الخميس 29 / ربيع الأوّل / 1446 - 03 / أكتوبر 2024
ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275] لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر، والصدقات؛ لذوي الحاجات، والقرابات في جميع الأحوال، والأوقات؛ شرع في ذكر أكلة الربا، وأموال الناس بالباطل، وأنواع الشبهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم، ونشورهم، فقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً.
وقال ابن عباس - ا -: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق" رواه ابن أبي حاتم".

فما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في أول كلامه على هذه الآية يعرف بالمناسبة، ووجه الارتباط بين الآيات، والمناسبة في هذه الآيات بين مقطع ومقطع، ليس بين آية وآية، فقد جعل الله الناس أقساماً في التعامل مع المال:
الأول: المنفق ماله في وجوه الخير قربة إلى الله ، وابتغاء رضوانه.
الثاني: الممسك ماله بخلاً، وشحاً.
الثالث: المتسلط على أموال الناس بغير حق، وهؤلاء هم أكلة الربا لا يقومون أي من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وهذا أحسن ما تفسر به الآية، والله تعالى أعلم.
وقوله سبحانه: لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يحتمل معناه أمرين:
الأول: أن الذين يأكلون الربا لا يقومون من المس إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، فيكون قوله: من المس مرتبطاً بقوله: يقومون، وهذا الاحتمال مرجوح.
وأحسن منه الاحتمال الآخر ومؤداه أن الذين يأكلون الربا لا يقومون من قبورهم إلا كما يقوم الممسوس الذي يتخبطه الشيطان من المس، فمن المس يرجع إلى قيام هذا الأخير لا إلى قيامهم هم، هذا هو المعنى والله أعلم.
والتخبط: هو الضرب على غير استواء، ولا اهتداء، يقال: فلان يتخبط، أو يخبِط خبْطَ عشواءَ، وهذه الآية نص صريح في أن الشيطان يلابس الإنسان ملابسة يصيبه فيها الصرع، ولا يفهم منه أن الصرع سببه الشيطان فحسب؛ فقد يكون الصرع بسبب أورام في الدماغ، أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، وإنما ذكرت فقط هذا المعنى بهذا التصوير لحال هذا المرابي، والله أعلم.
"وقال ابن عباس - ا -: "آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق" رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان نحو ذلك.
وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: فأتينا على نهر حسبت أن كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه، فيلقمه حجراً، فذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا أي إنما جُوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا أي هو نظيره، فلم حُرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا، وحرم هذا".

ما دفع الحافظَ ابن كثير - رحمه الله - للقول بأن تشبيههم البيع بالربا ليس من باب القياس أمران:
الأول: أنهم لا يقرون بحكم الشرع أصلاً، والقياس إنما هو إلحاق أصل بفرع في حكم لعلة جامعة بينهما، فهم لا يعترفون لا بالأصل، ولا بالفرع، ولا بالعلة، ولا...
الثاني: أنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، ومعلوم أن البيع متفق عليه بين أهل الإيمان أنه حلال، وإنما الكلام والخلاف في الربا فكيف يصح قياس المتفق عليه على المختلف فيه؟
فإذا قيل: ما وجه اعترض الكفار على الشرع يوم قالوا: إنما البيع مثل الربا، فقلبوا القضية وعكسوها؟ الجواب أن يقال: إنما دعاهم إلى قولهم هذا المبالغة منهم في المكابرة كما ذكر المفسرون، بحيث جعلوا الربا لعظم استحلالهم له كأنه أصل، والبيع كأنه فرع، مع المفترض أن يحدث العكس، والله تعالى أعلم.
واختلفت أفهام المفسرين في السبب الذي لأجله ذكر الله قيامهم من القبور بهذه الهيئة المنكرة الواردة في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
فذهب بعض المفسرين إلى أن السبب لهذه العقوبة هو أكلهم الربا كما يدل عليه ظاهر الآية، وصدرها.
وذهب بعضهم إلى أن هذه العقوبة جعلت لمن كان مستحلاً للربا كما يدل عليه ما بعده وهو قوله: بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا.
والصواب القول: إن لفظ الآية ما دام جاء بصيغة العموم الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا - لأن "الذين" اسم موصول يفيد العموم - فهو يصدق على الآكل والمستحل، وإنما الله ذكر الآكل في الآية؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا فبأي وجه من الوجوه صار الانتفاع من الربا؟ فهو داخل في هذه الآية، ولذلك الله لما توعد الذين يأكلون أموال اليتامى أراد من تصرف فيه بأي لون من التصرف الذي ينتفع به، ولذلك فكل من قال: إنما البيع مثل الربا، أو أنه عصب الاقتصاد، ولا يقوم اقتصاد العالم إلا به؛ فهذا يكفر بكلامه هذا كفراً أكبر يخرج به من الملة.
وبعضهم يأكل الربا طمعاً أو حباً للمال، أو تغلبه نفسه عليه؛ فهذا أيضاً ممن يشمله الوعيد في الآية.
وليس التعليل في الآية لاستحقاقهم هذه العقوبة لقولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا بحجة لقائل؛ لأنه يمكن أن يكون ذكر ذلك باعتبار حالة وقعت مع المشركين فنزلت الآيات، وهذه الآية أصلاً نزلت تحرم الربا، وهي آخر ما نزل، وكان الناس يتعاملون به في الجاهلية، ولما فتح الله قلب قريش وثقيف للإسلام؛ جاءت ثقيف تتقاضى من قريش، وقد كانوا يقرضونهم قروضاً ربوية، فقالوا: لا نعطيكم شيئاً حتى نسأل رسول الله ﷺ.
فالحاصل أن آية الربا هذه منعت من أن يتعاطى أحد شيئاً من الأموال الربوية، وجاءت كرد على هؤلاء المشركين الذي لم ينقادوا لهذا الحكم، ولم يستسلموا، أو يذعنوا له.
"وقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275] يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم أي على ما قالوه من الاعتراض، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل".
يحتمل في إيراد هذا المقطع من الآية وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ثلاثة احتمالات:
- أنها جملة جديدة لتقرير الحكم بغض النظر عن دعوى هؤلاء الناس المبطلين.
- أن تكون من جملة قولهم يعترضون بها على حكم الله، وشرعه، كأنهم يقولون: إنما البيع مثل الربا، فلماذا يحل الله البيع ويحرم الربا؟ وهذا القول فيه بعد.
- أن تكون من قبيل الرد عليهم، وهذا القول أقرب الاحتمالات لاتصال المقطع بما قبله؛ لأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، فرد الله عليهم بأنه أحل البيع، وحرم الربا.
ويستفاد من هذا الرد فائدة عظيمة وهي أنه لا يجب عند الرد على المبطلين، وأصحاب الشبهات، والمعترضين؛ أن يكون مشتملاً على الدلائل العقلية المقنعة لمن لا ينقاد للوحي، وإن كانت المناظرة بدلائل العقل والحس مما يخضع لها المعاند للحق غير المؤمن به، والله أعلم.
"ولهذا قال: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة، لقوله: عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95]، وكما قال النبي ﷺ يوم فتح مكة: وكل رباً في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رباً أضع ربا العباس[1] ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف كما قال تعالى: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ قال سعيد بن جبير والسدي: فَلَهُ مَا سَلَفَ ما كان أكل من الربا قبل التحريم".
هذه الآية لها نظائر في القرآن كقوله - تبارك وتعالى - في مسألة الصيد: عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف، وقوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [سورة النساء:22]، وهي تدل دلالة صريحة بأن من أخذ شيئاً من أموال الربا قبل نزول الحكم فإنه لا يطالب برده، ولهذه المسألة أربع صور:
الصورة الأولى:  إنسان يملك مائة مليون قبل نزول الحكم، رأس ماله منها مليون، والباقي حصله من تعامله بالربا، فلا يكلف بالتخلص من الأموال الربوية؛ لأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب، وهو لم يبلغه خطاب الشارع للمكلفين، لكن بعد نزول الحكم يعمه الخطاب، ويشمله التكليف، وما أخذه بالربا بعد ذلك فالواجب عليه أن يرده، ويستبقي رؤوس أمواله.
الصورة الثانية: رجل أسلم بعد نزول الحكم وهو يملك مائة ألف، رأس ماله منها عشرة آلاف، والباقي كله من الربا، فهذا لا يطالب بالتخلص منها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وهذا الحكم فيمن يتعاطون الربا حال إسلامهم، ولكن لا يجوز له بحال أن يأخذ شيئاً من أموال الربا بعد إسلامه.
الصورة الثالثة: من نشأ في مكان بعيد لا يعرف شيئاً من أحكام دينه، وشرعه، وتعاطى الربا، وتعامل به، ولم يبلغه الحكم، فلا يطالب بالتخلص من الأموال الربوية السابقة؛ لأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب، وهو لم يبلغه، فعفا الله عما سلف.
الصورة الرابعة: من تعامل بالربا ثم بدا له أن يتوب منه، فهؤلاء كما قال الله : فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ [سورة البقرة:279]، فلما كان هذا الإنسان متعدياً ظالماً يعرف حكم الله ولم ينتهِ؛ لم يحل له أخذ شيء من أموال الربا، بل لا بد له أن يتخلص من تلك الأموال الربوية جميعها، ولكن هذا ليس محل اتفاق، فبعض أهل العلم يرى أن مثله لا يجب عليه أن يرجعها، ويقولون: هذا تسهيل للتوبة، وتيسير على الناس، وأنه يدخل في عموم قوله تعالى: فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ والله أعلم.
"ثم قال الله تعالى: وَمَنْ عَادَ أي إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه".
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسر العود بالفعل، لكن الآية تحتمل معنى آخر وهو الاستحلال أي عاد إلى ما ذكر من الاستحلال بعد ما بيَّن الله حكم الربا، والوعيد المنتظر لمن كان مستحلاً له، متعاملاً به، فإنه من أصحاب النار يخلد فيها خلود الكفار؛ لأنه من جملتهم قال سبحانه: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وهنا قد يتوهم ورود إشكال إذا فسرنا قوله سبحانه: وَمَنْ عَادَ بأنه من العود للفعل، وذلك إذا كان الإنسان لم يك قد تعاطاه من قبل، أو تعامل به؛ فهل يخرج من الوعيد لهذا السبب؟
الجواب أن يقال: إنّ عاد في لغة العرب تأتي بمعنيين:
الأول: الرجوع إلى الشيء.
الثاني: بمعنى الصيرورة مطلقاً، ولو لم يكن عليه من قبل، ومن شواهده قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وعاد القار كاللبن الحليب
فمعنى عاد هنا أي صار القار كاللبن الحليب، ومنه قولهم: حتى يعود اللبن في الضرع، عاد الشاب كهلاً، عاد الصحيح مريضاً، عاد الشجر حطباً، عاد الماء ثلجاً، عاد الخمر خلاً، وكل هذه الأمثلة أتت فيها عاد بمعنى صار.
ومنه ما حكاه الله في كتابه على لسان أهل الكفر من أقوام الرسل يوم قالوا لرسلهم: لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] فهل كانوا على ملتهم من قبل؟ وكذا قوله: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا [سورة الأعراف:89] وقد نوه لإتيان عادَ بهذين المعنيين جماعة ممن كتب في فقه اللغة كالثعالبي ونحوه، والله أعلم.
"فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، ولهذا قال: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".
الصحبة: تعني الملازمة للشيء، فهم ملازمون للنار لا يخرجون منها، ولا نجاة لهم من عذابها، وهذه الآية من نصوص الوعيد التي تُمرر كما جاءت، ولا يتعرض لها بتأويل، أو تفسير، وبعضهم قال: إن المقصود بالخلود في الآية هو البقاء مدة طويلة؛ إذ العرب تسميه خلوداً، والله أعلم.
"وقد روى أبو داود عن جابر قال: لما نزلت الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ قال رسول الله ﷺ: من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله[2] ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وإنما حرمت المخابرة وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي: اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض".

بتقدير الخارص ينظر إلى أقناء الرطب فيقدره بـ...، وعلة التحريم ترجع إلى جهالة المقدار، وذلك لأن الرطب ينقص إذا جف، والقاعدة في الربويات: أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، لكن رخص النبي ﷺ من بيع المزابنة نوعاً منه ألا وهو بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، إذا أراده الشخص لنفسه لا لغرض التجارة، والله أعلم.
"والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم.
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : "ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجَّد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا" يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا".

أما مسألة الجد مع الأخوة فللخلاف الشديد بين الصحابة فيها، وأما الكلالة: وهو من ليس له أصل، ولا فرع وارث؛ من تكلله النسب، بمعنى أن ورثته كلهم من الحواشي، وإن كان عمر يقول عن نفسه: ما راجعت رسول الله ﷺ في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري، فقال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وأما الربا فإنما كانت مسائله من أشكل الأبواب؛ لكثرة تشعبها، وتداخل المسائل التي ترتبط به بعضها في بعض.
"والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
هناك أشياء تُمنع من باب الذريعة؛ لأنها تفضي إلى الربا، مثل مسألة العينة وعكسها مُنعتا من أجل الاحتيال على الربا، مع أن المسألتين ليستا محل اتفاق بين أهل العلم على التحريم، ومثلها مسائل أخرى كثيرة يحتال الناس بها على الربا مثل قلب الدين، وبيع الأجل...،
وكذا البنوك التي تزعم أنها تتعاقد بالمعاملات الإسلامية، وهي في الحقيقة تذبح على الطريقة الإسلامية، ولذلك تجد أرباحهم من القروض أضعاف ما عند غيرهم من البنوك الربوية.
ولذلك نص العلماء على مجموعة من القواعد في مسألة الربا مثل السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، وصورتها: أن  يشتري من البائع السلعة بالأقساط، ثم يبيعها عليه نقداً، وأحياناً بينهما طرف ثالث يبيعها له، وهو يرجعها له، وهكذا تدور.
"وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه[3].
وفي السنن عن الحسن بن علي - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك[4].
وروى أحمد عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: "مِن آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله ﷺ قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا، والريبة[5]"

هذه النصوص والآثار التي أوردها ابن كثير - رحمه الله - إنما قصد بها تأكيد أمر الشارع بترك المشتبهات في الدين.
"وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: الربا سبعون حوباً، أيسرها أن ينكح الرجل أمه[6].
ومن هذا القبيل وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عائشة - ا­ - قالت: "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله ﷺ إلى المسجد فقرأهن، فحرم التجارة في الخمر[7]"

يؤخذ من الرواية أن بيان القرآن الكريم من النبي ﷺ للصحابة إنما كان لما احتاجوا إلى تفسيره مما لم يفهموه منه، وابن تيمية ومن وافقه يرى أن النبي ﷺ فسر جميع القرآن، واستدل بقوله سبحانه: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل:44] ويمكن القول: إن البيان يحصل بمجرد التلاوة، والتبليغ للوحي؛ لأن الصحابة كانوا عرباً أقحاحاً يفهمون المراد دون بيان.
"وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي كما قال في الحديث المتفق عليه: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها، فباعوها وأكلوا أثمانها[8].
وقد ورد في حديث علي وابن مسعود - ا - وغيرهما في لعن المحلل قوله ﷺ: لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه[9].
قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي، ويكون داخله فاسداً، فالاعتبار بمعناه لا بصورته؛ لأن الأعمال بالنيات".

هذا مثل البطاقات التي يسمونها فيزا، وهي: بطاقة بنكية ربوية تأخذ عليها البنوك مقابلاً إذا ما سددت خلال فترة معينة، والبنوك إزاء ذلك ثلاثة أنواع:
الأول: لا يأخذ شيئاً مقابل القرض، لكن إذا مضت فترة محددة دون تسديد أوقفها.
الثاني: متجاوز وهو قسمان:
أحدهما: يأخذ رسوم الاشتراك على قدر التكلفة بما يسمى "أجور خدمة"، وهذا لا إشكال فيه إذا لم تتعد الحد المعقول.
ثانيهما: يأخذ أجور خدمة، لكن بما هو أكثر من العادة، فهؤلاء في الواقع يأخذون زيادة في التأخير، وإنما يحتالون بهذه الطريقة ويسمونها أجور خدمة.
الثالث: محتال، وطريقتهم أنهم بعد أن ينتهي الرصيد من العميل، ويتأخر تسديده؛ يلزمونه بمعاملة معينة، فيعرضون عليه شراء سلعة محددة بالأقساط لمدة سنة مثلاً، ويزيدون في سعرها الحقيقي لأجل الأقساط، فإن وافق وإلا اقترحوا عليه أن يكفونه بيعها بسعر أقل نقداً بحكم معرفتهم بالسوق، والتجار، وعند مناقشتهم في أمر الزيادة في البيع بالأقساط يحتجون بأنهم يضعونها في الأعمال الخيرية، والحقيقة أن هذه من الحيل التي غطيت بغطاء المعاملات الإسلامية، والله المستعان.
  1. رواه الترمذي برقم (3087) (5/273)، وابن ماجه برقم (3074) (2/1022)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم  (3831).
  2. رواه أبو داود برقم (3408) (3/272)، والحاكم في مستدركه برقم (3129) (2/314)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (12613).
  3. رواه البخاري في كتاب الإيمان - باب فضل من استبرأ لدينه برقم (52) (1/28)، ومسلم في كتاب المساقاة - باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) (3/1219).
  4. رواه الترمذي برقم (2518) (4/668)، والنسائي برقم (5711) (8/327)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5690).
  5. رواه أحمد في مسنده برقم (264) (1/36)، وقال شعيب الأرنؤوط : حسن رجاله ثقات رجال الشيخين.
  6. رواه ابن ماجه برقم (2274) (2/764)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5854).
  7. رواه البخاري  في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة وقول الله وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31]  برقم (4267) (4/1651)، ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر برقم (1580) (3/1206) ورواه أحمد برقم (24736).
  8. رواه البخاري في كتاب البيوع - باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه برقم (2110) (2/774)، ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والحنزير والأصنام برقم (1582) (3/1207).
  9. رواه أحمد في مسنده برقم (3809) (1/402)، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف شريك.

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] أي: ينتفعون به، وعبَّر عن ذلك بالأكل؛ لأنه أغلب المنافع، وسواءً من أعطاه، أو من أخذه، والربا في اللغة: الزيادة، ثم استُعمل في الشريعة في بيوعاتٍ ممنوعة أكثرها راجعٌ إلى الزيادة، فإن غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم: أتقضي أم تُربي؟ فكان الغريمُ يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ثم إن الربا على نوعين: ربا النسيئة، وربا التفاضل، وكلاهما يكون في الذهبِ، والفضةِ، وفي الطعام."

هنا لما ذكر الإنفاق، وأثنى على هؤلاء المنفقين الذين يخرجون هذه النفقات سرًّا، وعلانية، ليلًا، ونهارًا، لا يبتغون العِوض من الناس وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [البقرة:272] ذكر ما يقابلهم: وهم أهل الجشع، والطمع، واستغلال حاجة الناس، فهم لا يتصدقون عليهم، ولا يقرضونهم فترجع إليهم أموالهم، بل يستغلون حاجتهم فيأخذون عليهم أموالًا بغير حق الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا عبَّر بالأكل يقولون: لأنه غالب وجوه الانتفاع، يعني إن غالب ما يطلبه الناس من المكاسب إنما هو من أجل الأكل، فعُبر به، وإلا لو أنه أخذ هذا الربا، وصرفه في ترفيه، أو في بناء، أو في ثياب يلبسها، أو مركبة، أو نحو ذلك فهذا كله داخلٌ فيه، لكنه ذكر الأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، والعرب تعبر عن أخذ المال، والانتفاع به، ونحو ذلك تعبر عنه بالأكل، ولهذا في أموال اليتامى لما حذَّر، وتوعد من أخذها ظلمًا قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] فهذا ليس بمحصور، ولا مقصور - كما هو معلوم - على الأكل، وإنما لو أنه أخذها، وانتفع بها بأي وجهٍ من وجوه الانتفاع، أو أتلفها، فهو داخلٌ في هذا، من هنا أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] أن الإنسان ليس له أن يأخذ الربا بحالٍ من الأحوال، ولو تخلص منه، بعض أهل العلم يرى هذا، يعني البعض يقول: بأنه يمكن أن يأخذ هذا الربا، ولا يتركه للبنوك، ثم بعد ذلك يتخلص منه، يتخلص منه يجعله في مصالح عامة، ونحو ذلك، هو لا يجوز له أن يتعامل أصلًا مع هؤلاء، ولا أن يأخذ هذا المال، لكن بعض الناس يكون قد تاب من معاملةٍ ربوية، فيقول: هل آخذ هذا المال، أو لا آخذ هذا المال مثلًا؟ فالبعض يرخص في أخذه ليتخلص منه، لا لينتفع به، بصرفه في مصالح عامة، وبعض أهل العلم يمنع من ذلك باعتبار أنه لا يحل له أخذه أصلًا، وهذا أبرأ للذمة - والله أعلم -. 

"فأما النسيئة فتحرُم في بيع الذهب بالذهب، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي بيع الذهب بالفضة، وهو الصرف، وفي الطعام بالطعام مطلقا."

باعتبار أن ذلك يجب أن يكون في هذه الأموال المذكورة الربوية أن يكون يدًا بيد، في الصرف، وكذلك الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ويجب أن يكون يدًا بيد، وكذلك في البُر بالبُر، ونحو ذلك، وأن يكون أيضًا متماثلًا، وهذا الذي ذكره ثانيًا قال: وأما التفاضل فالنسيئة من النسأ، وهو التأخير، فهذه يجب أن تكون يدًا بيد.

"وأما التفاضل فإنما يحرُم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين، ومن الطعام، ومذهبُ مالكٍ: أنه إنما يحرُم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام[1] ومذهب الشافعي: أنه يحرُم في كل طعام، ومذهب أبي حنيفة: أنه يحرُم في المكيل، والموزون من الطعام، وغيره[2]."

فيما يتعلق بالتفاضل يقول: يحرم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين، ومن الطعام، لأن النبي ﷺ قال: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد[3] فهذا في ربا الفضل، يكون إذا كان يدًا بيد فيجوز التفاضل إذا اختلفت الأجناس، مثل لو أنه باع ذهبًا بفضة، أو تمرًا ببُر، ونحو ذلك، لكن حينما يبيع التمر بالتمر فهنا يجب أن يكون متساويًا، للحديث المعروف: أوَّه عين الربا[4] قال: بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم، يعني من التمر الجيد، فهذا يكون الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ونحو ذلك، وبناءً على العلة في المنع التحريم، اختلفت أقوال الفقهاء في ذلك لهذا - لاحظ - هنا قال: ومذهب مالك: أنه إنما يحرم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام، يعني: الاقتيات أن يكون قوتًا، فالفاكهة ليست قوتاً، وأن يكون مدخرًا فهي ليست مدخرة، ولو كانت قوتًا في بلد فإنها ليست بمدخرة من الطعام، لكن يتكلم الفقهاء فيما لو جُفف، جُففت الفاكهة مثلًا، العنب فاكهة يُجفف يكون زبيبًا، التين يُجفف، ونحو ذلك، فيكون مدخرًا بهذا الاعتبار، لكن على هذه العلة الموصوفة، والمقيدة بهذه القيود يكون مقتاتًا، يعني: لا يكون من جنس الفاكهة مثلًا تفكه، يكون قوتًا.

ومذهب الشافعي: أنه يحرم في كل طعام، يعني: إن العلة هي الطعام عند الشافعي، فلو كان ذلك من الفاكهة، ونحوها فالحكم، واحد.

ومذهب أبي حنيفة: أنه يحرم في المكيلِ، والموزون من الطعام، يعني: صارت العلة مركبة، الكيل، أو الوزن، والطعم، الكيل، والوزن، وهناك عند مالك: الاقتيات، والادخار، والطعم، يكون مطعومًا، ومن ثم فإن الذي لا يكون مطعومًا، ولو كان مكيلًا، أو موزونًا كالحديد مثلًا لا يكون فيه الربا بهذا الاعتبار، البترول لا يكون فيه الربا بهذا الاعتبار، يعني كيلو من الحديد من نوع جيد بكيلوين، سيارة جيدة بسيارتين، ونحو هذا.

"لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] أجمع المفسرون أن المعنى: لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، ويَتَخَبَّطُهُ يتفعَّله، من قولك: خبط يخبط، والْمَسِّ [البقرة:275] الجنون، ومِنَ تتعلق بـــ يَقُومُ [البقرة:275]."

لا يَقُومُونَ يعني: من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، هذا قاله ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، والضَّحاك، والسُدي، وابن زيد: أن هذا في قيامهم في الآخرة حينما يقومون من قبورهم[5] وقالوا: يُبعث كالمجنون، وفي قراءةٍ لابن مسعود : لا يَقُومُونَ يوم القيامة إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ والقراءة الأحادية - كما هو معلوم - إذا صح إسنادها فإنها تفسر المتواترة.

وقال بعضهم: يُجعل معه شيطان يخنقه، وهذا لا دليل عليه، "كالذي" هو تشبيه كالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ شبهه به، لكن هل يتسلط عليه الشيطان بالخنق يوم القيامة؟ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له"[6] يعني: كقيام لا يَقُومُونَ إِلَّا كقيام المصروع الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ.

وهنا يقول: يَتَخَبَّطُهُ يتفعَّله من قولك: خبط يخبط إلى آخره، الخبط: هو الضرب على غير اعتداء، هذا التخبط، تقول: فلان يتخبط في مشيته، يتخبط في قراراته، يتخبط في تصرفاته، بمعنى: المصروع يتحرك حركات يضرب بيديه، ورجليه، ونحو ذلك على غير اهتداء، يعني حركات لا إرادية، فهذا هو التخبط.

يقول هنا: والْمَسِّ الجنون مِنَ الْمَسِّ ومِنَ تتعلق بــ يَقُومُ يعني: لا يقومون من قبورهم إلا على هذه الحال، لا يقومون إلا على هذه الحال كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ فتتعلق بـ يَقُومُ لا يَقُومُونَ إِلَّا هذا المشبه به، إلا كقيام الممسوس الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني لا يقومون من قبورهم إلا كما يقوم هذا الذي يتخبطه الشيطان، لماذا يتخبطه؟ ما هذا التخبط؟ مِنَ الْمَسِّ التخبط الواقع بسبب المس، كما يقوم الممسوس، وكما يقوم من تخبطه الشيطان بسبب المس - المصروع يعني - وهذا على كل حال معروف أن الصرع منه ما يكون بسبب تخبط الشيطان، وتسلط الشيطان عليه، وهناك أنواع من الصرع يعرفها الأطباء أخرى:

منها: ما يكون بسبب أورام في الدماغ.

ومنها: ما يكون بسبب أبخرة تتصاعد من الجوف إلى الدماغ، فيحصل الصرع، يعني يكون له سبب طبي يعرفه الأطباء، يُعالج، وهناك سبب غير مُدرك عندهم: وهو ما يكون بسبب الشيطان، وهذا مُشاهد إذا حصل له أحيانًا حالات من الغضب، وأحيانًا من غير سبب ظاهر، وأحيانًا بسبب سماع القرآن، أو الرقية، فيسقط، ويتخبط، ويصدر منه أشياء، ويخرج منه زبد، ونحو هذا، ولربما آذى نفسه، ولربما عضَّ لسانه بقوة، فقد يكون ذلك بسبب الشيطان، يعني هذا الذي يسقط أثناء الرقية - هذا إن كان فعلًا حقًا قد سقط، وسُلبت إرادته، بمعنى أنه لا يتقمص هذا - فيكون ذلك من تسلط الشياطين عليه.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ [البقرة:275] تعليلٌ للعقاب الذي يصيبهم، وإنما هذا للكفار؛ لأن قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] ردٌ على الشريعة، وتكذيبٌ لها، ثم قد يأخذ العصاة بحظٍ من هذا الوعيد."

يعني الآية عامة لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ [البقرة:275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275] لكن التعليل هنا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] هذا يقوله الكافر الذي ينكر تحريم الربا، لكن يمكن أن يكون علل بصورةٍ هي أسوأ الصور، والتعليلات باستحلاله بهذه الطريقة الفجة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا يعني: بالغوا في استحلاله حتى قلبوا صورة المسألة، يعني القياس يكون إلحاق فرع مختلف فيه بأصلٍ متفق عليه، بأصل ثابت، بعلة، بحكمٍ، تكون هذه العلة جامعة بين الأصل، والفرع، هؤلاء قلبوا صورة المسألة، فجعلوا الفرع المختلف عليه جعلوه أصلًا، وجعلوا المتفق عليه فرعًا، فقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ [البقرة:275] البيع متفق عليه مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] قاسوه على الربا، الأصل أن يُقال: إنما الربا مثل البيع، يعني كأنهم يقولون: إن هذه معاوضة في البيع أخذ عليها ربح، وهذا الربا مثل البيع، هو عقد أخذ عليه المقابل، أن يلحقوا الربا المختلف فيه، يعني بين أهل الإيمان، وبين هؤلاء الكفار المستحلين للربا، أن يقولوا: الربا مثل البيع الذي تقولون بحله، هنا عكسوا مبالغةً فقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] فهنا ذكر ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] لكن أول الآية عام الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ فهنا يقول: ثم قد يأخذ العصاة بحظٍ من هذا الوعيد.

"فإن قيل: هلا قيل إنما الربا مثل البيع؛ لأنهم قاسوا الربا على البيع في الجواز؟

فالجواب: أن هذا مبالغةٌ، فإنهم جعلوا الربا أصلًا حتى شبهوا به البيع."

هذا ذكرته آنفًا.

"وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] عمومٌ يخرج منه البيوع الممنوعة شرعا، وقد عددناها في الفقه ثمانين نوعا."

ذكرنا من قبل مؤلفات ابن جزي - رحمه الله - ومنها ما كان في الفقه وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ عمومٌ يخرج منه البيوع الممنوعة شرعًا، يعني مدار البيوع الممنوعة شرعًا: إما أن يكون ذلك للربا لعلة الربا، أو الجهالة، والغرر، البيوع المحرمة تكاد تدور على هذا: إما للربا، وإما للجهالة، وجود الجهالة، والغرر، فيما يتعلق بـوَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الأصل في البيوع، والمعاملات الحل ما لم يرد دليل على التحريم بخصوصه، أو يوجد فيه هذه العلة التي هي الربا، أو الجهالة، والغرر، والمقصود بالجهالة هنا، والغرر المعتبر شرعًا، وإلا لا يكاد يخلو من جهالةٍ، وغرر في أشياء يسيرة تُغتفر، مثل: إذا شرا الإنسان دارًا، وهو لا يدري عن الأساسات مثلًا، وما في داخل هذه السارية، داخل الجدار، وهكذا إذا اشترى طعامًا فاكهة، أو نحو ذلك، ولا يدري ما الذي بداخلها، فمثل هذا مغتفر، اشترى مركبة فهو لا يدري ما تنطوي عليه هذه المقاعد فيها، أو ما في داخل إطاراتها، أو نحو ذلك مما يخفى، فمثل هذا يُغتفر.

"وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] ردٌ على الكفار، وإنكارٌ للتسوية بين البيع، والربا، وفي ذلك دليلٌ على أن القياس يهدمه النص؛ لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم تحليل الله، وتحريمه."

أيضًا هذا الرد، يعني هم بالغوا في استحلال الربا بهذه الطريقة، فما جاء الرد بالطرق الإقناعية عقلية في بيان مفاسد الربا الاقتصادية، والاجتماعية، ونحو ذلك، وإنما جاء الجواب مباشرةً هكذا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فالمكابرون في الجدال، والتلبيس قد لا يُجدي معهم الإقناع، والحوار، وإنما يقال لهم مثل هذا الجواب المباشر: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا والتحليل، والتحريم إنما هو إلى الله - تبارك، وتعالى - وهذا له نظائر في كتاب الله يقطع المناظرة، ويقطع الاحتجاج بمثل هذا الجواب المباشر، فما كل أحدٍ من المعارضين يستحق التطويل في الإقناع، وذكر الحجج، والأدلة، والبراهين؛ لأنه لا يطلب الحق أصلًا، فمثل هذا يُقطع الجدال معه، ويُجابه بمثل هذا الجواب، - والله أعلم -.

"فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] أي له ما أخذ من الربا، أي لا يؤاخذ بما فعل منه قبل نزول التحريم."

قبل نزول التحريم هذا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى [البقرة:275] تاب، فهذه الآية تشمل عدة صور - والله تعالى أعلم -:

الصورة الأولى: ما كان قبل التحريم، قبل نزول الآية، فهذا داخل في ذلك اتفاقًا بلا إشكال، بنص الآية.

الصورة الثانية: فيمن دخل في الإسلام، وكان يتعامل بالربا، وأخذ أموالًا حينما كان على الكفر، فهذا الإسلام يَجُبْ ما قبله، فلا إشكال فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فلا يأخذ شيئًا بعد ذلك.

الصورة الثالثة: هي موضع الاختلاف، وهو لو تاب، كان يعلم بالتحريم فتاب، فهل يقال: لَهُ مَا سَلَفَ قبل التوبة ترغيبًا في التوبة، هذا يقوله بعض أهل العلم، يقول: إذا تاب فَلَهُ مَا سَلَفَ لكن هذا قد لا يخلو من إشكال، باعتبار أن هذا لا يحل له أخذه أصلًا، وهو عالم بالحكم، ومُتوعد بهذا الوعيد الشديد فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فلا يجوز له أن يأخذ من ذلك شيئًا إذا تاب، وما أخذه قبل توبته فإنه يرد هذه الأموال على أصحابها إذا عرفهم، وإذا لم يعرفهم تخلص منها، كأن هذا - والله أعلم - هو الأقرب، ولكنه ليس محل اتفاق، فمن أهل العلم من يقول: إن التوبة أيضًا كذلك لَهُ مَا سَلَفَ ترغيبًا له بالتوبة.

الصورة الرابعة: وهي فيما لو كان ذلك بسبب جهلٍ منه، دخل في معاملة هي ربوية، وما كان يعلم، فعلم بعد ذلك، وكان قد أخذ في معاملاتٍ سابقة نظير هذا، فهل يرد؟ هنا يمكن أن يُقال: بأن ذلك يُغتفر، وأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب، فهذا الإنسان ما بلغه، وما علم، قد لا يكون منه تفريط، فقد يُغتفر ذلك فيما مضى، لكن ما بين يديه من معاملة، ونحو ذلك لا يأخذ عليها شيئا، وكثير من الناس يدخلون في معاملات، وقد يكون هؤلاء من أهل الصلاح، والخير، والواقع أنها لا تخلو إما من ربا، أو جهالة، أو غرر، وتكون العقود فاسدة باطلة، ومع ذلك يكثر، ويتكرر وقوعها، يدخل مثلًا في مساهمة، ويقول: أريد أن أضمن رأس المال، وقد يأخذ رهنًا على هذا، هذا لا يجوز، كيف يضمن رأس المال، وهو في مضاربة؟ قد يذهب رأس المال.

والبعض يأخذ أرباحاً محددة، يقال له: هذه المائة ألف تأخذ عليها ألفين، وخمسمائة كل شهر، بأي اعتبار تضمن له هذا الربح المحدد؟ فقد لا يحصل هذا الربح، قد يحصل أكثر منه، وقد يحصل خسارة في رأس المال، فهذا لا يجوز، ذاك يضمن له يشترط، يقول: أعطيك ألفين، وخمسمائة كل شهر، فهذا لا يصح، وكثير من الناس يقع في هذا.

"وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275] الضمير عائدٌ على صاحب الربا، والمعنى: أن الله يحكم فيه يوم القيامة فلا تؤاخذوه في الدنيا، وقيل: الضمير عائدٌ على الربا، والمعنى: أن أمر الربا إلى الله في تحريمه، أو غير ذلك."

لاحظ هنا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يعني صاحب الربا أن الله يحكم فيه يوم القيامة، وقيل: الضمير عائد على الربا، والمعنى: أن أمر الربا إلى الله في تحريمه، لا، هذا خلاف الظاهر من السياق، وإنما المقصود: صاحب الربا، أن من تاب تاب الله عليه، فأمره إلى الله، ليس بمؤاخذ من قِبلكم، ولا شأن لكم به.

"وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] يعني من عاد إلى فعل الربا، وإلى القول: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] ولذلك حكم عليه بالخلود في النار."

يعني لابد من هذا القيد، وهو الاستحلال، لهذا أضاف هنا: وإلى القول: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] وَمَنْ عَادَ يعني: إلى الربا، واستحلاله فهؤلاء الذين يقولون: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا.

"لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر، فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة، لكونها في الكفار." 
  1.  - مناهج التحصيل، ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة، وحل مشكلاتها (6/413).
  2.  - العناية شرح الهداية (6/171)، والبناية شرح الهداية (7/393).
  3.  - أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف، وبيع الذهب بالورق نقدا، برقم (1587).
  4.  - أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا باع الوكيل شيئا فاسدا، فبيعه مردود، برقم (2312)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلا بمثل، برقم (1594).
  5.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/708).
  6.  - المصدر السابق.

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في الآيات السابقة الإنفاق ورغب فيه وضرب الأمثال للمنفقين ابتغاء وجه الله، ولأولئك الذين يُعرضون إنفاقهم للمُبطلات، ذكر بعد هذا أضداد المنفقين، أولئك أهل الإنفاق يبذلون أموالهم طلبًا لما عند الله -تبارك وتعالى، وهؤلاء الذين يقابلونهم وهم أكلة الربا، المرابون هؤلاء لا ينفقون أموالهم رجاء ما عند الله، ولا يقرضون الناس فيرجع إليهم المال، ولكنهم يستغلون حاجة الناس، وضرورتهم، فهؤلاء يأكلون أموال الناس بغير حق، فهذا في غاية المناسبة، وهذا نوع منها وهو المناسبة بين المقطع والمقطع.

يعني: هناك مناسبة بين الآية والآية، هناك مناسبة بين الجملة والجملة، هناك مناسبة بين الآية وخاتمتها موضوع الآية وخاتمتها، هناك مناسبة بين مطلع السورة وخاتمتها، وهناك عند بعض أهل العلم مناسبة بين السورة والسورة، هذا النوع هو مناسبة بين المقاطع، هذا الكلام على الإنفاق في جملة من الآيات ثم بعده يأتي الكلام عن الربا.

فقال الله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275].

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا، يعني: يتعاملون بالربا، ولكنه عُبر بالأكل باعتبار أنه غالب وجوه الانتفاع، يعني: أنه هو المقصود الأول لهؤلاء، وكذلك أيضًا لمعانٍ يأتي الإشارة إليها، فكل من يتعامل بالربا فهو داخل في ذلك أكله أو لم يأكله، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ، يعني: في الآخرة من قبورهم على الراجح من أقوال المفسرين، وبعضهم اعتبر ذلك في الدنيا أنه يصور نهمهم وجشعهم وتهالكهم على المال واستغلال حاجة الناس فهم يجرون خلفه كالمجانين، بلا عقل، ولا نظر صحيح، ولا بصيرة ولا روية، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا أن ذلك في الآخرة حينما يقومون من قبورهم، فهم لا يقومون إلا بهذه الصفة كقيام المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني: من الجنون.

لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، من المس يحتمل أن يكون يرجع إلى قوله: يَقُومُونَ، لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، يحتمل أنهم لا يقومون من المس، لكن هذا لا يخلو من إشكال، ولعل الأقرب -والله أعلم- أن ذلك يرجع إلى قوله: يَتَخَبَّطُهُ، يعني: يتخبطه الشيطان من المس، لكن بعضهم يقول: لا يقومون إلا كقيام الممسوس الذي يصرعه الشيطان، ذلك ما هو السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحال أنهم قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، يعني: أنها معاطاة ومعاملة حلال فكما أنه يبيع السلعة ويربح فكذلك يُقرض ويأخذ الزيادة ونحو ذلك.

فهذا كله يؤدي إلى زيادة المال والكسب عندهم، وبالغوا فيه هذه المُبالغة كما سيأتي حيث عكسوا القياس وجعلوا البيع مثل الربا، والأصل أن يُقال أن الربا كالبيع؛ لأن الربا هو الذي حصل فيه النزاع بين أهل الإيمان وهؤلاء الكفار، فهم عكسوا القضية وقالوا: إنما البيع مثل الربا كما سيأتي إن شاء الله، وأكذبهم الله فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، فالبيع فيه نفع للناس ومعاوضات وكسب وتبادل للسلع ويدور المال، وأما هذا فهو استغلال لحاجة الناس لا بيع ولا نفع للمجتمع وإنما إرهاق لهذا البائس الذي لا يزداد إلا بؤسًا؛ تُستغل حاجته من قِبل هؤلاء الذين قد ماتت قلوبهم، وتحجرت مشاعرهم، وتصحرت نفوسهم.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [سورة البقرة:275]، من بلغه التحريم فإنه إن ترك الربا فله ما سلف قبل نزول الحكم، أو قبل علمه به، لكن لا يأخذ ما تبقى من أقساط الربا، فإن استمر على هذه التوبة فالله -تبارك وتعالى- يغفر ويرحم ويتجاوز: فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ [سورة البقرة:275]، "عاد" قيل: إلى استحلال الربا، وقيل: عاد إلى أخذه بعد التحريم، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275]، والذين حملوه على الاستحلال احتجوا بأمرين:

الأمر الأول: أنه قال قبله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275] فهذا استحلال بل تبجح في الاستحلال ومُبالغة.

الأمر الثاني: أنه قال: فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ومعلوم أن أكل الربا من الكبائر لكنه لا يوجب الخلود في النار، والله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فهاتان قرينتان احتج بهما من قال بأن قوله: وَمَنْ عَادَ، يعني: إلى استحلال الربا، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، وأصحاب النار هم الملازمون لها، وأصرح من ذلك هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة هذا التصوير القبيح لحال المرابين، وما هم فيه من الجشع والنهم والحرص الشديد والجري خلف المال فكان الجزاء من جنس العمل، يعني: عاقبهم الله عقوبة في الآخرة أنهم يقومون كالمجنون؛ لأنهم في الدنيا كالمجانين يجرون خلف المال بأي وجه كان، يعبدون المال، ولو كان على حساب المجتمع، ولو كان على حساب الناس ومصالحهم، وضرورات حياتهم، ليس في قلوبهم رحمة.

ومن قال: بأن ذلك في الدنيا، أو قال: في الدنيا والآخرة كما حاول بعض أهل العلم أن يجمع بينهما فهي تصور حالهم في الدنيا في الجري خلف المال، وكذلك عاقبهم بمثله بمثل هذا الصنيع في الآخرة فصاروا يقومون من قبورهم، الناس يُبعثون من القبور ويوجد من يتخبط ويُصرع: يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة:275]، والتخبط هو الضرب على غير اهتداء، يعني: تقول فلان يكون في الأمور المعنوية ويكون في الأمور الحسية وأصله في الحسي المحسوسات، يعني: في الأمور المعنوية تقول: فلان يتخبط في آراءه، يتخبط في اختياراته في حياته وسيره فيها.

وأما بالنسبة للأمور الحسية فالذي يتخبط هذا المصروع يضرب بيديه ويضرب برجليه ونحو ذلك على غير اهتداء، يعني: من غير قصد، حركاته غير موزونة، يعني: يُقال: لا إرادية، فهذا يُقال له: تخبط، فلان يتخبط، فهذا تصوير لحال هؤلاء بهذه الصورة.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، عبّر هنا بالأكل كما أشرنا؛ لأنه مُعظم المقصود أكثر وجوه الانتفاع، ولا شك أن غالب ما يدور الناس حوله في هذه الحياة في الكسب والطلب هو من أجل هذا البطن في النهاية، من أين أعيش ومن أين أعيّش أولادي؟ نريد أن نأكل نريد أن نعيش فهي ترجع إلى هذا الأكل، غالب هذا العمل والاحتراف سواء كان حلالاً أم حرامًا هو في النهاية في الغالب من أجل هذا البطن إلا من وفقه الله وهداه وفتح بصيرته في الحياة أكبر وأعظم وأجل من هذا، لكن هذا فيه من التقبيح لحالهم والتشنيع عليهم ما لا يخفى، كأنهم يأكلون الربا أكلاً، يأكلون هذا المال، وكل منتفع ومستغل للمال بأي وجه كان يُقال: أكله، فلان يأكل السُحت، فلان يأكل الحرام، فلان يأكل أموال الأيتام: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [سورة النساء:10]، فعبر بالأكل، مع أنه لو تصرف في مال اليتيم بسفر أو سياحة أو في نُزهة وملاهي، أو اشترى به سيارة أو نحو ذلك فالحكم واحد أكله، أو لم يأكله.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ [سورة البقرة:275]، يدل على أن الشيطان يصرع الإنسان، والصرع نوعان:

النوع الأول: يعرفه الأطباء ويكون لأسباب معروفة مُدركة عندهم، تارة أبخرة تتصاعد إلى الدماغ، وتارة يكون بسبب أمور أخرى كورم في الدماغ ونحو ذلك، هذا مُدرك عند الأطباء، وقد يجد علاجًا عندهم أو تشخيصًا.

النوع الثاني: هذا غير مُدرك من ناحية الطب وهو ما يكون بسبب تخبط الشيطان، هذا الإنسان ليس به ورم ولا أبخرة ولا شيء، تقرأ عليه الآيات وأحيانًا بدون قراءة الآيات ثم تُفاجأ بأنه يسقط ويتخبط ويبدأ يتكلم ذلك الشيطان الذي قد تلبس فيه -نسأل الله العافية، وهذا أمر مُشاهد، فالحس والمشاهدة من أعظم البراهين الدالة على ذلك، وهذا الذي عليه أهل العلم حيث يقررونه سلفًا وخلفًا وتدل عليه هذه الآية.

لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ [سورة البقرة:275]، وهذا يدل على أن الشيطان يتسلط على بعض الناس فيوقعهم في مثل هذه الأمور، وتعتل أبدانهم، ولربما عطّل بعض أعضاءهم، ولربما كان ذلك بالتسلط على النفوس فيصيبهم بالحزن ونحو ذلك، كما قال الله في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۝ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۝ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ [سورة آل عمران:173-175].

يعني: هذا الذي يُلقي مثل هذه في النفوس هو الشيطان، "إنما"، وأتى بثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر في اللغة وعند الأصوليين، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ، ماذا يفعل؟ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، يعني يُضخمهم من أجل أن يخافهم الناس، هذا معنى الآية يخوف أولياءه يعني يخوفكم أولياءه، يخوفكم من أولياءه يُعظمهم، ويجعل لهم هالة ينفخهم في نفوسكم من أجل أن تخافهم، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:175]، فهذه المخاوف التي يلقيها الشيطان في نفوس الناس يخوفهم من أعداء الله ، من أولياء الشيطان هذا عمله، فهنا يتخبط الإنسان بالصرع.

فينبغي للإنسان أن لا يُصغي لخواطر الشيطان ووساوس الشيطان فقد يتسلط عليه بأي شيء كان، تارة يوهمه بالمرض، تارة يوهمه بأمور أخرى يتخوفها، يخوفه من الموت، أحيانًا يصور له أن الموت قد حلّ به فيبتأس، ويكون في حال من الكرب والضيق والشدة، ونحو ذلك وليس به علة، وليس به بأس، وقد سمعت من كثيرين يصيرون إلى حال يظنون أن الروح ما بقي إلا أن تخرج، كنت أسأل بعض هؤلاء كم مرة حصل لك هذه المشاعر وبرودة الأطراف ونحو ذلك؟ قال: مرارًا وما مت ولا مرة، إذًا ليس هذا هو الموت، فإذا جاءك مثل هذا فقل للشيطان بأن هذا لا يضرني ولا تكترث به.

وكذلك أيضًا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة:275]، يفتضح عند أهل المحشر فضيحة كبيرة، هناك فضائح في المحشر كما قال النبي ﷺ في الغادر بأنه يُغرز له لواء يقال: هذه غدرة فلان [1] يعني: عنده، هذه غدرة فلان بن فلان، ويأتي بعض الناس يحمل على عاتقه أو على ظهره بقرة، وآخر يحمل جملاً، وآخر يحمل شاة، وليست صامتة بل تسمع الثغاء والرُغاء، وسائر الأصوات بحسب ما غل وأخذ بغير حق.

وهكذا تجد من يطوق الأرض يوم القيامة إلى سبع أراضين[2] هذا يوم القيامة، فكيف بعذاب النار.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، هذا تأكيد يعني تخبط الشيطان هنا ما المراد به؟ قد يكون لأمر معنوي بالوسوسة ونحو ذلك، لكن هنا بيّن أنه تخبط حقيقي يسقط ويتلبط ويتخبط؛ لأنه قال: مِنَ الْمَسِّ، فالممسوس هذه حاله، ليست قضيته قضية وسوسة وخواطر بل سقوطه سقط شديد، وتخبط، وهذا أمر نعرفه ونشاهده -نسأل الله العافية للجميع.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ، هذا تعليل، هذا الذي حصل بهم، وهذا التعليل كثير في القرآن، فالله -تبارك وتعالى- عليم حكيم، ليس هناك شيء من غير تعليل أو حكمة، فالحكمة والتعليل ثابتان في أفعال الله -تبارك وتعالى- لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهذا التعليل في القرآن كثير بصيغ مختلفة، يعني: لو جُمعت فإن ذلك يزيد على مجلد، ذكر التعليل والعِلل في القرآن تعليل الأحكام، يعني: مثلاً في الصيام: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]، أي: من أجل أنكم تتقوا، هذا تعليل، لما ذكر مصارف الفيء قال: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [سورة الحشر:7]، يعني: لئلا يكون المال حكرًا على الأغنياء فقط وتبقى طبقة مسحوقة لا يصل إليها المال، فهذا تعليل في صيغ متنوعة.

فكذلك أيضًا هنا في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، لاحظ هذه المكابرة في الاستحلال، لم يستحلوه فحسب بل بالغوا في استحلاله فجعلوا القياس مقلوبًا، جعلوا البيع مُلحقًا ومقيسًا على الربا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وجه القياس بأن يُقال ذلك بأن الربا مثل البيع؛ لأن الأصل في القياس هو إلحاق فرع مختلف فيه بأصل ثابت في حكم الذي هو التحريم مثلاً أو الحِل لعلة جامعة بينهما، هذه أربعة أركان للقياس، لا يتحقق القياس إلا بها، قياس الفقهاء يسمونه: قياس التمثيل.

هؤلاء ما قالوا: إنما الربا مثل البيع فيكون إلحاق الفرع الذي حصل فيه المنازعة منهم من أجل أن يستحلوه فيُلحقونه بالبيع الثابت من جهة الحِلية، وإنما عكسوا قالوا: إنما البيع مثل الربا فألحقوا البيع بالربا، كأنهم من شدة استحلال الربا جعلوه أصلاً والبيع جعلوه فرعًا؛ وهذا في غاية المبالغة في استحلاله، وهذا شيء عظيم بلا شك أن يستحل الإنسان ويُبالغ في الاستحلال، وأن يتقدم بين يدي الله ورسوله ﷺ بمثل هذا، الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [سورة الحجرات:1]، لا تُقدم برأي، ولا باجتهاد، ولا حكم فيما جاء فيه النص.

ثم انظر كيف جاء الرد على هذه المُبالغة في الاستحلال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، فقط، هذا هو الرد لم يذكر لهم وجوهًا من الإقناع من جهة النظر العقلي كما يقال، ولا وجوهًا من الإقناع من جهة الاقتصاد وأثر الربا على الاقتصاد، وكذلك من الناحية المجتمعية أثر الربا على المجتمعات، أثر الربا على الأمم، هذا ممكن أن تُسرد قائمة من الأضرار والمفاسد التي يُقر بها حتى الكفار اليوم بهذا الاضطراب الاقتصادي الذي وجد قبل سنين قريبة في العالم تكلم بعض كبار رجال الاقتصاد عندهم، وبينوا أن المخرج من ذلك هو في المعاملات الإسلامية، أن المخرج هو في الشريعة الإسلامية هذا قاله بعض الكبار من الاقتصاديين، الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تضرب بأطنابها في أكبر الاقتصادات في العالم الغربي عُقلاؤهم يقولون: بأن المخرج هو في التشريع الإسلامي تحريم الربا.

فأقول يمكن أن تُذكر وجوه الإقناع، لكن هنا جاء الرد مباشرًا بهذه الطريقة وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275] يؤخذ من هذا في الجدال وعلم الجدل والمناظرة أن المُكابر هؤلاء قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275] هم في غاية المكابرة لا يريدون الحق أصلاً ولا يُذعنون لحكم الله وإنما يريدون الجدل للجدل وإلا فهم ماضون وسادرون في غيهم، يريدون استحلال ما حرم الله بأي طريق كان، فمثل هؤلاء لا مجال لمجادلتهم، فإن المُبطل الذي يقصد بجداله إبطال الحق أو إقرار الباطل أو يقصد الجدل للجدل فإن هذا ليس بمُسترشد ولا مُريد للهدى والحق، فلا يُجادل، بل يُقال له: أحل الله البيع وحرم الربا، وانتهى.

هذه طريقة في الرد دل عليها القرآن، فما كل من تكلم يُجادل، ما كل من أراد المناظرة يُناظر، هناك أُناس يريدون إقرار الباطل، هناك أُناس يريدون التشويش على الحق، هناك أُناس يريدون الشهرة فيتكلم على ثوابت الدين ونحو ذلك، فما كل من تكلم يُرد عليه، فبذلك لربما يحصل مقصوده وقد لا يعرفه أحد ولا يسمع بمقالته أحد ثم يرد عليه بعض من يُشهره وتروج مقالته وتصل إلى كل مكان، وتطرق كل سمع، العامة والخاصة الكبار والصغار، رجال، نساء، عجائز، يسمعون هذه الكلمة من الباطل، فما كل من تكلم يُجاب ويُجادل ويستحق أن تقضي الوقت معه.

ولذلك بعض السلف ما كان يسمح للمُبطلين من أهل الضلال والبدع أن يُجادلوه، وأن يقضي وقتًا معهم، فكان يرفضهم ويقول: اذهب إلى شاكٍ مثلك فجادله، وكلامهم في ذلك كثير، ومن شاء فليُراجع الإبانتين الكبرى والصغرى لابن بطة -رحمه الله، كتاب الشريعة للآجُري، وأصول السُنة للآلكائي، ومقدمة الدارمي للسُنن، ونحو ذلك من المصنفات، مليئة بالآثار عن السلف في الامتناع من مجادلة المبطلين.

ليس ذلك منعًا للمناظرة مطلقًا، المناظرة موجودة وقد مضى مناظرة إبراهيم مع ذلك الرجل الذي آتاه الله الملك، فهذه مناظرات، مناظرة إبراهيم مع عبدة الكواكب في سورة الأنعام هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76]، قاله على سبيل التنزل في المناظرة قاله مُناظرًا لا ناظرًا، يعني: لم يكن يعتقد بربوبية الكوكب ، فهذه المناظرة لا إشكال فيها لكن بشروط، فما كل أحد يصلح لها من المناظرين، وما كل أحد يستحق من المُبطلين ثم إذا قامت موجباتها وأسبابها ومسوغاتها، فهناك أيضًا مطالب فيما يتعلق بهذه المناظرة من حيث ما يدور فيها من الشروط والواجبات والآداب والمحاذير، قضايا كثيرة تتعلق بالزمان والمكان والحال والأسلوب وما إلى ذلك، فهذه قضية فائدة مهمة حاصلها ليس الأمر إليكم وإنما الأمر إلى الله، وأحل الله البيع وحرم الربا، وانتهى. 

 

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275].

تحدثنا عن صدر هذه الآية، وبقي في الحديث بقايا فمن ذلك أن الله -تبارك وتعالى- حينما قرر وحكم هذا الحكم القاطع: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فليس لأحد بعد ذلك أن يستحل الربا أو يتأول، كما أنه لا يكون لمؤمن أن يعتقد بحال من الأحوال أن الربا مصلحة، أو أنه عصب الاقتصاد، أو أنه لا قوام لحياة الناس إلا به فلو كان كذلك لما حرمه الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يمكن أن يُحرم على الناس ما تقوم به مصالحهم أو تتوقف مصالحهم عليه، فإن الله -تبارك وتعالى- يُحل لنا الطيبات ويُحرم علينا الخبائث، وجاء ذلك في صفة النبي ﷺ في الكتب السابقة كما أخبر القرآن: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [سورة الأعراف:157]، فلما حُرم الربا دل ذلك على أنه خبيث، والخبيث لا يمكن أن يتحقق منه المصالح بحال من الأحوال.

ثم أيضًا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، لا يمكن أن يُفرق الله -تبارك وتعالى- بين مُتماثلين في الحكم فإن هذا خلاف الحكمة، فأفعاله -تبارك وتعالى- وأحكامه كما ذكرنا مبناها على الحكمة، وهي مُعللة سواء أدرك الخلق ذلك أو لم يُدركوه، فإذا فرق الله بين أمرين فأحل هذا وحرم هذا دل على اختلافهما، سواء أدرك الإنسان ذلك أو لم يُدركه مع أن أكثر الناس يُدركون الفرق بين البيع والربا؛ لكن لو جاء أحد وقال: أنا لا أُدرك الفرق بينهما، يقال: عليك أن تُسلم وتُذعن لحكم الله -تبارك وتعالى؛ لأنه فرق بين الأمرين في الحكم، ولا يمكن أن يُفرق بين المُتماثلين، كما أنه لا يمكن أن يسوي بين المختلفين.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ، هنا سمى العلم بذلك موعظة، والموعظة تُطلق بإطلاق واسع، القرآن كله سماه الله موعظة، وكذلك أيضًا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حكم الظهار والكفارة ذكر أن ذلك أيضًا مما نوعظ به، كذلك قد تُطلق الموعظة على الأحكام الفقهية كما في هذا المثال، وتُطلق على الأمر والنهي المقرون بالترغيب أو الترهيب، يعني ما يُرغب الناس أو يُرهبهم، وهذا هو الشائع في إطلاق الموعظة.

المقصود أن الموعظة وصِف بها القرآن والله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه بذلك، فليس لأحد أن يستنكف من الوعظ ويعتقد أنه نقيصة في حقه؛ لأن بعض المشتغلين بالعلم سواء علوم الآلة كأصول الفقه أو علوم الحديث أو أصول التفسير ونحو ذلك لربما يستنكف الواحد منهم ويترفع عن أن يكون واعظًا.

وكذلك بعض المشتغلين بعلوم المقاصد كالحديث والفقه والتفسير ونحو ذلك قد يترفع عن هذا، ويعتقد أن هذه صنعة العوام أو الجُهال أو من لا حظ له في العلم، وهذا غير صحيح، فالله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه بذلك والنبي ﷺ أيضًا "وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب"[3] وكذلك وصف القرآن بهذا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ.

ويؤخذ من هذا الموضع أيضًا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، هنا أحوال وصور ومقامات، الربا الذي يتعاطاه الناس قبل نزول الحكم قبل نزول التحريم قبل نزول هذه الآية هذا فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، يعني: قبل نزول هذه الآية الربا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية، هذا بالإجماع بلا إشكال ليس فيه خلاف، أنه حينما نزلت هذه الآية: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، بلغه الحكم، فَانتَهَى من الربا وأخذه أو استحلاله: فَلَهُ مَا سَلَفَ، يعني: مما أخذ من الربا سابقًا قبل النزول: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ، أخذ يعني بعد الحكم، بعد العلم بالحكم بعد نزول الآية بعد التحريم: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، فهذه الصورة الأولى من تعاطى الربا أخذ أموالاً ربوية قبل نزول الحكم ما كان يتعاطاه أهل الجاهلية فهذا لا إشكال أنه له ما سلف بنص الآية أي صورة.

الصورة الثانية: من أسلم دخل في الإسلام وكان يتعامل بالربا فهذا يُقال: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ؛ لأن الإسلام يجُب ما قبله، لا يُقال لا يُطالب أن يُعيد الأموال المحرمة التي أخذها الربا ونحو ذلك، فهذه الصورة الثانية بلا إشكال من دخل في الإسلام، فالإسلام يجُب ما قبله.

الصورة الثالثة: وهي من تعامل بشيء من الربا جهلاً، هذا يقع فيه كثير من الناس يتعامل بمعاملات وهو لا يعلم أن هذا من الربا، فمثل هذا يمكن أن يُقال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، ما أخذه قبل العلم بأن هذه المعاملة محرمة فهو له، قبل العلم، لماذا، هذا ما لم يكن مفرطًا؛ لأن من شروط التكليف بلوغ الخطاب خطاب الشارع فالعلم به داخل في ذلك، هذه من الشروط العامة.

هناك شروط للتكليف في كل تكليف مثل العقل والبلوغ، وأيضًا بلوغ خطاب الشارع هذا في كل التكاليف، هناك شروط خاصة في كل تكليف مِثل مثلاً: الصلاة لها شروط من دخول الوقت، واستقبال القبلة، الطهارة وهكذا، الصيام صيام رمضان دخول الشهر، وكذلك أن يُبيت النية من الليل ونحو هذا، فبلوغ الخطاب شرط فهذا الذي ما بلغه أن هذا حرام ما علم، فله ما سلف وأمره إلى الله، لكن بعد ما علم لا يجوز له أن يأخذ أقساطًا ربوية، لا يجوز له أن يأخذ شيئًا من الربا، بقيت له أقساط، كل هؤلاء الثلاثة لا يجوز لهم أن يأخذوا شيئًا بعد العلم، أو بعد نزول الحكم أو بعد دخول ذاك في الإسلام، هؤلاء الثلاثة.

الصورة الرابعة والأخيرة: وهي موضع خلاف بين أهل العلم، وهو من تعامل بالربا وهو على علم بأنه ربا وبعد نزول الحكم ثم تاب فهل يُقال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ، يعني: إذا تاب وهو يعلم، كان يتعامل بالربا عصيانًا من غير استحلال فتاب فهل له ما سبق، أو يجب عليه التخلص من الأموال الربوية التي أخذها؛ لأنه أخذها من غير حلها والحكم نازل وهو عالم بالحكم فلم يكن له أن يأخذها، ذهب طوائف من أهل العلم إلى أنه داخل في الآية: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إذا كانت توبته صادقة صحيحة، وقالوا: هذا أدعى إلى الترغيب بالتوبة والإقلاع عن الربا.

وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يدل على أنه يقول بذلك فهو يقول الموعظة تكون لمن علم التحريم يعني هذه الحالة الرابعة لمن علم التحريم أعظم لمن تكون لمن لم يعلمه، ولهذا قال الله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [سورة النور:17]، يعني: في قصة الإفك والخوض والحديث فيه، أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [سورة النور:17]، مع أنهم يعلمون أن هذا حرام، لا يجوز قذف الأعراض وأهل العفاف، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [سورة النور:17]، فذكر الوعظ لهم، حذرهم من العود إليه مع علمهم به، فشيخ الإسلام يقول: "الموعظة تكون أشد وأبلغ في حق هذا الذي كان يعلم من ذاك الذي تعاطى الربا مثلاً وهو لا يعلم"[4].

والقول الآخر: أنه يجب عليه أن يتخلص من هذه الأموال التي أخذها بغير حق؛ لأنه عالم بالحكم مخاطب بخطاب الشارع فمن توبته أن يتخلص من الغصوب، الأموال التي غصبها ومن الأموال التي اكتسبها من غير حِلها، لو كان عنده أموال من مُخدرات مثلاً، عنده أشياء مسروقة لا يعلم أصحابها إذا كان يعلم الأصحاب لا إشكال أنها ترجع إليهم، وفرق بين حقوق الناس.. فهذه يجب إرجاعها، فهذا في التوبة، ومن شروط التوبة: أن يُعيد المظالم إلى أصحابها، لكن في الربا ماذا يفعل؟

القول الآخر: أن عليه أن يتخلص من هذه الأموال ما أخذ من زيادات من أُناس يعرفهم يُعيد ذلك إليهم؛ لأنه أخذها منهم بغير حق، وهذا القول له وجه قوي من النظر -والله تعالى أعلم، لكن ذاك الذي أخذ قبل العلم لا يُعيد لكن بشرط التوبة.

فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، أمره إلى الله، فالتعبير هنا لاحظ العبارة فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ من ربه ما قاله مثلاً موعظة من الله، فذكر هذا الاسم الكريم الرب؛ لأن من معاني الرب أنه هو الذي يُشرع ويُحلل ويُحرم فذلك من مقتضيات ربوبيته أنه هو الذي يملك وحده التحليل والتحريم والتشريع، فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، وفيه معنى التربية والتربيب فالله -تبارك وتعالى- يُربي خلقه وعباده، التربية من الناحيتين: الناحية الجسدية بما يغذوهم به فينبتون وهم في بطون أمهاتهم حتى يخرجوا بعد ذلك فيشب الواحد منهم ثم يشتد، وكذلك أيضًا يُربيهم التربية الأخرى بالإيمان، والهدايات وما إلى ذلك يُرسل إليهم الرسل ويُنزل عليهم الكتب.

فهنا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، وفيه لُطف الله -تبارك وتعالى- بعباده حيث يُرشدهم ويُبين لهم ويعظهم ويتجاوز عن ما وقع منهم قبل علمهم بذلك أو قبل التحريم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وهذا من رحمته -تبارك وتعالى- بخلقه، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [سورة البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [سورة الطلاق:7]، ولذلك هذا في كل الأمور، ومسألة العلم بالحكم بعد نزول التشريع تتفاوت يعني العلماء يذكرون المعلوم من الدين بالضرورة.

والواقع أن هذا أيضًا يختلف من زمانٍ إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، يعني: الذين في آخر الزمان يقولون لا يعرفون إلا هذه الكلمة لا إله إلا الله، يقولون: أدركنا عليها آباءنا، لا يعرفون صلاة ولا صيامًا، لا يعرفون شيئًا، يعني تندرس معالم الدين تمامًا، يعرفون هذه الكلمة، لكن حينما توجه هذا السؤال ما تُغني عنهم هذه الكلمة؟ قال: تُنجيهم أو تُنقذهم من النار؛ لأنهم لا علم لهم بشيء من حقائق الدين ودعائمه، لا يعرفون صلاة ولا زكاة، في آخر الزمان، لكن ليس لمن علم بذلك أن يترك هذه الأمور ويقول: تكفيني هذه الكلمة، لا.

وكذلك أيضًا الشواهد على هذا كثير جدًا، معاوية السُلمي : "لما عطس وتكلم في الصلاة وقال: واثكلا أُمياه وجلس يلتفت وينظر إليهم يقول: فجعلوا يرمقونني بأبصارهم"[5] تكلم بهذا في الصلاة ويبدوا أن كل الصلوات التي كان يُصليها كانت على هذه الحال، فالنبي ﷺ ما أمره بالإعادة؛ لأنه جاهل، وقل مثل ذلك أيضًا فيما وقع من عمار : "حينما أصابته جنابة فتمعك كتمعك الدابة وصلى"[6].

وكذلك عمرو بن العاص: "حيث صلى بأصحابه وهو جُنب في يوم بارد محتجًا بقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النساء:29]، فخشي على نفسه الضرر ولم يعلم بالتيمم فلم يأمره النبي ﷺ بالإعادة"[7].

وحمنة حينما قالت: "إنها تُستحاض سبع سنين تدع الصلاة والصيام علمها أن هذا ليست بحيضة ولم يأمرها بقضاء الصلاة والصيام في وقت الاستحاضة"[8] معنى ذلك أن الواجب عليها أن تصلي وتصوم، وهناك أمثلة كثيرة تتعلق بالعُذر بالجهل، ومسائل تتعلق بالتكفير، ونحو ذلك.

فهنا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى، إن لم يأتيه ذلك لم يبلغه الخطاب خطاب الشارع فوجد فيما يُسمى بالجمهوريات الإسلامية التي كانت هي أجزاء من ما يُسمى بالاتحاد السوفيتي سابقًا، وكانت الشيوعية هي المسيطرة الحاكمة في تلك النواحي الشاسعة، وكانوا يُحاربون كل مظاهر الدين، والناس يستخفون بصلاتهم إن صلوا، وبصيامهم إن صاموا.

فالشاهد أنه بعد ما سقط ذلك الباطل المُنتفش وزار بعض طلبة العلم تلك البلاد وجدوا كثيرًا من المسلمين لا يعرفون الصلاة، وجدوا بعضهم لا يعرفون إلا ثلاث صلوات، ووجدوا من قدّم لهم الخمر على المائدة فلما رآهم نفروا من ذلك طمأنهم بأن هذه الخمر من عرق جبينه ومن كسبه فلا عليهم أن يشربوا منها لا إشكال؛ لأنها لم يأخذها بغصب أو سرقة أو اختلاس، هكذا يعتقد، فلما بُين له أن ذلك لا يجوز، أراقها فما شربه قبل ذلك قبل العلم، لاحظ مع أن قضية الخمر معلومة.

وقدامة بن مظعون في القصة المعروفة في زمن عمر لما شربوا الخمر في البحرين، ودعاهم عمر إلى المدينة وسألهم وأقروا على ذلك، واحتج قدامة بن مظعون وهو من أهل بدر بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [سورة المائدة:93]، هذه نزلت بسبب السؤال الذي ورد حيث قُتل من قُتل في غزوة أحد والخمر في أجوافهم قبل نزول التحريم: إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا [سورة المائدة:93]، فيقول: نحن اتقينا وآمنا وعملنا الصالحات وشهدنا بدرًا، يعني: هو شربها مستحلاً لها لم يعلم بالتحريم فهم الآية هكذا، فعمر عذره بهذا[9].

كذلك يؤخذ من هذه الآية: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى، "موعظة من ربه" هنا أضاف ذلك إلى الضمير "موعظة من ربه فانتهى" فقد يُفهم أن هذه من الربوبية الخاصة التي من مقتضياتها التوفيق والهداية والإرشاد، ونحو ذلك.

هنا أيضًا قال الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، "فانتهى" فإذا أخذ بعد ذلك فهذا لم ينته.

كذلك أيضًا: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، ما قال هو في حِل أو قد غُفر له، أو تجاوز الله عنه، وإنما قال: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فجعل له حبلاً -الرجاء، ولكنه لم يكن ذلك بشيء قاطع يمكن أن يركن الإنسان إليه، وإنما يبقى على حال من الوجل: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، يبقى مُلازمًا للخوف يُكثر من الحسنات والأعمال الصالحة والاستغفار. 

وهكذا ينبغي للمؤمن إذا اُبتلي بشيء من هذه الأعمال والمنكرات والذنوب أو ترك الصلوات أو ترك الصيام أو نحو ذلك فهداه الله وامتن عليه بالتوبة تاب عليه وهداه أنه ينبغي أن يُكثر من الأعمال الصالحة والاستغفار، والتوبة ونحو ذلك وهذا من أمارات صحة توبته، وقد تكلمنا على التوبة في مجالس كثيرة، وذكرت كلامًا للحافظ ابن القيم -رحمه الله[10] في هذا المعنى أن التوبة النصوح تلك التي تكون خالصة وصادقة وجازمة لا تردد فيها، وتكون أيضًا هذه عامة شاملة من كل الذنوب، ويكون حال العبد بعد ذلك إلى صلاح وتُقى وطاعة، أن يُقبل على الطاعات، لا أن يقول: أنا تائب ثم يكون في حال من الإعراض والغفلة على ما كان عليه، وإنما يُقبل على الله وتصلح حاله، وتستقيم أموره، هذه هي التوبة الصحيحة الصادقة النصوح.

فهنا وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، فهذا يجعل الإنسان دائمًا في حال من الخوف والوجل، ولا يضمن المغفرة والتوبة، وبعض الناس يسألون أسئلة غريبة يقول: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه [11] إذًا أفعل ما شئت، ومن يضمن لك أنه قُبل هذا الصوم، من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر [12] فيقول: هذه بثلاثمائة، الحسنة بعشر أمثالها، والست أيام بستين، ثلاثمائة وستين هذه عن السنة إذًا لماذا أصوم عاشوراء؟ ولماذا أصوم عشر ذي الحجة؟! ولماذا أصوم عرفة؟! ولماذا أصوم الاثنين والخميس؟!

وردني سؤال يقول: ثبت أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله [13] إذًا لماذا لا يكفي هذا عن التراويح؟ ما شاء الله، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الذاريات:17، 18]، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة المزمل:2]، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [سورة السجدة:16]، وهذا في هذه الحال من الاستغناء، إذًا فليقل لا أقرأ القرآن، أقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات والسلام، هذه ختمة، هذا ليس بصحيح، ليس بهذا الفهم، أو يقول مثلاً: أصلي ركعتين في قباء ويكفيني عن العمرة، لماذا أذهب إلى العمرة، ومن يرى حسن الحديث أو صحة الحديث: من جلس بعد الفجر يذكر الله حتى ترتفع الشمس ثم صلى ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة تامة [14] ولماذا نحج إذًا؟! هذا الفهم غير صحيح إطلاقًا. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يدعى الناس بآبائهم، برقم (6177)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، برقم (1735).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، برقم (2453)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم (1610).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، والترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (8/ 107)، برقم (2455).
  4. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 83).
  5. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم (537).
  6. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، برقم (347)، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368).
  7. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، برقم (334)، وأحمد في المسند، برقم (17812)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، فيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (361).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب عرق الاستحاضة، برقم (327)، ومسلم، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (334).
  9. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (5270).
  10. انظر: بدائع الفوائد (3/ 11)، وطريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:231)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 316).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (759).
  12. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا لرمضان، برقم (1164).
  13. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم (656).
  14. أخرجه الترمذي، أبواب السفر، باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، برقم (586)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6346).