الأربعاء 28 / ربيع الأوّل / 1446 - 02 / أكتوبر 2024
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ۝ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ۝ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:272-274]: قال أبو عبد الرحمن النسائي: عن ابن عباس - ا - قال: "كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم، فنزلت هذه الآية: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ".
فالمراد من الآية وأثر ابن عباس أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يكرهون أن يجعلوا شيئاً من وصاياهم لقرابتهم من المشركين، فبيّن الله أن ما يخرجونه من الصدقات على قرابتهم من الكفار قربة لله سيجدون جزاءها عند ربهم، لا يضيع منه شيء، فلا يمنعهم شركهم بالله من الإحسان إليهم، والتصدق عليهم؛ فإن كفرهم ليس بمانع لكم من الصدقة، وهذا الخطاب في الآية يستثنى منه الزكاة؛ فإنها لا تعطى للمشرك إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم، والله أعلم.
"وقوله: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [سورة فصلت:46] ونظائرها في القرآن كثيرة، وقوله: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ قال الحسن البصري: "نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله"، وقال عطاء الخرساني: "يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله"، وهذا معنىً حسن، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب، ألِبرٍّ أو فاجرٍ، أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده".
أراد الله سبحانه أن يذكّر المتحرجين من دفع صدقاتهم لقرابتهم من المشركين لسبب أو لآخر بثلاثة أمور:
الأول: أن ما يقدمه الإنسان لنفسه من صدقة وبر إنما ذلك قربة يتقرب بها العبد إلى ربه فلا يخاف، ولا يخشى، وذلك قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ.
الثاني: أن العمل لا بد في قبوله من شرط الإخلاص فيه وهو قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ والمعنى: بما أنك تريد وجه الله فلا عليك ما عمل هذا الإنسان، وحاله، وبعض أهل العلم يقول: هذه الآية وردت على سبيل الإخبار عن أصحاب النبي ﷺ بأنهم يحققون الإخلاص في نفقاتهم فهي بمقام التزكية، وقيل: هذه الآية بمعنى الشرط فهي تدل على اشتراط الإخلاص لله كأنه يقول لهم: لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، والذي يظهر أنها تبيّن لهم معنى يدفع عنهم ذلك الاستشكال والتوقف، يقول لهم: أنتم إنما تريدون بذلك وجه الله ، فلا عليكم ما يكون عليه عمل هذا الإنسان الذي يُتصدَّق عليه.
الثالث: أن أي نفقة عائد نفعها على صاحبها، وسيوفيه الله أجره غير منقوص فيه، وسيجد جزاءه يوم يلقونه، فلا يتمنع المرء من الإحسان إلى هذه القرابات ما داموا فقراء.
"ومستند هذا تمام الآية: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ والحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون تُصدِّق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقتها فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصدِّق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأُتي فقيل له: أمّا صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته[1]".
هذا الرواية في الصدقة على الزانية، والغني، والسارق تقرر معنى الآية، فلا يمنع حال الإنسان من صلاح، وفساد؛ من إيصال البر، والإحسان إليه، والصدقة عليه، ولو خالط العبد الكفر ففي كل كبد رطبة أجر، وكذا إعطاء الصدقة للمستكثر منها، فإنه يعطى ولن يتر الله أجر المتصدق، ولكن ينبغي التلطف في إيصال الصدقة بالطريقة المناسبة لمن علم من حاله أنه يستعين بها في باطل.
  1. رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم برقم (1355) (2/516)، ومسلم في كتاب الزكاة - باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها برقم (1022) (2/709).

مرات الإستماع: 0

"لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] قيل: إن المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة، فنزلت الآية مبيحةً للصدقة على من ليس على دين الإسلام، وذلك في التطوع، وأما الزكاة فلا تُدفعُ لكافرٍ أصلا، فالضميرُ في هُدَاهُمْ على هذا القول للكفار، وقيل: ليس عليك أن تهديهم لما أُمروا به من الإنفاق، وترك المنِّ، والأذى، والرياءِ، والإنفاقِ من الخبيث، إنما عليك أن تبلغهم، والهدى بيد الله، فالضمير على هذا للمسلمين."

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ قيل: إن المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة فنزلت الآية، هنا ذكر في الحاشية عن ابن عباس - ا - قال: "كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم من المشركين، فسألوا فرُخص لهم، فنزلت هذه الآية"[1] وهذه الرواية ثابتة، صحيحة، وهي أيضًا صريحة في سبب النزول، ومن الروايات الواردة في الباب أيضًا - غير هذه الرواية - ما جاء عن ابن عباس - ا - أيضًا قال: "كان أناسٌ من الأنصار لهم أنسباء، وقرابة من قريظة، والنضير، - نحن عرفنا من قبل أن بعضهم كانت المرأة التي لا يولد لها، كانت لربما نذرت أنه إن جاءها ولد أن تجعله يهوديًا، فالحاصل أن بعض هؤلاء كان لهم قرابات من قريظة، والنضير، وكانوا يتقون: أي يتصدقون عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت" لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]"[2] ففي هذه الرواية ذكر قريظة، والنضير، وفي التي قبلها كانوا يكرهون أن يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، وهذه الرواية أيضًا صحيحة.

وجاء عن ابن عباس - ا - أيضًا قال: "بأن النبي ﷺ كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]"[3] فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين، وهذا كله يرجع إلى معنًى واحد: وهي أنها نزلت في الامتناع عن الصدقة على غير المسلمين سواء كانوا من أهل الكتاب، أو كانوا من المشركين، فقال الله : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] وبطبيعة الحال مثل هذا لا يكون في الزكاة؛ لأن الزكاة لا يجوز أن تُعطى للكفار، فهذا كله يدل على أن المقصود بالصدقات هنا: صدقة التطوع.

إذن لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ يعني إلى الإسلام، يعني لا تمتنع من الصدقة على الكفار فهداهم على الله - تبارك، وتعالى - "وفي كلِ كبدٍ رطبة أجر" لكن إن كان هؤلاء الكفار من المحاربين، فإنه لا يتصدق عليهم؛ لئلا يتقووا على المسلمين، وإلا فيجوز الصدقة على الكافر، قد يكون هذا الكافر أجيرًا عنده، وقد يكون غير ذلك، والصدقة قد يكون سائلًا فيُتصدق عليه، وإذا كان هذا في الكافر فالمسلم الفاسق من باب أولى، فلا يُمتنع من الصدقة على المسلم الذي عنده تقصير، أو فسق، أو كبائر، أو نحو ذلك لأجلِ انحرافه، لكن لا يُعطى فيما يتقوى به على المعصية، ويُتصدق عليه، ويُحسن إليه، لكن لا يكون ذلك فيما يقويه على معصيته في كل كبدٍ رطبة أجر [4] وحديث: تُصدق الليلة على زانية، تُصدق الليلة على سارق[5] فوقعت عند الله - تبارك، وتعالى - ولهذا قال: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ تقدم لنفسك، حتى لو وقعت في يد غير أهل، أو من لا يكون من أهل الصلاح، قال: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني: تريد ما عند الله وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ والأجر يأتيك وافيًا، فهذه ثلاثة، تجعل الإنسان حينما يتصدق يكون في غاية الاطمئنان أن ذلك لا يضيع، لو تبين أن هذا الإنسان في غاية الغنى، ولكنه يسأل، ويُظهر الفقر، أو تبين أنه على حالٍ غير مرضية، أو أن هذه المرأة تُقارف الفواحش، فإن الإنسان لا يندم حينها على هذه الصدقة؛ لأنه يقدم لنفسه، ويريد ما عند الله، وأجره يكون وافيًا، إذا تحققت هذه الثلاث فلا عليه بعد ذلك، وقد جاء عن عطاء الخُرساني في هذه الآية قال: "يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله"[6] وهذا استحسنه الحافظ ابن كثير[7] باعتبار أن أجره وقع على الله، ولا عليه في نفس الأمر أوقع ذلك لبر، أو فاجر، أو مستحق، أو غني للحديث، الرجل الذي قال: لأتصدقن الليلة[8].

"وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272] أي إن منفعته لكم لقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46] وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272]."

فقوله: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ فهذا أيضًا خير نكرة في سياق الشرط، وهذا للعموم، وسُبقت بـمِنْ فهي نصٌ صريحٌ في العموم مِنْ خَيْرٍ أي: خير، قليل، أو كثير، سواءً كان ذلك لبر، أو فاجرفَلِأَنفُسِكُمْ.

"وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272] قيل: إنه خبرٌ عن الصحابةِ أنهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله، ففيه تزكيةٌ لهم، وشهادةٌ بفضلهم، وقيل: ما تنفقون نفقةً تُقبل منكم إلا ابتغاء، وجه الله، ففي ذلك حضٌ على الإخلاص."

الآية تحتمل المعنيين: الأول: الثناء على الصحابة .

والثاني: أنها أيضًا تتضمن الحث على الإخلاص، لكنها أيضًا تُخبر بالأمر الآخر: أن عملكم هذا لله وأنه هو الذي سيجازيكم عليه وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يعني: لا شأن لكم بهذا المُعطى، وعلى أي حالٍ هو، وكأن هذا - والله أعلم - هو الأقرب من حمل ذلك أنه ثناء على الصحابة، لا شك أن الصحابة كانوا بهذه المثابة، لكن المقام في هذه الآية هو في بيان هذا الأمر، وهو ما يتعلق بالحث على الصدقات، والبذل، والإنفاق بصرف النظر عن حال المُعطى، وكثير من الناس يتحاشى النفقة، والإحسان على من لا يرتضيه، لكن لو جئنا للأولويات فلا شك أن المسلم أولى من الكافر، وأن البر أولى من الفاجر، لكن هل يمتنع من إعطاء الكافر أصلًا لأنه كافر، أو يمتنع من إعطاء الفاسق لأنه فاسق؟

الجواب: لا، لكن لو كان الصدقات محدودة فإنه يُقدم المسلم، ويقدم صاحب السنة، ويقدم طالب العلم، ويقدم التقي، ونحو ذلك، لكن إذا كان الحاجة عرضت لكافرٍ، أو لفاسقٍ، أو لمن يُنسب إلى بدعةٍ، أو نحو ذلك، فتصدق عليه، فإن أجره على الله، الأجر يكون على الله.

  1. - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/703).
  2.  - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/20).
  3.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/704).
  4.  - أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة، وإطعامها، برقم (2244).
  5.  - أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).
  6.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/704).
  7.  - المصدر السابق.
  8.  - أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).