الأربعاء 28 / ربيع الأوّل / 1446 - 02 / أكتوبر 2024
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَنفِقُوا۟ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا۟ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغْمِضُوا۟ فِيهِ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ۝ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [سورة البقرة:267-269] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق - والمراد به الصدقة هاهنا قاله ابن عباس - من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، ومن الثمار، والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.
قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال، وأجوده، وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال، ودنيئه وهو خبيثه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولهذا قال: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ أي تقصدوا الخبيث، مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ أي لو أُعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون، وقيل: معناه وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ أي لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام؛ فتجعلوا نفقتكم منه".

فقد اختلف أهل التأويل في المراد بالإنفاق من الآية في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ فذهب الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إلى أن المراد بالإنفاق هنا الصدقة، وقرينة ما ذهب إليه في الآية هي أن الله قال: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ومعلوم أن الزكاة إنما تخرج من أوساط المال رديئاً كان أو جيداً، بخلاف الصدقة فالحث فيها على أطيب المال، وأفضله.
وذهب كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وغيره إلى أن هذه الآية نزلت في الزكاة، واستند من الآية بأن الله ذكر أصنافاً هي من الأموال المخرجة في الزكاة، فقوله: أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ يعني التجارات والأموال التي حصلتموها، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ هي الزروع، والثمار، والذي يظهر أن الآية عامة في الصدقة وفي الزكاة؛ إذ لا دليل يخصص واحداً منهما، فيدخل في الإنفاق الجميع.
والطيب من المكاسب المقصود به الذي لم يتحصل من طريق محرم، وأيضاً ما كان من الأموال غير رديء، فالإنسان في الزكاة إذا كان ماله من الطيب، أو مختلطاً؛ فإنه لا يعمد إلى الرديء فيُخرج منه الزكاة، وإنما يخرج من الوسط؛ ليصدق عليه أنه من الطيبات.
وذكر هذين الصنفين في الآية دون سواهما طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ؛ لأن بقية الأصناف ترجع إليها في النهاية إما مباشرة، أو بواسطة؛ كالبترول، والذهب، والفضة؛ فإن أصله من الأرض، وقوله سبحانه: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ابن جرير الطبري - رحمه الله - يرى أن هذه في الزكاة، وأن هؤلاء المستحقين للزكاة صار لهم حظ، وحق، ونصيب في هذا المال فهم فيه شركاء، فإذا قصد الإنسان إعطاء الرديء لهؤلاء المستحقين فإنه يكون قد جار، وتعدى، وظلم؛ لكونه أعطى حصة الشريك من رديء المال.
وفي الآية معنىً آخر ذكره ابن كثير بقوله: "أي لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام؛ فتجعلوا نفقتكم منه".
قوله سبحانه: إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ أصل الإغماض بمعنى: التغاضي، والتجاوز، كأنه يغمض عينه فلا يرى هذا الشيء الذي يكرهه، ومراده: أنكم لن تأخذوا هذا الشيء إذا أخذتموه إلا على وجه الاستحياء، والمجاملة؛ وإلا فإن نفوسكم لا تقبله - هذا أحد المعاني المشهورة في الآية - فلا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى الرديء من الأموال فيتصدق بها، والجيد منها فيحتكره، ويضمه إليه، هذا هو المراد، والله أعلم.
وعلى رأي من جعل الآية في الزكاة كابن جرير الطبري فينص على اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك، فيقول: قال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم؛ إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله - بسعر الجيد إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه، والله أعلم.
"روى ابن جرير - رحمه الله - عن البراء بن عازب في قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ الآية، قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر فعلقوه على حبل بين الأُسطوانتين في مسجد رسول الله ﷺ، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ".
في أول الرواية قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، وهذا سبب نزول غير صريح؛ وفي آخرها أورد عبارة تدل على أن سبب النزول كان صريحاً عند قوله: فأنزل الله فيمن فعل ذلك...، وهذا مما يذكره المفسرون من الأمثلة التي يقصد بها سبب النزول حقيقة وإن جاءت الرواية بعبارة غير صريحة في ذلك، وأحياناً قد يكون قوله: نزلت في كذا من قبيل التفسير للآية، ولا يحكم له بالرفع؛ لأنه متردد بين التصريح، وغير التصريح.
وفي رواية أخرى: عن البراء قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو، والقنوين؛ فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط منه البسر، والتمر؛ فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص، والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله - تبارك تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض، أو حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده"[1] وأو في الحديث يمكن أن تكون عاطفة يعني على إغماض وحياء، فيكون معناهما واحد، وجاء في بعض الروايات لو صحت عن رسول الله ﷺ أنه رأى عذقاً من الشيص قد علق في المسجد فقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[2].
والشيص: الأقناء أو الأكمام من النخيل إذا أبرت خرج الثمر ضعيفاً مستطيلاً، مسطح الجوانب، أصغر من حجمه المعروف.
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه، قال: فذلك قوله: إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟ وحقي عليكم من أطيب أموالكم، وأنفسه" رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد: وهو قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]".
وهذا بناء على أنه ما كان على وجه الاستحقاق إما على قول ابن جرير في الزكاة الواجبة، أو أن ذلك يضرب لهم به المثل بحيث إنه يقول: لا تتصدقوا بالرديء، فلو كان لأحدكم حق قد لزم على غيره بشراكة أو غيرها فأعطاه الرديء فإنه لا يقبل ذلك، فأنتم أيضاً لا تجعلوا مال الله من نفقاتكم هو الرديء.
"وقوله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي وإنْ أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير كقوله: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [سورة الحج:37] وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل، لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليعلم أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، وسيجزيه بها، ويضاعفها له أضعافاً كثيرة، ومن يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد أي: المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه".
ويمكن أن يكون المعنى أنه غني عن صدقة هذا المتصدق بالرديء من المال، وحميد: أي أنه مستحق للحمد، فلا يليق معه أن تجعل له الرديء من صدقاتك، فهذا يخالف مقتضى حمده - تبارك وتعالى -.
  1. رواه الترمذي برقم (2987) (5/218)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2987).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة [ج1- ص505 - 1608] وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله [ج1- ص583 - 1821]، وأحمد في المسند [ج6 - ص23 - 24022] وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن"، وابن خزيمة في كتاب الزكاة، باب كراهية الصدقة بالحشف من الثمار وإن كانت الصدقة تطوعاً إذ الصدقة بخير الثمار وأوساطها أفضل من الصدقة بشرارها [ج4 - ص109 - 2467] وقال الأعظمي: "إسناده حسن لغيره, صالح بن أبي عريب ضعيف لكن للحديث شواهد"، وابن حبان في كتاب التاريخ، باب إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن والحوادث [ج15- ص177 - 6774[ وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن"، والحاكم في المستدرك [ج2 - ص313 - 3126] (تعليق الذهبي قي التلخيص: صحيح)، والطبراني في المعجم الكبير [ج18- ص55 - 99] والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة، باب ما يحرم على صاحب المال من أن يعطي الصدقة من شر ماله [ج4- ص 136- 7318] وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [ج1 - ص302 - 1419].

مرات الإستماع: 0

"مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] والطيبات هنا عند الجمهور: الجيد غير الرديء، فقيل: إنّ ذلك في الزكاة، فيكون واجبًا، وقيل: في التطوع، فيكون مندوبًا لا واجبًا؛ لأنه كما يجوز التطوع بالقليل يجوز بالرديء".

أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] بالنسبة للزكاة المشروع فيها إخراج الوسط، فإذا أخرج الأجود بطيب نفسٍ منه رغبة، فهذا لا إشكال فيه، فالله يجزيه على ذلك، لكن الواجب هو أن يخرج الوسط، لا يُخرج الرديء، ولا يُطالب بإخراج الأجود من المال، هذا بالنسبة للزكاة.

وبالنسبة للصدقة يقول: "يكون مندوبًا...؛ لأنه كما يجوز التطوع بالقليل يجوز بالرديء" هذا فيه تفصيل، يعني: الله - تبارك، وتعالى - في هذه الآية يقول: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] الخبيث هنا يُقابل: الطيب وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] فالأصل أن الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، هذا الأصل، فبيان ذلك، ووجهه - والله تعالى أعلم - أن يُقال: بالنسبة للزكاة الواجب فيها: أن يُخرج الوسط، وبالنسبة لصدقات التطوع، فإن الصدقة ينبغي أن يُخرج الطيب لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].

وهنا قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] يعني: على إغضاء، حياءً من المُعطي، ومجاملةً، وإلا فالإنسان لا يرغب في أخذه، فكذلك لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[1] فيُقال: إن الإنسان ينبغي عليه أن يُنفق من الطيب، ولكن هل هذا يعني أن ما لا حاجة له فيه أنه يتلفه؟

الجواب: لا، يتصدق به، يعني بقايا الطعام، والثياب التي لا يحتاج إليها، القديمة عنده، هل نقول: يرميها؟ لا، يتصدق بها، لكن لا تكون صدقاته دائمًا هي هذه الأشياء المستكرهة بالنسبة إليه التي لا يقبلها لو أُعطيها، يُنفق نفقة جيدة، وكذلك لا يضيع عنده شيء، ولا يحقر من المعروف شيئًا، فهذه الأشياء التي تزهد نفسه فيها يتصدق بها، ففي كل معروف صدقة، والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] فيتصدق بهذا الثوب، أو بهذا الطعام الذي انتفت حاجته عنه، ولكن أيضًا لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وأبو طلحة لما سمع هذه الآية أنفق بستانه بيرُحاء، قال: "أحب أموالي إلي بيرحاء"[2] كان مقابل المسجد، وفيه ماء طيب.

وكذلك أيضًا لما سمعها ابن عمر نظر في أحب ماله إليه، فوجده جارية، فأعتقها لوجه الله، وكان يحبها[3] حتى إنه كره أن يزوجها مولاه نافع، لئلا يكون قد رجع بصدقته.

وكذلك أيضًا عمر وزيد، كل هؤلاء نظروا في أفضل المال، أخرج فرسًا في سبيل الله هي أفضل ماله؛ لما سمع هذه الآية.

يعني حتى في الكفارات، وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس، والصدقات، والزكوات، يعني صدقة الفطر مثلًا، بعض الناس يبحث عن أرخص أنواع الرز مما لا يأكله هو، وأهله، فيُخرجه، يبحث عن أرخص الأنواع، هو لا يأكل من هذا، ينبغي أن يُخرج من أوسط الطعام.

كذلك في كفارات اليمين، ونحو هذا، الله  قال: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89] وكذلك الكسوة تكون من أوسط، فلا يبحث عن أرخص الأشياء، وأرخص الطعام، وأرخص رز، أو بلد تكون فيها الكفارة رخيصة جدًا، ثم يخرج، يعني بدلاً ما يخرجها هنا مثلًا بمائة ريال، يخرجها في بلد آخر رخيص فيه الطعام، فتطلع عليه الكفارة بـ 30 ريال، فيُخرج بالمائة نحو 3 كفارات، فيقال له لا مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89] زد في هذا بحيث يكون من أوسط ما تطعم، لا تبحث عن المكان الأرخص، أو النوع الأرخص.

"قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا [البقرة:267] من النبات، والمعادن، وغير ذلك. قوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة:267] أي: لا تقصدوا الرديء".

هكذا قال ابن كثير - رحمه الله -: وَلا تَيَمَّمُوا [البقرة:267] أي: لا تقصدوا[4].

والْخَبِيثَ يعني: الرديء، وخصه بعضهم بالحرام، يعني يكون الطيب يشمل الحلال، الطيب في الكسب، وفي النوع أيضًا، يكون جيد.

وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [البقرة:267] الخبيث يصدق على الرديء، ويصدق أيضًا من جهة الكسب على الحرام.

وابن جرير - رحمه الله - خص قوله: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] بالزكاة[5] باعتبار أن المستحقين شُركاء لأصحاب المال، يعني: لهم حق في هذا المال، فلا يُعطيهم الرديء، هذا وجه قول ابن جرير - رحمه الله - بخلاف الصدقة، فهي ليست بحق لهم، فله أن يُخرج الرديء.

ومسألة الصدقة كما قلت: لا تكون نفقة الإنسان دائمًا الصدقة من الرديء، لكن يُنفق الرديء فلا يُهدر، وتكون له نفقات من الجيد، واقع أكثر الناس اليوم إذا رأى طعاماً جيداً قال: لا، هذا جيد، يعني لا نتصدق به، وينظر إلى الثياب ليُخرج شيئًا منها صدقة، ونحو ذلك فيتردد أحيانًا في بعضها، فيُقال: هذا جيد، يعني لا تنفق هذا، وإنما يبحث عن الأشياء التي لا يُعبأ بها، ولا تطلبها النفوس فيُخرجها، هذا خطأ، بل يُخرج الجيد، ولا يترك تلك أيضًا بحيث تُرمى، ولا يُنتفع بها، لا بد أن يُعطيها لمن ينتفع بها، ولو وجد شيء من الطعام لا ينتفع به الآدمي يجعله للطير، والحيوانات، ونحو ذلك، فلا يضيع شيء، والقصد أن نفقاته لا تكون من هذا القبيل فقط.

"قوله تعالى: مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] في موضع الحال".

في قوله: تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] جاء عن البراء قال: "نزلت فينا معشر الأنصار"[6] وهذه الصيغة في بداية الحديث غير صريحة أنه سبب النزول، لكن قد يكون في أوله غير صريح، وفي آخره من قبيل الصريح، كما في هذا المثال.

كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو، والقنوين فيُعلقه في المسجد

إلى أن قال: "وكان ناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو، فيه الشيص، والحشف، والقنو قد انكسر - يعني تالف، إذا انكسر ييبس - فيُعلقه - يعني في المسجد، فأنزل الله - تبارك، وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267] يكون هذا سبب النزول.

قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماضٍ، أو حياء قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده"[7] - فهذه ليست بزكاة، هذه صدقة - فلا يُحمل هذا على الزكاة، فسبب النزول هذا يدل على أنه في الصدقة، وليس في الزكاة، ويُقال في الزكاة كما سبق يُخرج من أوسط المال.

"قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267] الواو للحال، والمعنى: أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، وديونكم إلّا أن تتسامحوا بأخذه (قال في جميع النسخ: إلا بأن تتسامحوا بأخذه) وتُغْمِضُوا من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه: إذا لم يستوفه، أو إذا غض بصره".

يعني بمعنى: تترخصوا، وتتسامحوا، وأصل الغمض: النوم العارض، ثم استعير للتغافل، والتساهل إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] يأخذه على اغماض، وحياءً، ومجاملةً.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم: (13)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه برقم: (45).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب برقم: (1461).
  3.  حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (1/295).
  4.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/697).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/709).
  6.  الصحيح المسند من أسباب النزول (ص:40).
  7. المصدر السابق.

مرات الإستماع: 0

لما رغب الله -تبارك وتعالى- بالإنفاق، وضرب الأمثال للمنفقين المخلصين في نفقاتهم، وكذلك أيضًا ضرب الأمثال للمنفقين رياء وسمعة وأولئك الذين يعرضون النفقات للمُبطلات الأخرى من المن والأذى.

بعد ذلك خاطب أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة البقرة:267].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، يا معشر من أذعن قلبه وأقر وانقاد بقلبه وجوارحه ولسانه أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، الحلال الطيب كما قال الله -تبارك وتعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، فالطيب هنا في مكاسبه والطيب أيضًا في جنسه ونوعه وصفته، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، أيضًا كذلك الطيب منه.

وَلا تَيَمَّمُوا لا تقصدوا، الرديء منه لبذله رجاء ثوابه وعائدته من الله -تبارك وتعالى- في الوقت الذي لو بُذل إليكم لم تقبلوا به إلا على سبيل من التغاضي والإغماض والمجاملة والحياء وإلا فإن ذلك مما لا تتطلع إليه النفوس، ولا يقبله أوساط الناس؛ لرداءته، فكيف ترضون لله -تبارك وتعالى- ما لا ترضون لأنفسكم، وكيف ترضون لإخوانكم ما لا ترضون لأنفسكم، واعلموا أن الله الذي أعطاكم وأولاكم غني عنكم وعن صدقاتكم، وهو حميد -جل جلاله وتقدست أسماءه؛ محمود على كل حال.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، خطاب أهل الإيمان باعتبار أنهم المتأهلون للقبول عن الله -تبارك وتعالى، فالإيمان هو الأصل والأساس الذي يُبنى عليه العمل وهو قوام الاستجابة لله -تبارك وتعالى- والقبول لتشريعاته وأحكامه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن إيمانكم يقتضي القبول عن الله -تبارك وتعالى- ومن ذلك ما أرشدكم إليه من الإنفاق من الطيبات، فهذا الإيمان يقتضي الاستجابة والامتثال لأمر الله -تبارك وتعالى- واجتناب ما ينهاكم عنه، هذا مقتضى الإيمان، والإيمان معلوم أنه قول وعمل، فلابد من تحقيق ذلك ومقتضاه، ومن هنا خاطبهم بهذا الوصف يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.

كذلك يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، فالإنفاق مأمور به وقد جاءت الدلائل على ذلك كثيرة، وكذلك أيضًا في نوع هذا الإنفاق أن يُنفق من طيبات ما كسب، وعرفنا من خلال بيان المراد بالآية ومعناها أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ، أنه يدخل في ذلك دخولاً أوليًّا الحلال، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا [1] فلا ينفق الإنسان من الحرام ويتقرب بذلك إلى الله -تبارك وتعالى- الحرام بنوعيه، الحرام لكسبه أو الحرام لوصفه، الحرام لكسبه الذي يصل إلى الإنسان بطريق محرم مثل: الربا، السرقة، الرُشى، وما أشبه ذلك هذا حرام؛ لأنه اكتسب بطرق محرمة.

أيضًا المحرم لوصفه مثل: الخنزير ومشتقات الخنزير، الخمر، والميتة، ونحو ذلك، فلو أراد أحد أن يتصدق بخمر أو يتصدق بميتات أو يتصدق بما لا يحل أكله لوصفه، يعني مثلاً: بلحوم سباع ونحو ذلك هذا لا يجوز، الحشرات الأشياء المستخبثة عند العرب، النجاسات، فهو لا ينفق من هذه الأشياء مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، فصار المحرم بنوعيه المحرم لكسبه كالربا والسرقة وما إلى ذلك، والمحرم لوصفه كالميتة والخنزير كل ذلك لا يجوز التقرب إلى الله به والإنفاق منه، أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.

بقي المشتبهات مال فيه شبهة أو نحو ذلك، هذا لا يقال إنه من الطيبات، النبي ﷺ قال: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات [2] فهذا المشتبه بين بين، فالإنسان إذا أراد أن يتخلص منه ينفق ذلك وأرجوا أن يؤجر عليه، لكن لا تكون نفقته فقط هي هذه المشتبهات، وإنما ينفق من طيب ماله بل من أطيبه، فالمال في طيبه يتفاوت، فهناك الطيب الخالص، وهناك الذي يكون فيه نوع شبهة، وهناك المحرم، فالمحرم بيّن وواضح وكذلك المال الطيب الذي لا شبهة فيه هذا واضح، بقي المتردد بينهما، فمثل هذا إذا أنفقه أرجو أن يؤجر عليه لكن لا تكون نفقاته محصورة في هذا.

الطيب أيضًا في نوعه ومرتبته: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ، من الحلال، فالحلال يتفاوت في طيبه من حيث النوع والمرتبة، فهناك أشياء من النفقات من الطعام مثلاً أجود الطعام، وهناك وسط في الطعام، وهناك رديء.

وكذلك أيضًا في اللباس هو مراتب، هناك أشياء مستعملة هناك أشياء جديدة، هناك أشياء غالية الثمن، هناك أشياء رخيصة، هناك أشياء متوسطة، هناك أشياء من الطعام هي فضلة بقايا، وهناك طعام لم يُمس تتوق إليه نفس الإنسان فيتصدق به ونفسه تطلبه، أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ، فهذا الإنفاق سواء كان ذلك في الواجب كالزكاة والكفارات، أو كان ذلك في المستحبات فهنا قال الله -تبارك وتعالى- في الكفارة: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [سورة المائدة:89]، فالأوسط فسره بعضهم بالأطيب، فالوسط يقال أحيانًا للطيب، قَالَ أَوْسَطُهُمْ [سورة القلم:28]، قيل إن الأوسط يعني الأعقل والأعدل طريقة من هؤلاء الإخوة.

وبعضهم يقول: قَالَ أَوْسَطُهُمْ [سورة القلم:28]، يعني: في السن، هو وسط بين الكبار والصغار، والآية تحتمل، لكن الوسط يُطلق على ما يكون بين طرفين سواء كان ذلك في المعقولات، أو كان ذلك في المحسوسات من مطعوم ومشروب وملبوس ونحو ذلك.

فالأوسط فسره بعض أهل العلم: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [سورة المائدة:89]، أنه الأجود تخرج الأجود، لكن هذا في الزكاة غير مراد؛ لأنه في الزكاة يُخرج الذي يكون بين بين شرعًا، يعني الذي يجبي الزكاة لا يأخذ من الناس الرديء ولا يأخذ أجود المال، وإنما يأخذ بين بين لئلا يُظلم هؤلاء الناس، لكن لو جادت نفس المُزكي بطيب من ماله بأطيب ماله فإنه يُقبل ذلك منه كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ في الرجل الذي جاء بناقة إلى رسول الله ﷺ ناقة جيدة في أوصافها لم يقبلها المُزكي يعني الذي يجبي الزكوات؛ لأنها من أطيب المال، فأخذ منه المستحق فالرجل أبى لإيمانه لكمال إيمانه حتى جاء بها إلى النبي ﷺ فأراد أن يخرجها فالنبي ﷺ بين أنها لا تجب عليه، ولكن يقبلها منه إذا بذلها طيبة بها نفسه.

فالشاهد هنا الطيب والأجود يقال له أوسط، وكذلك ما كان بين بين، بين الرديء والجيد؛ يقال له: أوسط، ففي الزكاة هذا هو المراد ما كان بين الرديء والجيد في الزكاة، في غير الزكاة: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [سورة المائدة:89]، في الكفارة بعض أهل العلم كثير من أهل العلم فسره بالوسط بين الرديء والجيد.

وبعضهم فسره بالأجود، وكأن الأول أقرب، ومعناه أن الإنسان إذا أراد أن يُخرج كفارة يمين وغير ذلك يعني أيضًا صدقة الفطر بعض الناس يذهب ويأخذ مثلاً من الرز أردى الأنواع، أرخص نوع يأخذه لصدقة الفطر، هذا لا يصح، مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [سورة المائدة:89]، فلا يتخير الرديء، كفارة يمين يبحث عن أردى الأنواع وأرخص الأنواع، وقد يخرج تمرًا قد مضى عليه حول أو أكثر ويُباع بسعر متدني، ويقول: هذه كفارة يمين، ليس هذا بالعدل ولا الإنصاف، وإنما يخرج من أوسط ما يأكله هو وأولاده، ما يختاره لبيته، فإذا كان هذا طعامهم فعلاً فلا بأس، لكن إذا كانوا يأكلون الجيد ولا يقبلون مثل هذا ولا للبهائم ثم يذهب ويشتريه لصدقة الفطر، أو للصدقة العامة، أو نحو ذلك، ويقول: أنا تصدقت فهذا كما قال النبي ﷺ: إن صاحب هذا -يعني العذق الشيص- ليأكله شيصًا يوم القيامة [3] فإذًا خرج من هذا المال الحرام، وخرج من هذا من الطيبات خرج الرديء من المُنفق سواء كان طعامًا أو غير طعام.

أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، ما لا كسب له فيه مثل لو أنه أنفق من مال غيره فإن ذلك لا يصح بغير إذنه أو رضاه، كذلك أيضًا لو أن هذا الإنسان أنفق أو تصدق أو تبرع بشيء لا يملكه مطلقًا، يعني: مثلاً تبرع بعضو من أعضاءه لإنسان، هل له أن يتبرع؟ هو لا يملك هذا، الذي يملكه هو الله.

أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، وهنا أنه أضاف الكسب إليهم فدل على أن الإنسان له كسب وعمل أنه ليس بمجبر على فعله كما يقول بعض أهل البدع كالريشة في مهب الريح، ليس له كسب ولا إرادة، وإنما له كسب وله عمل وله اختيار كما هو مشاهد: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ والناس في أعمالهم الدنيوية يجدون ويجتهدون وإذا أصابهم الضُر تعاطوا الدواء وبحثوا عنه، فإذا جاءت الأعمال المقربة إلى الله -تبارك وتعالى- أو المعاصي مما يبعد منه قالوا: نحن لا اختيار لنا، نحن مجبورون لو شاء الله ما عملنا هذا، فهذا ليس من العدل بحال من الأحوال: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.

كذلك أيضًا الكسب هنا يدل على أن عروض التجارة تجب فيها الزكاة؛ لأنها مما يكسبه الإنسان، البيع بالعقار، البيع في السلع، مواد غذائية، أو كان ذلك في سيارات، أو في آلات، أو معدات، أو مواد قرطاسية أو نحو ذلك يبيعها فإنه يجب عليه الزكاة؛ لأن هذا من الكسب.

كذلك أيضًا يدخل في هذه الآية: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، أخرجنا، لاحظ الفرق بين العبارتين، الكسب أضافه إليهم، وما يخرج من الأرض من الزروع ونحوها أَخْرَجْنَا أضافه إلى نفسه أَخْرَجْنَا فلما كان التجارة وما يحصل من الربح هو من عملهم وكسبهم لكن بإرادة الله وقدرته ومشيئته وتوفيقه فهذا أضافه إليهم، لكن الزرع حينما يخرج من الأرض مثلاً هذا ليس عملهم هذا يكون من الله هو الذي يخرج هو الذي يحي الأرض بعد موتها، يخرج النبات فهنا لم يُضفه إليهم فدل على الفرق بين الأمرين، فمفعول الله -تبارك وتعالى- الذي لا قدرة للإنسان عليه أضافه الله إلى نفسه: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فكيف يُفرق بين هذا وهذا ويقال: الإنسان مجبر على فعله وأنهما سواء، كيف يقال بأنهما سواء؟! لأن عمل الإنسان لا يد له مثل الزرع الذي يخرج لا يد للإنسان فيه فكذلك أعماله الصادرة عنه لا يد له فيها؟ هذا الكلام غير صحيح، والله قد فرق بينهما فكيف يسوى بين الأمرين؟!

كذلك أيضًا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ، "أنفقوا من" من هذه تدل على التبعيض أنه لا يطالب بإخراج كل المال، وإنما "من"، ففي الزكاة قدر يسير حدده الشارع، وفي الصدقات ونحو ذلك يتصدق بشيء من ماله، واختلف العلماء هل له أن يتصدق بكل ماله أو بشطر ماله أو لا، هل يدخل في النفقة في سبيل الله إسراف أو لا يدخل فيها إسراف؟

بعض أهل العلم قالوا: النفقة في سبيل الله يدخلها الإسراف بدليل أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر الحقوق والنفقات وما إلى ذلك في سورة الإسراء وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، وفي سورة الفرقان وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67]، فاحتجوا بمثل هذا وقالوا: النفقة في سبيل الله يدخلها السرف، ولهذا قالوا في الوصية لا يوصي بأكثر من الثلث.

أما في الوصية فهذا بالنص لكن هذه الآيات بعض أهل العلم قال: إن محملها على غير النفقة في سبيل الله، وإنما التصرف في نفقاته في مصالحه وما إلى ذلك ويتوسط ويعتدل لا يسرف، واحتجوا على أنه يجوز للإنسان أن ينفق كل ماله أو نصف ماله أو نحو ذلك: "أن أبا بكر جاء بماله كله فقبله النبي ﷺ منه، قال: ما أبقيت لأهلك؟، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فجاء عمر بشطر ماله فقال: فما أبقيت لأهلك؟، قال: أبقيت لهم مثله أو شطره فقبل النبي ﷺ منه"[4].

والشاطبي -رحمه الله- فصل في المسألة وساق حديثًا لكنه لا يصح من جهة الإسناد وهو "ذاك الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ أيضًا بقطعة من مال من ذهب فأعرض عنه النبي ﷺ ثم عرضها، ثم أعرض عنه ثم أخذها النبي ﷺ فرماه بها كالمغضب وقال: يأتي أحدكم بماله ثم يتكفف الناس [5] هذا لو صح جُمع بين الأحاديث كما جمع الشاطبي ففصل فيه فقال: بأن هذا يختلف باختلاف الناس، هذا كلام الشاطبي[6] يقول: "فمن كان كامل اليقين والتوكل والاعتماد على الله كأبي بكر وعمر فله أن يُنفق كل ماله، ومن كان ضعيف اليقين إذا أنفق ماله بدأ يتطلع إلى الآخرين أن يعطوه أن يحسنوا إليه، ففي هذه الحال لا يؤمر ولا يُطالب ولا يُقبل منه أن يُنفق ماله كله ولا شطره"، فهو يرى أن هذا يختلف باختلاف الناس، لكن الحديث لا يصح في هذا -والله تعالى أعلم.

فهنا جاءت "من" وهذا كثير في كتاب الله -تبارك وتعالى، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، في أول هذه السورة الكريمة سورة البقرة وَمِمَّا، يعني: ومن ما، فلا يُطالب بإنفاق كل المال وهذا من رحمة الله بعباده أنه طلب منهم القليل وأعطاهم الكثير وهذه النفقات التي يُخرجونها تُطهر وتُنمي ويؤجرون عليها ويُضاعف لهم هذا الأجر، فكيف تستثقل إذًا. 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة البقرة:267].

فهذه الآية الكريمة مضى الكلام على صدرها وبقي من الفوائد والهدايات المستخرجة منها ما يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، أنفقوا فالأصل أن الأمر للوجوب أنفقوا، وهذا يدخل تحته النفقات الواجبة التي هي الزكاة مثلاً، ويدخل النفقات المستحبة فهو عام، منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب، أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، ذكر هذين النوعين طيبات ما كسبتم فهذا التجارات ونحو ذلك، تُكتسب بالبيع والشراء ونحوهما، ومما أخرجنا لكم من الأرض، هذا الزروع والثمار، فذكر هذين النوعين.

وهناك أنواع أخرى تخرج منها الزكاة كما هو معلوم، فهل هذا يدل على الاختصاص بهذين النوعين؟

الجواب: لا، ولكن يمكن أن يُجاب عن هذا بأحد جوابين يذكرهما أهل العلم:

الأول: أن يكون ذلك باعتبار أن هذا هو الغالب في الأموال التي بأيدي الناس ولربما في ذلك الزمان، التجارة والزروع، المهاجرون أهل تجارة والأنصار أهل زرع، فذكر هذين النوعين.

والثاني: ويحتمل أن يكون ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنها الأصول، يعني: التجارة يدخل تحتها سائر أنواع التجارات من البيع والشراء والإيجارات كذلك أيضًا المضاربات ونحو ذلك.

وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، يدخل فيه ما أخرجه الله -تبارك وتعالى- من الأرض من الزروع والثمار والمعادن، الركاز ونحو ذلك كل هذا يدخل فيه، فيكون ذلك شاملاً عامًا فتكون هذه التجارة مثلاً قد تكون في المواشي وقد تكون في العقارات وقد تكون في غيرها، هذا احتمال، وإن كان هذا الجواب قد لا يكون متوجهًا بصورة واضحة قوية؛ لأن المواشي لا تدخل تحت التجارة إلا إن كانت من عروض التجارة لكن السائمة لا تدخل في هذا ولا تدخل في قوله: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فيكون هذا باعتبار أن هذا هو الغالب مثلاً أنها كانت الأموال التي بأيديهم في ذلك الوقت هذا يحتمل والعلم عند الله .

ويدل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، أن الزكاة تخرج من المعادن فهي من جملة ما يخرج من الأرض.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، يعني: الآن بقي المال الموروث هذا لم يكتسبه الإنسان بعمله وسعيه وبذله ولهذا يقال فلان حارث وليس بوارث، أو فلان وارث وليس بحارث، يعني: لم يحصل هذا المال بسعي وعمل وبذل وجهد وإنما ورثه من غيره. 

يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن الإنسان إذا أخرج من المال الذي اكتسبه وهو أحرص ما يكون عليه؛ لأنه تعب في جمعه وتحصيله فإنه يُخرج ما عداه من باب أولى، فالأموال التي يرثها الإنسان الغالب أنه لا يُبالي كيف أنفقها، يعني: قد يُنفق هذه الأموال بأمور ليست ذات أهمية باعتبار أنه ما تعب فيها وقد يُضيع هذه الأموال بألوان من التصرفات التي لا تُجدي عليه نفعًا، هذا يحتمل.

ويحتمل أيضًا أن يكون ذلك مما يدخل في المكاسب بشيء من التوسع، والحديث: لا تزولا قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن...، -وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه [7] فيدخل فيه إذا كان وارثًا أو إذا كان قد حصله من مصادر أخرى غير الإرث.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم بحيث لا يتخير من الزروع والثمار الرديء فيُخرج ذلك في الزكاة أو في الصدقة، وهذا الرجل الذي وضع العذق من الشيص وقال فيه النبي ﷺ: إن صاحبه ليأكله شيصًا يوم القيامة [8] هذا مما أخرج الله من الأرض، هذا من الزروع، فليس للإنسان أيضًا أن يُخرج الرديء بل عليه أن يُخرج الطيب من الخارج من الأرض فهذا واضح باعتبار أن ما قبله مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ دل عليه، وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ هنا أعاد "من" للدلالة على التأكيد والتنصيص على أن هذا يجب فيه، أو ينبغي فيه، أو أن هذا مما يُخرج ومما يُنفق منه في سبيل الله وهذا أيضًا كذلك.

فكل هذه الأموال ينبغي أن يُنفق الإنسان منها وكل بحسبه، فإذا كان الإنسان صاحب تجارة يُنفق من هذه الأموال، وإذا كان صاحب زروع يُخرج من الثمار والحبوب، وإذا كان هذا الإنسان صاحب ماشية فإنه يُخرج منها، وقد تكلم أهل العلم على المُخرج من هذه الأنواع في الزكاة هل يُجزئ أن يُخرج المال عنها أو لا؟

بالنسبة لعروض التجارة لا بأس أن يُخرج الإنسان القيمة، عنده مثلاً تجارة في المعدات، أو تجارة في الأقمشة أو المواد الغذائية لو أخرج من القيمة لا إشكال إن شاء الله وإن لم يكن هذا محل اتفاق، لكن الخلاف أقوى في مثل السائمة هل له أن يُخرج القيمة؟ وفي مثل الزروع والثمار هل له أن يُخرج القيمة أو لا مما يجب فيه الزكاة؟ عنده تمور نخيل هل له أن يُخرج قيمة يُقدر ثم يُخرج القيمة أو لا؟

هذا خلاف قوي بين أهل العلم والأحوط أن لا يفعل، والقول بأن ذلك لا يُجزئه قول له وجه قوي من النظر وعليه أدلة.

وبهذه المناسبة أقول: مما أخرج الله من الأرض النخيل التي في بيوت الناس واستراحاتهم، وهذه يغفلون عنها كثيرًا، يظن كثيرًا من الناس أنه إنما يُخرج من الزروع والثمار ما كان في المزارع لكنهم قد يزرعونه في بيوتهم النخيل مثلاً، وقد تجد ذلك يبلغ النصاب يعني النبي ﷺ ذكر أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، والوسق ستون صاعًا، فقد يكون الثمر لهذه النخيل في البيوت أكثر من هذا المقدار، يعني: مما يجب فيه الزكاة، يعني: يوجد في البيت أحيانًا أكثر من ثلاثين نخلة وهذه ثمرها في الغالب يتجاوز النصاب فتجد هؤلاء الناس يتساهلون مع أنهم قد يهدون كثيرًا ويتصدقون لكن لا يخطر ببالهم الزكاة مع أنها تجب الزكاة فيها، وهكذا بعض الناس قد يعمل في استراحة أو نحو ذلك يعمل زروع يعمل محميات ويرى أنها من باب التسلية، أو أنها من باب إشغال العامل، أو نحو هذا وقد يكون ثمرها يتجاوز النصاب أو يبلغ النصاب فلا يخرج الزكاة ولا يخطر ذلك بباله ليس بخلاً فيها هو ينفقها هنا وهناك لربما يعطيها ويهديها لكن لا يعلم أنه يجب عليه فيها الزكاة، فهذه الأمور ينبغي أن تُراعى.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ، فُهم من هذا أن المتعين أن يُخرج من طيبات الأموال، لكن قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ، هذا فيه زيادة بالتأكيد مع أن ذلك مفهوم من قوله: أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، وكذلك في قوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، لا تيمموا يعني لا تقصدوا تتوجهوا إلى الخبيث فهذا يدل على شيء من التكلف في التعني وطلب الرديء من الأموال، فجاء بصيغة التفعل: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، منه تنفقون ما قال: تنفقون منه فقدم المجرور وهذا فيه إشعار بالتخصيص، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، والتعبير بالفعل المضارع يدل على الاستمرار فتقديم ذلك الجار والمجرور منه، يدل على التخصيص فكأن هذا من ديدنه أن يُخرج الرديء، لا يخرج إلا الرديء تنفقون، لكن كما ذكرنا أن الإنسان إذا كان بيده شيء لا رغبة له فيه أو فضلة من طعام أو ثياب مستعملة هو لا يرميها ولا يهدرها بل ينبغي حفظ هذه النِعم وإعطاء ذلك لمن ينتفع به، لكن المقصود تيمموا يتقصد الرديء وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، كأنه لا يلتجأ إلا لهذا ولا يتوجه إلا إليه ولا يخرج إلا الرديء مِنْهُ تُنفِقُونَ يدل على الاستمرار فعل مضارع، هذه ديدنه في نفقاته لا يخرج، تجد المرأة تقلب الثياب وإذا رأت لربما ينتفع به أو جيد أو فيه جِدة قالت: لا، هذا حسافة، حسافة على ماذا؟ حسافة على الصدقة، فتطويه، ثم تبحث عن الرديء جدًا وتقول: هذا أخرجوه، تمر لا هذا جيد هذه نوعية جيدة، هذا أصفر، هذا فاخر خلوه، طيب وما الذي يُخرج؟ يُخرج الرديء القديم الحويل الأسود الذي لا يأكله ولا تطلبه نفسه فهذا لا يجوز، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، ولاحظ مع قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، لا ينال الإنسان بما يرجوا عند الله -تبارك وتعالى- حتى علقه بهذا، وحتى للغاية: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، ما قال: تنفقوا كل ما تحبون لكن مما تحبون.

فينظر الإنسان في الطعام الجيد فيُخرج منه، ينظر في اللباس الجيد ويُخرج جديد، الذي لم يُلبس يقول هذا الثوب الذي ما لبسته هو الذي سأخرجه، هذه العمامة التي ما لبستها هي التي سأتصدق بها، أو على الأقل إذا أخرج شيئًا لا تهفو نفسه إليه ولا تطلبه يُخرج معه شيئًا آخر جيدًا، فهذا ينبغي أن يُراعى هذا حيث يُعطى للمحتاج وللفقير، لكن هذا الذي يوضع في الصناديق صناديق الملابس الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا يدخل في هذا أصلاً، والسبب أن أفخر قطعة لباس ولو كانت جديدة بأغلى ثمن هي وأردى قطعة لباس بأقل ثمن ما لا تساوي ربع ريال سواء؛ لأن هذا يُباع لا يُعطى للفقراء يُباع بالجملة، حملة هذه السيارة كم، كم حملة الشاحنة هذه؟ بسبعين ألف، لو أنها ممزقة، لو أنها ما تصلح لمسح الأرض هي والجديد واحد، هذا ليس بمقصود، وأما بما يجري أحيانًا بعقد إجارة أنه يؤجر هذا الصندوق على جهة أخرى مستفيد يعني يؤجر له ويقال له: بالسنة مثلاً بكذا من المال بسبعين ألف أو بمائة ألف أو بمائتين ألف بالسنة هذا لا يصح؛ لأن هذا عقد إجارة على مواد يتملكها الطرف الآخر المشتري، وهي ليست إجارة، الإجارة عقد على المنافع وليست على الأعيان، وهذا يتملك أعيان بعقد إجارة هذا لا يوجد شرعًا، إضافة إلى أن هذه الإجارة على مجهول، يعني: ما هي الثياب التي ستوضع؟! ما مقادرها؟ قد تكون قليلة وقد تكون كثيرة، وكثير من الناس قد يتساهل ويُسلي نفسه يأخذ ثيابه كلها عشرة ثياب ويقول: كل ستة أشهر سأجدد الثياب، والحمد لله أتصدق بها، ويضعها في هذا الصندوق، الواقع أنها هذا مصيرها أنها تُباع جزافًا هي وأردى الثياب واحد، وهكذا هذه الأجهزة الكهربائية وغير الأجهزة الكهربائية التي توضع هذا المكان هي تباع هكذا لربما بسعر الحديد توضع بميزان حديد، الصالح وغير الصالح واحد لربما، لكن لو أنك أعطيتها للفقير أو من يعطيها للفقير فهذا يُراعى فيه هذه الأمور، -والله المستعان.

وكثير من الناس لربما يسرعون ويكثرون من تغيير الأثاث ويعتقدون أن هذا لا بأس هم يتصدقون به في سبيل الله المستعمل ما علموا أنه يُباع لربما بعُشر معشار الثمن، ولو علموا ما أخرجوه، لكن لو أوصلوه للفقير فهذا جيد.

كذلك يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، يعني: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [9] اللائق بالإنسان أنه يجعل نفسه دائمًا مكان الآخرين، ما الذي تحبه لنفسك؟ ضع أخاك في موضعك إذا خاطبته إذا عاملته إذا أعطيته، إذا أهديته، إذا تصدقت عليه، ضع نفسك مكانه: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، إذا كنت ما تأخذ هذا إلا على إغماض يعني بغض الطرف حياء ومجاملة للمعطي ولربما أخذته من هنا وأخرجته من الباب الآخر أو من الجهة الأخرى لا تريده، فكيف بعد ذلك ترضى ذلك لغيرك، كيف ترضى ذلك لأخيك فهذا يُشبه القياس.

إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، هو لا يقبله إلا على سبيل الإغماض حياء فهذا الإغماض يعني كأن الإنسان يقول: قبل ذلك على شيء من الإغماض كأنه يُغمض عينيه فلا يراه ولا ينظر إليه حياء أو كراهية أو نحو ذلك على سبيل الإغماض، بمعنى أنه لو نظر إليه وصوب النظر إليه فإنه لا يقبل ذلك ولا يحتمله على سبيل الإغماض التجاوز التمرير والإغضاء كما يقال وهو مثل: الإغماض، الإغضاء وأصل ذلك بالبصر، ويكون ذلك بسبب الحياء أو غير ذلك من الدواعي، إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، فهذا يحصل في الشيء المكروه الذي يكرهه الإنسان.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، اعلموا هذا يدل على الاهتمام والإيقاظ والتنبيه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، هم يعلمون ذلك ولكن أراد التأكيد على هذا المعنى والتنبيه وإيقاظ الأذهان والقلوب بأن الله غني حميد، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- غني عن هذه الصدقات وهو محمود في غناه، فهذا الذي يتصدق وهو غني ويعطي الرديء هذا ليس بمحمود، هذا من الشح والبخل الذي يُذم صاحبه، وتنحط مرتبته، فالله غني وهو أيضًا حميد، وعامة أهل العلم يفسرون الحميد بالحامد الذي يحمد خلقه، هذا الذي عليه السواد الأعظم، ونقل عليه ابن القيم الإجماع.

والواقع أنه وجد من خالف في هذا فإذا كان حامدًا -تبارك وتعالى- فهو معلوم أيضًا أنه محمود فله الحمد ، حميد فاجتماع الحمد مع الغنى هذا كمال آخر؛ لأن الغنى في كثير من الأحيان يكون سببًا للمزاولات غير محمودة غير جيدة: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، أو البخل وهذا كثير، أن الغنى يوجد معه شيء من الإمساك والتقتير والبخل ونحو ذلك من الصفات المذمومة، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، غني عنكم وعن صدقاتكم هذه فكيف تقصدون هذا الرديء وأنتم من ينتفع بهذه الصدقات.

وحميد على وزن فعيل هذه صيغة مبالغة فهو يُثني على فاعل الخير والمتصدق والمنفق، وأما هذا الذي يتخير الرديء فهو مذموم قد قال الله : الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37]، وكذلك: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [سورة الماعون:2]، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى [سورة العلق:9، 10]، إلى آخر ما قال الله ، هذه من صفات الكفار ومن صفات المنافقين.

وقال: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128]، وقال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9]، فهذا الشُح مغروس في النفوس فيحتاج إلى مجاهدات من أجل أن يتخلص الإنسان منه، والنفس طُلعة تتطلع كثيرًا إلى المزيد إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19-22]، ثم ذكر أوصافهم، فالتخلص من مثل هذه الأوصاف يحتاج إلى مجاهدات ومزاولات وأعمال من الصلاة والمحافظة عليها وما إلى ذلك؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1015).
  2. أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
  3. لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرج أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقاللو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقالإن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة، والنسائي، كتاب الزكاة، باب -قوله Uوَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك، برقم (1678)، والترمذي، في أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، برقم (3675)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، برقم (1510)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1473).
  5. انظر: الموافقات (3/ 70).
  6. انظر: الموافقات (3/ 70).
  7. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب في القيامة، برقم (2417)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7300).
  8. لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرج أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقاللو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقالإن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة، والنسائي، كتاب الزكاة، باب -قوله Uوَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، برقم (45).