الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:256]، يقول تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكرَه أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته؛ دخل فيه على بيِّنة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقصوراً".
كلام الحافظ ابن كثير في معنى الآية يعتبر من أحسن ما قيل في تفسيرها، ومن أهل العلم من استشكله، وعقدة الإشكال نابعة من مسألة فرضية الجهاد، وأن الكفار من غير أهل الكتاب كالمجوس، والوثنيين؛ مخاطبون بالإسلام أو السيف، ولا تقبل منهم الجزية على قول كثير من أهل العلم، وهذا يتنافي مع مسألة لا إكراه في الدين، وحقيقة هذا المحك هو الذي جعل أقوال أهل العلم تتباين في الكلام على الآية.
فقال بعضهم: إن هذه الآية كانت في أول الأمر على البراءة الأصلية، ثم نسخت بآيات الجهاد بمثل قوله: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [سورة الفتح:16]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً [سورة التوبة:123] وقالوا: إن الله لم يجعل إلا أحد الخيارين: إما القتال، أو الإسلام، لكن القاعدة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فليس مجرد توهم المقابلة بين النصوص يكون مسوغاً لدعوى النسخ؛ لأن النسخ شديد، وذلك أنه يقتضي إهدار أحد الدليلين، أو الحكم برفع أحد النصين، والعلماء متفقون على أن الجمع مطلوب ما أمكن.
وبعض أهل العلم حاول أن يجمع بين الأمرين، وهذا هو الأوفق، فمنهم من قال: هذه الآية ظاهرها العموم لأنه قال: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، والإكراه هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فهذا عام لكنه يراد به الخصوص، فتبقى الآية من العام المراد به الخصوص، وجعلوها منزّلة على من له خيار ثالث وهو الجزية فهي تؤخذ من أهل الكتاب، ومن المجوس، إذ يسن بهم سنة أهل الكتاب، وبهذا الاعتبار فالآية محكمة وليست بمنسوخة، وأما العرب فلم يدخلوا فيها؛ لأن لفظها عام، ويراد بها معنى خاص وهم: أهل الكتاب.
وقال بعضهم: المراد من الآية السبي من أهل الكتاب لا تكرهوهم على اعتناق الإسلام، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
ومن أهل العلم من قال: إن هذه الآية عامة خصصتها الأدلة الأخرى، والعام يحمل على الخاص، ولا تعارض بين العام والخاص.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية باقية على عمومها، وهو مضمون كلام ابن كثير، واختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، وجماعة من المحققين، وهو المتبادر، وذلك أن الله لم يأمر بإكراه أحد على الدخول في الدين، ولم ينقل عن النبي ﷺ في حالة واحدة في جهاده وحروبه - عليه الصلاة والسلام - أنه أكره أحداً على الدخول في دين الله ، والشواهد كثيرة من صنيع النبي ﷺ وأصحابه في المغازي وغيرها.
ولذلك لما قدم النبي ﷺ المدينة وكان فيها بعض المشركين من اليهود وغيرهم صالحهم، ومن جملة من صالحهم أيضاً العرب بما فيهم أهل مكة وهو في المدينة، واستمر بينه وبينهم العهد حقبة من الزمن؛ حتى نقضوا ما أبرموه وعاهدوا الله عليه، مما اضطر النبي ﷺ إلى قتالهم لتفتح مكة بعدها عنوة، وتصبح في حوزة المسلمين، وبعد فتح مكة لم يجبر أحداً على الدخول في الدين - وكان هذا بمقدوره -، حتى إنه لما قاتل بعدها في حنين خرج بعضهم معه للقتال ولم يسلم بعد، وإنما خرجوا حمية، أو ليروا نتيجة المعركة والغلبة لمن؟ ولذلك اختلفوا في بعض من خرج، وكان له في الكفر شأن كصفوان بن أمية هل أسلم حينها أم لا؟، فالحاصل أنه ﷺ لم يكن ليكره أحداً بعينه سواء من أهل مكة أو غيرهم على الدخول في الإسلام إطلاقاً.
وأما من استشكل مشروعية الجهاد بقوة السيف، وتوهم معارضته في الظاهر للآية؛ فليس له فيه أدنى متلمس من حجة، ذلك أن الجهاد إنما شرع لصد عادية الكفار، وأيضاً لإبلاغ دين الله بقمع الكفار، وكسر شوكتهم؛ حتى يبلغ دين الله الآفاق، فلا يحال بين الناس وبين الحق، فيبقى شرع الله  مبثوثاً حاكماً في أرضه، أما الأفراد فلا يكره أحد منهم على ذلك، فالآية باقية على عمومها، ولذلك عمر كما أخرج البخاري في صحيحه مر بعجوز نصرانية فقال لها: أسلمي تسلمي، فأبت، فقرأ هذه الآية: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وقال لزنبق وهو غلام لعمر نصراني، قال له: أسلم كي أستعملك في شيء من أمانة المسلمين، فأبى، فقرأ عمر: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، والله أعلم.
"وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاماً.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: روى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: كانت المرأة تكون مقلاة، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله : لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [سورة البقرة:256][1] وقد رواه أبو داود والنسائي".

فهذه الرواية التي نسبت لابن جرير صحيحة صريحة في سبب نزول قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وهي وإن نزلت لبيان واقع معين؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسبب النزول كما هو معلوم يوضح المعنى، ويرتفع به الإشكال، فتبقى هذه الآية على ظاهرها، وعمومها، فلا يُكرَه أحد على الدخول في الدين امتثالاًً لأمر المشرع العظيم ، ولأنه لم يعهد عن النبي ﷺ في غزواته، وحياته؛ عمل شيء من ذلك، والله أعلم.
"فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس : أن رسول الله ﷺ قال لرجل: أسلم قال: إني أجدني كارهاً، قال: وإن كنت كارهاً[2]، فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي ﷺ على الإسلام؛ بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له: أسلم، وإن كنت كارهاً، فإن الله سيرزقكم حسن الني، والإخلاص".
المراد بالحديث الثلاثي الصحيح: هو الذي يكون بين المصنف وبين النبي ﷺ ثلاثة رواة - الصحابي، والتابعي، وتابع التابعي من أهل القرون المفضلة -، وهذه الأحاديث مشهورة بثلاثية الإسناد أو ثلاثية مسند أحمد.
وقد ساق ابن كثير هذا الحديث ليؤكد أنه ليس حجة لأحد في تقرير جواز الإكراه على الدين، مستنداً في دعواه ومشروعيته على ذلك بحديث أنس؛ لأنه ليس من هذا الباب كما بيَّنه، ثم هناك فرق بين أن تكون الكراهية منبعثة من نفس الإنسان على أمر دون أن يكره عليه، وبين إرغامه وإلزامه بأمر على سبيل الإكراه، وهذا ما يفهم خلافه من الحديث.
"وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:256]".
هذه الآية فيها تمثيل لأمر معنوي بصورة أمر حسي، فقد مثل الله الذي اعتصم بهدى الإيمان كمن تعلق وتمسك بعروة شيء وثيقةٍ لا تنكسر، يجني من وراء تمسكه بها مقصوده من النجاة، فيحظى ببلوغ المطلوب، وينجو من أليم المرهوب، فهذا تصوير للمعنويات بأمر حسي غاية في البلاغة، والأسلوب، والله تعالى أعلم.
"أي من خلع الأنداد، والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله، فعبده وحده، وشهد أنه لا إله إلا هو فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [سورة البقرة:256]: أي فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريق المثلى، والصراط المستقيم".
هذه العبارة القصيرة على اختصارها جمعت كثيراً مما قاله السلف .
ومعنى الطاغوت: فعلوت من طغى يطغى ويطغو أي جاوز الحد، فهو اسم جنس لكل ما يعبد من دون الله ، وبعضهم يقول: إنه مصدر يطلق على الواحد، وعلى الجمع، وعبارات السلف فيه كثيرة.
"روى أبو قاسم البغوي عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر : "إن الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف، ويفر الجبان من أمه، وإنّ كرم الرجل: دينه، وحسبه: خلقه، وإن كان فارسياً، أو نبطياً".
ومعنى قوله في الطاغوت: "إنه الشيطان" قوي جداً، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها".

وبعضهم يقول الطاغوت: الكاهن، وبعضهم يقول: الساحر، وبعضهم يقول: ما عبد من دون الله وهو راض بطبيعة الحال، والحقيقة أن الطاغوت يحتمل جميع ما ذكر، فكل من جاوز حده وطغى فهو طاغوت، فذو الطغيان الذي جاوز حده يقال له: طاغوت، والله أعلم.
"وقوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا [سورة البقرة:256] أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب".
وهو الحبل الوثيق المحكم.
والوثقى: يمكن أن تكون من الوثاقة وهو تصوير يقرب المعنى بصورة محسوسة، ففيه تشبيه، والمعنى أن من أراد الخلاص لنفسه فإنه يتمسك بشيء وثيق يعتصم به، وهذا الذي يؤمن بالله ، ويخلع الأنداد، والأضداد، ويكفر بجميع أنواع الطواغيت الكبار والصغار، الأحياء والأموات، قد أخذ من النجاة المحققة بأوثق سبب، وقد سلك طريق الخلاص، فلا يلحقه هلكة، ولا مكروه.
"لاَ انفِصَامَ لَهَا فهي في نفسها محكمة، مبرمة، قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".
يقول معاذ بن جبل : لاَ انفِصَامَ لَهَا أي لا انقطاع لها دون دخول الجنة، وهذا تفسير قريب من جهة المعنى.
والانفصام في اللغة: أي الانكسار من غير إبانة، ومع الإبانة يقال له: قصم، قال الشاعر:
إن الألى يسكن غور تهامة فكل كَعاب تترك الحجل أفصما
أفصما: يعني منكسراً، تكسر الحجل لضخامة ساقها، وفي بعض روايات البيت: تترك الحجل أقصما: أي منكسراً مع الإبانة، فيكون المعنى لاَ انفِصَامَ لَهَا يعني لا انكسار لها، فما دام قد اعتصم بطاعة الله فهو كالمتمسك بالوثيق من الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها؛ هذا معنى كلام ابن كثير، وذكره ابن جرير، وعليه عامة المحققين، وكلام السلف يدور حول هذا المعنى، إلا أنهم يعبرون عنه بعبارات قريبة لكنها تدور في فلكه. والله أعلم.
"قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام".
هذا يسمى في التفسير خلاف التنوع.
"وروى الإمام أحمد عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله، فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا: كذا وكذا، قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله ﷺ، فقصصتها عليه، رأيت كأني في روضة خضراء، قال ابن عون: فذكر من خضرتها، وسعتها، وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا استطيع، فجاءني منصف، قال ابن عون: هو الوصيف، فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فأتيت رسول الله ﷺ فقصصتها عليه فقال: أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت، قال: وهو عبد الله بن سلام وأرضاه[3]، أخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر".
  1. رواه أبو داود برقم (2684) (3/11)، ورواه النسائي في سننه الكبرى برقم (11049) (6/304)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2682).
  2. رواه أحمد في مسنده برقم (12891) (3/181)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عبد الله بن سلام برقم (3602) (3/1387)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن سلام برقم (2484) (4/1930)، وهذه الرواية بلفظ أحمد رواها في مسنده برقم (23838) (5/452)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

مرات الإستماع: 0

"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح، وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه، بل يدخل فيه كل ذي عقلٍ سليمِ من تلقاء نفسه، دون إكراه، ويدل على ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] أي: قد تبين أن الإسلام رشد، وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه، وقيل: معناه الموادعة، وألا يُكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام، ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف؛ لأنها مدنية، وإنما آية المسالمة، وترك القتال بمكة (وفي بعض النسخ: آيات المسالمة)".

عندنا "وإنما آية المسالمة، وترك القتال بمكة".

هنا في قوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] قال: المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح، وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه، بل يدخل فيه كل ذي عقلٍ سليم من تلقاء نفسه، دون إكراه" وسبب نزول هذه الآية: ما جاء عن ابن عباس - ا - كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاةً، يعني: قليلة الولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده[1] - هذا في الجاهلية، فلما أُجليت النضير، وتعرفون أن قريظة قُتلوا، والنضير أجلوا، كان فيهم أبناء الأنصار، يعني الذين نذرت أمهاتهم أن يهودوهم، صاروا يهودًا، فلما أُجلي النضير كانوا في جملتهم، فقالوا: لا ندع أبنائنا، فأنزل الله: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ فيكون هذا سبب النزول، فأرادوا أن يحملوا أولادهم على ترك اليهودية، والدخول في الإسلام، ولا يذهبوا مع هؤلاء اليهود الذين تفرقوا بين خيبر، وأذرعات في أطراف الشام، وبُصرى، ونحو ذلك.

قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ الرشد: هو الحق خلاف الغي، والغي: خلاف الرشد، والانهماك في الباطل، والضلال، والجهل بأمر الله - تبارك، وتعالى - من الاعتقاد الفاسد، ونحو ذلك.

يقول: "أي: قد تبين أن الإسلام رشد، وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه" لا يحتاج إلى إكراه، وفي الحديث: عن أسلم: أن عمر قال لعجوزٍ نصرانية: أسلمي تسلمي، فأبت فقال: اللهم فاشهد، ثم تلا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256][2].

وعن وسق، قال: كنت مملوكًا لعمر بن الخطاب وكنت نصرانيًا، فكان يقول لي: "يا وسق، أسلم، فإنك لو أسلمت لوليتك بعض أعمال المسلمين، فإنه لا يصلح أن يلي أمرهم من ليس على دينهم" فأبيت عليه، فقال لي: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] فلما مات عمر أعتقني[3].

فالإسلام حينما شرَّع لأتباعه الجهاد في سبيل الله لم يكن ذلك بمعنى إكراه الناس على الدخول في الإسلام، ولهذا ما كان المسلمون يلزمون أحدًا بالدخول في الدين، فدلائل الحق ظاهرة واضحة، إنما شُرِع الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الإسلام مهيمنًا على سائر الأديان، وتُزال جميع العقبات التي تحول دون وصوله إلى الناس، ثم بعد ذلك يبقى الناس غير مُلزمين بالدخول في الإسلام، فإذا دفعوا الجزية أمِنوا على أموالهم، ودمائهم.

يقول: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] "قد تبين أن الإسلام رشد، وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه" لا حاجة إلى الإكراه، "وقيل: معناها الموادعة، وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام، ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف؛ لأنها مدنية، وإنما آية المسالمة، وترك القتال بمكة" حتى آيات القتال ليس فيها حمل أحد على الدخول في الإسلام، فبعضهم يقول منسوخة بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73] وبقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] وبقوله: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16] لكن هذا فيه ضعف، والنسخ لا يثبت بالاحتمال؛ ولهذا قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله: بأنها مُحكمة[4] وذكر أنها خاصة بأهل الكتاب إذا أدوا الجزية، هذا باعتبار أن الجزية لا تؤخذ من غير أهل الكتاب من العرب مثلًا، أو من المشركين، أو من طوائف المشركين، وأخذها النبي ﷺ من المجوس.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - تكلم على هذا المعنى، وأن الجزية تؤخذ من المشركين أيضًا، كما أخذها النبي ﷺ من المجوس[5] وأن ذلك لا يختص بأهل الكتاب.

وبعضهم يقول: هي خاصة بسبب النزول، يعني: في أولئك من الأنصار الذين تهوّد أولادهم لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لكن العبرة بعموم اللفظ، والمعنى، لا بخصوص السبب.

وبعضهم يقول: هي خاصة في السبي من أهل الكتاب، يعني أنهم لا يُكرهون على الدخول في الإسلام.

لكن ابن القيم - رحمه الله - حملها على الجميع[6] لا أحد يُكره على الدخول في الإسلام، لا من العرب من طوائف المشركين، ولا من غيرهم، وهذا هو الصحيح، وما نُقِل أن أحدًا يوضع السيف على رأسه، ويقال له: أسلم، وإلا قتلناك؛ ولهذا الذين يقولون: بأن الإسلام انتشر بالسيف، هذا ليس بصحيح، الإسلام لم ينتشر بالسيف، لكن بالسيف فُتحت عامة البلاد، وصارت كلمة الله هي العليا؛ ولذلك بقي في تلك البلاد المفتوحة بقايا من المشركين، ممن كانوا على دينهم الأول، وما أُلزموا بالدخول في الإسلام، وهكذا فُتحت البلاد الشاسعة، والواسعة؛ الشام، والعراق، وما، وراء ذلك.

"قوله تعالى: بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] العروة في الأجرام هي: موضع الإمساك، وشدّ الأيدي، وهي هنا تشبيه، واستعارة في الإيمان".

أجرام يعني: في الأشياء الحسية، والمحسوسة هي موضع الإمساك، عروة الباب، وعروة الإناء، ونحو ذلك، موضع الإمساك، وشد الأيدي، فهي ما يتعلق به يعني: الممسك.

والوثقى: هي المحكمة، وهنا قال: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى قال هنا: هي "تشبيه، واستعارة في الإيمان" باعتبار أنه أقوى رباط، وأحكم أمر، وأوثق ما يُتمسك به لطلب العصمة، والنجاة، فيبقى صاحبه على الحق ثابتًا مستقيمًا، دون أن يخشى انقطاعًا، وانفكاكًا بإسلامه إلى الهلكة، هذا هو المعتصَم الذي تحصل به النجاة في الدنيا، والآخرة، ويكون فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أي: الحبل الوثيق، يعني: المحكم.

فالوثقى من الوثاقة، وهذا من باب التشبيه، والمراد: الإيمان، وما في معناه، وقد ذكر أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - في هذا الموضع فقد تمسك بأوثق ما يُتمسك به[7] يعني ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه، وقال: فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عُرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عُراها[8].

وقال مجاهد: هو الإيمان[9] وقال السُدي: هو الإسلام[10] ابن جرير يقول: هو مثلٌ للإيمان الذي اعتصم به المؤمن فشبهه في تعلقه به، وتمسكه به بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يُتمسك بها[11].

وجاء عن عبد الله بن سلام أنه قال: "رأيت رؤيا على عهد رسول الله ﷺ فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة - ذكر من سعتها، وخضرتها - وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، وفي أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل له: استمسك، فاستيقظت، وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي ﷺ قال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت[12] وهذا مُخَّرج في الصحيحين.

"قوله تعالى: لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] أي: لا انكسار لها، ولا انفصام".

لا انفصام لها، الانفصام: الانكسار من غير بينونة، الفصل بخلاف القصم: فإنه يكون مع بينونة، فصمه، وقصمه، فصمه يعني: لا انفِصَامَ لَهَا يعني: فصم الشيء كسره، وقصمه: كسر مع بينونة.

وجاء عن معاذ : لا انفِصَامَ لَهَا لا انقطاع لها دون دخول الجنة[13].

وعلى كل حال المقصود: هي عروةٌ ثابتة، وثيقة لا انفِصَامَ لَهَا لا انكسار، فيكون ذلك ثباتًا، وقوةً في المتمسك به، فإن ذلك لا يحصل معه انفصامٌ، فيُسلمه ذلك إلى خوفٍ، أو شدةٍ، أو هلكة، فهذا الذي يُتمسك به، ويُتوثق منه، هذا طريق النجاة المحقق، وليست أشياء موهومة، ومظنونة، ونحو ذلك لا انفِصَامَ لَهَا

  1.  أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الأسير يكره على الإسلام برقم: (2682)، وصححه الألباني، وانظر: أسباب النزول ت الحميدان (ص:83).
  2.  أخرجه الدارقطني في سننه برقم: (63)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (130).
  3.  التفسير من سنن سعيد بن منصور (3/962 - 431)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/108 - 12550).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/553).
  5.  أحكام أهل الذمة (1/3).
  6.  المصدر السابق.
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/559).
  8.  المصدر السابق (4/561).
  9.  تفسير مجاهد (ص:243)، وتفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/560).
  10.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/496).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/559).
  12.  أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام برقم: (3813)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن سلام برقم: (2484).
  13.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/497).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد هذه الآية العظيمة، آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- فيها تتجلى صفات المعبود وتقدست أسماءه: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:256].

لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ كمال هذا الدين واتضاح آياته وبراهينه ودلائله ومعالمه وأعلامه فهو لا يحتاج إلى إكراه على دخول الناس فيه، فدلائله بينه، وهو دين الفطرة، قد بين الله -تبارك وتعالى- للناس البيان الواضح الذي لا يترك في الحق لبسًا، وتميز الحق من الباطن والهدى من الضلال ولم يعد هناك أدنى التباس.

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، وهو اسم لكل ما عُبد من دون الله -تبارك وتعالى- وهو راضٍ، اسم لكل ما تجاوز حده من المعبودات ونحوها، فمعناه يرجع إلى الطغيان، فيدخل في ذلك الأصنام، ويدخل في ذلك الذين عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- وهم راضون، ويدخل في ذلك من يُشرع للناس ويُزاحم شرع الله -تبارك وتعالى- ويدخل في ذلك الساحر والكاهن، عبارات السلف في هذا كلها من قبيل التفسير بالمثال.

فهذا الوصف يصدق على هؤلاء جميعًا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، ثبت واستقام على الطريقة المُثلى وتمسك من الدين بأقوى سبب، تمسك بسبب وثيق لا يحصل له انقطاع ولا انفصام ولا يحصل له عاقبة سوء بأن يُسلم إلى الردى.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ لكل المسموعات ومن ذلك ما يصدر عن العباد من الأقوال، وكذلك عليم بكل شيء، ومن ذلك أعمال العباد، وما يصدر عنهم من المزاولات والتصرفات، يعلم النيات والمقاصد والحركات والسكنات يعلم حال العبد وما ينطوي عليه قلبه، وما يكون عليه من العمل الصالح أو الفاسد، فالتعامل على من لا يخفى عليه شيء وسيجازيهم على أعمالهم.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ، الدين دين الفطرة الدين الصحيح، دين الله -تبارك وتعالى- الذي اختاره لعباده في غاية الوضوح، وهو موافق للفِطر السليمة: كل مولود يولد على الفطرة[1]، فهذه هي الإسلام، ومن ثَم فإنه لا حاجة للإكراه على الدخول فيه، إنما قد يُكره على من خفيت أعلامه وغمُضت معالمه، أما هذا الدين فهو في حال من الجلاء لا يحتاج إلى ذلك.

كذلك قد يُكره على الدخول في شيء كريه إلى النفوس ثقيل عليها، أما هذا الدين فهو موافق لفِطرها تنجذب إليه وتجد فيه راحتها وروحها وسكونها وعافيتها، وتجد فيه السعادة في الدنيا قبل الآخرة، قبل ذلك يكون الإنسان في حال من التشتت والشرود، والتنازع، والتشرذم، والضيق، والحرج في صدره فيتسع بنور الإيمان، فمثل هذا لا يحتاج إلى إكراه، والعاقل المُنصف يُدرك حقية هذا الدين، وما فيه من الصلاح والإصلاح، وما فيه من الرُشد ومجانبة الغي، فكل من نظر فيه بإنصاف أدرك ذلك واختاره طواعية من غير إكراه، بخلاف من كان فاسد القصد، سيء النية، فاسد الإرادة مثل هذا قد يؤثر الباطل لأمر في نفسه من حسد، أو غلبة، أو نحو ذلك، كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله[2].

كذلك أيضًا في قوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، هذه الصيغة خبرية لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لكن معناها الإنشاء، يعني: لا تكرِهوا أحدًا، معناها نهي ينهانا ربنا -تبارك وتعالى- أن نُكره أحدًا على الدخول في الإسلام، وهذا يرد على من يزعم من المستشرقين ومن تأثر بهم من أن الإسلام إنما انتشر بالقوة بالسيف وهذا غير صحيح، فُتحت البلاد في غالب الأحيان والأحوال بالجهاد.

فالجهاد شُرع من أجل أن تكون كلمة الله هي العُليا، لا لإرغام الناس على الدخول في الإسلام، ولم يُنقل أن السيف يوضع على رقبة الواحد منهم في البلاد المفتوحة ويقال له: أسلم وإلا قتلناك أبدًا، وإنما كان يُقبل منهم الجزية، وكما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله[3] بأن ذلك لا يختص بأهل الكتاب ومن أُلحق بهم كالمجوس بل يكون للعرب ولغيرهم، أن من أراد البقاء على دينه فيعيش في ظل الإسلام وهيمنة هذا الدين، ويُحقن دمه، ويكون بذلك قد أحرز ماله، هذا هو التصور، هذا هو الاعتدال، هذا هو النظر الصحيح الذي دل عليه القرآن، من يقول: إن الإسلام انتشر بالسيف هذا ظلم، هذا غير صحيح، ومن يقول: بأن الإسلام إنما شُرع فيه الجهاد بمجرد الدفاع فقط أيضًا طرف آخر، إنما المراد أن تكون كلمة الله هي العُليا، أما بالنسبة للأفراد فهم بعد ذلك لا يُلزمون الدخول في الإسلام، لكن تُكسر العقبات والعوائق التي تمنع دين -تبارك وتعالى- إلى هؤلاء الأُمم، فمن يُمثل عقبة وحاجزًا يحول دون بلوغ دين الله إلى الناس فهذا يُزال.

وهكذا أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ، يدل على أنه لا يوجد إلا رشد أو غي لا يوجد طريق ثالث، القسمة ثنائية: رُشد وهي اتباع دين الله كما جاء في كتاب الله، وعن رسول الله ﷺ على فهم السلف الصالح، أو غي من أراد أن يتخذ طريقًا آخر فهو غي، يُذكر أن هؤلاء الذين يُمثلون أشد العداوة للمسلمين في القارة الهندية "السيخ" ما مبدأهم ما منشأهم؟

يُقال: بأن رجلاً من هؤلاء الهندوس كان يعمل مع تاجر من تجار المسلمين في الهند، فكانت تعجبه أخلاقه وأمانته وصدقه ونصحه فكان يتأثر به كثيرًا ويُعجب بهذا الدين الذي هذبه، لكن كان يُنازعه في ذلك كله الدين الأول له، دين هذا الرجل وهو الهندوسية وكان يتنازع هذا الرجل دين الإسلام بما يرى وما تلقاه عن آباءه من هذه الوثنيات، فماذا فعل؟

رأى ما بين المسلمين والهندوس من الحروب والعداوات والمذابح المتكررة عبر التاريخ فأراد أن يجمع بين هؤلاء وهؤلاء، يجمع بين الإسلام والهندوسية ويوفق بينهما، ويُنهي هذا الصراع، فيجمع بين ما أحبه وأعجبه وبين الدين الذي نشأ عليه، فأخرج ديانة جديدة وهي السيخ، طبعًا هؤلاء السيخ صاروا كما تعلمون أشد عداوة من الهندوس، وصارت على أيديهم مذابح للمسلمين والصور موجودة، لو بحثتم في الشبكة لرأيتم على مد البصر الأطفال ممددين قد ذبحوا بالسكاكين والسواطير "السلاح الأبيض" أطفال على مد البصر، نساء ورجال ممددين على مد البصر، فهذا أراد أن يتخذ دينًا بين الإسلام والهندوسية فليس ثمة إلا الغي قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ، فالرشد من أراد الرشد فعليه بالإسلام.

الإسلام هو دين الرشد، وما عدا ذلك فهو غي وضلال مهما زوقه أصحابه وزينوه وترجموا عنه فهو غي، وإذا كان لا يوجد إلا رشد وغي فمن الغبن أن أهل الرُشد يتأثرون بأهل الغي ويحاكونهم ويتشبهون بهم ويقلدونهم ويتزيون بزيهم فهذا من الغبن الشديد، أنتم أهل رشد وهؤلاء أهل غي فكيف تُعجبون بهم! وتتأثرون بهؤلاء.

كذلك أيضًا كما قال الله -تبارك وتعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [سورة يونس:32]، وقال: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة سبأ:24]، لا يوجد إلا الهدى أو الضلال المبين، لا يوجد بعد الحق إلا الضلال، فالحق باتباع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ على فهم السلف الصالح ، فمن أراد أن يكون على جادة فعليه بهذا الطريق، والصراط وهو العروة الوثقى.

فقوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، هذا يدل على أن الطاغوت يؤمن به ويُكفر به؛ فقال الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، يكفر بكل ما عُبد من دون الله؛ لأن هناك من يؤمنون بمعبودات أخرى باطلة، كل ما عُبد سوى الله -تبارك وتعالى- فهو باطل.

فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، فليس المقصود بالإيمان بالطاغوت أنه يوجد طاغوت؟ لا، هذا يشترك فيه المؤمن والكافر كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، يعني أن المؤمنين يعلمون أنه يوجد طاغوت ولكن المقصود بالإيمان بالطاغوت أن يتخذ ذلك متبوعًا معبودًا يعبده من دون الله -تبارك وتعالى، والكفر به هو إنكار عبادته والإعراض عنها وأنه لا يصلح لشيء من ذلك.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة أنه لا يتم الإخلاص لله -تبارك وتعالى- وتحقيق التوحيد إلا بنفي الإشراك فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، نفس كلمة التوحيد، "لا إله" هي نفي لكل ما يُعبد سوى الله، "إلا الله" هذا جانب الإثبات، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويؤمن بالله، إذًا لا يكفي مجرد الإيمان بالله مع الإيمان بالطاغوت، يقول أنا أؤمن بالله لكنه يؤمن بمعبودات يتقرب إليها وأنها تنفع وتضر، فهذا يكون مشركًا فلابد من هذا وهذا، ولهذا قُدم الكفر بالطاغوت وذلك من باب التخلية كما في كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" التخلية قبل التحلية.

وكذلك أيضًا يدل هذا التقديم الكفر بالطاغوت على أهمية ذلك أن يُكفر بكل ما يُعبد من دون الله ، قد تتسلل ألوان من الوثنيات لكثير من الناس دون أن يشعروا، الآن وثنيات شرقية وغير شرقية تتسلل عبر دراسات ودورات لربما يتوهمون النفع والضر بحجر، أو زهور مجففة، أو قطع معدنية، وما اشبه ذلك مما يزعمون مما يضيفونه إلى الطاقة ونحو ذلك فهذا كله من الضلال، والدجل، وهو داخل في الطاغوت، فلابد من الكفر بذلك كله.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن النجاة لا تتحقق إلا بهذين، ولهذا قال: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، بمعنى أنه لا يستمسك بالعروة الوثقى إلا إذا حصل له ذلك، والعروة اسم لما يُتمسك به، كعروة الباب، ونحو ذلك، فهذه العروة الوثقى المقصود بها الدين الحق الصحيح الذي جاء عن الله -تبارك وتعالى، بلغه إلينا رسول الله ﷺ، يتمسك بما يتوثق منه، من تمسك به حصلت له النجاة وتحققت لا يمكن أن يحصل له بعد ذلك إسلام إلى هلكة هذا الحق الذي يتمسك به، ليست أوهام وتخرصات وخيالات وأمور خاضعة للتجربة ونحو ذلك قد يصيب وقد يُخطأ، لا، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، من أراد أن يكون على هدى وجادة واضحة فعليه بهذا الدين، اتباع الكتاب والسنة، ويبتعد عن بُنيات الطريق والضلالات التي يدعوا إليها أصحابها، فالمسألة مسألة نجاة فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.

أما الذي يتمسك بمصادر أخرى كالذي يقول: إن المعول عنده هو العقل ويعرض حتى النصوص على عقله، هذا لم يستمسك بالعروة الوثقى، هذا استمسك بخيط سرعان ما ينقطع في يده، كذلك الذي يستمسك بالفلسفات الشرقية والغربية القديمة والحديثة وما أشبه ذلك هذا لم يستمسك بالعروة الوثقى بل استمسك بما لا يصح الاستمساك به ولا يوصله إلى مطلوب.

كذلك أيضًا يؤخذ من ذلك الْوُثْقَى أن هذه صيغة تفضيل فهذا يدل على التفاضل للأشياء والأعمال وهذا أمر مقرر لا خفاء فيه.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، سميع، والله جاء بلفظ الجلالة، وهذا فيه ما فيه من تربية المهابة وملأ القلوب بالإجلال والتعظيم، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وأكدت باسمية الجملة، وسميع صيغة مبالغة، وعليم، يعني: سمعه نافذ لا يخفى عليه شيء، دبيب النمل يسمعه، عليم يعلم كل شيء، لا يخفى عليه خافية، هذه الأسماء السميع العليم البصير وما أشبه ذلك تجعل الإنسان مراقبًا لربه دائمًا في حركاته وسكناته في خلوته وجلوته، فلا تتحرك نفسه طلبًا للمعصية إذا خلا، لا تهيم نفسه حينما تلوح له شهوة بمواقعتها؛ لأنه يعلم أن الله سميع عليم، فإذا كان يراقب الناس في نظراته وحركاته وسكناته فالله أولى وأجل وأعظم، بعض الناس لربما يتحرج أن ينظر في صلاته إلى جدار المسجد ويرفع بصره هنا وهناك فإذا نظر إليه الناس خفض بصره.

وبعض الناس يسألون عن هذا يقولون هل هذا من الرياء؟

فأقول: الله أولى وأعظم وأجل من أن يُراقب الإنسان الناس إذا نظروا إليه خفض بصره، وإذا غفلوا عنه نظر هنا وهناك، فكيف بالمعاصي والذنوب والكبائر ومواقعة الجرائر والجرائم.

كذلك أيضًا: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، الإيمان قول وعمل، والكفر كذلك يكون بالقلوب ويكون بالأقوال ويكون بالأعمال، فقال: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع ما يصدر عن الإنسان من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، وهو عليم لا يخفى عليه ما تنطوي عليه القلوب من إيمان وتقى وكفر وعصيان وتمرد على الله -تبارك وتعالى- واعتراض على شرعه.

وكذلك أيضًا ما يصدر عن الإنسان من الأفعال القبيحة وما يتفوه به لسانه مما لا يُرضي الله -تبارك وتعالى، سميع عظيم السمع، بصير عظيم البصر.

هذه التربية القرآنية التي يُقلب فيها المؤمن بين هذه المعاني والهدايات والأسماء والصفات التي تحمله تارة على الرغبة، وتارة على الرهبة، وتارة على المراقبة، وتارة على التوكل، وتارة على الخشوع والإخبات، إلى غير ذلك. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، برقم (1359)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2658).
  2. انظر: تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن) (ص:111).
  3. أحكام أهل الذمة (1/ 89)، و(1/ 95)، وزاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 137).