لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر هذا دعاء له كأنه يقول: هنيئاً لك العلم الذي استطعت به أن تستنبط من آيات القرآن على كثرتها أعظم آية في القرآن الكريم من غير سابق علم، ولا دراية، فهذا أمر يدل على ثقوب النظر، والقدرة العالية في الاستنباط، والاستحضار عند ذلك الجيل الأكمل، والرعيل الأنبل.
"روى الإمام أحمد عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له تمر".
قال الجزري - في النهاية -: "السهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلاً شبيه بالمخدع، والخزانة، وهذا هو الأشهر، وقيل: هو كالصفة تكون بين يدي البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطابق يوضع فيه الشيء" انتهى.
"وكانت الغول تجيء فتأخذ؛ فشكاها إلى النبي ﷺ".
الغول: الجن أو الشياطين حينما تتمثل للناس في الليل، أو تتبدى لهم بصورة آدمي، أو غير ذلك، يقال: تغولت الغيلان يعني تبدت لهم الجن بصور يرونها.
"فشكاها إلى النبي ﷺ فقال: فإذا رأيتها فقل: بسم الله، أجيبي رسول الله قال: فجاءت، فقال لها، فأخذها فقالت: إني لا أعود، فأرسلها فجاء فقال له النبي ﷺ: ما فعل أسيرك؟ قال: أخذتها، فقالت لي: إني لا أعود، فأرسلتها فقال: إنها عائدة، فأخذتها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك تقول: لا أعود، وأجيء إلى النبي ﷺ فيقول: ما فعل أسيرك؟ فأقول: أخذتها وتقول: لا أعود، فيقول: إنها عائدة فأخذتها فقالت: أرسلني، وأعلمك شيئاً تقوله فلا يقربك شيء: آية الكرسي، فأتى النبي ﷺ فأخبره فقال: صدقت وهي كذوب[2]، ورواه الترمذي في فضائل القرآن، وقال: حسن غريب، والغول في لغة العرب: الجان إذا تبدى في الليل".
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي ﷺ وهو يدل على صحة وجود هذه الغول (الجن)، ومن أهل العلم من يقول: إن الغول ومثله العنقاء أشياء لا وجود لها، ولا حقيقة، وإنما تجري على ألسنة الناس، وفي القصص، والأخبار، وأشعار العرب، ومن ذلك قول صاحب مراقي السعود لما ذكر مذهب الإمام مالك في بلاد المغرب
وغيره مثل عنقاء مُغْرِب | في كل قطر من نواحي المغربِ |
"وقد ذكر البخاري مثل هذه القصة عن أبي هريرة فروى في كتاب فضائل القرآن، وفي كتاب الوكالة، وفي صفة إبليس من صحيحه عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ فقال: دعني فإني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي ﷺ: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته وخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ﷺ: إنه سيعود، فرصدته فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ، قال: دعني فإني محتاج، وعليّ عيال، لا أعود، فرحمته، وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ﷺ: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة، وعيالاً، فرحمته وخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: وما هن؟، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان؛ حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله ﷺ: ما فعل أسيرك البارحة؟، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان؛ حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي ﷺ: أما إنه صدقك وهو كذوب، تَعْلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ذاك شيطان[3]، ورواه النسائي في اليوم والليلة".
الشياطين: هم كفار الجن، وبعضهم يقول: إن السعالي هم سحرة الجن، إلا أن الحديث الوارد فيه ضعفه أهل العلم.
فائدة:
إقرار النبي ﷺ الشيطان على قوله: "لا يزال عليك من الله حافظ" يحمل على أعم معانيه، فهذا الحافظ من الله يحفظه من شر الآدميين، ومن شر كل ذي شر من السباع، والهوام، وكل ما يتخوف من جهته، وقوله بعده: "ولا يقربك شيطان حتى تصبح" هذه الجملة الأخيرة في الشياطين، وما قبلها في كل ذي شر، والله أعلم.
"روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن - ا - قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول في هاتين الآيتين اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255] وآلم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة آل عمران:1-2]: إن فيهما اسم الله الأعظم[4]، وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى ابن مردويه عن أبي أمامة يرفعه قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة، وآل عمران، وطه[5]، وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق: أما البقرة فـ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وفي آل عمران: آلم اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وفي طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [سورة طه:111]".
فهذه الأحاديث التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تحديد الاسم الأعظم هي مما يقوي القول بأن المراد به الحي القيوم، وعليه جمع من أهل العلم.
وذهب جمع سواهم من أهل العلم إلى اعتبار لفظ الجلالة "الله" الاسم الأعظم، وقد ورد فيه بعض النصوص مثل حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمع النبي ﷺ رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك إني أشهدك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد"، فقال رسول الله ﷺ-: لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب[6]، وقالوا: إن هذا الاسم تكرر في كثير من الأحاديث الصحيحة التي تذكر الاسم الأعظم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الاسم ترجع إليه الأسماء الحسنى لفظاً، بمعنى أنها تأتي معطوفة عليه، ولا يعطف على شيء منها.
وترجع إليه معنى لكونه متضمناً لصفة الإلهية التي يرد إليها جميع الصفات.
وهناك وجه حسن للجمع وهو أن تُجمع هذه الأسماء التي جاءت في تجلية الاسم الأعظم فيقال: "اللهم إني أسألك إني أشهدك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الحي القيوم، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" فتكون بمثابة أقوى ما قيل في تحديده وتعيينه، والله أعلم.
"وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة فقوله: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق.
الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، المقيم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، لا قوام لها بدون أمره كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [سورة الروم:25]".
الحي: يعني الذي له الحياة الكاملة من كل وجه، لم تسبق بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتورها نقص؛ بخلاف حياة المخلوق.
القيوم: القائم بنفسه، والمقيم لغيره، وكل مخلوق إنما يقوم بإقامة الله له، فهو مفتقر إلى إقامته كل الافتقار، ولولا إقامة الله على خلقه بأرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم؛ لذهبوا، واضمحلوا.
"وقوله: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ أي: لا يعتريه نقص، ولا غفلة، ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية".
هذا من باب التفسير باللازم، وهو يتضمن نفي النقص عن الله ، وهذا تفسير جيد سار عليه السلف فمن بعدهم من العلماء، فهم قد يفسرون الشيء بلازمه، أو بدلالة تضمنه، أو بغير ذلك من أنواع الدلالة، وكل ذلك صحيح.
وأما التفسير المطابق فجاء في قول ابن كثير بعده.
"ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنة، ولا نوم، فقوله: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ أي لا تغلبه سنة وهي الوَسَن والنعاس، ولهذا قال: وَلاَ نَوْمٌ لأنه أقوى من السِّنة".
فالسِّنة في قوله سبحانه: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ يعني مقدمة النوم وهي فتور طبيعي يعتري الإنسان بين يدي النوم، كما قيل: هي خُثُورة النوم، ومبادئه، ومقدماته، وبعض أهل العلم يقول: إن السِّنة هي النعاس، وبعضهم يقول: السِّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.
وأما النوم فمعروف، وهذا يتضمن أو يقتضي كما سبق نفي النقائص عن الله ؛ لأن النوم نقص، وهو كمال بالنسبة للمخلوق، لكنه ليس بكمال مطلق، والقاعدة التي يذكرها أهل العلم في مجال الرد والمحاجة لطوائف المتكلمين: كل كمال ثبت أو أضيف للمخلوق فالخالق أولى به؛ لأنه معطي الكمال، ومقصودهم بذلك: الكمال المطلق لا النسبي، فالزواج، والنوم، والولد و...، من الكمالات النسبية بالنسبة للمخلوق، لكن بالنسبة لله - تبارك وتعالى - فإن ذلك نقص في حقه لا يليق فينزه عنه - تبارك وتعالى -.
وقد يرد على هذا سؤال وهو: ألا يكفي نفي أحدهما لنفي الآخر، فإذا قلنا: لا يعتريه سِنة فمن باب أولى لا يعتريه نوم؟ فالجواب أن يقال: إن النوم قد يهجم على قلب الإنسان بدون مقدماته كالنعاس ونحوه، وبالمقابل فقد يرد على العبد النعاس ولا يرد عليه النوم، كما هو مشاهد وملاحظ، ولذلك استحسن إيرادهما في مقام النفي عن الله ؛ ويلاحظ أنه جاء بالنفي بعد إثبات اسميه الحي والقيوم؛ وهذا لتبيين أنه من كمال حياته، وقيوميته لا يعتريه ما ذكر، والله أعلم.
"وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[7].
وقوله: لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إخبار بأن الجميع عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه كقوله: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم:93-95]".
هذا المقطع من الآية فيه دلالة على سعة ملكه ، وعظمة خلقه، وقوة سلطانه، وقهره.
"وقوله: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ كقوله: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى [سورة النجم:26]، وكقوله: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء:28]، وهذا من عظمته، وجلاله، وكبريائه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: آتي تحت العرش فأخر ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة".
قوله سبحانه: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ له اتصال بما قبله في الدلالة على سعة ملكه، وعظيم سلطانه، ووجه: أن ملك المخلوق ناقص، ونقصه من وجوه متعددة منها: أنه يشفع بين يديه من غير إذنه، وأن المخلوق قد يقبل الشفاعة خوفاً من الشافع سواء كان الخوف من غائلته، أو من تحول قلبه أو نحو ذلك.
وأما الله فليس شيء من ذلك واقعاً، فهو - - لكمال ملكه ليس بحاجة إلى أحد، ولا يخشى أحداً من المخلوقين، ولا يقوم ملكه بأحد منهم، ولذلك فإنه لا يتقدم بالشفاعة أحد بين يديه إلا لمن يأذن له، ولا يشفع إلا فيمن ارتضى، فهذا من كمال ملكه .
والاستفهام في قوله: مَن ذَا الَّذِي معناه أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.
"وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم:64]".
وهذا فيه دلالة على سعة العلم والإحاطة، فإحاطته - سبحانه - شملت هذه الأرض الممتدة الأطراف، الشاسعة البون، العظيمة الخلق، مطلع على شئون خلقه فيها، محيط بكل حركاتهم وتصرفاتهم على ظهرها، لا يخفى عليه شيء من أمورهم البتة، بخلاف ملوك الدنيا فإنه يخفى عليهم عامة ما يجري من أحوال تلك البقعة التي صاروا ملوكاً فيها.
"وقوله: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته، وصفاته؛ إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طه:110]".
ويحتمل اللفظ معنى آخر قريباً: وهو أن الضمير يرجع إلى المذكور آخراً وهو قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ والمعنى ولا يحيطون بشيء من علم ما بين أيديهم، وما خلفهم الذي هو جزء من علم الله، وعليه فعندنا ثلاثة احتمالات في مرجع الضمير فهذا الأول.
والثاني: يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله ، والمعنى أنه يعلم ما بين أيديهم، وما خلفهم، فعلمه محيط بهم وهم لا يحيطون بشيء من علم ذاته وصفاته إلا ما أطلعهم الله عليه، وليس ذلك بإحاطة.
والثالث: يحتمل أن يرجع الضمير إلى علم الله، والمعنى أن الله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يحيطون بشيء من علمه .
وبين المعنيين الثاني والثالث تلازم كبير، وهما الأشهر في التأويل، فعلم ما بين أيديهم وما خلفهم هو جزء من علم الله، فإذا قلت: إنهم لا يحيطون بشيء من علم الله، فشيء: نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيدخل فيه علم ما بين أيديهم وما خلفهم من باب دلالة التضمن؛ لأن التضمن: هو دلالة الشيء على جزء معناه، ويدخل فيه عموم علم الله من باب أولى بدلالة الالتزام، لأنهم إذا كانوا لا يحيطون ببعضه وهو ما يتصل بما بين أيديهم وما خلفهم؛ فيلزم من ذلك أنهم لا يحيطون بالكل، فالمقصود أن بين المعنيين ملازمة، والقاعدة: أن الآية إذا احتملت أكثر من معنى فلا مانع من حملها على الجميع، والمعنى وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ يعني لا من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا من عموم علم الله - تبارك وتعالى -، ولا نحتاج أن نرجح بين هذه المعاني، وهذا من بلاغة القرآن، أنه يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
"وقوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، روى وكيع في تفسيره عن ابن عباس - ا - قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره"، ورواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس - ا - موقوفاً مثله، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: "لو أن السماوات السبع، والأرضين السبع؛ بسطن، ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة".
وقوله: وَلاَ يئُودُهُ حِفْظُهُمَا: أي لا يثقله، ولا يكرثه؛ حفظ السماوات والأرض، ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغير بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني، الحميد، الفعَّال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه".
أصل يئوده: من آده أي جعله ذا عوج، يقال للعمود وضع عليه: آده، أي وضع عليه شيء ثقيل جداً حتى انثنى ومال، والمعنى أنه لا يثقله حفظ السموات والأرض ولا يعجزه، وهذا يدل على كمال قوته، وعظمته.
"فقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ كقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [سورة الرعد:9]، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه".
الأحسن أن يعبَّر بالقول: من غير تكييف، ولا تمثيل، فنثبت لله هذه الأسماء والصفات، وهي على قسمين: ثبوتية، وسلبية:
فالثبوتية: ما أثبته الله - تعالى - لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه واليدين ونحو ذلك، فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع، والعقل.
والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب، فيجب نفيها عن الله تعالى مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل؛ لأن النفي بمجرده ليس بكمال، ولا يمدح أحد به، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، فالنفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً، والله أعلم.
- رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي برقم (810) (1/556)، ورواه أحمد في مسنده برقم (21315) (5/141)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه الترمذي في سننه برقم (2880) (5/158)، وأحمد في مسنده برقم (23640) (5/423)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2880).
- رواه البخاري في كتاب الوكالة - باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز برقم (2187) (2/812).
- رواه أبو داود برقم (1498) (1/555)، والترمذي برقم (3478) (5/517)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (982)، ولفظهما مختلف عما رواه أحمد في مسنده برقم (27652)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف عبيد الله بن أبي زياد وشهر بن حوشب.
- رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (7941)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (981).
- رواه أبو داود برقم (1495) (1/554)، والترمذي برقم (3475) (5/515)، والنسائي برقم (1300) (3/52)، وابن ماجه (3858) (2/1268)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1640).
- رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب في قوله : إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه برقم (179) (1/161).