريد إبطال الحق وإظهار الباطل فإن حاله ومآله إلى هذا إلى انقطاع، فهؤلاء حجتهم داحضة ليس عندهم شيء من الدلائل الصحيحة والبراهين، وإنما سماها الله -تبارك وتعالى- حجة: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِم [سورة الشورى:16]، باعتبار مراعاة حال هؤلاء إذ إنهم يعتبرون أن هذه حُجج وهي في الواقع ليست بُحجج هي أباطيل تُراهات، فمن الخطاب القرآني نوع يخرج فيه الخطاب بحسب حال المُخاطب فيكون مراعًا فيه، هم يعتبرونها حُجج فقال: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِم [سورة الشورى:16]، وإلا هي ليست بحُجج وليست من الحُجج لا في قليل ولا في كثير، فكل مُحاج في الباطل فحجته داحضة، لماذا؟ لأن الباطل لا يمكن أن يُصحح، ولا يمكن أن يعلو، ولا يمكن أن يتحول إلى حق، الباطل باطل، والباطل معناه في اللغة الذاهب الزائل المُضمحل هذا معنى الباطل، ولهذا يُقال البطل، بأي اعتبار؟ يُقال: باعتبار أنه لفرط إقدامه كأنه أبطل دمه لا يُبالي فقيل له بطل، فكل استعمالات هذه الكلمة الباء والطاء واللام ترجع إلى هذا المعنى، الشيء الذاهب الزائل، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [سورة الإسراء:81].
فسواء كانت هذه المحاجة في توحيد الإلهية أو في توحيد الربوبية أو في أحكام الله وشرعه فهي باطلة على كل حال، كل محتج بالباطل فحجته داحضة سواء كان ذلك في الأصول الكبار، أو كان ذلك في تفاصيل الشريعة، تسمع وأسمع وتسمعون وقد سمعت هذا اليوم من يتكلمون بطريقة هي في غاية البطلان ولو خشية إشاعة بعض الباطل الذي هو من أبطل الباطل لقرأت عليكم إحدى هذه الرسائل، كيف يُلبسون على الناس، وكيف يلتبس هذا على بعض من لا بصر له، وكيف يسمون الأشياء بغير حقائقها تلبيسًا، وكيف ينقلون بعض النقولات من بعض العلماء المقبولين الثقات ويقحمون هذه النقولات في شيء لا يمت إلى هذا الذي يريدون التوصل إليه لا من قريب ولا من بعيد، ولولا كراهة نشر الباطل لأعطيتكم هذا النموذج في التلبيس.
فهذا باطل لا يمكن أن ينهض ويقوم ولو حاولوا تدعيمه بنقولات من هنا وهناك لا علاقة لها بهذا الإفك المُفترى، هو إفك لا حقيقة له، ولا يوجد في دين الإسلام أصلاً، ويأتون بأسماء في أمور تتعلق في زواجات باطلة، لا أساس لها ولا توجد في الشريعة أصلاً أو في غير ذلك.
وهكذا هذا الذي يحتج على بعض الناس حينما يقول له مثلاً شيخ الإسلام قال كذا يقول: لماذا تأخذ قول شيخ الإسلام، بناء على ماذا أسلمت له عقلك؟ بناء على ماذا، مثل هذا بكل بساطة نستطيع أن نحتج معه حينما يوجه هذا الكلام نحن يمكن أن نوجه إليه نقول: لا بأس دعك من شيخ الإسلام -رحمه الله، والشافعي، وأحمد، ومالك، والليث، والأوزاعي، والأئمة الكبار، الإنسان إما أن يكون من أهل النظر والاجتهاد فلديه الأهلية من معرفة النصوص من الكتاب والسنة ومواضع الإجماع والاختلاف والأصول التي يُبنى عليها الاستدلال مع الملكة والفهم الصحيح على فهم السلف الصالح فيكون له من البصر في اللغة، والأصول والقواعد مع معرفة الأدلة والإجماع، والاختلاف، والأقوال والآيات والأحاديث وأقوال السلف، وأقوال الصحابة ونحو ذلك.
نختبر هذا الإنسان الذي يقول هذا وهو ما قرأ إلا بضعة تغريدات ولا يحفظ لربما حديثًا واحدًا، وقد لا يُحسن قراءة الفاتحة، فنقول: هات نختبر هذا الإنسان في هذه النصوص من الكتاب والسنة ونختبره في القواعد والأصول، ونختبره في اللغة العربية وما أشبه ذلك، ونقول هات البضاعة لتكون من أئمة الاجتهاد تكون مؤهلاً فإن كنت على أهلية فلا أقل، نحن نقول: لا تطالب الآخرين ليتحولوا إلى مجتهدين فكل من قال لك هذا قال به فلان تقول: لماذا تؤجر له عقلك، نبدأ بك أنت الآن نريد أن نعرف هل أنت مؤهل للاجتهاد أو لا؟
لأن الإنسان إما أن يكون مؤهلاً للاجتهاد والاستنباط فيجتهد وإما أن لا يكون كذلك فالله -تبارك تعالى- يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة الأنبياء:7]، إذا مرض أين يذهب؟ يذهب إلى الحداد! أو إلى النجار! أو يقول: أنا عندي عقل ولا أؤجر عقلي للأطباء، أنا أُعالج نفسي وأمراضي وعللي بنفسي، ولا يمكن أنقاد! لا، هو يذهب إلى الطبيب ويعمل بدقة بما يقال له، كل اثنا عشر ساعة تستعمل هذا الدواء، وتترك الشيء الفلاني وتفعل الشيء الفلاني، ويفعله بحذافيره، لماذا تؤجر عقلك لهذا الطبيب وهو يصيب ويُخطأ والطب من أوله إلى آخره مبناه على التجربة بإجماع الأطباء مبناه على التجربة، هي أمور تجارب تُصيب وتُخطأ وقد توافق لبعض الناس وقد لا توافق لآخرين، أليس كذلك؟! فلماذا يؤجر عقله للطبيب.
إذا أراد أن يبني دارًا أليس يذهب إلى مكتب هندسي ويعملون له مخطط ويبني عليه حذو القُذة بالقُذة، نقول: لماذا تفعل هذا وتؤجر عقلك للمكتب الهندسي ويؤخذون مالك يا أخي خُط برجلك وابتني دارًا أنت ولا شأن لك بهؤلاء فلك عقل ولهم عقل وهم رجال وأنت رجل، فأنت الطبيب، وأنت المكتب الهندسي، وأنت ابن أنت، فأنت أبوك وجدك أنت، لا تحتاج إلى أحد، ولا تحتاج إلى خبرات ولا تحتاج إلى الآخرين؛ لأنك لا تؤجر عقلك لأحد فأنت وحدك الكامل من كل وجه بزعمه، فهو لا يقبل نصوص الوحي، لا يقبل نصوص الكتاب والسنة، لا يقبل كلام الصحابة، لا يقبل بحجة أنه لا يُسلم عقله لأحد، فأرنا مادة الاجتهاد عندك، وأرنا الآلة التي تنطلق منها في الفهم والاستنباط حتى نعرف أنت أهل أو لا، بضاعته بضع تغريدات قرأها هنا وهناك، ويقول: لا تؤجر عقلك، هذا كلام!
إذا جاء الفقه في الدين والعلم بما أنزل الله على رسوله ﷺ قيل هذا الكلام، وإذا أتينا إلى الأمور المادية الدنيوية، ذهب يبحث هنا وهناك ويسأل، ويقرأ، ويستشير ويذهب إلى أهل الاختصاص، فلماذا الشريعة هي الجدار القصير يتصوره كل بطال؟! فهذا إضاعة لحدود الله وللدين وللإيمان.
على كل حال فهنا بُهت كل محتج بالباطل فهو إلى انقطاع وبُهت لأن الباطل باطل، فلا يغرنكم ولا يهولنكم هؤلاء المبطلين الذين يُلبسون على الناس دينهم، ولهذا فإنه يؤخذ من هذا الموضع أن الحق لا يمكن أن يُجادل فيه، لا يمكن للحق أن يُبطل؛ لأنه حق والحق معناه الثابت، معنى كلمة حق مدارها في اللغة على معنى الثبات، ومعنى كلمة باطل مدارها في كل اللغة على الزوال والذهاب والاضمحلال.
كذلك أيضًا في قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فهنا رتب الحكم نفي الهداية على وصف وهو الظلم، فدل على أن الظلم يكون سببًا للحرمان، حرمان الهداية، فمن أراد الهداية عليه أن يتحقق بالعدل، وأول العدل التوحيد، كذلك أن يعدل في قوله في حكمه وما ولي أولاده في زوجته بين زوجاته، بين تلاميذه، وهكذا في كل شأن من شؤونه، أن يعدل في أقواله وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [سورة الأنعام:152]، ليكون ذلك سببًا لهدايته، وكذلك من ابتُلي بالحكم بين الناس القاضي فهو بحاجة إلى العدل، ومجانبة الظلم من أجل أن يهديه الله -تبارك وتعالى- وأن يوفقه للصواب.
كذلك أيضًا: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا كما سبق لظلمهم فالله -تبارك وتعالى- لا يهديهم عدلاً منه -تبارك وتعالى، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، فهم المتسببون بذلك لظلمهم حرموا الهداية.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورةالبقرة:258].
وبقي الحديث عن الجزء الأخير من هذه الآية الكريمة، وهو قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فقد ذكرتُ في الليلة الماضية أن الهداية هنا حكم عُلق بوصف، وهو الظلم؛ وذلك على سبيل النفي لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فيكون للعبد من حرمان الهداية بقدر ما عنده من الظلم؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه؛ ولذلك كلما كان العبد متحققًا بالعدل بجميع صوره وأنواعه وأشكاله وألوانه، العدل في القول، والعمل، والحكم كان ذلك أدعى إلى هدايته، والعبد أحوج ما يكون إلى الهداية، فهو مفتقر إليها كل الافتقار.
وهذه الهداية -أيها الأحبة- لها أسباب متنوعة، ومن أسبابها: العدل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فالظلم من موانع الهداية؛ ولذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الحرمان الذي يحصل للعبد إنما يكون بسبب ذنوبه وكسبه، كما قال النبي ﷺ: إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه فما يحصل للإنسان من إخفاق، ونقص وتعثر وانكسار وهزيمة، ومصيبة، ونحو ذلك، فهو بما كسبت يده، قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا يعني: ما وقع في يوم أُحد، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورةآل عمران:165].
وكذلك قوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورةالنساء:79] فالسيئات التي تقع للإنسان والمصائب التي تصيبه، هي ببعض ذنوبه، وأعظم هذه المصائب حرمان الهداية، فلو قيل لأي أحد: بأنه ضال لغضب وأنف من ذلك غاية الأنفة، ولا يقبل أحد أن يوصف بهذا الوصف، لكن قد يكون واقعه الانغماس في الضلالة والارتكاس فيها، ومع ذلك لا يقبل هذا، كما أن الإنسان لا يقبل أن يقال له: جاهل مثلاً، ولو كان في غاية الجهل، ومنتهاه، فهذه أوصاف لا يقبلها الإنسان على نفسه، فهذا الحرمان من الهداية وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بسبب جنايات العبد.
ولذلك على العبد دائمًا أن يُحاسب نفسه، وأن يتفحص في نياته ومقاصده وأعماله القلبية، وأعماله بالجوارح، وأن يتجرد غاية التجرد، فإن العبد قد يكون ظالمًا بسوء الظن، وهو عمل قلبي، وقد يكون ظالمًا بالدعاء، كما قال شيخ الإسلام: إن الإنسان قد يُظلم مظلمة، ولكنه يدعو على من ظلمه فوق هذه المظلمة -يعني بأعظم منها- والمظلمة لا تستحق هذا الدعاء، فيكون ظالمًا بالدعاء فالظلم أحيانًا بالدعاء، وأحيانًا يكون الظلم والتجاوز بالقول باللسان، فإن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم، والله يقول: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [سورةالنساء:148] فيُرخص له في ذلك على الأرجح من أقوال المفسرين، لكن بقدر المظلمة، يقول: فلان ظلمني، وليس ذلك مُبيحًا للاستطالة في عرضه، فيتوسع في هذا، فيكون ظالمًا في غيبته، والوقيعة فيه.
وكذلك أيضًا في حكم الإنسان على الناس، فلان ليس بشيء، وفلان كذا، وفلان كذا، فهذا من أعظم الجنيات والظلم.
إن حقيقة التدين -أيها الأحبة- هو صلاح هذا القلب أولاً، وقبل كل شيء؛ لأنه منشأ الأعمال والمقاصد والنيات والإيرادات، ثم بعد ذلك صلاح الأعمال، وصلاح هذا اللسان، وليس التدين هو مجرد صورة خالية وخاوية من الحقائق، فإن الله ذكر المنافقين حين ذكرهم، فقال: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لكن بلا حقائق، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ [سورةالمنافقون:4] فبواطنهم خاوية خالية من الإيمان، والتقوى، وذكر الله -تبارك وتعالى، ليست هذه القلوب معمورة بذكره، وطاعته، والإيمان به.
فيحتاج العبد دائمًا إلى ملاحظة هذا، وتفحص الباطن والظاهر، ويسأل ربه -تبارك وتعالى- الهداية دائمًا؛ ولذلك في كل ركعة يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورةالفاتحة:6] وذلك أن حاجة العبد إلى الهداية أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، فإنه إذا فقد الطعام والشراب يموت، ويصير إلى دار قد يكون إلى الجنة، ونعيم مقيم، لكنه حينما يفقد الهداية، فإن ذلك يعني التعاسة في الدنيا، والبرزخ، وفي المحشر، وفي المصير والمآل النهائي، فهذه هي نتيجة فقد الهداية، فيحتاج العبد دائمًا أن يقول: اللهم اهدني، اللهم اهدي قلبي، وسدد لساني، دائمًا يُراعي هذا، ويُلاحظه.
ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: أن الحق مهما ظهرت أنواره، واستبان واتضح بالحجج والبراهين الواضحة الساطعة إلا أنه يُوجد نفوس تأبى وتُكابر، فتُرد الحق؛ للكبر، ولكراهية الحق في نفسه، أو لغير ذلك من حسد ومنافسات غير شريفة، فيرد الحق، سواء كان يرد الحق بجملته، كالذين ردوا دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، أو يرد الحق المعين، في مسألة معينة، وجزئية معينة؛ كأن يكون يكره هذا الذي جاء به، أو كما قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني في كتابه "التنكيل" وهو من أجل كتبه على الإطلاق، وفيه جزء أُفرد وسُمي بـ"القائد إلى تصحيح العقائد" ذكر فيه مداخل الهوى الدقيقة، التي تخفى على كثير من الناس، فتكون سببًا لرد الحق، فذكر منها:
خشية التعيير والعيب، وألا يقال فيه: أنه ترك دين الآباء والأجداد، ومثّل لهذا بأبي طالب.
وقد يرد الحق حسدًا، كما رد اليهود دعوة النبي ﷺ، وكما رد بعض كبراء المشركين دعوة النبي ﷺ، والإيمان به حسدًا من عند أنفسهم.
وقد يكون ذلك على سبيل الكبر، يأنف أن ينقاد لهذا.
وقد يكون ذلك لسبب آخر: وهو أنه يأنف أن يُنسب إلى ضلال فيما مضى من العمر، فقد يكون قضى عمرًا مديدًا في الدعوة إلى هذا، أو يأنف من أن يُقال: إن قومه وأهله وعشيرته كانوا على ضلال، فيصر ويتمسك بالباطل.
وقد يكون ذلك لنظر آخر في نفسه، وهو أن يكون له في الباطل شهرة، أو معيشة، فإذا لزم الحق، وترك هذا الباطل ذهبت هذه الشهرة، وما معها من صنعة، أو حِذق، أو مهارة، أو نحو ذلك.
وقد يكون له معيشة، وقد تكون له أوقاف، ومكتسبات، وخُمس، ويملك مئات الملايين، أو المليارات، فإذا ترك الباطل، ولزم الحق، سيذهب كل هذا، وسيبحث عن عمل، وربما حارس مدرسة، لكن ما عند الله خير، أحد المغنيين كانت تأتيه الأموال من هذا الغناء، فلما تاب إلى الله بحث عن عمل فلم يجد إلا عملاً شريفًا، ولا عيب فيه، وهو حارس مدرسة بنات، وعمل فعلاً فيه، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورةالقصص:60].
والحياة قصيرة -أيها الأحبة- فالمهم أن يأكل الإنسان لقمة حلال، ولا يكون ظالمًا بأخذ المال من غير حِله، ولا يكون ظالمًا بإصراره على الباطل، وقد تبيّن له الحق، فيكون هذا الذي يرد الحق ظالمًا برده الحق، فكل من وضع الشيء في غير موضعه فقد ظلم.
وقائلة ظلمت لكم سقائي |
وهل يخفى على العكد الظليم؟ |
يعني: هذه المرأة تقول: ظلمت لكم سقائي، وضربت اللبن قبل أن يروب، وقبل أوانه، فهذا يضيع زُبده، فالعرب تقول: هذا ظلم سقاءه، بمعنى ضرب اللبن قبل أوانه، "وهل يخفى على العكد الظليم؟ " يعني: هل يخفى على عصب اللسان اللبن الذي ضُرب قبل أوانه؟
فهنا يبقى رد الحق موجودًا واقعًا لدى من ارتكس في الضلالة، وأبى الحق ورده، والله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورةيوسف:103] ويقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [سورةالأنعام:116] فما يتبعون الحق، فهؤلاء رأوا الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وسمعوا كلامهم.
والرسل اجتمعت فيهم أربعة دواعي للقبول، وهي: أنهم على علم وهدى من الله، يُبينون عنه بأحسن البيان والفصاحة، وغيرهم قد يكون عنده حق، لكنه لا يستطيع التعبير عنه، ولا يستطيع إيصال المعلومة إلى الآخرين، لكن هؤلاء الرسل في غاية الفصاحة والبيان، بالإضافة إلى الحرص، فهم يبذلون كل الجهد، فقد يكون الإنسان عنده فصاحة، لكنه مُقصر، لا يُبلغ دين الله ، بالإضافة إلى الإخلاص، وهذا من أعظم دواعي القبول، فوجدت هذه الدواعي الأربع عند الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ومع ذلك رد دعوتهم أكثر الناس.
فالعبد يحمد الله على الهداية، ويستمسك بها، ويحرص عليها، وإذا جاء الحق قبله من أي أحد، وهذا سليمان -عليه الصلاة والسلام- جاءه الهدهد، والهدهد حيوان، لا قيمة له، وقال له هذا الكلام البيّن الواضح: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [سورةالنمل:22] فلم يحمله ذلك على رد الحق، كون الذي جاء به طائر، وهكذا لم يكن عيبًا في الجواهر مهانة الغواص الذي استخرجها.
ويُؤخذ من قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ التحذير من الظلم، فالإنسان لا يُكابر في الحق، وإذا تبيّن له الحق قبله، وكذلك أيضًا يحذر من جميع أنواع الظلم، ومن أسوء صور الظلم: أن يظلم الإنسان من لا يستطيع دفع ظلمه، فهذه المرأة المسكينة، والزوجة الضعيفة، أو هؤلاء الأولاد، أو التلاميذ الذين يتحيرون فيه، وفي عاهاته، يهددهم بالاختبارات، والأسئلة، والإخفاق، فهذا لا يليق بحال من الأحوال.
وكما قيل -أيها الأحبة: الزوج الفاشل هو الذي يُهدد بالطلاق؛ التي هي آخر ورقة عنده، والمفروض أنه لا يستعمل هذه الورقة إلا قصدًا، وبإرادة تامة، حين يتعذر الاستمرار مع هذه الزوجة، أما أن يستخدم ذلك في سبيل الإخضاع للتهديد: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق، وإن ذهبتِ إلى أمكِ فأنتِ طالق، وإن خرجتِ إلى فلانة فأنتِ طالق، فهذا هو الزوج الفاشل الذي لم يستطع أن يُدير حياته الزوجية، وليس عنده إلا ورقة واحدة، وهي الطلاق، وعلى كثرة من يفعلون ذلك إلا أن السؤال المُتكرر هو: أني قلت لها هذا فخرجت، وهي تقول: قال لي هذا فخرجت، فهل عليه كفارة يمين، أو يقع الطلاق؟ يدل على أن السيطرة حتى في هذا قد ذهبت.
والمعلم الفاشل هو الذي لم يستطع إدارة هؤلاء الطلاب إدارة صحيحة، فهو يهددهم بالاختبارات، وهي آخر ورقة عنده، فلا يليق بذوي العقول والألباب أن يقعوا بمثل هذا.
فكل من حدثته نفسه بالظلم، فينبغي أن يتذكر هذا المعنى، فالظلم هو أول ما يقع في مغبته؛ ولهذا قال الله لما ذكر الأشهر الحُرم: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [سورةالتوبة:36] فُسر بقولين مشهورين لأهل العلم:
القول الأول: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بالمعاصي، فالمعاصي هي ظلم، ومحرمة في كل وقت، لكنها تعظُم بحسب متعلقها من الزمان، أو المكان، أو الحال.
والمعنى الآخر: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ فلا تظلموا غيركم، ونزل النفوس منزلة النفس الواحدة، مثل فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ لا تظلم إخوانك لا في الأشهر الحُرم، ولا في غيرها، لكن ظلم الناس في الأشهر الحُرم أعظم وأشد، فالذي يظلم الناس الواقع أنه يظلم نفسه؛ ولهذا قال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
وفي قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُؤخذ منه: الرد على القدرية؛ لأنهم يقولون: الإنسان هو الذي يهتدي بنفسه، أو يضل، بعيدًا عن إرادة الله، والواقع أن الإنسان له إرادة ومشيئة، لكنها تبع لإرادة الله ومشيئته، فقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وكان ذلك عدلاً منه -تبارك وتعالى، كما قال: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورةالصف:5].
وفي قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: لا يهدي هؤلاء الذين عرضوا أنفسهم لسخطه -تبارك وتعالى- بسبب إعراضهم عن قبول الهداية، سواء كان ذلك في المحاجة والإيمان، كما في هذه الآية، أو كان ذلك بسبب الانصراف عن صراط الله المستقيم.
وأكد الخبر هنا بالجملة الاسمية، فقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وأعاد لفظ الجلالة مُظهرًا وَاللَّهُ ولم يقل: وهو لا يهدي القوم الظالمين، وإنما قال: وَاللَّهُ لتربية المهابة في النفوس، ودخول (أل) على الظالمين يُشعر بأن هؤلاء قد استحقوا الوصف الكامل من الظلم.