الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ ۗ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257] يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر، والشك، والريب؛ إلى نور الحق الواضح، الجلي المبين، السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات، والضلالات، ويخرجونهم، ويحيدونهم عن طريق الحق إلى الكفر، والإفك أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257]، ولهذا وحد تعالى لفظ النور، وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة كما قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام:153]، وقال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1]، وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ [سورة النحل:48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل، وتفرقه، وتشعبه".
ليست الآية على ظاهرها كما يتوهم البعض، فقوله سبحانه في الفريق الأول: يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [سورة البقرة:257] ليس المراد أنهم كانوا في الظلمات، وكذا قوله في حق الكافرين: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257] أنهم كانوا في النور، بل المراد كما نص عليه أهل التفسير أنه من كان على إيمان ثم خرج منه إلى الكفر مثل من كان على الإسلام ثم ارتد، أو كان على النصرانية التي جاء بها عيسى قبل مبعث النبي ﷺ ثم صار مُثلثاًً، أو كان على التوحيد الذي جاء به عيسى ﷺ فلما بعث محمد - عليه الصلاة والسلام - بقي على نصرانيته ولم يؤمن برسول الله ﷺ فكَفر، فهؤلاء لا شك أن الشيطان أخرجهم من نور الهداية التي كانوا فيها إلى الظلمات، وهذا المعنى مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الل ه-، وهذه كقوله - تبارك وتعالى - في أول سورة البقرة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَىِ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [سورة البقرة:175] ومعلوم أنهم لم يكونوا على الهدى حتى يستعيضوا به الضلالة، ولم يملكوا المغفرة حتى يستبدلوا عنها العذاب، بل إنهم لما اختاروا الكفر، والضلالة على الإسلام صح إطلاق ذلك عليهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16].
إذاً فمعنى قوله سبحانه: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257] أي يخرجونهم من نور الفطرة، ويصرفونهم عن دلائل الحق، وبيناته، وبراهين الإسلام التي بعث بها رسله - عليهم الصلاة والسلام -، إلى ظلمات الكفر، والشُّبه، والحيرة، والضلال بجميع أنواعه.
وقوله سبحانه: يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ المراد أنه يخرجهم من ظلمات الكفر، والشُّبه؛ إلى نور الإسلام، وبيناته، وهداياته، سواء كان الإنسان عادماً لأصل ذلك، فلم يكن على الإسلام فهداه الله إليه، أو كان مسلماً؛ فإن الله ينقله من هداية إلى هداية، ويبيّن له من براهين الحق ما يدفع عنه الشُّبه المضلة كما قال - تبارك وتعالى - في سورة أخرى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة الأحزاب:43] المراد أنه ينقلهم من هداية إلى هداية، ولهذا أُمر المسلمون بأن يقولوا في كل ركعة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] والمعنى ثبّتنا، وسددنا، والصراط متشعب، وتفاصيله كثيرة جداً، لذا يحتاج الإنسان أن يعرف الحق، وبعده يحتاج الهداية إلي العمل، ثم يعرف وجوه المفاضلة بين الأعمال فيهدى، ويسدد ليختار الأفضل، ويوفق إليه، وتبقى له أخيراً الوسيلة في الثبات علي الطريق حتى الممات، فالإنسان بحاجة ملحة إلى وسائل الهداية ما دام أن تفاصيل الشريعة كثيرة، والخلاف بين أفراد الأمة على أوجه وأوسع أبوابه.

مرات الإستماع: 0

"يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قوله: أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة:257] جُمع الطاغوت هنا، وأفرد في غير هذا الموضع، فكأنه اسم جنسٍ لما عُبِدَ من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين، وبني آدم".

أَوْلِيَاؤُهُمُ أصل هذا المادة (الولاية) يدل على القرب، سواء من حيث المكان، أو النسبة، أو الدين، أو الصداقة، أو النُصرة، أو الاعتقاد، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة:257].

والطَّاغُوتُ فعلوت، من طغى يطغوا، إذا جاوز الحد، وبعضهم يقول: هو اسم الجنس، وبعضهم يقول: هو مصدر يوصف به الواحد، والجمع.

يقول: "فكأنه اسم جنس لما عُبِدَ من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين، وبني آدم" فيدخل فيه الأصنام، وكل متعدٍّ طوره، وحده، وقدره، وأصل الطغيان: تجاوز الحد؛ ولهذا فُسِّر بمعانٍ لا تتناقض، مثل: كائن، وقيل: ساحر، وقيل: كل من يُعبد من دون الله، فهو كل ذي طُغيان، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[1].

وهذه الآية: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يقول ابن جرير: بأنها نزلت فيمن كفر من النصارى[2] ومن آمن من الكفار اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ يعني: ظلمات الكفر، والجهل إلى نور الإيمان، والعلم.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ باعتبار أن النور هو نور الإيمان، فكانوا على الإيمان، فقال: من كفر من النصارى بهذا الاعتبار، ويمكن أن يُقال: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ يعني: نور الفطرة وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم[3] كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه[4] يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ بهذا الاعتبار، ومن ثمَّ فلا حاجة لتخصيصه بمن كفر من النصارى.

ولو أردنا أن نوجه قول ابن جرير - رحمه الله - السابق، بأن محمل وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ حملها على النصارى الذين كفروا، فباعتبار ما ذكرت من أنه يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ كانوا على الإيمان، فأخرجوهم إلى الكفر، هذا من النور إلى الظلمات، باعتبار أن الأول اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ كانوا في ظلمة، إذًا كانوا في كفر، فهذا في الكفار الذين أسلموا، ويقابله: إخراج هؤلاء من النور إلى الظلمات، أنهم كانوا على الإيمان فكفروا، يعني باعتبار أنها ليس المقصود الفطرة؛ لأنه قال في الأول: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فكانوا في ظلمات، فلو كان المقصود الفطرة، فالفطرة سابقة لهذه الظلمات، فكان المقصود ما بعد الفطرة من الإيمان، يخرجهم من الكفر، والجهل إلى نور الإيمان، والعلم، وهذا يُمكن أن يُوجه به قول ابن جرير، لكن المتبادر: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ من النور، والفطرة، والعلم، والهدى - إن كانوا على هدى - إلى الظلمات.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/558).
  2.  المصدر السابق (4/565).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، وأهل النار برقم: (2865).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم: (1385)، ومسلم في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم: (2658)، واللفظ للبخاري.

مرات الإستماع: 0

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257].

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، يتولاهم بنصره فهو وليهم هو ناصرهم، وهو الذي يكلأهم ويرعاهم ويحفظهم.

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، من ظلمات الجهل إلى نور العلم.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، الطاغوت الشيطان وكل ما عُبد من دون الله -تبارك وتعالى- وهو راضٍ فهو طاغوت، هؤلاء يُخرجونهم من النور إلى الظلمات، من نور الإيمان من نور الفِطرة إلى ظلمات الكفر.

أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، الملازمون لها؛ لأن الصحبة تقتضي ذلك، باقون فيها البقاء السرمدي لا يخرجون منها أبدا، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

فهنا في هذه الآية الكريمة: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، الله ناصرهم ومعينهم، بعضهم يقول: متولي أمورهم، مُحبهم؛ لأن الولاية تأتي بمعنى المحبة، لا يكلهم إلى غيره، كما قال الحسن: "وليّ هدايتهم"[1]، كل هذه المعاني صحيحة، فكل معاني الولاية متحققة في ذلك من محبته ونصرته ومعونته وتأييده.

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، يرد هنا سؤال معروف في هذا الشِق والشِق الذي بعده في فعل الطواغيت بأوليائهم، وهو يُخرجهم من الظلمات، هذا بالنسبة للكافر فإن الله يخرجه من الظلمات ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، لكن من كان على الإيمان ولد على الإيمان يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ من ظلمات الجهل، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [سورة النحل:78]، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء:113]، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [سورة الضحى:7]، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [سورة الشورى:52]، وهكذا مثل الله حال الإنسان في بعده عن الإيمان بالميت، وفي امتلاء قلبه بالإيمان بالحياة (فأحييناه).

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ نور الإيمان، نور الطاعة، نور الهدى، نور العلم، فهم في أنوار، وقد مثل الله -تبارك وتعالى- هذا النور كما في آية النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ، أي: مثل هداه، على قول الجمهور من المفسرين، مثل نوره: هداه في قلب المؤمن، كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [سورة النور:35]، وذكر هذه الأنوار المضاعفة التي هي نور الفطرة، ونور العلم، ونور الطاعة، ونور الإيمان، إلى غير ذلك من الأنوار، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ وفي القراءة الأخرى (دُريء) بالهمز، يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ حتى الشجرة وصفها أنها في الوسط يصيبها الشمس من هنا وهنا، في أول النهار وفي وسط النهار وفي آخر النهار فتتلألأ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ [سورة النور:35]، فهذا بالنسبة للسراج نور الزيت، ونور المصباح، ونور هذه الزجاجة التي كأنها كوكب دُري، ونور على القول بأن المشكاة هي الكوة نافذة من خمس جهات لا تنفذ إلى الخارج فتنعكس الأنوار فيكون ذلك أقوى في الإضاءة، هذه أنوار متتابعة يقوى معها هذا النور.

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257]، إذا كان مؤمنًا فارتد فهذا واضح يخرجونهم من النور إلى الظلمات، لكن إن كان كافرًا فهم يخرجونهم من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257].

فهكذا يكون حال الإنسان إذا اهتدى فهو في نور بعد أن كان في ظلمة، ولو وجهنا هذا السؤال لمن أسلموا ولا زالوا يستشعرون لذة الإيمان وحلاوة الدخول في الإسلام لصور لك ذلك تصويرًا دقيقًا، كيف كان في ظلام ثم بعد ذلك تحول إلى نور، هذا النور كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: يملأ القلب[2]، فإذا امتلئ به القلب وأشرق أشرق الوجه، فإذا قوي هذا النور ظهر أثر ذلك على اللسان والجوارح، فلا يصدر عنه إلا كل عمل طيب، ثم هذا النور يكون له في قبره ويستنير، ويكون له في محشره وعلى الصراط، وهكذا يكون نوره تامًا يوم القيامة، فهذا هدى الله -تبارك وتعالى، هو نور، وهذا القرآن نور: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [سورة الشورى:52].

هذا الكتاب نور، فإذا كان العبد متبعًا لهذه الأنوار، مقاربًا لها ملابسًا لها فإن ذلك يكون سببًا لامتلاء قلبه بالأنوار ويكون عقله مستنيرًا، هذا النور الحقيقي، ما عداه فهي الظلمات والجهالات، ولذلك يُبعد ويُخطأ غاية الخطأ من يعتقد أن الاستقامة على أمر الله أنها ظلمات، يقول هؤلاء ظلاميون، ظلاميون! نور الله صار بهذه المثابة ظلام، وصار المتبع له يُنسب إلى الظلام فيُقال: ظلامي، الله -تبارك وتعالى- يقول: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [سورة الأنعام:122].

وفي سورة النور عندما ذكر المثل الآخر لأهل الظلمات الحقيقية قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ لُجة البحر وسط البحر، المكان العميق، في بحر لُجي، هذا البحر اللُجي، يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور:39، 40]، لاحظ ظلمات، بحر لُجي يغشاه موج، يعني: ظلمة البحر، البحر إذا كان الإنسان في العمق فهو في ظلمة لذلك تجد الغواصين يحملون معهم نورًا أو كشافًا يستضيئون به، فكيف إذا كان من فوقه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات، فهذه ظلمة النفس نفس الكافر، وظلمة الكفر والشرك، وظلمة العمل الأسود، العمل بمعصية الله ومحادته ومحادة رسله -عليهم الصلاة والسلام، وظلمة الطبع هذه كلها ظلمات، بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.

فالإنسان له من النور بقدر ما له من الاهتداء واتباع منهج الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وله من هذه الظلمات بحسب بعده عن شمس النبوة هذا هو الميزان والمعيار الحقيقي بعيدًا عن الأقاويل التي لا تُبنى على أصل صحيح يمكن أن يُعتبر، هذا هو الظلام وذاك هو الظلامي، وهذا هو النور وهؤلاء هم المتنورون حقيقة هم أهل الإيمان تستنير عقولهم، تستنير قلوبهم، تستنير وجوههم، تستنير جوارحهم، وذاك صاحب الظلام إذا رأيت وجهه قلت: اللهم إني أعوذ بك من الخُبَث، وفي رواية: الخُبث والخبائث، وجه مظلم ظلمة الكفر، ظلمة الشرك، ظلمة الكبائر، ظلمة النفاق، ظلمة العتو على الله -تبارك وتعالى، ترى ذلك في وجهه.

فهنا الله -تبارك وتعالى- جعل ذلك الإيمان نورًا، فهو نور بطبيعته وحقيقته، وهنا أفرده، وفي الظلمات في الكفر: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ جمعها الظلمات، والنور واحد؛ لأن صراط الله واحد وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [سورة الأنعام:153]، الطريق إلى الله واحد لا يتعدد، وليس على عدد أنفاس الخلائق كما يقول بعض المنحرفين، الطريق إلى الله واحد هو باتباع هذا القرآن، وما يشرحه من الحكمة من سنة رسول الله ﷺ على فهم السلف الصالح فقط، لا يوجد غير هذا، وكل من بحث عن هذا النور في نظريات وفي فلسفيات، وفي أفكار يستوردها من الشرق، أو من الغرب فلن يصل إلى هذا النور.

ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الفلاسفة وأثنى على علومهم من الطبيعيات[3]، والتجريبيات مثل: الطب والرياضيات والجبر ونحو ذلك فذكر أن علومهم في هذا نافعة وجيدة، لكن في قسم الإلهيات، الفلاسفة علومهم متنوعة في جانب الإلهيات قال: "هم أضل الناس"[4]، أضل من المشركين؛ لأن المشركين عندهم بقايا من دين إبراهيم هؤلاء ليس عندهم شيء من ذلك، حاولوا أن يصلوا بعقولهم فجاءوا بالعجائب وذكروا أن الكون هذا يُديره عشرة عقول، هذا كلام الفلاسفة، وأن العقل الفعّال هو جبريل ، ويتكلمون بكلام في غاية البطلان لا يقوله أهل الإشراك.

المشركون يعلمون أن الله هو الخالق البارئ المصور المُدبر لكن يجعلون له أندادًا يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر:3]، وسائط تُقرب، أما أولئك لا يعرفون الله -تبارك وتعالى، فالحق واحد لا يتعدد، والباطل يتعدد؛ كما قال النبي ﷺ: هذا صراط الله، وخط خطًا مستقيمًا، وخط خطوطًا بجانبه، قال: وهذه السُبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه، كل شيطان من هؤلاء يقول: إليّ إليّ، بأسماء مختلفة، تقرأ في حدث في بلد صغير من بلاد المسلمين وتُفاجأ في مقالة واحدة الأحزاب المتنافسة على السلطة في فقط مقال واحد ما يقرب من 18حزبًا كلها ضلالة، الحزب الاشتراكي الشيوعي، الحزب الاشتراكي الكذا، الحزب الاشتراكي يُنسب للبلد، الحزب الاشتراكي الكذا، الحزب الشيوعي الكذا، كلها بهذه الطريقة 18 حزبًا، هذه السُبل، على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه[5]، قال النبي ﷺ: دعاة على أبواب جنهم من أجابهم إليها قذفوه فيها[6]، بأي اسم كان.

وكذلك أيضًا يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257]، طريق الحق الإيمان نور معالمه واضحة ما فيه خفاء، لا يوجد ألغاز، لا يوجد عقائد غير مفهومة، لا يوجد لا تسأل، تجد العقائد الأخرى النصارى ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة هم لا يفهمونها، مُعضلة هذه العقيدة رقم واحد الأساسية عندهم هم في غاية الاضطراب فيها، لا يستطيعون تفسيرها، الإسلام ولله الحمد دين الفطرة لا يوجد فيه شيء من ذلك البتة، لا يلتبس على أحد، ولهذا قال قبله لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [سورة البقرة:256]، لكن تبقى بعض النفوس تأبى إلا اتباع الشيطان فهؤلاء يخرجونهم من النور إلى الظلمات، والنبي ﷺ يقول: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه[7].

ولذلك لما ذكر الله ما يكون لكلٍ ضِعْف ما يكون للأتباع أيضًا من الضِعف، قال بعض العلماء: لأنهم لا يخلو الواحد منهم من إضلال، يُضل ولده، فأبواه يهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه، وهذا يدل على عظمة فضل الله على عباده المؤمنين حيث هداهم ووفقهم ويُخرجهم من الظلمات إلى النور، الكفر، المعاصي، الجهل إلى نور الإيمان والطاعة، والعلم، فسلمهم بعد ذلك من ظلمة الصدر وظلمة القبر وظلمة الحشر، ثم يصيرون إلى دار النعيم المقيم في الجنة، هذا كله من فضل الله عليهم، ولهذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"[8]، الجنة في الدنيا الطاعة، مناجاة الله ، تحتاج هذه القلوب إلى شيء من التفريغ من هذا، ولهذا كان بعض السلف يفرح إذا جاء الظلام يفرح بالليل سيدخل في عالم من المناجاة والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى، يفرح بالظلام.

والآخر يقول: "إني لأدخل في الليل فيهولني فينقضي وما قضيت منه أربي"[9]، وإذا ابتعد الإنسان صار يستوحش من كل شيء، وصار يضيق صدره وهو بين أنواع اللذات والمُتع، ومع ذلك يجد في صدره من الضيق والحرج ما لا يُقادر قدره، بينما الكفر ظلمة طريقه مُلتبس، وهكذا يزيد الله أهل الاهتداء أهل الإيمان يزيدهم هدى.

فقال: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ عبر بالمضارع فهذا مستمر، ما قال: أخرجهم من الظلمات ٍإلى النور يُخْرِجُهُمْ فهذا إخراج مستمر يتكرر، فينقلهم من هداية إلى هداية: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ يصلي عبر بالمضارع، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة الأحزاب:43]، فينقلنا من هداية إلى هداية، يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [سورة يونس:9]، وهذه الهدايات في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند السؤال سؤال الملكين، وعند الحساب، وإلى الصراط، وعلى الصراط، وإلى باب الجنة، وإلى منزله في الجنة، ولهذا قال: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ۝ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [سورة محمد:4-6]، سيهديهم، قتلوا، قال: سيهديهم، يهديهم إلى ماذا بعد ما قتلوا؟ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:5]، يهديهم في هدايات بعد الموت لابد للعبد منها.

وهكذا هذه الأنوار وهكذا تلك الظلمات فهي تزداد بكل مقارفة ومعصية وإشراك تزداد هذه الظلمة، ويزداد صدره ظلمة، ويزداد طريقه ظلمة، وتعمى بصيرته، ويُطبع على قلبه، ويكون قبره مظلمًا، ويكون أيضًا في الآخرة كذلك، يمشي في ظلمة، والنار أمامه سوداء مظلمة. 

  1. تفسير البغوي (1/ 315).
  2. انظر: بدائع الفوائد (2/ 219).
  3. انظر: مجموع الفتاوى (12/ 154).
  4. انظر: الرد على المنطقيين (ص: 307)، ودرء تعارض العقل والنقل (10/ 203).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (4142)، وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، والحاكم في المستدرك، برقم (2938)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
  6. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3606)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر، برقم (1847).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، برقم (1359)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2658).
  8. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 452)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 153).
  9. انظر: الطبقات الكبرى (ص: 198)، وتاريخ الإسلام ت تدمري (8/ 185)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (7/ 319)، والخشوع في الصلاة، ابن رجب (ص: 27).