الخميس 29 / ربيع الأوّل / 1446 - 03 / أكتوبر 2024
يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا۟ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ۝ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:276-277].
"يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى: قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [سورة المائدة:100]، وقال تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [سورة الأنفال:37]، وقال: وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ الآية [سورة الروم:39].
وقال ابن جرير في قوله: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا: وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود : عن النبي ﷺ أنه قال: الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلٍّ[1] رواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه".

فلما كان مقصود هذا المرابي هو تكثير ماله بأي طريق من حلال أو حرام؛ عاقبه الله بنقيض قصده بأن أصاب ماله بالمحق، والمحق: الإبطال أي أن الله أبطل ماله، وأذهبه، وإن كثر فإن كثرته لا تغني عن صاحبه شيئاً لأنه منزوع البركة، وهذا المرابي إذا تصدق فلا تقبل صدقته، وكذا لو حج، أو بنى مسجداً بهذا المال؛ فإنه لا يؤجر على صنيعه؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وهذا المال سيئ من كسب سيئ،، وفي المقابل ...
"وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ أي ينميها، وقيل: يربيها، كما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فُلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل[2] وقد رواه مسلم في الزكاة".
والصدقة وإن كانت في ظاهرها نقص من المال إلا أن عزاء المتصدق فيما أخبر عنه نبيه ﷺ بقوله: ما نقص مال عبد من صدقة[3]، فيبارك الله سبحانه للمتصدق في ماله، ويربي له صدقته حتى تصبح أمثال الجبال.
"وقوله: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ أي لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل".
هذا وجه حسن فيما يتعلق ببيان وجه المناسبة بين خاتمة الآية، وبين موضوعها، فهذه الآية لما كانت تتحدث عن هذا الإنسان المرابي الذي لم يرض بما أعطاه الله من كسب حلال، فكفر نعمة الله عليه، وصار يطلب ما لا يحل له كسبه، جعل الله هذا جزاءه وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فهو كفار بفعله، مكتسب للآثام، متقحم على حدود الله بالباطل.
  1. رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (3754) (1/395)، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح.
  2. رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب برقم (1344) (2/511).
  3. رواه الترمذي برقم (2325) (4/562)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5335).

مرات الإستماع: 0

"يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276] يُنقصه، ويُذهبه وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب."

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا المحق: هو الإزالة، والإبطال، والإذهاب للشيء، يمحقها، فعاملهم بضد قصدهم، هم يريدون التثمير للمال، فقابله بالمحق، قال: يُنقصه، ويُذهبه، والله قال: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39] وفي الحديث: من تصدق بعِدل تمرة من كسبٍ طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصحابها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل[1] فهذا في الصدقات وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا فبعض أهل العلم قال: هذا المحق في الآخرة، بمعنى: أن الله يبطله، فإن تصدق منه، تقرب إلى الله، فإن ذلك لا ينفع صاحبه، وبعضهم قال: هذا في الدنيا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا فتذهب بركته، وهذا يمكن أن يكون على إطلاقه؛ لأن الله لم يقيد ذلك في الدنيا، أو في الآخرة، وإنما أطلقه، فيُحمل على العموم يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا فتذهب بركته، وليست العبرة بكثرة المال، والدخل الذي يحصل للإنسان، وإنما البركة، والمشاهد في حال هؤلاء الذين يأخذون الربا، ويتعاملون بالربا، ويعملون فيه، أن هؤلاء تذهب بركة الأموال تُمحق، وفي الآخرة لا يجد من جزاءٍ، وثوابٍ على صدقةٍ تصدق بها، أو قربةٍ تقرب بها، ونحو ذلك، لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب.

وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب، كما سبق في الحديث.

"كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276] من يجمع بين الكفر، والإثم بفعل الربا، وهذا يدل على أن الآية في الكفار."

الآية في الكفار، ولكن أيضًا مثل هذا في الربا ينبغي أن يُحذر، ومثل هذا الجزاء في الآخرة لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ [البقرة:275] كذلك محق الربا، هذا لا يختص بالكفار، فالمحق يحصل للكافر، ولغير الكافر ممن يتعامل بالربا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276] مناسبة الختم بذلك - كما يقول الحافظ ابن كثير -: هي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحودٍ لما عليه من النعمة، ظلومٌ آثمٌ بأكل أموال الناس بالباطل، يعني على قول ابن كثير: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ليس المقصود بالكافر: الذي هو كافرٌ بالله، أو بالضرورة أن يكون مستحلًا للربا في هذا الختم، وإنما كفَّار؛ لأنه جحود لنعمة الله لم يرض بما قسم الله له، وأحل من المعاملة، وإنما يطلب، وراء ذلك ما حُرم عليه، ويطلب أموال الناس بالباطل - لاحظ - فهذا المعنى الذي يذكره ابن كثير، خلاف ما ذكره ابن جُزي: من حمل ذلك على الكافر الذي يستحل الربا - والله أعلم -.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب لقوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277]، برقم (1410).