كلام الحافظ ابن كثير في معنى الآية يعتبر من أحسن ما قيل في تفسيرها، ومن أهل العلم من استشكله، وعقدة الإشكال نابعة من مسألة فرضية الجهاد، وأن الكفار من غير أهل الكتاب كالمجوس، والوثنيين؛ مخاطبون بالإسلام أو السيف، ولا تقبل منهم الجزية على قول كثير من أهل العلم، وهذا يتنافي مع مسألة لا إكراه في الدين، وحقيقة هذا المحك هو الذي جعل أقوال أهل العلم تتباين في الكلام على الآية.
فقال بعضهم: إن هذه الآية كانت في أول الأمر على البراءة الأصلية، ثم نسخت بآيات الجهاد بمثل قوله: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [سورة الفتح:16]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً [سورة التوبة:123] وقالوا: إن الله لم يجعل إلا أحد الخيارين: إما القتال، أو الإسلام، لكن القاعدة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فليس مجرد توهم المقابلة بين النصوص يكون مسوغاً لدعوى النسخ؛ لأن النسخ شديد، وذلك أنه يقتضي إهدار أحد الدليلين، أو الحكم برفع أحد النصين، والعلماء متفقون على أن الجمع مطلوب ما أمكن.
وبعض أهل العلم حاول أن يجمع بين الأمرين، وهذا هو الأوفق، فمنهم من قال: هذه الآية ظاهرها العموم لأنه قال: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، والإكراه هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فهذا عام لكنه يراد به الخصوص، فتبقى الآية من العام المراد به الخصوص، وجعلوها منزّلة على من له خيار ثالث وهو الجزية فهي تؤخذ من أهل الكتاب، ومن المجوس، إذ يسن بهم سنة أهل الكتاب، وبهذا الاعتبار فالآية محكمة وليست بمنسوخة، وأما العرب فلم يدخلوا فيها؛ لأن لفظها عام، ويراد بها معنى خاص وهم: أهل الكتاب.
وقال بعضهم: المراد من الآية السبي من أهل الكتاب لا تكرهوهم على اعتناق الإسلام، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
ومن أهل العلم من قال: إن هذه الآية عامة خصصتها الأدلة الأخرى، والعام يحمل على الخاص، ولا تعارض بين العام والخاص.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية باقية على عمومها، وهو مضمون كلام ابن كثير، واختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، وجماعة من المحققين، وهو المتبادر، وذلك أن الله لم يأمر بإكراه أحد على الدخول في الدين، ولم ينقل عن النبي ﷺ في حالة واحدة في جهاده وحروبه - عليه الصلاة والسلام - أنه أكره أحداً على الدخول في دين الله ، والشواهد كثيرة من صنيع النبي ﷺ وأصحابه في المغازي وغيرها.
ولذلك لما قدم النبي ﷺ المدينة وكان فيها بعض المشركين من اليهود وغيرهم صالحهم، ومن جملة من صالحهم أيضاً العرب بما فيهم أهل مكة وهو في المدينة، واستمر بينه وبينهم العهد حقبة من الزمن؛ حتى نقضوا ما أبرموه وعاهدوا الله عليه، مما اضطر النبي ﷺ إلى قتالهم لتفتح مكة بعدها عنوة، وتصبح في حوزة المسلمين، وبعد فتح مكة لم يجبر أحداً على الدخول في الدين - وكان هذا بمقدوره -، حتى إنه لما قاتل بعدها في حنين خرج بعضهم معه للقتال ولم يسلم بعد، وإنما خرجوا حمية، أو ليروا نتيجة المعركة والغلبة لمن؟ ولذلك اختلفوا في بعض من خرج، وكان له في الكفر شأن كصفوان بن أمية هل أسلم حينها أم لا؟، فالحاصل أنه ﷺ لم يكن ليكره أحداً بعينه سواء من أهل مكة أو غيرهم على الدخول في الإسلام إطلاقاً.
وأما من استشكل مشروعية الجهاد بقوة السيف، وتوهم معارضته في الظاهر للآية؛ فليس له فيه أدنى متلمس من حجة، ذلك أن الجهاد إنما شرع لصد عادية الكفار، وأيضاً لإبلاغ دين الله بقمع الكفار، وكسر شوكتهم؛ حتى يبلغ دين الله الآفاق، فلا يحال بين الناس وبين الحق، فيبقى شرع الله مبثوثاً حاكماً في أرضه، أما الأفراد فلا يكره أحد منهم على ذلك، فالآية باقية على عمومها، ولذلك عمر كما أخرج البخاري في صحيحه مر بعجوز نصرانية فقال لها: أسلمي تسلمي، فأبت، فقرأ هذه الآية: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وقال لزنبق وهو غلام لعمر نصراني، قال له: أسلم كي أستعملك في شيء من أمانة المسلمين، فأبى، فقرأ عمر: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، والله أعلم.
"وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاماً.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: روى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: كانت المرأة تكون مقلاة، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله : لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [سورة البقرة:256][1] وقد رواه أبو داود والنسائي".
فهذه الرواية التي نسبت لابن جرير صحيحة صريحة في سبب نزول قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وهي وإن نزلت لبيان واقع معين؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسبب النزول كما هو معلوم يوضح المعنى، ويرتفع به الإشكال، فتبقى هذه الآية على ظاهرها، وعمومها، فلا يُكرَه أحد على الدخول في الدين امتثالاًً لأمر المشرع العظيم ، ولأنه لم يعهد عن النبي ﷺ في غزواته، وحياته؛ عمل شيء من ذلك، والله أعلم.
"فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس : أن رسول الله ﷺ قال لرجل: أسلم قال: إني أجدني كارهاً، قال: وإن كنت كارهاً[2]، فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي ﷺ على الإسلام؛ بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له: أسلم، وإن كنت كارهاً، فإن الله سيرزقكم حسن الني، والإخلاص".
المراد بالحديث الثلاثي الصحيح: هو الذي يكون بين المصنف وبين النبي ﷺ ثلاثة رواة - الصحابي، والتابعي، وتابع التابعي من أهل القرون المفضلة -، وهذه الأحاديث مشهورة بثلاثية الإسناد أو ثلاثية مسند أحمد.
وقد ساق ابن كثير هذا الحديث ليؤكد أنه ليس حجة لأحد في تقرير جواز الإكراه على الدين، مستنداً في دعواه ومشروعيته على ذلك بحديث أنس؛ لأنه ليس من هذا الباب كما بيَّنه، ثم هناك فرق بين أن تكون الكراهية منبعثة من نفس الإنسان على أمر دون أن يكره عليه، وبين إرغامه وإلزامه بأمر على سبيل الإكراه، وهذا ما يفهم خلافه من الحديث.
"وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:256]".
هذه الآية فيها تمثيل لأمر معنوي بصورة أمر حسي، فقد مثل الله الذي اعتصم بهدى الإيمان كمن تعلق وتمسك بعروة شيء وثيقةٍ لا تنكسر، يجني من وراء تمسكه بها مقصوده من النجاة، فيحظى ببلوغ المطلوب، وينجو من أليم المرهوب، فهذا تصوير للمعنويات بأمر حسي غاية في البلاغة، والأسلوب، والله تعالى أعلم.
"أي من خلع الأنداد، والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله، فعبده وحده، وشهد أنه لا إله إلا هو فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [سورة البقرة:256]: أي فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريق المثلى، والصراط المستقيم".
هذه العبارة القصيرة على اختصارها جمعت كثيراً مما قاله السلف .
ومعنى الطاغوت: فعلوت من طغى يطغى ويطغو أي جاوز الحد، فهو اسم جنس لكل ما يعبد من دون الله ، وبعضهم يقول: إنه مصدر يطلق على الواحد، وعلى الجمع، وعبارات السلف فيه كثيرة.
"روى أبو قاسم البغوي عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر : "إن الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف، ويفر الجبان من أمه، وإنّ كرم الرجل: دينه، وحسبه: خلقه، وإن كان فارسياً، أو نبطياً".
ومعنى قوله في الطاغوت: "إنه الشيطان" قوي جداً، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها".
وبعضهم يقول الطاغوت: الكاهن، وبعضهم يقول: الساحر، وبعضهم يقول: ما عبد من دون الله وهو راض بطبيعة الحال، والحقيقة أن الطاغوت يحتمل جميع ما ذكر، فكل من جاوز حده وطغى فهو طاغوت، فذو الطغيان الذي جاوز حده يقال له: طاغوت، والله أعلم.
"وقوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا [سورة البقرة:256] أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب".
وهو الحبل الوثيق المحكم.
والوثقى: يمكن أن تكون من الوثاقة وهو تصوير يقرب المعنى بصورة محسوسة، ففيه تشبيه، والمعنى أن من أراد الخلاص لنفسه فإنه يتمسك بشيء وثيق يعتصم به، وهذا الذي يؤمن بالله ، ويخلع الأنداد، والأضداد، ويكفر بجميع أنواع الطواغيت الكبار والصغار، الأحياء والأموات، قد أخذ من النجاة المحققة بأوثق سبب، وقد سلك طريق الخلاص، فلا يلحقه هلكة، ولا مكروه.
"لاَ انفِصَامَ لَهَا فهي في نفسها محكمة، مبرمة، قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".
يقول معاذ بن جبل : لاَ انفِصَامَ لَهَا أي لا انقطاع لها دون دخول الجنة، وهذا تفسير قريب من جهة المعنى.
والانفصام في اللغة: أي الانكسار من غير إبانة، ومع الإبانة يقال له: قصم، قال الشاعر:
إن الألى يسكن غور تهامة | فكل كَعاب تترك الحجل أفصما |
"قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام".
هذا يسمى في التفسير خلاف التنوع.
"وروى الإمام أحمد عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله، فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا: كذا وكذا، قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله ﷺ، فقصصتها عليه، رأيت كأني في روضة خضراء، قال ابن عون: فذكر من خضرتها، وسعتها، وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا استطيع، فجاءني منصف، قال ابن عون: هو الوصيف، فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فأتيت رسول الله ﷺ فقصصتها عليه فقال: أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت، قال: وهو عبد الله بن سلام وأرضاه[3]، أخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر".
- رواه أبو داود برقم (2684) (3/11)، ورواه النسائي في سننه الكبرى برقم (11049) (6/304)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2682).
- رواه أحمد في مسنده برقم (12891) (3/181)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عبد الله بن سلام برقم (3602) (3/1387)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن سلام برقم (2484) (4/1930)، وهذه الرواية بلفظ أحمد رواها في مسنده برقم (23838) (5/452)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.