الأربعاء 28 / ربيع الأوّل / 1446 - 02 / أكتوبر 2024
لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [(سورة البقرة:273] يعني المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله، وإلى رسوله ﷺ، وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم، ولاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يعني سفراً للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض: هو السفر، قال الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ [سورة النساء:101]، وقال تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المزمل:20] الآية".
يحتمل أن يرجع قوله سبحانه: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلى ما سبق من الآيات وهو قوله سبحانه: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ۝ لِلْفُقَرَاء والمعنى اجعلوا هذه النفقات للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، فهم أولى الناس بصدقاتكم، ونفقاتكم.
ويحتمل أن يكون معنى الآية على تقدير: أنفقوا عليهم، أو غير ذلك مما يمكن أن يقدر هاهنا.
وقوله سبحانه: أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ سبق الكلام على هذه اللفظة "أحصروا" و"حصروا"، فمن أهل العلم من لا يفرق بينهما ويجعل معناهما واحد سواء كان ذلك الإحصار الواقع من جهة العدو، أو حصر نفسه عن التقلب والسعي في الأرض بأن اشتغل بالجهاد، وتفرغ له.
وابن جرير - رحمه الله - يجعل هذا اللفظ بصيغة "أحصروا" من جهة اللغة دالاً على معنى محدد، فلا يقال إلا فيمن حصر نفسه بسبب تفرغه لعمل يقوم به، وهؤلاء لما تفرغوا للجهاد شغلوا به عن التجارة، والتكسب؛ مما أدى إلى عوزهم، وفقرهم.
وقال بعضهم: إنهم مَن حصرهم العدو فلم يستطيعوا السفر للتجارة، والتقلب في الأرض؛ لأن العدو يطلبهم، ويتربص بهم في كل مكان، فإذا ذهبوا أُخذوا، مما اضطرهم ذلك إلى البقاء في المدينة.
والكلام على ما ورد في لفظة الإحصار مر عند قوله - تبارك وتعالى -: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196] وبناء عليه وقع الخلاف في الإحصار في الحج أو العمرة، هل يكون ذلك مختصاً بحصر العدو، أو أن جميع صور الحصر داخلة فيه؟ الله أعلم بالصواب.
"وقوله: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ أي: الجاهل بأمرهم، وحالهم، يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم، وحالهم، ومقالهم، وفي هذا الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنىً يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدقَ عليه، ولا يسألُ الناس شيئاً[1] وقد رواه أحمد من حديث ابن مسعود أيضاً".
فهذا الصنف لا يسألون صراحة، ولا يتعرضون للسؤال لا بالمقال، كأن يقول: أعطني ونحوه...، ولا بالحال كأن يتعرض للناس في طريقهم، ويقف أمامهم يفهمهم أنه محتاج.
"وقوله: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم [سورة الفتح:29]، وقال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [سورة محمد:30]".
بمعنى أن المتفرس يعرفهم، ويدرك فقرهم، وحاجتهم، وذلك يشمل ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية، فصاحب العلة يعرف بما يظهر عليه من ملامح وجهه كصفرة، وشحوب، وصعوبة في مشيه، وحركاته...، والفقير يعرف برذاذة ثيابه، ورثاثته، ومسكنته....
"وقوله: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا أي: لا يلحون في المسألة، ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل، وله ما يغنيه عن السؤال؛ فقد ألحف في المسألة".
الإلحاف: بمعنى الإلحاح، وأصل الكلمة من اللحاف الذي يعطاه الإنسان ليشتمل به في جميع أعضائه، وأبشع صور المسألة، وأقبحها؛ الإلحاح في السؤال، ولذلك نفى الله عن هؤلاء الإلحاف في المسألة، ومقتضى مفهوم المخالفة في الآية أنهم يسألون لكن من غير إلحاف، وهذا يفهم منه معارضة المنطوق السابق وهو قوله: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ والعفيف إنما سمي بذلك لأنه لا يطلب من الناس شيئاً، ولا يكلم أحداً في حاجته، وإلا لما ظنهم الجاهل أغنياء، وما أطلق عليهم لفظ العفيف.
والجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إن الشيء قد يرد نفيه مقيداً، والمراد نفيه أصلاً، وذلك أبلغ في النفي، وهنا ذكر صفة في السؤال تستثقلها النفوس، وتستقبحها فنفاها، ولم يقصد إثبات مفهوم المخالفة منها، فهذا الصنف لا يسألون لا بإلحاف، ولا بغير إلحاف، وهذا التعبير موجود في كلام العرب، وفي أشعارهم، إذا أرادوا أن يمدحوا إنساناً نفوا بعض الأوصاف السيئة عن الممدوح، ويقيدونها أحياناً بصورة مباشرة إذا سمعتها النفوس نفرت، فينفيها، والله أعلم.
"وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: "سرحتني أمي إلى رسول الله ﷺ أسأله، فأتيته فقعدت، قال: فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف[2] قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية، فرجعت فلم أسأله" وهكذا رواه أبو داود والنسائي.
قوله: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي: لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء، وأتمه؛ يوم القيامة أحوج ما يكون إليه".

قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ هذا وعد مبطن متضمن للجزاء، والمعنى أن الله سيجازيكم علي نفقاتكم وصدقاتكم، ولن يضيع من أجوركم شيئاً، وقد يتوهم متوهم أن ثمة ترابطاً بين هذه الآية والتي قبلها في المعنى، والصواب أن هناك فرقاً بينهما ذلك أن قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ دلالته صريحة يراد به أن جزاءكم تأخذونه وافياً كاملاً من غير نقص، ولا بخس من أجوركم شيئاً، فهو صريح الدلالة، وأما قوله سبحانه: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ فدلالة الآية غير صريحة في الجزاء، إنما هو وعد مبطن يتضمن الجزاء.
  1. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4265) (4/1651)، ورواه مسلم في كتاب الزكاة - باب المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يتفطن له فيتصدق عليه برقم (1039) (2/719).
  2. رواه أبو داود برقم (1630) (2/34)، ورواه النسائي برقم (2595) (5/98)، ورواه أحمد في مسنده برقم (11057) (3/9)، وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي.

مرات الإستماع: 0

"لِلفُقَرَاءِ [البقرة:273] متعلقٌ بمحذوفٍ تقديره: الإنفاق للفقراء، وهم هنا المهاجرون."

لا شك؛ لأن الله قال: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273] فالإنفاقُ للفقراء، يعني هنا يبين الأولى بهذه النفقات، وهم فقراءُ المهاجرين، ويجوز إعطاء من لا يكون بتلك المثابة من الصلاح، والتقوى، لكن أولى الناس بها هم هؤلاء الذين أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273] وهم في غاية التعفف، فتركوا كل شيءٍ، ورائهم.

"أُحْصِرُوا [البقرة:273]: حُبسوا بالعدو، وبالمرض - وفي النسخة الخطية: وبالعدو، أو بالمرض."

حُبسوا (بالعدو، أو بالمرض) أحسن من: (وبالمرض)؛ لأنه قد يُحبس بالعدو، ولا يكون مريضًا، أو المرض، حُبسوا بالعدو، أو المرض، كذا يعني: أُحْصِرُوا حُبسوا، حُبسوا عن التصرف في معايشهم خوف العدو، وأصل الحصر: التضييق، والمنع أُحْصِرُوا وبعض أهل العلم يفرق في ذلك بين حصروا، و أُحْصِرُوا بعضهم يفرق في المعنى، وبعض أهل العلم يرى أنهما بمعنًى واحد، وهذا قد مضى شيءٌ منه في الكلام على آيات الحج فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] هل أُحصر يكون ذلك من قِبل العدو؟ ويُقال: أُحصر فلان، يعني منعه العدو، حبسه العدو، وأنَّ الحصر يكون بالمرض، وبعض أهل العلم يرى أنه لا فرق بين اللفظتين، فهؤلاء أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حُبسوا بالعدو، وبعض أهل العلم يقول: حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله، حبسهم العدو، بمعنى: أنهم لا يستطيعون الذهاب، والسفر، والتجارة، فالعدو يتربص بهم، فهؤلاء أولى الناس بهذه الصدقات.

"فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273] يحتمل الجهادَ، أو الدخول في الإسلام. (وفي النسخة الخطية: يحتمل الجهاد، والدخول في الإسلام)."

سَبِيلِ اللَّهِ إذا أُطلق غالبًا في القرآن فالمقصودُ به الجهاد أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهذه هو الظاهر في هذا الموضع.

"ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273]: هو التصرف في التجارة، وغيرها."

يعني بمعنى: السفر للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض: هو السفر وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101] يعني: في حال السفر عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] فهذا كله يُقال للسفر لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273] التقلب فيها، والسير في الأرض للتجارة، وطلب الرزق.

"يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ [البقرة:273] أي: يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء؛ لقلة سؤالهم، والتَّعَفُّفِ [البقرة:273]: هنا هو عن الطلب، ومِنَ [البقرة:273]: سببية، وقال ابن عطية: لبيان الجنس[1]."

هنا أحسبهم، ويَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ يعني: الجاهل بحالهم أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يعني: بسبب التعفف.

يقول: والتَّعَفُّفِ هنا هو عن الطلب" وفي الحديث: ليس المسكين بهذا الطَّواف الذي ترده التمرةُ، والتمرتان، واللقمةُ، واللقمتان، والأُكلةُ، والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا [2]يعني: هذا المسكين حقيقةً، يعني ذاك قال: ليس المسكين، يعني: ليس المسكين حقيقةً؛ لأنه يجد من يعطيه لأنه يتعرض للناس، ويسأل، لكن المسكين الذي هو أحق بهذا الوصف، وبالصدقة هو المتعفف، يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف مِنَ سببية، يعني: بسبب التعفف، لماذا يحسبهم أغنياء؟ بسبب تعففهم.

وقال ابن عطية: لبيان الجنس، يعني تكون مِنَ بيانية يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.

"تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273] علامة وجوههم، وهي ظهور الجهد، والفاقة، وقلة النعمة، وقيل: الخشوع، وقيل: السجود."

ليس المقصود هنا بيان تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ يعني: من الصلاح، ذاك في قوله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] لكن هنا تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ أي: ما يظهر عليهم، ويعرفه المتفرس من أمارات الحاجة، والفقر، فهذا كما يقول ابن جرير - رحمه الله -[3]: يظهر للمتأمل في حالهم بحيث إنه يرى عليهم من شحوب الوجه، ورثاثة الثياب، ونحو ذلك مما يدل على فقرهم، فحال الإنسان غالبًا الحال الظاهرة، ما يظهر من أماراتٍ على وجهه، أو لباسه، ومظهره يدل على حاله من الفقر، والحاجة، أو الغنى، فهنا تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ السيما: يعني العلامة.

"لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] الإلحاف؛ هو الإلحاح في السؤال، والمعنى: أنهم إذا سألوا يتلطفون، ولا يُلحون، وقيل: هو نفيُ السؤال، والإلحاح معًا، وباقي الآية، وعد."

الإلحاف أصله الاشتمال، والملازمة، ومنه اللحاف؛ لأنه يشتمل على الإنسان من كل نواحيه، فهم لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا قال: هو الإلحاح في السؤال، ولاحظ هذا المعنى الذي ذكره: أنهم إذا سألوا يتلطفون، ولا يُلحون، أخذ هذا من مفهوم المخالفة، أنهم إذا كانوا لا يسألون الناس بإلحاح، فمفهومه أنهم يسألون من غير إلحاف، أنهم يسألون بتلطف، وهل هذا هو المراد؟

الجواب: لا، ليس هذا هو المراد، هنا مقام مدح لهم، والسؤال لا يكون مدحًا، فهؤلاء لا يُتفطن لهم؛ لأن الله وصفهم بالعفاف يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ لو كانوا يسألون لعُرفوا أنهم من ذوي الحاجة، لكن الله ذكر تعففهم حتى يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء، فكيف يُقال: أنهم يسألون بتلطف؟! وإنما هذا يجري على قاعدة في التفسير: وهي أن الشيء قد يردُ نفيه مقيدًا، والمراد نفيه مطلقًا، نفيه من أصله، هذا من أوضح أمثلة هذه القاعدة لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ذكر أسوأ صورة من صور المسألة: وهي الإلحاح، والإلحاف التي يتأذى بها من يُسأل، فهو يأتيهم بكل وسيلة، وبكل طريقة يطالبه بأن يعطيه، ويُلح عليه بهذا، فيضجر من سُئل، وذكر هذا نفاه عنهم، والمقصود نفي ذلك أصلًا، قد يرد نفي الشيء مقيدًا، والمقصود نفيه أصلًا، فالمقصود هنا: أنهم لا يسألون أصلًا، والقاعدة لها صور، وأمثلة، قد يرد نفي الشيء في القرآن مقيدًا، والمقصود نفيه من أصله.

يقول: وباقي الآية وعد وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ هذا حث على الإنفاق، ووعدٌ على الجزاء، يعني إذا قال: بأنه عليمٌ به فمعنى ذلك أنه سيجازي عليه.

  1.  - تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/369).
  2.  - أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه، برقم (1039).
  3.  - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/29).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في الآية السابقة أن الهدى إلى الله -تبارك وتعالى- وحده: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272]، لا تمتنع من إعطاء من ليس بمؤمن أو من ليس بتقي من أجل سوء حاله فإن الهدى بيد الله: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].

بعد ذلك بيَّن الأولى بهذه النفقات أولى الناس بها، أحق الناس بهذه النفقات، الآية السابقة تبين أنه لا يضيع عند الله شيء، وأن هذه النفقات يرجع أثرها إليكم بصرف النظر عن حال هذا المُعطى من جهة الصلاح والتقوى والإيمان.

وفي الآية التي بعدها بيَّن الأولى من الناس بهذه العطاءات والصدقات فقال: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273].

لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الفقراء بعضهم يقول: التقدير أعجلوا للفقراء، أو اقصدوا الفقراء بهذه النفقات، أو اجعلوا ما تنفقون للفقراء المهاجرين، هذه تقديرات ذكرها أهل العلم، والمعنى للفقراء الذين يعني اجعلوا هذه الصدقات للفقراء، اقصدوا بها الفقراء الذين ذكر صفتهم: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فهم حبسوا أنفسهم، تركوا كل شيء لله وفي الله، فقراء المهاجرين أحصروا.

بعض أهل العلم يقول: إنه بالهمز أحصروا يعني حصرهم العدو، وكما في قوله -تبارك وتعالى- في الإحصار في الحج: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [سورة البقرة:196]، فهنا قال: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بمعنى أن العدو حصرهم لا يستطيعون السفر للتجارة والتقلب في الأرض، والحصر في الحج لا يختص بحصر العدو وإنما يكون أيضًا ذلك بكل مانع من مرض أو كسر أو نحو ذلك، لكن هنا حصرهم العدو.

أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ، الضرب هو السير وذلك من التقلب في الأرض طلبًا للرزق والتجارة فهؤلاء أيضًا مع شدة ما هم فيه من الحاجة والفقر يقول الله -تبارك وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، فقراء ولا يستطيعون التصرف والتقلب والسفر والتجارات مع ذلك هم أهل تعفف كامل.

يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ يعني يظنهم الجاهل بحالهم أنهم أغنياء؛ لأنهم لا يسألون الناس لا صراحة ومباشرة، ولا يتعرضون للناس من أجل أن يعطوهم فيكون ذلك سؤالاً غير مُباشر بالوقوف في طريقهم، والتعرض لهم، ونحو ذلك، فهم لا يفعلون شيئًا من ذلك، لكن هنا قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، الإلحاف هو الإلحاح، ومنه اللحاف؛ لأنه يشتمل على المُلتحف به من كل جانب، فهذا المُلحف المُلح بالمسألة لا يترك طريقة إلا يفعلها، بالترجي بالإلحاح بالسؤال المُباشر بالتعرض له بمحاجته بمد يده بتخويفه وتذكيره بالله -تبارك وتعالى- إلى غير ذلك من الوسائل والأساليب الكثيرة، لا يترك سبيلاً إلا فعله.

هذا المُلحف المُلح في السؤال وهي صفة مذمومة مُستكرهة للنفوس، فذكرها هنا قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، مفهوم المخالفة أنهم قد يسألون لكن من غير إلحاف؛ لأنه قال: لا يسألون الناس مُلحفين إِلْحَافًا، إذًا هم قد يسألون لكن من غير إلحاف برفق وأدب وذوق من غير إلحاح، هكذا فهم بعض أهل العلم، ولكنه لا يخلو من إشكال ونظر؛ لأن هذا مقام مدح يمدحهم الله فالأقرب أن المعنى أنهم لا يسألون مطلقًا لا بإلحاف ولا بغير إلحاف، ووجه التقييد هنا؟ لماذا لم يقل لا يسألون الناس أصلاً؟!

قال: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا فذكر هذه الصفة المشينة وذلك أن القاعدة من قواعد التفسير أن الشيء في القرآن قد يرد نفيه مقيدًا والمراد نفيه من أصله من أساسه، نفيه أساسًا، قد يرد نفيه مقيدًا والمقصود نفيه من أساسه فيقيده بقيد كهذا مستكره للنفوس، والمقصود أنهم لا يسألون أصلاً لا بإلحاح ولا بغير إلحاف، والدليل على ذلك أنه قال هنا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.

فالجالب لهذا الظن أنهم أغنياء ليس أنهم يلبسون الفاخر من الثياب، ويأكلون الفاخر من الطعام، لا، من التعفف، فلا يعرفهم إلا المتفرس، ولهذا قال: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، تعرفهم بسيماهم المقصود بذلك كما قال ابن جرير -رحمه الله[1] أنه ما يظهر على الإنسان من الأمارات من رثاثة اللباس، وشحوب الوجه، وأمارات الحاجة والمسغبة والفقر، إذا رآه الإنسان عرف أن هذا فقير دون أن يتكلم: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، يعرفهم المُتفرس، ثم رغب بإعطاء هؤلاء قال: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273]، يعني: سيجازيكم عليه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[2] يقارن بين هذه الآية وبين آية أخرى، يقول: هنا في الصدقات في آية البقرة هذه والآية الأخرى وهي آية الفيء في سورة الحشر، فقال في الصنف الأول وهو المذكور في هذه الآية: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273].

وقال في الصنف الثاني المذكورة في سورة الحشر يقول: وهم أفضل الصنفين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر:8]، فالأوصاف أكمل في سورة الحشر، في سورة البقرة ذكر الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، لكن في سورة الحشر ذكر التنصيص على فقراء المهاجرين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، الأول الهجرة وهي من أجلّ الأعمال بعد الإيمان، والثاني: أخرجوا من ديارهم، فهم مظلومون تركوا كل شيء، تحولوا إلى حال من الفقر، أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ثم شهد لهم بصحة هجرتهم، وصدق نياتهم، وسلامة مقاصدهم: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثم انظر هذه الشهادة الكبيرة التي هي فوق كل شهادة قال الله : أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر:8]، وبهذه الصيغة القوية أولئك الإشارة إلى البعيد؛ لرفعة منازلهم، ثم جاء بضمير الفصل "هم" بين طرفي الكلام لتقوية النسبة، كأنه لا صادق إلا هؤلاء أولئك، ثم دخول "ال" على الخبر الصادقون كأن هؤلاء قد استجمعوا هذا الوصف وحصلوا أكمله، تقول: هذا هو الكريم، هذا هو الرجل، هذا هو العفيف وهذا لا يخفى.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كأن اللام هذه على بعض الأوجه في التفسير تكون للتمليك، الصدقات للفقراء مثلاً، فمعنى ذلك أنهم يعطون الصدقة، لا تتصرف بالنيابة عنهم إلا بتوكيل كما ذكرنا في الأصناف الثمانية لمصارف الزكاة، في الأربع الأولى جاء بـ (اللام) وما عُطف عليها، وفي الأربع الثانية قال: وَفِي، الأربع الأولى في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، هذه أربعة كلها معطوفة على الأول إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، باللام واللام للتمليك، والأربع التي بعدها: وَفِي الرِّقَابِ، فهنا جاء بـ (في) وما عُطف عليه؛ فذلك يعني أنه تصرف في هذا السبيل وإن لم تعط لهؤلاء مباشرة، هنا في هذه الآية: لِلْفُقَرَاءِ فيملكون ذلك، ولا يُتصرف بالنيابة عنهم.

لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وسبيل الله إذا أطلق في القرآن فالمراد به الجهاد، هذا هو الغالب في القرآن، ولهذا فسره بعض السلف بأن هؤلاء حبسوا أنفسهم عن التصرف والتجارة والكسب اشتغالاً بالجهاد في سبيل الله، أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ، وهنا عبر بالضرب عن التجارة؛ لأن شأن التاجر أن يتقلب في البلاد ويسافر؛ ليبتاع ليشتري ويكتسب فهو يضرب الأرض برجليه أو برجلي دابته.

أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، يحسبهم الجاهل يعني يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء لأنهم لا يسألون، لا يسألون الناس شيئًا من التعفف، وذلك أن الجالب لهذا الوصف هو طلب التعفف، يعني ترك السؤال، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، العلامة التي تظهر عليهم مما يدل على فقرهم من آثار قلة ذات اليد، ولا يسألون الناس إلحافا، يعني: كما قلنا هذا نفي للسؤال من أصله، يعني: هذه الصيغة تعتبر مدح وثناء عليهم حيث بالغ في نفي ذلك عنهم بهذه الطريقة أو بهذا الأسلوب.

يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وهنا التعفف على صيغة التفعل، التعفف يجتهدون في طلب العفة، يعني: يبذلون ما يستطيعون من أجل أن لا يصدر عنهم شيء يُنبأ عن حاجتهم لا بطريقة صريحة، ولا بطريقة غير صريحة، فهم يجتهدون في ذلك، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، هذا يُبين قوله -تبارك وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، إذًا كيف نعرفهم؟ فجاء الجواب: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، كيف نصل إليهم وفقرهم خفي؟

قال: يعرفون بأمارات يطلع عليها المتأمل والمتفرس بحالهم، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، والسمة هي العلامة، وهذا لا يظهر لكل أحد، ويؤخذ من هذا أن الفراسة والتفرس أن ذلك من الأمور المطلوبة، فبه يحصل الميز بأمور كثيرة، والناس يتفاضلون في ذلك، ويتفاوتون وهي نوعان، الفراسة نوعان:

نوع يكون ناتجًا عن نور الإيمان الذي يقذفه الله في قلب العبد، إذا استنار القلب عند ذلك كان صاحب هذا القلب المستنير على نور من الله -تبارك وتعالى- فيرى الأشياء ويعرفها كما قيل: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها على صفحة وجهه وفلتات لسانه"[3].

هذه الأمارات قد تكون ظاهرة جدًا كما هو الحال بالنسبة لوجوه الكفار ووجوه أصحاب البدع الغليظة، والجرائم الكبار، يعني أصحاب المخدرات أصحاب الفواحش يظهر هذا على وجوههم يراه كل أحد، لكن يبقى هناك أشياء قد تدق لكن يعرفها أهل الإيمان أهل الفراسة، ولهذا دخل رجل على عثمان فقال: "يعصي أحدكم ويدخل عليّ؟!، فقال الرجل: أوحي بعد رسول الله؟ فقال: لا، ولكنها فراسة المؤمن"[4]، هذا النوع الأول، وهذا لا يأتي لا بدراسة، ولا تحصيل، ولا كسب الإنسان، وإنما نور يقذفه الله في القلب فيستنير فيرى يميز بين البر والفاجر والتقي والصالح وكذا.

النوع الثاني من الفِراسة: وهو ما كان بسبب كثرة المزاولة مع الفطنة يعني لا يتأتى هذا إذا كان المحل غير قابل فطنة مع كثرة مزاولة هذا يوجد عند أصحاب المهن والصنائع والأعمال وما إلى ذلك، يعني: الصيرفي المتمرس بمجرد نظرة أو بمجرد اللمس بين الزيوف من الدراهم وغيرها، كذلك من زاول عملاً من الأعمال وله فطنة فإنه يُميز في السلع ونحو ذلك بمجرد النظر إليه يستبين له الجيد من الرديء والمغشوش وما إلى ذلك.

كذلك الأعمال فمثل هذا مثلاً ما يذكر عن القضاة أمثال شُريح، والقضاة المشاهير الذين اشتهروا بالفراسة فكان عندهم من هذا عجائب وذلك لكثرة المزاولة مع شدة الفطنة، يعني: تجد الواحد من هؤلاء القضاة يرى رجلاً يمشي في الطريق ويقول: هذا من أرض كذا من ناحية كذا قد أبق له مملوك أعور بهذه الأوصاف الدقيقة وهو لا يعرفه رآه فقط، فيذهبون إليه ويسألونه تبحث عن شيء؟ قال: نعم، مملوك، ما صفته؟ يقول: أعور، من أين قدمت؟ من واسط، نفس الكلام الذي قاله لهم هذا القاضي، هذه فراسة قوية، فقالوا له: كيف عرفت؟ سألوا القاضي لما تحققوا كيف عرفت مثل هذا؟ فقال: رأيته ينظر في وجوه الناس في أعينهم إذا مر به مملوك نظر في وجهه، ينظر في عينيه، ورأيت في ثيابه طينًا أحمر، والطين الأحمر من واسط في ذلك الوقت، فهو يبحث عن مملوك أعور، هذا مثال.

وآخر رجلاً جلس وتربع فقال: هذا معلم صبيان معلم غلمان في الكتاتيب، فقيل له كيف عرفت؟ فقال: رأيته جلس جلسة الملوك وليست بهيئة ملك، وإذا مر به صبي سلم عليه، يعني: هو معتاد على الصبيان والغلمان فهم الذين يلفتون نظره فإذا مر غلام سلم عليه وجالس جلسة متربع فيقول: هذه جلسة الملوك ولكنها ليست هيئة ملك، فلما نظروا في حال الرجل وجدوه فعلاً معلم غلمان بالكتاتيب.

فهذه تأتي بكثرة المزاولة إذا كان المحل قابلاً، يعني: يوجد فطنة، أما هذه الدورات التي أربعة أيام يقولون: تعلم الفراسة من الخط أو التوقيع أو غير ذلك فهذه إنما هي أخذ لأموال الناس، ولا تسمن ولا تغني من جوع ليست بشيء، ولا يُبنى عليها شيء لا بتوقيع ولا بقراءة خط ولا غير ذلك، أبدًا.

فقوله -تبارك وتعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ، الصيغة سيما بِسِيمَاهُمْ على وزن فعال من السِمة والوسم فهذه صيغة مبالغة يعني أن ذلك إنما يتحقق للمدقق المتأمل من أصحاب الفراسة، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273]، فكما ذكرنا في نفي الإلحاف أنه نفي لأصل السؤال.

وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273]، أعاد الحث على الإنفاق بهذه الصيغة في خاتمة هذه الآية، وهذه هي المرة الرابعة.

فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273] معنى ذلك أنه يجازيكم عليه إذًا أنفقوا، فالله مطلع على نفقاتكم، وذلك معلوم لا يخفى إذا كان الغني الكريم الأعظم عالمًا بهذه النفقات فما ظنكم!

وقوله -تبارك وتعالى: وَمَا تُنْفِقُوا وهذا التركيب يدل على العموم، وكذلك أيضًا من قوله: مِنْ خَيْرٍ فخير نكرة سبقت بـ"من" فهي نص صريح في العموم سواء كان كثيرًا أو قليلاً، لا تحقرن من المعروف شيئا[5].

وكذلك أيضًا: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أنه لا يُنفق بالحرام والمال والكسب غير الطيب إنما يكون ذلك بالمكاسب الطيبة، فهذه أربع مرات ترد فيها هذه الجملة يُرغب الله -تبارك وتعالى- فيها بالإنفاق. 

  1. انظر: تفسير الطبري (5/ 29).
  2. مجموع الفتاوى (8/ 532).
  3. الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 136).
  4. انظر: تفسير القرطبي (10/ 44)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 455)، والرياض النضرة في مناقب العشرة، لمحب الدين الطبري (3/ 41)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 327).
  5. أخرجه الإمام مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).