الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة:255]، هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم، وقد صح الحديث عن رسول الله ﷺ بأنها أفضل آية في كتاب الله، روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب: أن النبي ﷺ سأله: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مراراً ثم قال أبيّ: آية الكرسي قال: لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش[1] ورواه مسلم وليس عنده زيادة والذي نفسي بيده إلى آخره".
لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر هذا دعاء له كأنه يقول: هنيئاً لك العلم الذي استطعت به أن تستنبط من آيات القرآن على كثرتها أعظم آية في القرآن الكريم من غير سابق علم، ولا دراية، فهذا أمر يدل على ثقوب النظر، والقدرة العالية في الاستنباط، والاستحضار عند ذلك الجيل الأكمل، والرعيل الأنبل.
"روى الإمام أحمد عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له تمر".
قال الجزري - في النهاية -: "السهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً شبيه بالمخدع، والخزانة، وهذا هو الأشهر، وقيل: هو كالصفة تكون بين يدي البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطابق يوضع فيه الشيء" انتهى.
"وكانت الغول تجيء فتأخذ؛ فشكاها إلى النبي ﷺ".
الغول: الجن أو الشياطين حينما تتمثل للناس في الليل، أو تتبدى لهم بصورة آدمي، أو غير ذلك، يقال: تغولت الغيلان يعني تبدت لهم الجن بصور يرونها.
"فشكاها إلى النبي ﷺ فقال: فإذا رأيتها فقل: بسم الله، أجيبي رسول الله قال: فجاءت، فقال لها، فأخذها فقالت: إني لا أعود، فأرسلها فجاء فقال له النبي ﷺ: ما فعل أسيرك؟ قال: أخذتها، فقالت لي: إني لا أعود، فأرسلتها فقال: إنها عائدة، فأخذتها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك تقول: لا أعود، وأجيء إلى النبي ﷺ فيقول: ما فعل أسيرك؟ فأقول: أخذتها وتقول: لا أعود، فيقول: إنها عائدة فأخذتها فقالت: أرسلني، وأعلمك شيئاً تقوله فلا يقربك شيء: آية الكرسي، فأتى النبي ﷺ فأخبره فقال: صدقت وهي كذوب[2]، ورواه الترمذي في فضائل القرآن، وقال: حسن غريب، والغول في لغة العرب: الجان إذا تبدى في الليل".
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي ﷺ وهو يدل على صحة وجود هذه الغول (الجن)، ومن أهل العلم من يقول: إن الغول ومثله العنقاء أشياء لا وجود لها، ولا حقيقة، وإنما تجري على ألسنة الناس، وفي القصص، والأخبار، وأشعار العرب، ومن ذلك قول صاحب مراقي السعود لما ذكر مذهب الإمام مالك في بلاد المغرب
وغيره مثل عنقاء مُغْرِب في كل قطر من نواحي المغربِ
وهو يعنى أن المذهب الوحيد السائد في نواحي المغرب هو مذهب مالك، ولا يوجد سواه من المذاهب في بلاد المغرب، إنما هي أشبه بخبر العنقاء (طائر يُذكر ولا يُرى)، والله أعلم.
"وقد ذكر البخاري مثل هذه القصة عن أبي هريرة فروى في كتاب فضائل القرآن، وفي كتاب الوكالة، وفي صفة إبليس من صحيحه عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ فقال: دعني فإني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي ﷺ: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته وخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ﷺ: إنه سيعود، فرصدته فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، قال: دعني فإني محتاج، وعليّ عيال، لا أعود، فرحمته، وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ﷺ: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة، وعيالاً، فرحمته وخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: وما هن؟، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان؛ حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله ﷺ: ما فعل أسيرك البارحة؟، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان؛ حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي ﷺ: أما إنه صدقك وهو كذوب، تَعْلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذاك شيطان[3]، ورواه النسائي في اليوم والليلة".
الشياطين: هم كفار الجن، وبعضهم يقول: إن السعالي هم سحرة الجن، إلا أن الحديث الوارد فيه ضعفه أهل العلم.
فائدة:
إقرار النبي ﷺ الشيطان على قوله: "لا يزال عليك من الله حافظ" يحمل على أعم معانيه، فهذا الحافظ من الله يحفظه من شر الآدميين، ومن شر كل ذي شر من السباع، والهوام، وكل ما يتخوف من جهته، وقوله بعده: "ولا يقربك شيطان حتى تصبح" هذه الجملة الأخيرة في الشياطين، وما قبلها في كل ذي شر، والله أعلم.
"روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن - ا - قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول في هاتين الآيتين اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255] وآلم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة آل عمران:1-2]: إن فيهما اسم الله الأعظم[4]، وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى ابن مردويه عن أبي أمامة يرفعه قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة، وآل عمران، وطه[5]، وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق: أما البقرة فـ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وفي آل عمران: آلم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وفي طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [سورة طه:111]".

فهذه الأحاديث التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تحديد الاسم الأعظم هي مما يقوي القول بأن المراد به الحي القيوم، وعليه جمع من أهل العلم.
وذهب جمع سواهم من أهل العلم إلى اعتبار لفظ الجلالة "الله" الاسم الأعظم، وقد ورد فيه بعض النصوص مثل حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمع النبي ﷺ رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك إني أشهدك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد"، فقال رسول الله ﷺ-: لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب[6]، وقالوا: إن هذا الاسم تكرر في كثير من الأحاديث الصحيحة التي تذكر الاسم الأعظم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الاسم ترجع إليه الأسماء الحسنى لفظاً، بمعنى أنها تأتي معطوفة عليه، ولا يعطف على شيء منها.
وترجع إليه معنى لكونه متضمناً لصفة الإلهية التي يرد إليها جميع الصفات.
وهناك وجه حسن للجمع وهو أن تُجمع هذه الأسماء التي جاءت في تجلية الاسم الأعظم فيقال: "اللهم إني أسألك إني أشهدك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الحي القيوم، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" فتكون بمثابة أقوى ما قيل في تحديده وتعيينه، والله أعلم.
"وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة فقوله: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق.
الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، المقيم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، لا قوام لها بدون أمره كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [سورة الروم:25]".

الحي: يعني الذي له الحياة الكاملة من كل وجه، لم تسبق بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتورها نقص؛ بخلاف حياة المخلوق.
القيوم: القائم بنفسه، والمقيم لغيره، وكل مخلوق إنما يقوم بإقامة الله له، فهو مفتقر إلى إقامته كل الافتقار، ولولا إقامة الله على خلقه بأرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم؛ لذهبوا، واضمحلوا.
"وقوله: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ أي: لا يعتريه نقص، ولا غفلة، ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية".
هذا من باب التفسير باللازم، وهو يتضمن نفي النقص عن الله ، وهذا تفسير جيد سار عليه السلف فمن بعدهم من العلماء، فهم قد يفسرون الشيء بلازمه، أو بدلالة تضمنه، أو بغير ذلك من أنواع الدلالة، وكل ذلك صحيح.
وأما التفسير المطابق فجاء في قول ابن كثير بعده.
"ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنة، ولا نوم، فقوله: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ أي لا تغلبه سنة وهي الوَسَن والنعاس، ولهذا قال: وَلاَ نَوْمٌ لأنه أقوى من السِّنة".
فالسِّنة في قوله سبحانه: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ يعني مقدمة النوم وهي فتور طبيعي يعتري الإنسان بين يدي النوم، كما قيل: هي خُثُورة النوم، ومبادئه، ومقدماته، وبعض أهل العلم يقول: إن السِّنة هي النعاس، وبعضهم يقول: السِّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.
وأما النوم فمعروف، وهذا يتضمن أو يقتضي كما سبق نفي النقائص عن الله ؛ لأن النوم نقص، وهو كمال بالنسبة للمخلوق، لكنه ليس بكمال مطلق، والقاعدة التي يذكرها أهل العلم في مجال الرد والمحاجة لطوائف المتكلمين: كل كمال ثبت أو أضيف للمخلوق فالخالق أولى به؛ لأنه معطي الكمال، ومقصودهم بذلك: الكمال المطلق لا النسبي، فالزواج، والنوم، والولد و...، من الكمالات النسبية بالنسبة للمخلوق، لكن بالنسبة لله - تبارك وتعالى - فإن ذلك نقص في حقه لا يليق فينزه عنه - تبارك وتعالى -.
وقد يرد على هذا سؤال وهو: ألا يكفي نفي أحدهما لنفي الآخر، فإذا قلنا: لا يعتريه سِنة فمن باب أولى لا يعتريه نوم؟ فالجواب أن يقال: إن النوم قد يهجم على قلب الإنسان بدون مقدماته كالنعاس ونحوه، وبالمقابل فقد يرد على العبد النعاس ولا يرد عليه النوم، كما هو مشاهد وملاحظ، ولذلك استحسن إيرادهما في مقام النفي عن الله ؛ ويلاحظ أنه جاء بالنفي بعد إثبات اسميه الحي والقيوم؛ وهذا لتبيين أنه من كمال حياته، وقيوميته لا يعتريه ما ذكر، والله أعلم.
"وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[7].
وقوله: لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إخبار بأن الجميع عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه كقوله: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ۝ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:93-95]".

هذا المقطع من الآية فيه دلالة على سعة ملكه ، وعظمة خلقه، وقوة سلطانه، وقهره.
"وقوله: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ كقوله: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى [سورة النجم:26]، وكقوله: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28]، وهذا من عظمته، وجلاله، وكبريائه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: آتي تحت العرش فأخر ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة".
قوله سبحانه: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ له اتصال بما قبله في الدلالة على سعة ملكه، وعظيم سلطانه، ووجه: أن ملك المخلوق ناقص، ونقصه من وجوه متعددة منها: أنه يشفع بين يديه من غير إذنه، وأن المخلوق قد يقبل الشفاعة خوفاً من الشافع سواء كان الخوف من غائلته، أو من تحول قلبه أو نحو ذلك.
وأما الله فليس شيء من ذلك واقعاً، فهو - - لكمال ملكه ليس بحاجة إلى أحد، ولا يخشى أحداً من المخلوقين، ولا يقوم ملكه بأحد منهم، ولذلك فإنه لا يتقدم بالشفاعة أحد بين يديه إلا لمن يأذن له، ولا يشفع إلا فيمن ارتضى، فهذا من كمال ملكه .
والاستفهام في قوله: مَن ذَا الَّذِي معناه أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.
"وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم:64]".
وهذا فيه دلالة على سعة العلم والإحاطة، فإحاطته - سبحانه - شملت هذه الأرض الممتدة الأطراف، الشاسعة البون، العظيمة الخلق، مطلع على شئون خلقه فيها، محيط بكل حركاتهم وتصرفاتهم على ظهرها، لا يخفى عليه شيء من أمورهم البتة، بخلاف ملوك الدنيا فإنه يخفى عليهم عامة ما يجري من أحوال تلك البقعة التي صاروا ملوكاً فيها.
"وقوله: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته، وصفاته؛ إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]".
ويحتمل اللفظ معنى آخر قريباً: وهو أن الضمير يرجع إلى المذكور آخراً وهو قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ والمعنى ولا يحيطون بشيء من علم ما بين أيديهم، وما خلفهم الذي هو جزء من علم الله، وعليه فعندنا ثلاثة احتمالات في مرجع الضمير فهذا الأول.
والثاني: يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله ، والمعنى أنه يعلم ما بين أيديهم، وما خلفهم، فعلمه محيط بهم وهم لا يحيطون بشيء من علم ذاته وصفاته إلا ما أطلعهم الله عليه، وليس ذلك بإحاطة.
والثالث: يحتمل أن يرجع الضمير إلى علم الله، والمعنى أن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يحيطون بشيء من علمه .
وبين المعنيين الثاني والثالث تلازم كبير، وهما الأشهر في التأويل، فعلم ما بين أيديهم وما خلفهم هو جزء من علم الله، فإذا قلت: إنهم لا يحيطون بشيء من علم الله، فشيء: نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيدخل فيه علم ما بين أيديهم وما خلفهم من باب دلالة التضمن؛ لأن التضمن: هو دلالة الشيء على جزء معناه، ويدخل فيه عموم علم الله من باب أولى بدلالة الالتزام، لأنهم إذا كانوا لا يحيطون ببعضه وهو ما يتصل بما بين أيديهم وما خلفهم؛ فيلزم من ذلك أنهم لا يحيطون بالكل، فالمقصود أن بين المعنيين ملازمة، والقاعدة: أن الآية إذا احتملت أكثر من معنى فلا مانع من حملها على الجميع، والمعنى وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ يعني لا من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا من عموم علم الله - تبارك وتعالى -، ولا نحتاج أن نرجح بين هذه المعاني، وهذا من بلاغة القرآن، أنه يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
"وقوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، روى وكيع في تفسيره عن ابن عباس - ا - قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره"، ورواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس - ا - موقوفاً مثله، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: "لو أن السماوات السبع، والأرضين السبع؛ بسطن، ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة".
وقوله: وَلاَ يئُودُهُ حِفْظُهُمَا: أي لا يثقله، ولا يكرثه؛ حفظ السماوات والأرض، ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغير بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني، الحميد، الفعَّال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه".

أصل يئوده: من آده أي جعله ذا عوج، يقال للعمود وضع عليه: آده، أي وضع عليه شيء ثقيل جداً حتى انثنى ومال، والمعنى أنه لا يثقله حفظ السموات والأرض ولا يعجزه، وهذا يدل على كمال قوته، وعظمته.
"فقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ كقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [سورة الرعد:9]، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه".
الأحسن أن يعبَّر بالقول: من غير تكييف، ولا تمثيل، فنثبت لله هذه الأسماء والصفات، وهي على قسمين: ثبوتية، وسلبية:
فالثبوتية: ما أثبته الله - تعالى - لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه واليدين ونحو ذلك، فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع، والعقل.
والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب، فيجب نفيها عن الله تعالى مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل؛ لأن النفي بمجرده ليس بكمال، ولا يمدح أحد به، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، فالنفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً، والله أعلم.
  1. رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي برقم (810) (1/556)، ورواه أحمد في مسنده برقم (21315) (5/141)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  2. رواه الترمذي في سننه برقم (2880) (5/158)، وأحمد في مسنده برقم (23640) (5/423)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2880).
  3. رواه البخاري في كتاب الوكالة - باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز برقم (2187) (2/812).
  4. رواه أبو داود برقم (1498) (1/555)، والترمذي برقم (3478) (5/517)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (982)، ولفظهما مختلف عما  رواه أحمد في مسنده برقم (27652)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف عبيد الله بن أبي زياد وشهر بن حوشب.
  5. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (7941)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (981).
  6. رواه أبو داود برقم (1495) (1/554)، والترمذي برقم (3475) (5/515)، والنسائي برقم (1300) (3/52)، وابن ماجه (3858) (2/1268)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1640).
  7. رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب في قوله : إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه برقم (179) (1/161).

مرات الإستماع: 0

"اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] هذه آية الكرسي؛ وهي أعظم آية في القرآن، حسبما ورد في الحديث، وجاء فيها فضل كبير في الحديث الصحيح، وفي غيره".

هي أعظم آية في القرآن؛ لاشتمالها على توحيد الله، وتعظيمه، وتمجيده، وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من الله - تبارك، وتعالى - فهذه في صفته أعظم آية، قد ذُكِرَ فيها اسم الله - تبارك، وتعالى - صراحةً، أو كنايةً بالضمير بنحوٍ من سبعة عشر موضعًا، أوصله بعضهم إلى واحدٍ، وعشرين موضعًا، في آيةٍ واحدة.

قال: "وهي أعظم آية" كما جاء عن النبي ﷺ لما قال لأُبي بن كعب : أي آية معه أعظم؟ فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضرب النبي ﷺ بصدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر[1] يعني: هنيئًا لك بالعلم، كيف استطاع أن يعرف بين هذه الآيات التي تزيد على 6000 آية، أن يستخرج، ويستنبط أعظم آية في كتاب الله - تبارك، وتعالى -.

فهذا يدل على أنها أعظم آية في كتاب الله - تبارك، وتعالى - وكما جاء في حديث أبي هريرة المشهور، مع الشيطان، لما أخذه، وهو يحثو من الثمر، أو من تمر الصدقة، وفيه: "إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح[2] وهذا في الصحيح.

"قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] تنزيهٌ لله تعالى عن الآفات البشرية، والفرق بين السنة، والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم، لا نفسه: كقول القائل: في عينه سنة، وليس بنائمِ".

وكما في الصحيح من حديث أبي موسى قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام[3] اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فابتدأ هذه الآية بهذا الاسم الذي هو أعظم الأسماء الحسنى، والجمهور يقولون: الله هو الاسم الأعظم، وهو المتضمن لأوسع الصفات، صفة الإلهية، وجميع الأسماء الحسنى كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى تعود إليه لفظًا، ومعنى، لفظًا يعني: إنها تُعطف عليه دائمًا، ولا يُعطف على شيءٍ منها هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر:23].

وتعود إليه معنىً، بأن معاني الصفات ترجع إلى صفة الإلهية، أي المألوه المعبود، فهذه الصفة الإلهية تتضمن صفة الربوبية، وسائر الصفات، الإله هو الذي بيده النفع، والضر، والعطاء، والمنع، والخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وما أشبه ذلك.

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وذكر كلمة التوحيد المركبة من المنفي، والإثبات "لا إله إلا هو" لا معبود بحق سواه، وهي أجلُّ كلمة تضمنتها هذه الآية.

وكذلك أيضًا ذكر بعده الحي، والقيوم، والحي: ترجع إليه جميع صفات الذات، والقيوم: ترجع إليه جميع صفات الأفعال، فالحي: الذي له الحياة الكاملة، التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتورها النقص بوجهٍ من الوجوه الْحَيُّ الْقَيُّومُ قائم بنفسه، المقيم غيره، القائم على خلقه بآجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] السِنة بعضهم يفسرها بالنُعاس، وبعضهم يقول: السِنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، المقصود لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] مقدمة النوم، وهي الضعف الطبيعي الذي يعتور الإنسان بين يدي النوم، لكن لا يرتفع معه الإدراك، والنوم يحصل معه ارتفاع الإدراك.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فهنا يقول: "تنزيه لله تعالى عن الآفات البشرية" يعني: ليس فقط السنة، والنوم، وهذا المعنى ذكره ابن جرير - رحمه الله -[4] يعني: إذا كان لا تأخذه سنة، ولا نوم، وهي العوارض التي تكون نقصًا في الحياة، فالمراد: أن الله لا تعتريه الآفات كلها.

يقول: "والفرق بين السنة، والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم" يعني: هنا يرد سؤال أنه قد يقول قائل: لو نفى النوم لربما كفى عن نفى السِنة، أو لو نفى السِنة كان من باب أولى أن ينتفي النوم، فيُقال: إن السِنة قد تقع، ولا يقع النوم، يدفعها الإنسان، يدفعه عن نفسه، وقد يقع النوم من غير مقدمات، من غير سِنة، فنفى السنة، ونفى النوم لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] ولذلك أعاد حرف النفي، (ولا)، ولم يقل: "لا تأخذه سنةٌ، ونوم" قد يُفهم منه نفي مجموع الأمرين، لكن حينما قال: وَلا نَوْمٌ فلا يحصل شيءٌ من هذين على سبيل الاستقلال، كما لا يحصلان على سبيل الانضمام، والاجتماع.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لا تعتريه الآفات، ولا يرد على حياته شيءٌ من النقص؛ لأن النوم نقص في الحياة.

"قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [البقرة:255] استفهام مراد به نفي الشفاعة إلّا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعة إليه".

 

يعني هذا الاستفهام مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ استفهامٌ بمعنى النفي، يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا أبلغ في النفي مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ أي: كائنًا من كان إلا بإذن، فلاحظ هنا هذا النفي في مقام الشفاعة في مقام التعظيم، فذكر معه الاستثناء إِلَّا بِإِذْنِهِ كما قال ابن جزي قبل قليل: إن ذلك النفي للشفاعة إن كان في مقام التهويل، وذكر القيامة كان النفي لها مطلقًا، وإن كان في مقام تعظيم لله كان ذلك مع هذا الاستثناء إِلَّا بِإِذْنِهِ.

في جميع النسخ: "استفهامٌ يراد به"

نفي الشفاعة إلا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعةٌ إليه، يعني بمعنى: إذا كانت بإذنه، واقعة، وهي بإذنه فهي ترجع إليه، وهذا يدل على كمال عزته، وكمال ملكه، وكمال غناه، وكمال عظمته؛ لأن أهل الدنيا مهما عظم شأنهم، فإن الناس يتقدمون بين أيديهم بالشفاعة من غير إذن، سواء قبلوها، أو لم يقبلوها، وقد يقبلون، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[5]: حياءً من الشافع، أو لمودة، أو خوفًا من غوائله إذا رُدَّت شفاعته، أو كان ذلك لمصلحةٍ، أو حاجةٍ، كل ذلك يحصل به قبول الشفاعة، أما الله - تبارك، وتعالى - فله الغنى الكامل، والمطلق، والعز، والعظمة، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فلا يرد عليه شيء من هذه الواردات التي ترد على المخلوقين، فيقبلون الشفاعة لأجلها.

"قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] الضميران عائدان على من يعقل، ممن تضمنه قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] والمعنى: يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم".

فالضميران الهاء في قوله: أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ "عائدان على من يعقل ممن تضمنه قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ" (ما) تستعمل لغير العاقل، فيدخل في هذا العموم (ما في السماوات) العقلاء، وغير العقلاء، ولكن قد يُعبر بـ(ما) التي تكون لغير العاقل من باب التغليب مثلًا؛ لأن الغالب فيما يكون للسماوات، والأرض هو غير العاقل من الشجر، والحجر، وحبات الرمل، وما أشبه ذلك، هذا لما لا يعقل، فيُغلب على العاقل من الملائكة، والإنس، والجن، والملائكة لم يرد وصفهم بالعقل؛ ولهذا بعض العلماء حينما يُعبر عن ذلك يعني يقولون: (ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعلم، ما يقولون يعقل، يقولون: من أجل أن يدخل فيه الملائكة؛ لأنهم يوصفون بالعلم، ولم يرد الوصف بالعقل، فيقولون: (من) لمن يعلم يوصف بالعلم، و(ما) لما لا يعقل، أو لما لا يعلم، وهو احتراز بالعبارة.

فقوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ هذا عام، لما قال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ "الضميران عائدان على من يعقل" لماذا هنا قال: على من يعقل؟ لأن الضمائر منها ما يكون لما يعقل، ومنها ما يكون لما لا يعقل، فلما لا يعقل، لو قال: يعلم ما بين أيديها، يعني هذه المخلوقات، وما خلفها لكن لما قال: أَيْدِيهِمْ فهذا للعقلاء، وخَلْفَهُمْ للعقلاء، وهكذا في الصيغ التي تكون للعقلاء، قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ [يوسف:4] ولم يقل: رأيتها، والشمس، والقمر لا توصف بالعقل، لكن لما أضاف إليها فعلًا من أفعال العقلاء، وهو: السجود، عاملها بمقتضى ذلك، فأجرى عليها ما يجري على العقلاء، فقال: رَأَيْتُهُمْ ولم يقل: رأيتها، وقال: سَاجِدِينَ [يوسف:4] وهذه الصيغة للعقلاء، وغير العقلاء يُقال: ساجدة؛ لهذا قال: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [الأعراف:195] غير العقلاء يُقال: تبطش، وهنا قال: يَبْطِشُونَ باعتبار أنهم ما عاملوها مجرد معاملة عقلاء، بل قالوا: هي آلهة، فأجرى عليها صيغ العقلاء، فهكذا في الاستعمالات.

فهنا يقول: "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] الضميران عائدان على من يعقل" يعني: من الإنس، والجن، والملائكة وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] فالضمير يحتمل أن يرجع إلى المذكور قبله، ولا يحيطون بشيءٍ من علمه يعني علم ما بين أيديهم، وما خلفهم، يعني ما مضى، وما يأتي، ويحتمل أن يعود الضمير في وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] أي: علم الله يَعْلَمُ أي: الله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] ويُمكن أن يُحمل الضمير على ذلك جميعًا؛ لأن القولين بينهما ملازمة، أو الاحتمالين، أو المعنيين، فإن علم ما بين أيديهم، وما خلفهم هو من جملة علم الله، وبعض علم الله فإذا كانوا لا يعلمون ما بين أيديهم، وما خلفهم، فمن باب أولى لا يحيطون بعلم الله، وكذلك إذا قيل بأنه يرجع إلى الله وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] علم الله، فشيء: نكرة في سياق النفي، وهي للعموم، فيدخل في ذلك علم ما بين أيديهم، وما خلفهم، فالقولان متلازمان، ولا حاجة للترجيح في مرجع الضمير هنا، وبعضهم يقول: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي: الله، ولا يحيطون به علمًا، فهو أعظم من أن تحيط به مدارك الخلق.

"وقال مجاهد: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الدنيا وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] الآخرة، قوله تعالى: مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] من معلوماته، أي: لا يعلم عباده من معلوماته إلّا ما شاء هو أن يعلموه".

هنا تعليق على آية الكرسي في الهامش صفحة [313] يقول: روى أبو داود أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا المنذر! أي آية معك أعظم في كتاب الله؟ قال: قلت: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] قال: فضربني في صدري، وقال: ليهن لك يا أبا المنذر العلم[6] رواه أبو داود، وفي سنن الترمذي: ما خلق الله من سماء، ولا أرض أعظم من آية الكرسي قال سفيان: "لأن آية الكرسي هو كلام الله، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء، والأرض"[7] هذه الرواية إيرادها هنا ليس له حاجة، لا سيما أنه لم يعلق على هذا.

ويقول سفيان بن عُيينة: "لأن آية الكرسي هو كلام الله، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء، والأرض" يعني هذا معناه، وهذا توجيهه، يعني: ليست هي مخلوقة، القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فهو يقول: "ما خلق الله من سماءٍ، ولا أرض أعظم من آية الكرسي" يعني: لا يوجد مخلوق أعظم من آية الكرسي؛ لأن آية الكرسي غير مخلوقة، فهي كلام الله.

لكن كونه يورد هذا من غير تعليق قد يُفهم أنها مخلوقة "ما خلق الله من سماءٍ، ولا أرض أعظم من آية الكرسي" يعني كأنه قد يُفهم أنه ما خُلق أعظم من آية الكرسي، لا سماء، ولا أرض، وهذا غير صحيح، ليس هو المراد، وإنما ما خَلَقَ الله خلقًا أعظم من آية الكرسي؛ لأنها غير مخلوقة، فهي كلام الله - تبارك، وتعالى -.

وفي لفظ: "ما خَلَقَ الله من سماءٍ، ولا أرضٍ، ولا سهلٍ، ولا جبل أعظم من آية الكرسي"[8] لكن مهما كان، فإن هذا أيضًا لا يصح عن النبي ﷺ بل قال شيخ الإسلام: هو كذب[9] فإيراده هنا غير صحيح، ما الحاجة لإيراد هذا من غير تعليق، وقد يَفهم منه القارئ أنها مخلوقة.

"قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255] الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، وهو أعظم من السماوات، والأرض، وهو بالنسبة إلى العرش كأصغر شيء، وقيل: كرسيه علمه، وقيل: كرسيه ملكه".

صح عن ابن عباس - ا - أن الكرسي هو موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحدٌ قدره[10] وبه قال أبو موسى وجماعة من السلف، كالسُدي، ومسلم البطين[11] كل هؤلاء فسروا الكرسي بموضع القدمين، وما ورد عن ابن عباس - ا - بأنه العلم[12] المشهور عنه أنه موضع القدمين، لكن تفسير ذلك بالعلم، وإن كان من جهة اللغة يحتمل، أو يصح، لكن المراد هنا بالكرسي ليس العلم، وإنما المخلوق الذي يكون بين يدي العرش، وليس العلم، والعلم يُقال له في كلام العرب: كرسي، وتكرُّس المعلومات، وتتابعها، وما إلى ذلك، ولهذا يُعبر بالألقاب المترجمة في المراتب، ورُتب الأكاديمية في الجامعات، يُقال: أستاذ كرسي، يعني: يُسمى باللغة الأعجمية: البروفيسور، يُقال: أستاذ كرسي، وهو مأخوذ من هذا المعنى، من معنى العلم، يعني كأنه قد رسخ في العلم، فيُقال له: أستاذ كرسي بهذا الاعتبار - والله أعلم -. 

وهكذا القول بأن كرسيه الملك، لكن الكرسي: موضع القدمين، هذا الذي عليه الجمهور - والله أعلم -. 

"قوله تعالى: وَلا يَئُودُهُ [البقرة:255] أي: لا يشغله، ولا يشق عليه".

عندنا: "أي لا يثقله، ولا يشق عليه" وذلك يُقال للثقل، آده يؤده، أي: يُثقله، كأن الشيء الذي يُثقل يحصل معه انثناء، وميل بسبب الثقل، هذا في اللغة، فالله لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أي: لا يثقله، ولا يعجزه حفظ السماوات، والأرض.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي برقم: (810).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم: (5010).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله : إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه برقم: (179).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/532).
  5.  زيارة القبور، والاستنجاد بالمقبور (ص:19).
  6.  أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب ما جاء في آية الكرسي برقم: (1460)، وصححه الألباني.
  7.  أخرجه سنن الترمذي ت شاكر في أبواب فضائل القرآن باب ما جاء في سورة آل عمران برقم: (2884).
  8.  مختصر قيام الليل، وقيام رمضان، وكتاب الوتر (ص:168).
  9. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/493).
  10.  المعجم الكبير للطبراني (12/39 - 12404)، والتوحيد لابن خزيمة (1/248).
  11.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/680).
  12.  تفسير مقاتل بن سليمان (5/106).

مرات الإستماع: 0

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة:255].

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الله الذي لا يستحق العبادة سواه فله الإلهية وحده، وله العبودية عبودية الخلق، لا معبود بحق سواه، وهو الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة بما يليق بجلاله وعظمته، وهو القيوم القائم بنفسه، المُقيم غيره، القائم على خلقه بآجلهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، لا تأخذه سنة نُعاس مقدمات النوم، ولا يأخذه نوم.

وكل ما في السماوات الأرض هو ملك له: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، ولا يمكن لأحد أن يتقدم بين يديه بالشفاعة إلا بإذنه؛ لكمال غناه، ولكمال عظمته، كما أن علمه مُحيط بخلقه أجمعين، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، يعلم الماضي والحاضر والمستقبل في الوقت الذي لا يحيطون بشيء من علمه من علم الله -تبارك وتعالى، أو من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، فالضمير يحتمل هذا وهذا وبين المعنيين ملازمة، إذا كانوا لا يحيطون علمًا بما بين أيديهم وما خلفهم فمن باب أولى أنهم لا يحيطون بشيء من علم الله -تبارك وتعالى، وإذا كانوا لا يحيطون بشيء من علم الله فهم لا يحيطون بعلم ما بين أيديهم وما خلفهم؛ لأنه نفى ذلك عنهم بالكلية، وهذا بعض علم الله ، ولا يطلع أحد من الخلق على شيء من ذلك إلا ما علمه الله وأطلعه عليه.

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، والكُرسي هو موضع القدمين، وهو مخلوق من المخلوقات العظيمة بين يدي العرش، ولا يعلم كيفيته إلا الله .

وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا، أي: لا يُثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض وهو العلي الذي له العلو المُطلق، علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر والمنزلة، وكذلك أيضًا هو العظيم الذي له العظمة والكبرياء.

هذه الآية أعظم آية في كتاب الله -تبارك وتعالى، وهي آية الكرسي، وقد جاء عن النبي ﷺ في بيان فضلها أحاديث صحيحة ثابتة، وما يدل على كونها أعظم الآيات في كتاب الله [1].

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات وهذه الآية كلها هدايات، فهي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي"[2] يعني: قد يوجد ما تضمنته مفرقًا في بعض الآيات، ولكن في آية واحدة فهذه أعظم آية، وتدبرها أنفع ما يكون للعبد، فيمتلأ قلبه باليقين والمعرفة والإيمان ويكون بذلك محفوظًا من الشيطان: فإنه إذا قرأ آية الكرسي عند نومه مثلاً فإنه لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، لا يزال عليه من الله حافظ يحفظه من الشرور والآفات وجميع أنواع المخاوف من شياطين الإنس والجن، والهوام، والدواب، والسباع، والأشرار، لا يزال عليه من الله حافظ [3] فأطلقه هنا ولم يقل يحفظه من كذا فالأصل بقاء مثل هذا المُطلق على إطلاقه فهو محمول على أعم معانيه -والله تعالى أعلم، وخص من ذلك الشيطان.

أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ابتدأت هذه الآية العظيمة بلفظ الجلالة الذي هو أعظم الأسماء الحسنى، والجمهور على أنه هو الاسم الأعظم الذي إذا سُئل الله به أعطى، وإذا دعُي به أجاب، وذلك أنه الوحيد الذي يصدق عليه مدلول المرويات الصحيحة في الاسم الأعظم، ويليه في القوة الحي القيوم، ثم بعد ذلك الواحد الأحد، ثم بعد ذلك الحنّان المنّان، كما ذكرنا ذلك في الكلام على مقدمات الأسماء الحسنى، هذا من مجموع الروايات والأحاديث الصحيحة، وهذا الاسم الكريم "الله" تعود إليه جميع الأسماء الحسنى لفظًا ومعنى كما ذكرنا في الكلام على شرحه في شرح أسماء الله الحسنى، وهو أول هذه الأسماء التي شُرحت، "الله" تعود إليه جميع الأسماء الحسنى لفظًا؛ بمعنى أنها تُعطف عليه دائمًا، يُقال: الله الحي القيوم القدوس العظيم المتكبر، ونحو ذلك، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [سورة الحشر:22]، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ [سورة الحشر:23]، فهي تُعطف عليه لفظًا، ولا يُعطف على شيء منها فتأتي تبعًا له، هذا في اللفظ، كما أنها تعود إليه معنًا بمعنى أن معانيها مضمنة في هذه الصفة الواسعة وهي صفة الإلهية، فإنها أوسع الصفات، فإنها تتضمن الربوبية وهي من أوسع الصفات، وتتضمن غيرها.

ومعلوم أن الإله لابد أن يكون ربًا، وخالقًا، ورازقًا، ومحييًا، ومميتًا، وسميعًا، وبصيرًا، وقديرًا، وعظيمًا، ومالكًا، وملكًا، وما إلى ذلك، فلا يكون الإله إلا من كان كاملاً من كل وجه، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذا نفي وإثبات وهي أقوى صيغة حصر في لغة العرب، وهي أقوى صيغة حصر عند الأصوليين، النفي والإثبات، وجاءت بها هذه كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" فذلك نفي الألوهية عن غير الله -تبارك وتعالى- وإثباتها له وحده بمعنى لا معبود بحق سواه، وهذا من التخلية قبل التحلية، نفى المعبودات: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [سورة البقرة:256]، وهذا بمعنى كلمة التوحيد، كما ذكر ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في كتابه أضواء البيان[4]

وقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لما قرر وحدانيته لا معبود بحق سواه، ذكر بعده الحي القيوم، لما ذكر استحقاقه للعبودية ذكر سبب ذلك وهو كماله في نفسه ولغيره كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- فلا تصح العبادة، ولا تصلح إلا لمن هذا شأنه، ولهذا قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [سورة الفرقان:58]، فهذا الذي يتوكل عليه، أما الذي يموت، الذي يُفارق هذه الحياة فإنه لا يصح أن يتوكل عليه؛ لأنه يفوت، لأنه يذهب، فيبقى المتوكل عليه حسيرًا كسيفًا منقطعًا لا يحصل على مطلوبه بوجه من الوجوه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [سورة الفرقان:58]، "من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"[5] فهو المستحق للعبادة والتوكل.

وكذلك أيضًا لما ذكر لنفسه صفة الحياة الحي القيوم ذكر بعده: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ذكر حياته وقيوميته فهو قائم بنفسه مُقيم لغيره، قائم على خلقه بأرزاقهم، وأعمالهم، وآجالهم، فقيامه -تبارك وتعالى- إنما هو قيام بنفسه بمعنى أنه مستغنٍ عن غيره، المخلوق لا يمكن أن يقوم بنفسه، لو تخلى الله -تبارك وتعالى- عنه طرفة عين لهلك، فالله -تبارك وتعالى- قائم بنفسه مقيم لخلقه، المخلوق مسكين لا يقيم نفسه ولا يقيم غيره، فهو بحاجة إلى إقامة الله  له.

ثم قال: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لما ذكر الحياة نفى عنه أضداد الحياة: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، السِنة مقدمة النوم وهي خثورته هي الفتور الطبيعي الذي يعتري الإنسان بين يدي النوم، والنوم معروف يرتفع به الإدراك.

فهنا لما ذكر الحياة له، الحي القيوم القائم بنفسه يقيم أمر الخلائق قام على خلقه لا يحصل له أدنى ضعف ولا عجز ولا انقطاع ولا فتور بل كما يقول ابن جرير: إنه يؤخذ من ذلك أنه لا تعتريه الآفات[6] يعني: أن قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، معناه لا تعتريه الآفات؛ لأن من تأخذه السِنة والنوم يكون موضعًا للآفات، فالله -تبارك وتعالى- مُنزه عن ذلك كله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، قد يقول قائل بأنه نفى عنه السِنة وهي مقدمة النوم، فلمِ ذُكر النوم بعدها؟

يقال: لأنه قد تقع السِنة فيُدافعها الإنسان ولا يحصل النوم، وقد يقول قائل: لماذا ذكر السِنة هلاّ اكتفي بنفي النوم عنه؟

يقال: بأنه قد يقع النوم من غير سِنة فنفى هذا وهذا وكل ذلك مما يكون منافيًا لكمال الحياة، فإذًا يُفهم من هذا أن له الحياة الكاملة التي لا يعتورها النقص، حياة المخلوقين، المخلوق يوصف بالحياة ولكن حياته مسبوقة بالعدم ويتخللها من الآفات من الأمراض والنوم والسِنة والضعف الطبيعي ما يكون نقصًا فيها، ثم يتبعها أيضًا العدم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [سورة الزمر:30]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [سورة آل عمران:185]، فهذه حياة المخلوق مسبوقة بعدم يتبعها عدم وبين ذلك يتخللها الضعف والنقص، وكذلك أيضًا هذه الحياة حياة المخلوق لا تقوم بإقامة المخلوق لها، وإنما بإقامة الله -تبارك وتعالى- لهذا المخلوق.

الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، فالحي القيوم من أسماءه الحسنى بالاتفاق، ويدلان بأنواع الدلالة المعروفة التي نُكررها في الكلام على أسماء الله الحسنى فالحي له الحياة الكاملة التي تستلزم جميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك، والقيوم كما ذكرت القائم بنفسه مُقيم لغيره وهذا يستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها -تبارك وتعالى، الأفعال الكاملة كالاستواء والنزول والكلام والرزق والإماتة والتدبير وما أشبه ذلك كل هذا يرجع إلى قيوميته.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ هذا فيه تدرج من الناحية الطبيعية، فالسِنة تكون قبل النوم فذكرها قبله، وهو تدرج من الأدنى إلى الأعلى فكأنه قال: لا تأخذه سِنة فكيف بالنوم، فهذا أبلغ في التأكيد: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ.

وكذلك أيضًا يمكن أن يُقال بأن السِنة قُدمت على النوم باعتبار التدرج في النفي فنفى الأدنى؛ ليكون ذلك لنفي الأعلى، يعني: قد يقول قائل لو نُفي النوم ثم ذُكرت السِنة بعده، فقد يقول قائل: إن نفي النوم يكون نفيًا لمقدماته، فكان ذلك من قبيل التدرج فنُفي الأسهل ثم الأعلى، وهكذا من الناحية الوجودية، فالسِنة قبل النوم.

فالسِنة والنوم آفتان بالنسبة للحياة وإن كان ذلك هو من الكمال بالنسبة للمخلوق، لكن ما كل كمال للمخلوق يستحقه الخالق؛ لأن من الكمال الذي يكون للمخلوق ما يكون نسبيًا مثل: الزوجة والولد هذا كمال نسبي، ولهذا كلام أهل العلم بأن كل كمال يوصف به المخلوق فالخالق أولى به هذا ليس على إطلاقه، وإنما مقصودهم بذلك كل كمال مطلق، وليس الكمال النسبي، أما الكمال النسبي فإنه لا يصح أن يكون لله -تبارك وتعالى، يعني: مثلاً التواضع كمال بالنسبة للمخلوق، ولكنه لا يصلح لله فالله هو المتكبر، وهكذا العبودية صفة كمال للمخلوق لكن لا تصلح لله ، وهكذا، فهذه كمالات نسبية. 

 

لما قال الله -تبارك وتعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، قال بعدها: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة:255]، فالقلوب متعلقة بمن يرزقها ويحقق مطالبها، فذكر أن ما في السماوات وما في الأرض له، فهذا الذي ينبغي أن يُعبد ويوحد ويُطاع ويُتقرب إليه بأنواع القربات.

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، فالإله هو الرب فإن الإلهية متضمنة لجميع صفات الكمال، وهذا الاسم الكريم "الله" ترجع إليه جميع الأسماء الحسنى لفظًا ومعنى، فهي تعود إليه وترتبط به فالمألوه هو الذي بيده النفع والضر، والعطاء، والمنع، والرزق هو الرب هو الخالق والبارئ والمصور كل ذلك من أوصاف المعبود المألوه كما في قول إبراهيم : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة العنكبوت:17]، فدلهم على العبودية من هذه الجهة أن مطالبكم أن فقركم وحاجتكم إنما هي عند هذا الإله الذي ينبغي أن يُعبد دون سواه.

وقوله: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بعد قوله: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة:255]، له ما في السماوات فهذا عام فكل ما في السماوات والأرض فهو له، ومن جملة ملكه -تبارك وتعالى، وكل من في السماوات والأرض فهم عبيده وخلقه، ومن ثَم فكيف يتوجه العبد إلى عبدٍ مثله يعبده ويتقرب إليه سواء كان إنسانًا أو شجرًا أو حجرًا أو ملكًا أو غير ذلك، كل ما في هذا الكون فهم ملك لله، وهم عبيده، لا يصلحون لأن يعبدوا غيره.

تأمل وأنت تسمع قول الله -تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أوسع ما يمكن من الأملاك لأهل الأرض، أغنى الناس ماذا يمكن أن يملك من المساحات من الأراضي من الزروع أغنى الناس، ما هي المساحة التي يملكها؟! فالله له ما في السماوات وما في الأرض، السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما من الأفلاك كل ذلك لله -تبارك وتعالى، فملكه واسع لا يمكن للبشر أن يحيطوا به، وسلطانه السماوات والأرض والدنيا والآخرة، وما في أيدي الخلق إنما هو عارية مستردة فهو الذي أعطاهم واستخلفهم في ذلك، ثم بعد ذلك يرث الله -تبارك وتعالى- الأرض ومن عليها، وهذا كله يجعل القلوب متوجهة إليه متعلقة به، مرتبطة به، فيكون خوفها ورجاءها ومحبتها وتوكلها كل ذلك إلى الله -تبارك وتعالى.

وفي قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ تسلية للإنسان فيما قد يفوته من موت محبوب أو ذهاب مال أو نحو ذلك فكل ما في السماوات وما في الأرض هو ملك لله ، كل ما نشاهده وما لا نشاهده هو ملك له، فإن شاء أخذه واسترده، لا معُقب لحكمه ولا راد لقضائه، فالولد عارية، والمال عارية، فإذا أخذه المالك فعندئذ يتسلى الإنسان، ويكون ذلك أدعى لصبره.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، يدخل في جملة ذلك أفعال العباد، فهي مخلوقة لله تعالى بخلاف قول بعض أهل البدع بأن العبد يخلق فعله.

وإذا كان لله ما في السماوات والأرض فينبغي أن يكون شرعه هو المهيمن على العباد فيكون هو المرجع لهم.

وكذلك أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، الشفاعة معروفة يكون بها الفرد شفعًا يعني تقوى بغيره لينال مطلوبه، لجلب نفعٍ أو دفع ضر، فالشفاعة التي تكون عند المخلوقين هذه لا تكون بإذن والمشفوع عنده قد يقبل هذه الشفاعة إما محبة للشافع وإكرامًا له أو يكون ذلك ردًا لبعض صنائعه وأفضاله عليه أو يكون ذلك من باب رد غوائله فيخشى أنه إن رد شفاعته أن يصل إليه منه إساءة فيقبل الشفاعة دفعًا لأذى هذا الشافع، وقد يكون ذلك لرغبة، أو بسبب حياء أو بسبب مودة أو غير ذلك، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[7]  أما الله -تبارك وتعالى- فكل ذلك لا يرد عليه؛ لأن قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يدل على الغنى المطلق، المخلوق لفقره وضعفه وحاجته قد يقبل شفاعة هذا وهذا؛ لأنه قد يحتاج إليهم في يوم ما، أو لأنهم أحسنوا إليه في يوم ما، أو لرد شرهم وكف آذاهم ونحو ذلك، الله له الغنى المُطلق لا يحتاج إلى أحد، والخلق جميعًا في غاية الافتقار إليه، فهنا لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه فهذا يدل على أنه الغني كامل الغنى، العزيز كامل العز.

وفي هذا أيضًا إثبات الشفاعة والرد على نفاتها من أهل الأهواء والبدع كالوعيدية من الخوارج والمعتزلة الذين ينفون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار.

وقوله -تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فهنا هذا الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، وبوقت الشفاعة، فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله -تبارك وتعالى، وفيما أذن الله فيه، فالله يقول: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [سورة النجم:26]، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28]، وقال: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [سورة يونس:3].

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [سورة البقرة:255]، هذا فيه رد على غُلاة القدرية الذين ينفون علم الله -تبارك وتعالى- بالأشياء قبل وقوعها، وهذا المذهب أهل العلم يقولون إنه قد انقرض، يعني: القدرية الأوائل كانوا ينفون العلم يقولون الله لا يعلم بوجود الأشياء قبل وقوعها.

فقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ هذا فيه إثبات عموم العلم لله -تبارك وتعالى- فهو يعلم أفعال العباد وأحوالهم وما يصدر عنهم مما كان وما يكون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، و"ما" هذه تفيد العموم بمعنى أنه يعلم كل ذلك مما يكون في السر وما يكون في العلانية وهذا يبعث الإنسان على مراقبة الله -تبارك وتعالى- والخوف منه، ومحاسبة النفس، فلا يصدر عنه من قول ولا فعل ولا حركة إلا وهو مُلاحظ لذلك؛ لأنه يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية.

وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [سورة البقرة:255]، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وفي الوقت نفسه هم في غاية الجهل فهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فشيء هنا نكرة في سياق النفي: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ يعني لا قليل ولا كثير إلا بما شاء بما أطلعهم عليه وأعلمهم به، فهذا يقتضي أن ربنا -تبارك وتعالى- هو الذي يمُن على من شاء من عباده بالعلم وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [سورة النحل:78].

وقال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الإسراء:85]، فالذي آتانا هو الله وهذا كله منه ، والملائكة قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، فإذا كان هذا قول الملائكة فمن دونهم من باب أولى، فالله هو المنفرد بالتعليم والهداية، لا يعلم أحد إن لم يُعلمه الله إياه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[8].

وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، الضمير في قوله مِنْ عِلْمِهِ يحتمل أن يرجع إلى ما ذُكر قبله، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255]، أي: من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهذا بضع علم الله .

ويحتمل أن يعود إلى الله: يَعْلَمُ، أي الله، مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [سورة البقرة:255] أي: بشيء من علم الله، وبين المعنيين ملازمة، فإذا كان لا يحيطون بشيء من علم الله فمن جملة علم الله علم ما بين أيديهم وما خلفهم.

وكذلك حينما يقال: بأن ذلك يرجع إلى علم ما بين أيديهم وما خلفهم فمن باب أولى أنهم لا يحيطون إذًا بشيء من علم الله ، وهكذا أيضًا في قوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وما قال: بعلمه، فهم لا يحيطون بعلمه ولا بشيء من علمه بل هم إن علموه فإنما يعلمونه من وجه دون وجه بغير إحاطة، كما يقول ابن جزي -رحمه الله[9].

كذلك دل هذا الموضع من هذه الآية الكريمة على أن الله -تبارك وتعالى- لا يُحاط به علما، ولا يُحاط به سمعا، ولا بصر، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103]، وقال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]، فكل ذلك منفي عنهم. 

 

الله -تبارك وتعالى- يقول: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة البقرة:255]، هذا مخلوق وليس هو أكبر المخلوقات، فالعرش أكبر من الكرسي، ومع ذلك هذا المخلوق وسع السماوات والأرض، السماوات السبع الطباق ولا يمكن للبشر أن يتصوروا مدى ذلك وسعته، فهم لا يحيطون بالسماء الدنيا، ولم يبلغوا ذلك فكيف بالسماوات فوقها؟! وهكذا فإن الأرضين السبع داخلة في قوله: وَالْأَرْضَ فالأرض جنس يشمل ذلك كله.

فإذا كان هذا مخلوق بهذه المثابة والعِظم والسِعة فما بال الخالق : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]، فالله أعظم وأجل من أن تحيط به عقول المخلوقين، وهو أعظم من كل ما يمكن أن يتصوره الخلق، فهو العظيم الأعظم، هذه مخلوقاته تدل على عظمته، فهذا الإله هذا المعبود هذا الرب ينبغي أن يُخاف، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُعظم، وأن تُعظم حرماته، وأن يُراقبه العبد في أحواله كلها، يكون مراقبًا لربه -تبارك وتعالى، فإذا غاب عن الناس تذكر نظر الله إليه.

كذلك أيضًا في قوله: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [سورة البقرة:255]، حفظ السماوات والأرض لا يثقله، ولا يُعجزه حفظ هذه السماوات والأرض على ضخامتها، وكثرة المخلوقات فيها، فذلك لا يُعجزه، ولا يُضعفه، ولا يُثقله فهذا يدل على كمال علمه؛ لأنه قد أحاط بها إحاطة كاملة، وعلى كمال قدرته، وعلى كمال قوته، وعلى كمال عزته، وعلى كمال غناه، فهو الذي يرزق هذه المخلوقات جميعًا، يعطيها، ويوليها، وهكذا أيضًا سائر أوصاف الكمال: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا، الإنسان قد يعجز عن حفظ بيته فكيف بما هو أكبر من ذلك، أما الله -تبارك وتعالى- فهو الذي يحفظ هذه المخلوقات من كل وجه: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السماوات وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا لا تضطرب، ولا تتحرك، أقامها بلا عمد نراها: وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا [سورة فاطر:41]، يعني: "إن" هنا نافية، يعني: لا يوجد من يمسكهما من بعده -تبارك وتعالى.

الخلق في غاية الضعف لا يستطيعون دفع الغبار عنهم، لا يستطيعون دفع الحر ولا البرد، لا يستطيعون دفع المطر أو ما دون ذلك.

وقوله: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا يدل على أن السماوات مفتقرتان إلى الحفظ وإلا لحصل الاضطراب، فمن الذين يمسك السماوات والأرض والناس قارّون على هذه الأرض منذ دهور متطاولة يقيمون معايشهم وزروعهم وحروثهم، يمشون عليها وتمشي أنعامهم، وكذلك أيضًا هذه السماء فوقهم لا تسقط، ولا تميد، ولا تضطرب، ولا تتشقق مع تطاول الزمان، لا يوجد فتور ولا فتوق، ولا شقوق، ولا خلل في هذا البناء المحكم مهما فعل الناس من إحكام البناء فله مدة زمنية.

هذه الأبنية التي يبنيها الناس لو سألنا أحدًا من المقاولين كم العمر الافتراضي لهذه المباني؟ يقول: عشرون سنة.

يجمع الإنسان الأموال ويبذلها من أجل أن يبني له دارًا والعمر الافتراضي عشرون سنة، يعني: لو أراد أن يبيع هذه الدار تُشترى الأرض فقط، لا يقيمون وزنًا لهذا البناء باعتبار أنه انتهى، وقد يظهر فيه الشقوق والخلل من أول سنة، بل لربما من أول شهر هذا خلق الله -تبارك وتعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:3، 4]، يُجري هذه الأفلاك بسير دائب في غاية الدقة والإحكام، ويُجري هذا السحاب ويسوقه حيث شاء وينزل فتنبت الأرض فيأكل الناس والأنعام فتقوم المعايش والمصالح فهذا تدبير العليم الحكيم.

وهكذا أيضًا حينما قال: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا لم يقل: ولا يؤده حفظ من فيهما؛ لأن ذلك تبع لهما فهو داخل في جملة ذلك إدارة هؤلاء المخلوقين، يقول بعض أهل العلم: بأنه خص السماوات والأرض: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ولم يذكر الكرسي ولا يؤده حفظه باعتبار أن الناس يشاهدون السماء والأرض.

وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [سورة البقرة:255] دخول "ال" وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، هذا يُشعر بالحصر، فهو وحده العلي الذي له العلو المطلق علو الذات، علو القدر، وعلو القهر، وعلو المنزلة، جميع أنواع العلو ثابتة لله -تبارك وتعالى، والعظيم عظيم في ذاته، عظيم في سلطانه، عظيم في صفاته وتقدست أسمائه، وإذا أيقن العبد بأن الله هو العلي العظيم فإنه لا يمكن أن يترفع على المخلوقين ويتعاظم ويتكبر ويتعدى طوره، وإنما يكون في غاية الإخبات والتواضع لله : كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، فنوازع الطغيان موجودة في نفس الإنسان إذا وجد ما يُحركها، فإن نفس الإنسان لربما تربوا وتتعاظم، وكلام أهل العلم في ذلك كثير.

فيتذكر العبد علو الله -تبارك وتعالى- وعظمته فيتواضع له.

وقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ رد على نفاة العلو من طوائف المتكلمين، ورد أيضًا على الملاحدة من أهل الحلول والاتحاد الذين يقولون: بأن الله حل في خلقه تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فهو العلي فوق سماواته، فوق عرشه.

فهنا في هذه الآية الكريمة التي هي أعظم آية افتتحت بأعظم أسماء الله الحسنى، وهو الاسم الأعظم عند جمهور أهل العلم، وهذا خير ما يُفتتح به: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255].

ثم أيضًا: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [سورة البقرة:255]، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فجاء هنا تأكيد الخبر باسمية الجملة، ونفي الألوهية بما سوى الله بأقوى صيغة من صيغ الحصر: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.

فقوله: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، ولم يقل: ما تأخذه سِنة ونوم؛ لئلا يُفهم أن المقصود نفي ذلك مجتمعًا السِنة والنوم، لكن حينما قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ فهذا نفي لها على سبيل الاستقلال، وَلَا نَوْمٌ على سبيل الاستقلال؛ لأنه قد تقع السِنة ولا يقع النوم، وقد يقع النوم ولا تقع السِنة، والسِنة هي مقدمة النوم، فسرها أكثرهم بالنُعاس.

وبعضهم يقول: السِنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة البقرة:255] أن "ما" هذه للعموم واللام للملك، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، فهذا لا يخرج منه شيء.

وكذلك أيضًا الحصر بهذه الصيغة: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ولم يقل: ما في السماوات فهو لله، قال: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، يعني: ليس لغيره، فالملك الحقيقي هو لله وحده، وأما ما في أيدينا فهو عارية مستردة ستُرد في يوم من الأيام، وانظر إلى أغنى الناس، وأكثر الناس جمعًا إذا فارق الحياة خرج بلا شيء من هذا الجمع وهذا الحطام الذي قضى عمره في تحصيله.

وكذلك أيضًا هنا في قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [سورة البقرة:255]، هذا حينما قال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255] قائم على شؤون الخلائق، كامل الحياة، لا يتطرق إليه النوم ولا السِنة، له ما في السماوات وما في الأرض، يعلم ما بين أيديهم، فهم مماليكه، وهو أيضًا يعلم كل شيء يتعلق بهم من الماضي والمستقبل، لا يخفى عليه خافية على كثرة الخلق وتنوعهم، وكثرة ما يصدر عنهم، فكل ذلك يدل على سعة علمه -تبارك وتعالى، هو الذي خلق هذا الخلق ولم يتركه هملاً ولم يُضيعه بل حفظه، وأحاط علمًا به، هذه تُربي في نفس المؤمن التوجه إلى الله في كل الحالات، ولا يمكن أن يُرائي في عمله، ويتزين للآخرين، ويهتم بكلامهم، ومدحهم وثناءهم، أو أن يُراقب المخلوقين ويتزين لهم ولكنه إذا خلا بمحارم الله -تبارك وتعالى- انتهكها، لا، لا، يبقى الإنسان على حال من الاستقامة، أن تكون حاله في السر مثل حاله في العلانية تمامًا يستوي، هذه التقوى الحقيقية، وهذه هي التربية الإيمانية.

هكذا أيضًا هذه الجُمل أشرنا إلى ما تضمنته من المعاني العظيمة وترتيبها هذا في غاية الدقة.

وكذلك أيضًا هذا العطف بهذه الجُمل: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ هذه جملة وهذه جملة، هنا تقرير أن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهنا نفي العلم عن المخلوقين، لا يحيطون بشيء من ذلك فهم في غاية الجهل، ومن ثَم كيف يمكن للإنسان أن يغتر بالعلم، وما ناله منه أيًّا كان هذا العلم فهو لا شيء بالنسبة لعلم الله -تبارك وتعالى، والذي أعطاه هذا العلم هو الله فينبغي أن يزيده قربًا وخوفًا وخشية وإخباتًا، العلم إذا ما كان يُقرب إلى الله، ويدل عليه ويزيد الإنسان تواضعًا وعبادة فلا خير في هذا العلم، ولذلك ينبغي على الإنسان إذا تعلم شيئًا أن يُرى أثره في سمته، وهديه، وخلقه، وعمله، وحاله، وإلا فما الفائدة من الاستكثار من العلم إذا كان لا يدل على ذلك.

وهكذا أيضًا فإن هذه الآية مع إيجازها تضمنت هذه المعاني العظيمة، وتضمنت سبعة عشر موضعًا فيها اسم الله مُصرحًا به أو مُكنى عنه بالضمير.

وبعضهم أوصل ذلك إلى واحد وعشرين موضعًا، واشتملت هذه الآية على أسماء لله -تبارك وتعالى- وأوصاف كاملة ومن ثَم جاء في فضلها ما جاء، فهي تُقرأ بعد الصلوات، وعند النوم إلى غير ذلك مما ورد. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، برقم (810).
  2. مجموع الفتاوى (17/ 130).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلا، فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، برقم (2311).
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 245).
  5. انظر: سيرة ابن هشام ت السقا (2/ 656).
  6. تفسير الطبري (4/ 533).
  7. انظر: مجموع الفتاوى (27/ 73).
  8. الصفدية (2/ 65).
  9. تفسير ابن جزي (التسهيل لعلوم التنزيل) (2/ 15).