فالمراد من الآية وأثر ابن عباس أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يكرهون أن يجعلوا شيئاً من وصاياهم لقرابتهم من المشركين، فبيّن الله أن ما يخرجونه من الصدقات على قرابتهم من الكفار قربة لله سيجدون جزاءها عند ربهم، لا يضيع منه شيء، فلا يمنعهم شركهم بالله من الإحسان إليهم، والتصدق عليهم؛ فإن كفرهم ليس بمانع لكم من الصدقة، وهذا الخطاب في الآية يستثنى منه الزكاة؛ فإنها لا تعطى للمشرك إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، والله أعلم.
"وقوله: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [سورة فصلت:46] ونظائرها في القرآن كثيرة، وقوله: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ قال الحسن البصري: "نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله"، وقال عطاء الخرساني: "يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله"، وهذا معنىً حسن، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب، ألِبرٍّ أو فاجرٍ، أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده".
أراد الله سبحانه أن يذكّر المتحرجين من دفع صدقاتهم لقرابتهم من المشركين لسبب أو لآخر بثلاثة أمور:
الأول: أن ما يقدمه الإنسان لنفسه من صدقة وبر إنما ذلك قربة يتقرب بها العبد إلى ربه فلا يخاف، ولا يخشى، وذلك قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ.
الثاني: أن العمل لا بد في قبوله من شرط الإخلاص فيه وهو قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ والمعنى: بما أنك تريد وجه الله فلا عليك ما عمل هذا الإنسان، وحاله، وبعض أهل العلم يقول: هذه الآية وردت على سبيل الإخبار عن أصحاب النبي ﷺ بأنهم يحققون الإخلاص في نفقاتهم فهي بمقام التزكية، وقيل: هذه الآية بمعنى الشرط فهي تدل على اشتراط الإخلاص لله كأنه يقول لهم: لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، والذي يظهر أنها تبيّن لهم معنى يدفع عنهم ذلك الاستشكال والتوقف، يقول لهم: أنتم إنما تريدون بذلك وجه الله ، فلا عليكم ما يكون عليه عمل هذا الإنسان الذي يُتصدَّق عليه.
الثالث: أن أي نفقة عائد نفعها على صاحبها، وسيوفيه الله أجره غير منقوص فيه، وسيجد جزاءه يوم يلقونه، فلا يتمنع المرء من الإحسان إلى هذه القرابات ما داموا فقراء.
"ومستند هذا تمام الآية: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ والحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون تُصدِّق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقتها فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأُتي فقيل له: أمّا صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته[1]".
هذا الرواية في الصدقة على الزانية، والغني، والسارق تقرر معنى الآية، فلا يمنع حال الإنسان من صلاح، وفساد؛ من إيصال البر، والإحسان إليه، والصدقة عليه، ولو خالط العبد الكفر ففي كل كبد رطبة أجر، وكذا إعطاء الصدقة للمستكثر منها، فإنه يعطى ولن يتر الله أجر المتصدق، ولكن ينبغي التلطف في إيصال الصدقة بالطريقة المناسبة لمن علم من حاله أنه يستعين بها في باطل.
- رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم برقم (1355) (2/516)، ومسلم في كتاب الزكاة - باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها برقم (1022) (2/709).