الأربعاء 28 / ربيع الأوّل / 1446 - 02 / أكتوبر 2024
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [سورة البقرة:266]".
ابن جرير يرى أن هذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ... [سورة البقرة:264]، ويقول: هذا مثل آخر لنفقة الرياء، إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي؛ فلا يأجره الله فيه، فإذا كان يوم القيامة، واحتاجَ إلى نفقته؛ وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت؛ كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت، وكثر عياله، واحتاج إلى جنته؛ جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئاً، فكذلك المنفق رياء.
وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ الواو يمكن أن تكون حالية والمعنى وقد أصابه الكبر.
فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ الإعصار: الريح الشديدة التي تهب من الأرض مرتفعة إلى السماء، تدمر ما يمر بها في طريقها.
"روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن ابن عباس - ا -، وعن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب قال يوماً لأصحاب النبي ﷺ و: فيمن ترون هذه الآية نزلت: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس - ا -: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله".
كلام ابن عباس يعني أن الآية أعم من أن يكون مختصاً بها المنافق، ويشهد لذلك حديث: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها...[1].
"وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً، ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات - عياذاً بالله من ذلك -، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، فخانه أحوج ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ وهو الريح الشديد، فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ أي أحرق ثمارها، وأباد أشجارها؛ فأي حال يكون حاله؟
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس - ا - قال: ضرب الله مثلاً حسناً، وكل أمثاله حسن، قال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ يقول: ضيعه في شيبته، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خيرٌ يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة إذا رُد إلى الله ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه؛ كما لم يغنِ عن هذا ولده، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه؛ كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره، وضعف ذريته.
وهكذا روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله ﷺ كان يقول في دعائه: اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقضاء عمري[2] ولهذا قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي تعتبرون، وتفهمون الأمثال، والمعاني، وتنزلونها على المراد منها كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]".

في ضرب هذا المثل عبرة عظيمة جداً لكل إنسان فرداً كان أو جماعة أو غير ذلك أن يحذر درب الغواية بعد الهداية؛ لأن العبد إذا كانت له أعمال طيبة، وأيادٍ بيضاء، ونفع للقريب والبعيد، وتعليم للناس، ويَحمِل الاعتقاد الصحيح وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك ينسلخ من هذا الخير، ويتنصل منه، ويدير ظهره له، ويركب موجة أخرى تناقض ما كان عليه في السابق، فبصنيعه هذا يهدم كل ما بناه بيديه عبر السنين الطوال، وينقض ما كان يشتغل به، ويبذل فيه الوقت، والمال وما أشبه ذلك، وهذه الأيام تعج بمثل هذه التقلبات والانتكاسات، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت.
  1. رواه البخاري في كتاب القدر- برقم (1226) (6/2433)، ومسلم في كتاب القدر - باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته برقم (2643) (4/2036).
  2. رواه الحاكم في مستدركه برقم (1987) (1/726).

مرات الإستماع: 0

"أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ [البقرة:266] الآية، مثل ضرب للإنسان يعمل صالحًا، حتى إذا كان عند آخر عمره خُتم له بعمل السوء".

هذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن هذا المثل الآخر أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] يقول: مثل ضُرب للإنسان يعمل عملًا صالحًا حتى إذا كان عند آخر عمره خُتم له بعمل السوء[1]

وابن عباس - ا - لما سأل عمر من في مجلسه، عن هذه الآية، وهذا المثل المضروب، فابن عباس - ا - أجابه بجوابه المعروف، حيث قال: بأنه مثل، وأنه ضُرب لرجلٍ غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله[2] يعني: حصل له تحول، وانتكاسه، فعمل أعمال صالحة، في أول حياته، فلما كان في آخر العمر خَتَمَ بالعمل السيء، فيكون المثل المضروب له، فأذهب عمله الأول.

"أو مثلٌ للكافر، أو المنافق، أو المرائي المتقدّم ذكره آنفًا، أو ذي المن، والأذى، فإنّ كل واحد منهم يظن أنه ينتفع بعمله، فإذا كان وقت حاجةٍ إليه، لم يجد شيئًا، فشبههم الله بمن كانت له جنة، ثم أصابتها الجائحة المهلكة، أحوج ما كان إليها لشيخوخته، وضعف ذريته، فالواو في قوله: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ للحال".

القول الآخر: أن هذا المثل مضروب للكافر، يعني أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] باعتبار أن هذا تمثيل لأعمال الكافرين، فمثَّل أعمالهم بهذا، وكذلك بالسراب، والرماد الذي اشتدت به الريح، فهم لا يرجعون من هذه الأعمال بشيء، في الوقت الذي يكونون أحوج ما يكونون إليها.

أو أن المثل مضروب للمنافق، فأعماله هذه تذهب، أو المرائي، وكل أعمال هؤلاء تذهب، لكن المرائي يذهب العمل المعين، والمنافق، والكافر يذهب كل العمل، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله[3] وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وذكره ابن جُزي أولًا بأنه مضروب للإنسان يعمل عملًا صالحًا حتى إذا كان عند آخر حياته خُتِمَ له بعمل السوء، هذا في كل الأعمال، فالآية تحتمل أن يكون ذلك للأعمال عمومًا، وما يُرجّى من عائدتها، وأجرها، فتذهب، ولا يرجع من ذلك بشيء.

أو في العمل المعين، يبني مسجدًا، أو نحو ذلك، ثم يكون ذلك رياءً، أو يأتي بما يُبطله من المن، والأذى، أو نحو ذلك، فيذهب هذا الأجر.

فبعض الناس قد يبني مسجدًا، لكن قد يؤذي الناس بأنواع الأذى، فيتصرف في هذا المسجد بأمور تؤذي المصلين، تارةً يتكلم، ويقول لهم كلامًا يؤذيهم به، ثم يختم هذا الكلام الذي يؤذيهم فيه، ويقول: من شاء فليصلِّ، ومن شاء فليطلب مسجدًا آخر، يعني يقول: الأشياء التي أراها أنا هي التي تكون في هذا المسجد، حتى مثلًا قضية التبريد، والتكيف، أو أشياء من هذا القبيل مما يذكره بعض الناس، فهذا يجعل كل ما يكون في هذا المسجد بناءً على ما يراه هو، ولا يسمع من أحد، ويصرح، ويقول لهم: من شاء صلى معنا، ومن شاء فليطلب مسجدًا آخر، وقد يقول صراحةً هذا المسجد إنما بنيناه نحن - هكذا يقول - ويُسمى باسمه، ويقول لهم صراحةً، ويُعلن: هذا مسجد فلان، فماذا يُريد بهذا؟ يعني اطلبوا مسجدًا آخر، يعني يقول لهؤلاء الذين يأتون بالأولاد معهم، أو نحو ذلك يقول: هذا مسجد فلان، لا تأتون إليه، ينهاهم عن المجيء إلى هذا المسجد، ويقول: نحن ما بنيننا هذا المسجد لكم، هذا يوجد، وحصل.

"قوله: إِعْصَارٌ [البقرة:266] أي: ريحٌ فيها سموم محرقة".

 

يقول: "قالوا: فالواو في قوله: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [البقرة:266] للحال" يعني الحال أنه قد أصابه الكبر، يعني هذا الرجل اجتمعت عليه هذه الأمور، هو تعب في هذا البستان بالغرس، والزرع، والسَقِي، والحرث، وما إلى ذلك، يُنميها، ويَشْبُرها، ويذرعها، يرجي عائدتها، ومتى تستتم هذه الأشجار، ومتى تثمر، سنين طويلة، حتى انصرمت قوته، وقرب أجله، وصار في حالٍ من الضعف وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ [البقرة:266] يعني: لا يستطيعون القيام بها من بعده، ولا إعانته فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] فهذا في غاية الحسرة من جهات متعددة:

أنه كبير، فليس فيه قدرة على إنشاء بستان جديد، وجاء ذلك في وقت كان يُرجّي الثمرة، وأيضًا له هؤلاء الذرية الذين لا يستطيعون إعانته، وهم أيضًا يمثلون عبئًا عليه؛ لأنه يرق لهم، ويحسب لهم حسابًا، فالإنسان إذا كان في حالة من الضعف، والعجز، وفي آخر العمر، وقد جد، واجتهد في أيام النشاط، والقوة يبني لهؤلاء مستقبلًا كما يُقال، فجاء هذا الإعصار فيه نار فاحترقت، فبقي هؤلاء الضعفاء حسرة في قلبه، إلى أي حال يصيرون؟ وماذا عسى أن يجدوا من بعده؟ ليس فيهم إعانة، ولا نهوض بعمل، وكذلك أيضًا هم عالة عليه، فتزيد المطالب، وتعظم حاجته، فأصابه الكبر.

"إِعْصَارٌ [البقرة:266] أي: ريح فيها سموم محرقة" ويقال: ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء، ملتفة في الهواء، تحمل التراب، وتستدير كالعمود، كما هو معروف، هذا الإعصار، لكن هذا إعصار من نوعٍ آخر، وهو أن فيه نار، وكلام المفسرين يقولون: السموم هنا سموم محرقة، بمعنى: أنها تؤثر في النبات، والزرع، والشجر، وبعضهم يقول: باردة، فالبرودة محرقة، قالوا: يوجد أثر الإحراق، بمعنى: أن شدة البرودة يسود معها النبات، فتتلفه، ويموت من شدة البرد.

لكن الواقع أن هؤلاء بنوا ذلك على أنهم لم يتصوروا وجود إعصار فيه نار حقيقية، لكن في الكلام على الأمثال في القرآن عرضتُ مشهدًا لإعصار حقيقي وُجد قبل سنوات، وإعصار آخر قبله بمدة أطول، إعصار حقيقي فيه نار كبيرة ضخمة، يمشي، وينتقل، ويتحرك، ويحرق كل ما في طريقه، يمر على غابات يحرقها إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فهذا نادر الوجود، ونادر الوقوع، فكأن هؤلاء ما تصوروا وجود إعصار، فقال بعضهم: سموم، وقال بعضهم: برودة شديدة، لكن هو على ظاهره فيه نار.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/696).
  2. المصدر السابق (1/695 - 696).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/682).

مرات الإستماع: 0

لما ضرب الله -تبارك وتعالى- هذه الأمثال، مثل المنفقين أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وكذلك أيضًا ذكر مثلاً آخر للمنفقين الذين يريدون ما عند الله بهذه النفقات كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، كما ضرب الله -تبارك وتعالى- الأمثال التي تضمنت التحذير والترهيب من مبطلات الأعمال سواء من المقاصد الفاسدة كالرياء والسمعة ونحو ذلك، أو كان ذلك بسبب المن والأذى فهؤلاء جميعًا ضرب لهم الأمثال كما قال الله : كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [سورة البقرة:264].

كذلك ضرب لهم مثلاً آخر لهؤلاء الذين يأتون ما يكون مُبطلاً لنفقاتهم وأعمالهم لما كانت هذه الآية في سياق الإنفاق أعني قوله -تبارك وتعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [سورة البقرة:266].

فهذه في سياق الإنفاق ولذلك حملها كثير من أهل العلم على أن ذلك أيضًا فيما يتصل بمحبطات الإنفاق ومبطلاته من النيات السيئة كالرئاء والسمعة، وكذلك أيضًا الأعمال والمزاولات المُبطلة كالمن والأذى.

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ، أيرغب أحد منكم أن يكون له بستان فيه النخيل والأعناب ومن كل ألوان الثمار وهذا البستان في حال من الحُسن والجودة وفيه مقومات البقاء والرواء حيث تجري من تحت أشجاره الأنهار العذبة، وهذا صاحب البستان هذا الغارس لأشجاره الذي قد شابت مفارقه وهو يعتمل فيه أصابه الكِبر، وأيضًا خلفه ذرية ضعفاء من النساء والأطفال الصغار الذين لا يستطيعون النهوض بالأعباء والأعمال وطلب المكاسب والأموال فهذا كان بهذه الحال فهبت ريح شديدة عاصف تنطلق من الأرض إلى السماء تعتلج وتدور وفي ضمنها نار فأتت على بُستانه فأحرقت أشجاره وثماره وزروعه فهذا مثل ضربه الله من أجل التفكر، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، أي: من أجل أن تتفكروا.

يؤخذ من هذا المثل وهذه الآية وقد شرحته بشيء من التفصيل في الكلام على "شرح الأمثال" لكن أذكر بعض الجمل وبعض الهدايات المستخرجة من هذه الآية، فالله -تبارك وتعالى- ذكر هذا المثل في مقابل المثل السابق: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [سورة البقرة:265]، هذه نفقات المخلصين الصادقين الذين يُخرجون هذه النفقات بنفوس طيبة بها من غير تردد، ومن غير تلكأ، ومن غير تثاقل وكراهية، ثم هذا المثل الآخر المضروب لأضدادهم لأهل الرياء والسمعة الذين يأتون بما يُبطل هذه الأعمال فقابل هذا بهذا كما هي عادة القرآن.

يؤخذ أيضًا من ذلك المثل أن هذا المثل يصور المعنى المعقول بصورة محسوسة في غاية الوضوح ينتج عنها غاية النفور، هذا إنسان يعمل في هذا البستان، ويتعب، ويبذل بذل فيه زهرة شبابه وأيام قوته، ثم بعد ذلك استتم هذا البستان وصار في حال من الكمال، وهو يشتمل على أجود أنواع الأشجار والثمار النخيل والأعناب، إضافة إلى ذلك له فيه من كل الثمرات فلما كان هذا الحال من التمام والكمال مع جري الأنهار؛ لأن العيون قد تنضب والآبار قد يغور الماء فيها، لكن هذه الأنهار السارحة قد يُخيل إلى الإنسان أنها لا يمكن أن تتوقف في جريها وانسياب الماء فيها.

كذاك الذي ذكر الله حاله في سورة الكهف حينما قال: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ۝ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [سورة الكهف:35، 36]، رأى جنة في غاية التمكين والأنهار تجري تشقها طولاً وعرضًا فأبعد الفناء والذهاب والزوال بل أبعد القيامة، فجاء أمر الله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [سورة الكهف:42]، والإحاطة هنا تعني الهلاك المُبرم الذي لا يغادر منها شيئًا، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [سورة الكهف:42]، خاوية نسأل الله العافية، ما بقي منها شيء.

وهنا أيضًا كذلك فنيت؛ لأنه قال: فَاحْتَرَقَتْ، يدل على أنه لم يبق منها شيء، أصابها إعصار فيه نار قد يكون الإعصار يُبقي بعض الشيء، لكن إعصار فيه نار وأكثر المفسرين بعضهم قال: فيه نار، يعني: سموم ريح حارة تُحرق الشجر والثمر والزرع، وبعضهم قال: ريح باردة تحرق الزرع، ينتج عن ذلك أثر السواد كأنه قد احترق؛ لأنهم ما شاهدوا الإعصار الذي فيه نار، وهناك مشهدًا لإعصار حل ووقع في هذا العصر مصور حقيقي فيه نار تدور ويلتهم كل شيء في طريقه، والأصل حمل الآية على ظاهرها: إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ، فالإعصار قد يترك بعض الشيء وإذا كان فيه نار فهذا أشد، وقد ينجو من النار بعض الشيء لكنه قال: فَاحْتَرَقَتْ.

فهنا يبين نهاية هذه الحال وغاية الحسرة والمأساة التي حلت بهذا الإنسان؛ لأنه صور حاله قال: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ، أصابه الكِبر لا يستطيع أن يعتمل من جديد، وأن يُنشئ بستانًا وأن يزرع زرعًا كما فعل منذ البداية في أيام قوته ونشاطه، لا، هذا أصابه الكبر فهو يحتاج إلى من يقوم به، هو ينتظر الآن الثمار، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ، أيضًا يعني أصابه الكِبر هذا ضعف، والكبير يزداد حرصه حريص وأيضًا له ذرية ضعفاء هؤلاء يمثلون عبئًا ثقيلاً عليه؛ لأنه يتحسر على هؤلاء، ويُفكر مليًا في مصيرهم؛ كيف سيكون حالهم من بعده، ثم أيضًا هؤلاء الذرية الضعفاء لا يستطيعون أن يعينوه فيستدرك من جديد ويرجع هذا البستان إلى حال كما كان أو أفضل مما كان أو قريب مما كان، أبدًا، هذا البستان انعدمت كل المقومات لعودته من جديد بعد أن كانت كل المقومات موجودة ومتوفرة بكماله وجودته وجودة ثماره، فهذا لما كان في وقت كمال الرجاء حصل له كمال اليأس.

فهذه الأمثال التي يضربها الله -تبارك وتعالى- كما ذكرنا سابقًا تثبت المعاني المعقولة وتبرزها بصورة محسوسة، وهذا من قبيل القياس وهو حجة لإثبات القياس، وذلك يدخل فيه: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ يدخل فيه كل من يُعرض عمله لمُبطل، يدخل فيه أهل الرياء عمل أعمالاً ثم صار يُسمع فيها ويُرائي، فيأتي هذا الرياء ويذهب بهذه الأعمال، قد يسكت دهرًا ثم في آخر الوقت في آخر العمر يبدأ يتحدث، ويكتب في مذكراته، والأعمال بالنيات لكن إذا قصد الرياء والسمعة، أو يتحدث عند الآخرين في مجالس في ديوانية في غير ذلك، يتحدث عن إنجازاته في آخر العمر، يتحدث عن إنجازاته السابقة ماذا عمل وماذا فعل، ما المشروعات التي كان من خلفها هو، وهو الذي قد بناها وأنشأها، وما هي الأفكار التي قامت منها مشروعات ضخمة وكبيرة، وأنها كانت من بنات أفكاره، إنما الأعمال بالنيات لكن هذا إذا كان يقصد الرياء والسمعة فهو مُعرض عمله للإبطال -نسأل الله العافية.

فلاحظوا وقارنوا هذا مع أصحاب رسول الله ﷺ يُحدث أحدهم عن غزوة ذات الرقاع وما نالهم، الواحد يلف خرقة حتى لربما سقطت أظافره، وهو يحدث في أثناء هذا الحديث يستدرك يقول ما حملني على هذا، يعني: ما الذي جعلني أتكلم بهذا، هذا صحابي يحدث التابعين عن ما نالهم في غزوة ذات الرقاع، وفي نصف الحديث يتوقف، أو بعد حديثه يندم ويقول: ما حملني على هذا؟! ما الذي جعلني أتكلم، الحرص على إخفاء الأعمال، أيكم رأى منكم الكوكب الذي انقض البارحة؟[1]، يعني: شهاب رُمي به، فأحدهم يقول: "أنا رأيته غير أني لم أكن في صلاة، ولكن لدغتني عقرب"، يعني: أني سهرت لم أكن في قيام ليل لكن لدغتني عقرب، الاحتراز والخوف من الرياء ومحبطات الأعمال.

فهذا يدخل فيه هذا المثل يدخل فيه أهل الرياء والسمع، ويدخل فيه أهل المن والأذى، ويدخل فيه من ختم عمله بخاتمة سيئة كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو في الصحيح: "لما سألهم عمر سأل أهل مجلسه عن هذه الآية، فقالوا: الله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، فقال له: تكلم، فقال: هو مثل، قال: أي مثل؟ قال: هذا مثل مضروب لمن عمل عملاً صالحًا ثم بعد ذلك أبطله"[2]، يعني: خُتم له بمعصية الله، عمل بطاعة الله ثم خُتم له بالمعصية.

فهذا إنما الأعمال بالخواتيم، الإنسان الذي قد يرتد عن الإسلام ويكون قد عمل أعمالاً كذلك أيضًا هو داخل في هذا، لكن الجامع المشترك هو الخيبة خيبة الأمل، وأنه لا يرجع بشيء مما كان يؤمله، ذهب عمله وبطل والله المستعان، وهذا من كمال عدله -تبارك وتعالى، وفي الحديث: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه[3].

كذلك أيضًا هذا المثل وما تضمنه من الإيضاحات المتتابعة: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ، الجنة تشتمل على أشجار، لكن هنا فيها أفضل الأشجار من نخيل وأعناب، وقد توجد هذه الأشجار من غير ثمار، فقال: لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ثم أيضًا بيّن حال هذا الرجل: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ، فكل هذا مما يوضح هذا المثل ويُجليه، يعني: كبير، قد يقال: إنه يمكن أن ينهض بأقوى مما كان، لا، لأنه كبير، طيب عنده أعوان وعنده أولاد وبنى أسرة قوية، لا، له ذرية ضعفاء، أصابها إعصار يمكن الإعصار هذا ما ضرها، لا فيه نار، ربما أصاب طرفها، لا، فاحترقت، فهذا في غاية البيان والإيضاح، هذه الأمثال تحتاج أن تُتعقل وأن تُتدبر والله يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يعقل عن الله -تبارك وتعالى.

كذلك أيضًا هنا في هذه الآية جنة من نخيل وأعناب، هذا من ذكر الخاص بعد العام، جنة عام، من نخيل وأعناب هذا أخص، وهما داخلان في الجنة ومن ضمن مكوناتها، ولكنه ذكر هذا الخاص لشرفه، فأشرف الثمار النخيل والأعناب، وهي أكثرها وأعظمها نفعًا، ثم ذكر أن له فيها من كل الثمرات.

كذلك أيضًا: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، لاحظ أصابها، في المثل الآخر: فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [سورة البقرة:264]، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [سورة البقرة:266]، فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، فهذا كله عُبر فيه بهذا الفعل أصاب، فهذا أبلغ وأقوى في التأثير، أصاب غير لما يقال وقع أو حل بها أو نزل بها أو حصل لها أو هب عليها إعصار، لا، أصابها، فهذا شيء لا يُخطئها وهو أيضًا فيه معنى العدل، وفيه معنى المصيبة، أصابها إعصار.

وكذلك أيضًا فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ، كذلك البيان، وكذلك الإيضاح يوضح الله ويُبين لكم الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، أي: من أجل أن تتفكروا، والتفكر هو حركة الذهن في المعقولات والمحسوسات، فهذا التفكر تفكر في الآيات المتلوة بمعنى التدبر لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.

وكل لعل في القرآن فهي للتعليل بمعنى لعل إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129]، أي: كأنكم تخلدون في هذا الموضع فقط، فهو بمعنى من أجل أن تتفكروا، يضرب هذه الأمثال من أجل التفكر، يُبين الآيات ويوضحها من أجل التفكر، فلا يصح أن يمر الإنسان عليها من غير وقوف عندها، وقراءة آية واحدة يرددها الإنسان ويتفكر فيها خير من قراءة ختمة من غير تفكر، ونحن مقبولون على شهر رمضان فينبغي أن يكون للإنسان فيه بصر وعمل ينتفع به، ولا يكون هم الإنسان آخر السورة، أو آخر الجزء، أو آخر الورد، أو آخر الختمة، وإنما يكون مقصوده أن يُحيي قلبه وأن يكون هذا الشهر سببًا لحياة جديدة يحياها المؤمن بخلاف ما يتصوره كثير من الناس، أو ما يكون عليه حالهم للأسف، وما تراه في الدعايات والإعلانات في هذه الأيام بحيث يُخيل لمن يطرأ على الأمة من خارجها أننا مقبلون على شهر هو شهر الأكل والشرب من بين شهور العام، وهو شهر التسوق، وهو شهر السهر والغفلة واللهو بأنواعه وصوره المختلفة، هكذا الصورة، الدعايات لأنواع المطعومات والأسواق تكتظ بالمطعومات وبالمتسوقين.

وكذلك جميع أنواع السلع من الأثاث والفُرش واللباس والأواني والمراكب، وتزدهر الاستراحات والمجالس وما إلى ذلك، ويكثر اجتماع الناس وقضاء الليل الطويل فيها من غير طائل بل وتزدهر أيضًا أماكن للعب لا توجد إلا في رمضان، وتخرج في بعض البيئات أنواع الألعاب لا تُرى إلا في رمضان، فهذا هو شهر القرآن وشهر الصيام وشهر القيام يتحول إلى عكس مقصود الشارع تمامًا، الصيام يقابل الأكل والشرب وازدهار الأسواق بالأطعمة، والدعاية لها، هذا شهر الصوم، كذلك أيضًا شهر القيام والقرآن يقابل هذه الغفلة العريضة، وهذا التسوق في ليالي الشهر واللهو بأنواعه -والله أعلم. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (220).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [سورة البقرة:266]، برقم (4528).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2985).