الخميس 29 / ربيع الأوّل / 1446 - 03 / أكتوبر 2024
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌۢ بِٱلْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْـًٔا ۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُۥ بِٱلْعَدْلِ ۚ وَٱسْتَشْهِدُوا۟ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَىٰهُمَا ٱلْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا۟ ۚ وَلَا تَسْـَٔمُوٓا۟ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰٓ أَلَّا تَرْتَابُوٓا۟ ۖ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوٓا۟ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا۟ فَإِنَّهُۥ فُسُوقٌۢ بِكُمْ ۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:282].
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم، وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين".

يستدل بهذا الأثر على أن جبريل كان يسمع القرآن من الله مباشرةً، ولا يأخذه من بيت العزة أو من اللوح المحفوظ، وعلى هذا سار السلف - رضوان الله عليهم - أضف إلى ذلك الأحاديث التي وردت في بيان صفة تكلم الله بالوحي.
"فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظ لمقدارها، وميقاتها، وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْْْ".

كل معاملة كان أحد العوضين فيها في الذمة - يعني نسيئة -، والآخر نقداً فهي دين، ويدخل في هذا أنواع كثيرة من المعاملات.
وبعض أهل العلم أخذ من الآية أن الدين لا بد من تسمية الأجل فيه، ولكن هذا قد يقال في نوع من الدين يعرف بالسلم: وهو عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد؛ وقد أمر النبي ﷺ أن يكون السلم منضبطاً في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم، لكن العلماء مختلفون في بعض صوره: فيما لو قال له: إلى الحصاد، فهل يعتبر تحديداً أم لا؟ الخلاف في هذا الباب هو في تحقيق المناط، عامة أهل العلم يقولون: إن الأجل في هذه الصورة غير مسمى؛ ومعلوم أن السلم لابد فيه من تحديد الأجل بنص حديث رسول الله ﷺ، وما دام موعد الحصاد غير معلوم مما قد يكون مظنة لاختلاف الناس، ومدعاة للمُشَاحّة بينهم؛ فلذلك لم يجيزوا هذه الصورة.
وأما ما عدا السلم من السلف، والدين؛ فقد وقع الاختلاف بين المفسرين في وجوب كتابته، والذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وسبقه إليه جماعة من السلف أنهم يرون أن الكتابة واجبة عند المداينة، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ، وحملوا الأمر في الآية على الوجوب، كما هو الظاهر المتبادر.
وعامة أهل العلم يرون أن كتابة الدين لا تجب، وحملوا الأمر في الآية على الندب، والاستحباب، وجعلوا الصارف الذي صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب في الآية ثلاثة أمور:
الأول: أن الله لما ذكر آية الدين عقب بعدها بقوله: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ [سورة البقرة:283] قالوا: والرهن لا يجب أخذه بالإجماع، وإنما ذكر عوضاً عن الكتابة، والبدل يقوم مقام المبدل منه، ويأخذ حكمه، ولو كانت الكتابة واجبة لوجب العوض عنها وهو أخذ الرهن.
الثاني: أن الله أخبر في الآية بعدها أنه إذا حصل بين المتداينين وثوق ببعضهم؛ فإن ذلك يغنيهم عن كتابة الدين قال الله : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ.
الثالث: قالوا: إن لصاحب الدين الحق في التصرف فيه إسقاطاً ومطالبةً، وإنما أرشده الله إلى كتابته من أجل ألا يضيع، فإذا كان مخيراً في التصرف إمساكاً وإسقاطاً، فكيف يطالب بالكتابة على سبيل الإيجاب!، هذا بالإضافة إلى ما ذكره بعض أهل العلم من أنه يُفرق في الأمر بين العبادات والمعاملات، ففي العبادات أصل الأمر فيها للوجوب إلا لصارف، وفي المعاملات لا يكون للوجوب وإنما للندب، والإرشاد، والتعليم وما أشبه ذلك، وهو بهذا الإطلاق فيه نظر.
والذي أظنه - والله أعلم - أن يقال: إن القواعد أغلبية، ويكفي أن تنطبق على أكثر الجزئيات، فيكون ذلك لمّاً لِشَعَث الفروع المنتثرة التي يصعب حصرها، والإحاطة بها على طالب العلم، مما يسهل عليه حفظها، واستيعابها، وجمع أطرافها، وشتاتها، ولذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر في الآية من باب الإرشاد بناءً على أن العادة الغالبة عند الناس أنهم إذا تداينوا إلى أجل مسمى كتبوا ما تداينوه بينهم، ولهذا لما قال الله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189] قال بعض المفسرين: إنه أراد أنها مواقيت للناس في آجال الديون، وعِدد النساء و...
والأمر في القرآن الكريم لم يأت في كل صوره للوجوب بدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [سورة البقرة:168]، وقوله: انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [سورة الأنعام:99]، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [سورة الحج:36]، فهذه الآيات وإن أفهمت في ظاهرها الوجوب؛ إلا أن هناك صوارف ذكرها أهل العلم صرفت الحكم من الوجوب إلى غيره.
ومنها قوله ﷺ: ولا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول[1] كثير من أهل العلم كالحافظ ابن حجر - رحمه الله - حملوا الأمر في الحديث على أنه أدب ليس إلا، وإن كان ظاهره النهي ومعلوم أن النهي يقتضي التحريم، بخلاف الظاهرية ومن وافقهم فإنهم يرون أن هذا الأمر للتحريم.
فقصدي من هذا أن طالب العلم لا يستشكل مثل هذه الأشياء، ولا يجعل ورود مثل هذه الأمور قدحاً في القاعدة العامة التي تنص أن القواعد أغلبية.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "وثبت في الصحيحين عن ابن عباس - ا - قال: قدم النبي ﷺ المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال رسول الله ﷺ: من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم[2].
وقوله: فَاكْتُبُوهُ [سورة البقرة:282] أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة ،والحفظ، قال ابن جريج: "من ادان فليكتب، ومن ابتاع فليشهد".
وقال أبو سعيد - والشعبي، والربيع بن أنس، والحسن، وابن جريج، وابن زيد، وغيرهم: كان ذلك واجباً، ثم نسخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ [سورة البقرة:283]".

فمر بنا في الدرس الماضي أن الأمر بكتابة الدين في قوله: فَاكْتُبُوهُ قد اختلف فيه أهل العلم، وأن عامتهم يرون أن كتابة الديون غير واجبة، وذكرنا أنهم استدلوا بثلاثة أمور:
أولاً: من الآية بما ذكر بعدها وهو ذكر الرهان، وأنه لا يجب إجماعاً.
وثانياً: بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ.
وثالثاً: استدلوا بوجه من النظر، وهو إذا كان لصاحب الدين مطلق الحق في إسقاطه والعفو، وترك المطالبة به؛ فبناءً على ذلك فهو ليس بملزَم أن يُشهد على هذا الدين.
وأما القول بأن الأمر بالكتابة منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ فهذا جاء في عبارة بعض السلف - رضوان الله عنهم -، ومعلوم أنهم يعبرون بالنسخ لكل ما يعرض للنص العام، والمطلق، من تخصيص، وتقييد، وبيان لمجمل وما أشبه ذلك، ولا يريدون بالنسخ ما عرف عند المتأخرين من رفع الحكم الشرعي المتقدم بخطاب شرعي متأخر، وإنما مرادهم أن الأمر بالكتابة في قوله: فَاكْتُبُوهُ بيّنه ما بعده وهو قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ بمعنى أنه إذا حصل الوثوق بين الطرفين (الدائن والمدين) فلا يحتاج معه إلى الكتابة، وإنما الأمر في الآية إرشاد من الله لإثبات الحقوق، ومن أهل العلم من يقول بأن هذه الآية فَاكْتُبُوهُ إنما جاءت في الديون، وتلك في موضوع آخر وهو ما يتعلق بأخذ الرهن، وهذا القول متجه قريب، وبناءً على هذين التوجيهين فإن الآية ليست بمنسوخة، وكلام السلف يمكن توجيهه بما سبق، والله أعلم.
"وقوله: وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [سورة البقرة:282] أي بالقسط، والحق، ولا يجُر في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة، ولا نقصان.
وقوله: وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس، ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم؛ فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب، كما جاء في الحديث: إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق[3]، وفي الحديث الآخر: من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار[4]، وقال مجاهد، وعطاء: "واجب على الكاتب أن يكتب"".

قيد جماعة من السلف ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - القول بالوجوب، بمن يجيد الكتابة ولم يوجد غيره يعرفها، وطلب منه ذلك، ولكن هذا التقييد ليس أخذاً من الآية، وإنما من أدلة أخرى كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهكذا فيما يتعلق بالشهادة كما سيأتي في قوله سبحانه: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وذلك أن الله أمر بالإحسان، وبالتعاون على البر والتقوى، ونبيه ﷺ حث وحض على ذلك كما جاء في هذه الأحاديث وما أشبهها.
"وقوله: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين، وليتق الله في ذلك".

الإملال والإملاء لغتان بمعنى واحد، وقد جاء القرآن بكلتيهما، أما الإملال فهي لغة أهل الحجاز، وبني أسد، وبها جاءت الآية، وأما الإملاء فهي لغة بني تميم، ومنها قوله تعالى: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5].
وفي قوله سبحانه: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لطيفة حيث جعل الذي يملل هو من عليه الحق "المدين"، ولم يجعل الإملال لصاحب الحق!؛ ليكون ذلك إثباتاً وإقراراً من المدين بما عليه، بخلاف ما لو أملاه الدائن فلا يثبت له بصنيعه حق، إذ كل الناس يستطيعون أن يدعوا لأنفسهم حقاً عند الآخرين، لكن حينما يكون الذي أملاه أو كتبه هو المستدين فهذا بمثابة الإقرار، وتوثيق الحقوق، ولذلك لا معنى له إن كان من قبل صاحب المال، ولا يلزم الطرف الآخر بشيء، والله أعلم.
"وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا أي لا يكتم منه شيئاً".

هذا مما يؤكد أن صاحب المال ليس المقصود بالآية؛ لأنه لو أنقص شيئاً من المال فهذا يعد منه إسقاطاً، فلا ينهى عنه، وإنما يخاف عليه من أن يتزايد عليه، والله أعلم.
​​​​​​​
"فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا محجوراً عليه بتبذير ونحوه".

السفيه في القضايا المالية: هو الذي لا يحسن التصرف في المال ولو كان بالغاً، أو عاقلاً في أموره الأخرى، فهذا يحجر عليه، ويتصرف عنه بالنيابة الوليُّ.
"أَوْ ضَعِيفًا أي: صغيراً أو مجنوناً.
أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ إما لِعيٍّ، أو جهل؛ بموضع صواب ذلك من خطئه".

وكذا من أصابته علة تمنعه من الإملال كالأخرس ونحوه ...
"فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ".

اختلف المفسرون في المراد بالولي في قوله سبحانه: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ فعامة أهل العلم يقولون: إن الولي المقصود به، ولي هذا الإنسان الذي عليه الحق السفيه والضعيف و.....
وذهب ابن جرير - رحمه الل ه- إلى أن المقصود بالولي صاحب المال.
وما ذهب إليه عامة أهل العلم هو المتبادر من الآية؛ لأن هذا الذي يقوم مقامه يحصل به الإقرار، وإثبات الحق فهو بمنزلته، إضافة إلى أن عود الضمير إنما يراد به المذكور قبله وهو الضعيف والعاجز عن الإملال، وهؤلاء لا يستطيعون أن يباشروا، فلم يبق إلا وليهم هو المراد به، والله أعلم.
"وقوله: وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة".

ذهب جماعة من السلف إلى أن الإشهاد على الدين من الأمور الواجبة استدلالاً بظاهر الآية، ونقل ذلك عن ابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن زيد، وطائفة أيضاً من التابعين، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وإليه ذهبت الظاهرية.
وخالفهم جمهور أهل العلم كمالك، والشافعي، وجماعة من السلف قبلهم، فقالوا: لا يجب، وحملوا الأمر في الآية على الندب، واستدلوا على قولهم بالوقائع الكثيرة التي وقعت من النبي ﷺ ووقعت من أصحابه من عدم الإشهاد، فالنبي ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، وما نقل عنه أنه أشهد.
ومثله أمر الإشهاد على البيع في قوله: وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ لا يحمل على الوجوب بدليل أن رسول الله ﷺ لما ابتاع من سواء بن الحارث المحاربي فرساً فجحده، فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال له رسول الله ﷺ: ما حملك على الشهادة، ولم تكن معه؟ قال: صدقت يا رسول الله ﷺ، ولكن صدقتك بما قلت، وعرفت أنك لا تقول إلا حقاً، فقال ﷺ: من شهد له خزيمة، أو شهد عليه؛ فهو حسبه[5] فالمقصود أن النبي ﷺ لم يشهد على ذلك البيع، وهذا كثير مستفيض في البيوع التي جرت في زمن النبي ﷺ ومن بعده لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يأتي بالشاهد في كل قضية، ويوثق ذلك، مما يدل على أن الأمر بالشهود في الديْن إنما هو للندب أو للإرشاد، والله أعلم.
وأخذ بعض أهل العلم من قوله سبحانه: من رِّجَالِكُمْ وجوب أن يكون الشاهد من المسلمين؛ لأن الله أضافه إليهم، وما قال: استشهدوا من الرجال، أو قال: واستشهدوا شهيدين وأطلق، وإنما استثنى شهادة غير المسلم في الحالة المذكورة بقوله : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [سورة المائدة:106] وذلك إذا أوصى الإنسان حال حضور الموت، ولم يكن عنده إلا أناس من غير المسلمين، ففي هذه الحال يجوز له أن يشهدهم لعدم وجود سواهم، والله أعلم.
وهنا مسألة أخرى: معلوم أن النبي ﷺ قضى في زمنه بالشاهد مع اليمين، فهل يصح أن تُنزَّل المرأتان منزلة الرجل، ويكتفى بشهادتيهما مع اليمين؟
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، الجمهور على أنهما تنزلان منزلة الرجل، ويكتفى بهما مع اليمين، والله أعلم بالصواب.
"فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وهذا إنما يكون في الأموال، وما يقصد به المال، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهم جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟! قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت: يا رسول الله ما نقصان العقل، والدين؟ قال: أما نقصان عقلها: فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين[6]"

الأصل في الشهادة أنها مقتصرة على الرجال؛ لأنهم محل الضبط فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فالمرأتان تقومان مقام الرجل، والظاهر من الآية أن شهادة النساء إنما يلجأ إليها إذا عدم الشهود من الرجال، لكن هذا ليس بمراد والله أعلم، وإنما ذكر الله الرجال إشارة لما هو أبلغ في إثبات الحق، ولذلك لا تثريب على الإنسان إذا أراد أن يُشهد رجلاً وامرأتين ابتداء، وهذه الشهادة من المرأة إنما تكون في القضايا المالية، بخلاف الجنايات فلا تقبل شهادتها، وأما الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء فإنه يكتفى بشهادتها للضرورة مثل قضايا تتعلق بالبكارة، والولادة، وما أشبه ذلك مما يطلع عليه النساء خاصة، وهذه الأمور المذكورة فيما يتصل بشهادة المرأة ليس للقدح في عدالتها، فهي مثل الرجل في هذا الجانب، ولكن ذكر الله الرجال كما أسلفت لأن شهادة الرجل أبلغ، إذ إن المرأة قد تدعى ولا تجيب لسبب أو لآخر، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذكر معنىً يتعلق بهذه الآية وهو أن شهادة النساء إنما تكون في الأمور المحسوسة، يعني بشيء تسمعه، أو تبصره، أو تلامسه بيدها، لأن هذا يكون أعلق بالذهن، وأدعى إلى الضبط وعدم النسيان، فالمقصود أن هذه الأمور لم تذكر من أجل العدالة، وإنما من أجل الضبط، ولقد ذكر بعض الأطباء أن التلافيف الموجودة في مخ المرأة أقل منها في مخ الرجل، وهذه القضية يترتب عليها قوة الإدراك، وسعة العقل، والقدرة على الضبط، وما إلى ذلك من المعاني التي يتميز بها الرجل عن المرأة من ناحية العقل، وهذا رد مسكت، ومفحم؛ لأولئك المتشدقين بأن المرأة مثل الرجل، ولا فرق بين الجنسين إطلاقاً.
"وقوله: مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود، وقوله: أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى أي يحصل لها ذكرى بما وقع به من الإشهاد".

قوله سبحانه: أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى يمكن أن يكون التقدير لئلا تضل، وهذه طريقة الكوفيين في نظائرها من القرآن، وطريقة البصريين يقدرون مصدراً أي كراهة أن تضل، والمعنى أن هذا التشريعُ وهو أن يؤتى بامرأتين مكان الرجل من أجل إذا نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى.
وفي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وهي قراءة متواترة أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذْكِرَ والمراد تنبهها، وهذا المعنى غير الأول.
لكن الأقرب أن يقال: إن هاتين القراءتين معناهما واحد كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، والله أعلم.
وفي قراءة حمزة بكسر الهمزة إِن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فتكون إن شرطية، والمعني: أحضروا امرأتين مكان الرجل إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
وتذكر بعض كتب التفسير قولاً غريباً تنسبه لأبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة يقول بأن هذا من التذكير الذي يقابل التأنيث، والمراد أن هاتين المرأتين لما انضم إحداهما إلى الأخرى صارتا بمنزلة الذكر الواحد، وهذا القول غريب.
وكرر إحداهما مرتين لمعنى وهو لئلا يتوهم أن النسيان يحصل من واحدة مقصودة من الكلام، وإنما المقصود إذا حصل من أي امرأة منهما ذكرتها الأخرى فقد يحصل من هذه أو تلك، ولهذا جاء التكرر لهذا السبب، والله أعلم.
"وقوله: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ قيل معناه: إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة، والربيع بن أنس، وهذا كقوله: وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ، ومن هاهنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية، وقيل: وهو مذهب الجمهور، والمراد بقوله: وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ للأداء لحقيقة قوله: الشُّهَدَاء، والشاهد حقيقة فيمن تحمل، فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت، وإلا فهو فرض كفاية، والله أعلم".

ظاهر الآية يحتمل الأمرين، وإنما سموا شهداء وهم لم يتحملوا بعد باعتبار العاقبة، وما يئول إليه الأمر، مثلما يوصف الإنسان بأنه ميت باعتبار ما سيكون كما قال الله سبحانه عن نبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [سورة الزمر:30].
وابن جرير - رحمه الله - شدد في الرد على من قال بهذا القول، إذ يقول: كيف يوصف بأنه شاهد وشهيد وهو لم يتحمل الشهادة بعد؟! ويعقب: وإنما تعينت عليه الشهادة من أدلة أخرى في مثل حالة ضياع الحق إذا لم يشهد، ولا يوجد غيره يقوم مقامه بها، فإنه يتحمل الشهادة، ويجب عليه الأداء إن طلب منه ذلك للأدلة الأخرى، لكن إن لم يترتب علي الشهادة شيء فليس مكلفاً بالأداء، وهذا القول أقرب لظاهر القرآن، والله أعلم.
"وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد: "إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب".
وقد روي عن ابن عباس - ا - والحسن البصري: "أنها تعم الحالين: التحمل، والأداء".

وهو قول له وجه من النظر، ولكن لما كان لفظ الشهداء في الأصل إنما يقال لمن تحمل الشهادة؛ أمكن حمله على هذا المعنى خاصة دون المعنى الآخر، والله أعلم.
"وقوله: وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً، فقال: وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله.
وقوله: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً هو أقسط عند الله أي أعدل وأقوم للشهادة، أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة؛ لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالباً وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ وأقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة".

كتابة هذه الأشياء التي يذكرها الله متعاقبة بهذا التفصيل العجيب هو الذي حمل بعض أهل العلم على القول بأن هذه هي أرجى آية في القرآن، قالوا: والسبب أن الله لما احتاط لمال المسلم هذا الاحتياط العظيم، ووضع له هذه المحترزات العديدة، ومعلوم أن المؤمن أعظم حرمة عند الله ، ومنزلة، ومكانة من ماله، فإذا كان الله قد احتاط لمال المسلم كل هذه الاحتياطات لئلا يضيع؛ فإنه من باب أولى أرحم بعبده المؤمن، وألطف به حينما يسيء ألا يطرحه في النار، والمشهور أن أرجى آية في القرآن هي قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [سورة الزمر:53]، وبعضهم يقول غير هذا، والله أعلم.
"وقوله: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا أي إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد فلا بأس بعدم الكتابة؛ لانتفاء المحذور في تركها.
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى: وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ، وهذا الأمر منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [سورة البقرة:283]، أو محمول على الإرشاد والندب لا على الوجوب".

سبق الكلام على هذه المسألة وتوجيه القول بالنسخ، ولا يخفى على أحد ما يترتب على الإشهاد في كل مبايعة من مشقة شديدة، وعنت على الناس، والله أعلم.
"والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وقد رواه الإمام أحمد عن عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي ﷺ: "أن النبي ﷺ ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي ﷺ ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي ﷺ، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي ﷺ ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي ﷺ، فنادى الأعرابي النبي ﷺ فقال: "إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعتُه".

معنى كلام الأعرابي أن البيع ما وقع، فمن حقه أن يطالب بأكثر، فإن كان النبي ﷺ يريد أن يشتريه بأكثر مما تساوم عليه فعل، وإلا باعه لغيره.
"فقام النبي ﷺ حين سمع نداء الأعرابي قال: أوليس قد ابتعته منك؟، قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي ﷺ: بل قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبي ﷺ والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: "ويلك إن النبي ﷺ لم يك يقول إلا حقاً"، حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي ﷺ ومراجعة الأعرابي، يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، قال خزيمة: "أنا أشهد أنك قد بايعته"، فأقبل النبي ﷺ على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله ﷺ شهادة خزيمة بشهادة رجلين"[7] وهكذا رواه أبو داود والنسائي نحوه.
وقوله تعالى: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ معناه لا يضار الكاتب، ولا الشاهد، فيكتب هذا خلاف ما يُملَي، ويشهد هذا بخلاف ما سمع، أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما".

سبق الكلام على قوله - تبارك وتعالى -: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [سورة البقرة:233] وأن هذا من جهة التصريف يحتمل معنيين: لا تضار: أي لا تضارِر، لا يصدر الضرر منها، أو لا تضارَر، فيُوقَع الضرر عليها، وما قيل في ذلك الموضع ينزل عليه هذا الموضع، فقوله سبحانه: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ [سورة البقرة:282] معناه: أي لا يضارِر فيصدر منه الضرر بأن يشهد على خلاف ما تحمل وعلم، وكذلك الكاتب لا يصدر منه الضرر بأن يكتب غير الحق، أو يتزيد أو ينقص، أو يتشرط على صاحب الحق فيلحقه بسبب ذلك مشقة.
وكذا لا يوقَع عليه الضرر فيقطع من أشغاله، ويصرف عما هو بصدده، أو يطلب في وقت لا يتمكن فيه من المجيء؛ وما أشبه هذا، وكلا المعنيين تشهد له قراءة أحادية، فقراءة الحسن بكسر الراء مشددة ولا يضارِّ كاتب ولا شهيد، وقراءة ابن مسعود، ومجاهد، وعمر بالفتح والفك وَلاَ يُضَارَرْ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ بمعنى لا يوصل إليه الضرر، ويلحق به بسبب هذه الكتابة، أو الشهادة، وحمل الآية على المعنيين هو الأولى، والأصوب، والله أعلم.
"وقوله: وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي إن خالفتم ما أمرتم به، وفعلتم ما نهيتم عنه؛ فإنه فسق كائن بكم أي لازم لكم، لا تحيدون عنه، ولا تنفكون عنه، وقوله: وَاتَّقُواْ اللّهَ أي خافوه، وراقبوه، واتبعوا أمره، واتركوا زجره، وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ كقوله: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناًِ [سورة الأنفال:29]، وكقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [سورة الحديد:28]، وقوله: وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي هو عالم بحقائق الأمور، ومصالحها، وعواقبها، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات".

ظاهر كلام ابن كثير أن جملة قوله سبحانه: وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ مرتبة على الجملة التي قبلها، ترتيب النتيجة على السبب، والمعنى أنكم إذا اتقيتم الله علمكم، فمن أسباب تحصيل العلم، ووفوره كما أفادت الآية الكريمة تقوى الله - تبارك وتعالى - كما يقول الرجل لصاحبه: اصحبني وأعلمك.
وذهب جمع من أهل العلم وهو ظاهر كلام ابن جرير إلى أن جملة قوله سبحانه: وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ليست مرتبطة ولا مرتبة على ما قبلها، وإنما هما جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، الأولى جملة إنشائية، والثانية جملة خبرية، ويصح عطف الخبر على الإنشاء، فهو يأمرهم بالتقوى، ويخبر أنه يعلمهم ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام، وما به حفظ الحقوق في المداينات والبيوع، ومشى على هذا القول أيضاً جماعة من المحققين كالطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير.
ومن أهل العلم من يقول: الواو في الجملة بمعنى لام التعليل، كأنه يقول: واتقوا الله ليعلمكم الله، وهذا القول ضعيف من حيث اللغة، وفيه بعد.
وفي جملة قوله سبحانه: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ لمحة بلاغية، لكونه لم يكتف بالضمير في الجملة الثانية فيقول: واتقوا الله ويعلمكم، وهذا ما يعرف عند البلاغيين بالإظهار في موضع الإضمار بمعنى وضع الاسم الظاهر موضع الضمير، ويؤتى به لإرادة تربية المهابة، أو للاهتمام، أو لإزالة وهم أو لبس، أو غير ذلك من المعاني، وعادة ما يكون في جملتين مستقلتين، والأصل أن العرب تأتي في كلامها بالضمير للاختصار.
  1. رواه البخاري في كتاب الوضوء - باب النهي عن الاستنجاء باليمين برقم (152) (1/69)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب النهي عن الاستنجاء باليمين برقم (267) (1/225).
  2. رواه البخاري في كتاب السلم - باب السلم في وزن معلوم برقم (2125) (2/781)، ومسلم في كتاب المساقاة - باب السلم برقم (1604) (3/1226).
  3. رواه البخاري في كتاب العتق - باب أي الرقاب أفضل برقم (2382) (2/891)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم (84) (1/89).
  4. رواه أحمد في مسنده برقم (10492) (2/499)، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح وهذا إسناد ضعيف لتدليس الحجاج بن أرطاة لكنه متابع.
  5. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (3642) (4/112)، والحاكم في مستدركه برقم (2188) (2/22)، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: منكر، سكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الهيثمي: " رواه الطبراني ورجاله كلهم ثقات".برقم (5717).
  6. رواه البخاري في كتاب الحيض - باب ترك الحيّض الصوم برقم (298) (1/116)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات وبيان لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق برقم (79) (1/86).
  7. رواه أبو داود برقم (3609) (3/340)، والنسائي برقم (4647) (7/301)، وأحمد برقم (21933) (5/215)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3607).

مرات الإستماع: 0

"وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ [البقرة:282] أي: لا يمتنعون إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282] إلى أداء الشهادة، وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي ﷺ[1] واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجبٌ إذا دُعي إليها، وقيل: إذا دُعوا إلى تحصيل الشهادة، وكتبها، وقيل: إلى الأمرين." 

فقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا أي: إلى أداء الشهادة، وهذا قول الجمهور من المفسرين دُعُوا أي: إلى الشهادة؛ لأن الله سماهم شهداء، والشاهد إنما يُقال لمن تحمَّل الشهادة، بمعنى: أنه ليس المراد إذا ما دُعوا لتحمل الشهادة، هناك فرق بين من يقال له: تعال لتشهد بمعنى تتحمل الشهادة، إنسان يريد مثلًا أن يوصي، أو يتعامل مع إنسان معاملة، فيدعو شهداء يحضرون ليتحملوا الشهادة، إنسان يريد أن يتزوج فجاء بشاهدين، فهذا دعوة للتحمل - تحمل الشهادة، فهناك دعوة للشهادة للإدلاء بها، يدعوه ليشهد، يعني يدلي بشهادته، هذا عند القاضي مثلًا.

 فهنا وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ هل المقصود به إِذَا مَا دُعُوا لتحمل الشهادة، قيل هنا مبايعة، هنا معاملة، أريدكم تشهدون ليتحملوا الشهادة؟ ليس هذا هو المراد، وإنما المراد الإدلاء بالشهادة؛ لأنه سماهم شهداء، فيكون هؤلاء قد حضروا مثلًا هذا العقد، أو هذه المداينة، أو نحو ذلك، فتحملوا الشهادة من قبل، فهم الآن يُطلب منهم الإدلاء بها، هذا هو المراد، وهو قول الجمهور.

 يقول: وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي ﷺ لا يُعرف في حديثٍ ثابت - والله تعالى أعلم - يعني تفسير هذه الآية عن النبي ﷺ.

 يقول: واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجبٌ إذا دُعي إليه، هي فرض كفاية إلا إذا تعينت عليه، تعينت عليه بمعنى أنه لا يوجد غيره، وإلا سيضيع الحق، لكن إذا حضر ذلك جمعٌ، وتحملوا الشهادة، يوجد شهود، جماعة، فإنه يكون من قبيل فرض الكفاية، إذا حصل النهوض بها، والإدلاء بها من قِبل بعضهم حصل المقصود، وسقط ذلك عن الباقين، هذا بالنسبة للإدلاء بها.

وكذلك يقول هنا: وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة، وكتبها، هذا القول الآخر في تفسير الآية، وهذا القول قال به جماعة من السلف وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا يعني لتحمل الشهادة، وهذا قال به قتادة، والربيع[2] كما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] إذا دُعي إلى الكتابة، وهذا إذا لم يوجد غيره؛ لئلا يضيع الحق، أما إذا وجد غيره فهذا يكون من قبيل فرض الكفاية.

 يقول: وقيل: إلى الأمرين، صار عندنا معنيان:

 الأول: الإدلاء بالشهادة الذي عليه الجمهور في تفسير الآية.

والثاني: تحمل الشهادة، فهنا قال: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا فبعضهم يقول: إلى الأمرين إما لتحمل الشهادة، طيب هل هؤلاء شهداء قبل أن يتحملوها؟ إنسان تريد تقول له: أريدك أن تحضر هذا العقد، تشهد عليه، سماه شهيدًا، هؤلاء كيف يجيبون عن إيرادٍ، وسؤالٍ يعرض: وهو أن هؤلاء قبل أن يتحملوا هذه الشهادة لا يُقال لهم شهداء، فيمكن أن يجيبوا: أن ذلك باعتبار المستقبل، باعتبار ما سيكون، أنهم سيكونون شهداء فسماهم بذلك، سماهم شهداء بهذا الاعتبار، وهذا القول: بأنهم إذا دعوا إلى الأمرين مروي أيضًا عن ابن عباس - ا -[3] وعن الحسن البصري[4] وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا عليه أن يجيب إذا دُعي إلى تحمل الشهادة، وعليه أن يجيب إذا دُعي إلى الإدلاء بها، على كل حال أداء الشهادة هذا كما سبق أنه فرض كفاية، إلا إذا تعينت عليه، وهذا الذي اختاره أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[5] لكنه قال بأنه يؤخذ من أدلةٍ أخرى، أنه إن لم يجد أحدًا فعليه أن يجيب.

"وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ [البقرة:282] أي لا تملوا من الكتابة إذا ترددت، وكثُرت، سواءً كان الحق صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا [البقرة:282] ونصب صَغِيرًا [البقرة:282] على الحال ذَلِكُمْ [البقرة:282] إشارةٌ إلى الكتابة أَقْسَطُ [البقرة:282] من القسط، وهو العدل وَأَقْوَمُ [البقرة:282] بمعنى أشدُ إقامةً، وبُني أفعل فيهما من الرباعي، وهو قليل وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة:282] أي أقربُ إلى عدم الشك في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةً [البقرة:282] أي في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع؛ لأن الكلام المتقدم في الدين المؤجل، والمعنى إباحة ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، وهو ما يُباع بالنقد."

قراءة حفص بالنصب إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً وهنا بالرفع باعتبار أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن.

 

"وقوله: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [البقرة:282] يقتضي القبض، والبينونة وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] ذهب قومٌ إلى وجوب الإشهاد على كل بيعٍ صغيرٍ، أو كبير، وهم الظاهرية خلافًا للجمهور، وذهب قومٌ إلى أنه منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [البقرة:283]."

هنا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ [البقرة:282] يعني لا تملوا من الكتابة: سواء كان ذلك لكثرة، وقوع ذلك، وتكرره، أو كان لكون ذلك قليلًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.

 يقول: بأنه نُصب صَغِيرًا على الحال وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ [البقرة:282] حال كونه صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:282] يعني الكتابة من أجل حفظ الحق، ولئلا يحصل لبس، وشك في هذه الشهادة، فتندفع الشكوك، والريِّب، واستثنى هنا حال كون هذه المعاملة من قبيل المعاطاة الناجزة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً يعني ليست بدين مؤجل، لاحظ الكلام في الدَين فهنا ذكر التجارة الحاضرة، وهذا ليس من قبيل الدين، ومن هنا كان الاستثناء منقطعًا؛ لأن الاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فالتجارة الحاضرة ليست من قبيل الدَين، فهنا في هذه الحال يُباح ترك الكتابة إذا كانت هذه التجارة حاضرة تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ يعني ليست من قبيل الدين تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ يقول: يقتضي القبض، والبينونة، يعني بمعنى أنها معاملة انقضت، وحصل البيع، ووجب، وهذا أخذ السلعة، وهذا أخذ الثمن، لا يوجد دَين، يعني ليست مبايعة بالدين يقتضي القبض، والبينونة.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب في الأصل.

 فيقول: ذهب قومٌ - يعني أخذًا بظاهره - إلى وجوب الإشهاد على البيع، يقول: وهم الظاهرية خلافًا للجمهور، وذهب قومٌ إلى أنه منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283] يعني من غير إشهاد، يكله إلى أمانته، وذمته، والقول بالنسخ ذكره الحافظ ابن كثير، واختاره، ورجحه، وقال: "أو محمولٌ على الإرشادِ، والندب"[6] يعني إن الأمر للإرشاد، والندب.

وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] هذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب إلا لصارف، وأحيانًا يأتي للإرشاد، أو للندب، والصارف هنا قالوا: إن النبي ﷺ ابتاع فرسًا من أعرابي، ولم يُشهد[7] في قصة خزيمة، شهادة خزيمة لما جعله بشهادتين، فلم يُشهد النبي ﷺ على هذه المبايعة وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وهذا الذي جرى عليه العمل في الغالب في زمن النبي ﷺ وأصحابه، ومن بعدهم إلى يومنا هذا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ فالناس يتعاطون، ويتبايعون في الأسواق من غير إشهاد في الغالب، لكن يحسُن ذلك لاسيما في المعاملات الكبيرة، تحصل مبايعة في دار، في عقار، ونحو ذلك، فهذا يحسن فيه الإشهاد أكثر.

"وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ذهب قومٌ إلى وجوب الإشهاد على كل بيعٍ صغيرٍ، أو كبير، وهم الظاهرية خلافًا للجمهور[8] وذهب قومٌ إلى أنه منسوخٌ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]."

يعني الذين قالوا: بأنه منسوخ لم يحملوا الأمر ابتداءً على الإرشاد، وإنما قالوا: هو للوجوب، لكنه نُسخ بقول رُفع يعني ذلك بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283] والذين قالوا: بأنه محكم لم ينسخ، قالوا: الأمر ليس للوجوب، والصارف له أن النبي ﷺ بايع، ولم يُشهد، فصرفه من الوجوب إلى الندب.

"وذهب قومٌ إلى أنه منسوخٌ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283] وذهب قومٌ إلى أنه على الندب وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282] يحتمل أن يكون كَاتِبٌ [البقرة:282] فاعلًا على تقدير كسر الراء المدغمة من يُضَارَّ والمعنى على هذا: نهيٌ للكاتب، والشاهد - وفي النسخة الخطية: الشهيد."

الشهيد لفظ الآية، لا إشكال فيه.

"على هذا نهيٌ للكاتب، والشاهد أن يضار صاحبَ الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه، أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة، أو الشهادة، ويحتمل أن يكون كَاتِبٌ [البقرة:282] مفعولًا لم يسمَ فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب : لا يُضَارَر [البقرة:282] بالتفكيك، وفتح الراء، والمعنى: النهي عن الإضرار بالكاتب، والشهيد بإيذايتهما بالقول، أو بالفعل."

وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة:282] كما سبق لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة:233] وذكرنا هناك الوجهين، والاحتمالين، فيقول هنا: يحتمل أن يكون كاتب فاعلًا، أن يكون الذي صدر منه المضارة هو الكاتب، والشهيد وَلا يُضَارَّ لا تصدر المضارة، نهيٌ عن المضارة الصادرة من قِبل الكاتب، أو الشهيد، يقول: على تقدير كسر الراء المدغمة من يُضَارَّ يعني وَلا يُضَارَّ وَلا يُضَارِر كاتبٌ بكتابته، ولا شهيدٌ بشهادته، يعني لا يُضَارِر صاحب الحق، لا يلحق به الضرر بسبب هذه الكتابة، أو بسبب هذه الشهادة، فهنا لا يُضَارِر هذه القراءة مروية عن ابن عباس، وعمر[9] - أجمعين - وَلا يُضَارِر واللفظة هنا تحتمل ذلك.

يقول: بأنه نهيٌ للكاتب، والشهيد أن يضار صاحب الحق، أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه، أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة، أو الشهادة، يعني لا يضارِر بأي وجهٍ من الوجوه: بزيادةٍ، أو نقصٍ، أو بتمنعٍ، أو بابتزازٍ يعني كأن يطلب أجرة أكثر من أجرة المثل.

 يقول: ويحتمل أن يكون كاتب مفعولًا وَلا يُضَارَّ [البقرة:282]: يعني لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، يعني وَلا يُضَارَر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يعني لا يُلحق به الضرر بسبب هذه الكتابة، أو الشهادة، وهذه قراءة ابن مسعود : وَلا يُضَارَر هذه قراءات غير متواترة، والقراءة المتواترة هذه تحتمل الوجهين، تحتمل المعنيين.

 يقول: ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب : لا يُضَارَر بالتفكيك، وفتح الراء، وقراءة عمر ذكرت أنها مع ابن عباس لا يُضَارِر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ على القراءة الأخرى الثانية، هذه وَلا يُضَارَر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، فتكون "لا" هذه ناهية جازمة لا يُضَارَر نهيٌ عن الضرر وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فـ"لا" ناهية جازمة، لكن قُرأ بالرفع بضم الراء مشددة أيضًا وَلا يُضَارُّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فــ"لا" هذه تكون نافية وَلا يُضَارُّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، فصار عندنا قراءات متواترة وَلا يُضَارَّ وَلا يُضَارُّ وعندنا قراءات غير متواترة وَلا يُضَارِر وَلا يُضَارَر كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ والقرآن يُعبَر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذا التصريف للفظ وَلا يُضَارِر وَلا يُضَارَر كل ذلك - والله تعالى أعلم - يدخل في معنى الآية؛ لأنه لا يوجد دليل على تحديد أحد هذين المعنيين، وهذا الضرر كما هو القاعدة: "الضرر يُزال" فلا يحق لأحدٍ أن يُلحق الضرر بغيره بسبب كتابته، أو شهادته، كما أنه لا يُوقَع الضرر على الكاتب، أو الشاهد بسبب الكتابة، أو الشهادة مثل ما قلنا: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا "لا تُضَارِر" لا تلحق الضرر بالزوج، أو بأهله بسبب هذا الولد، ولا تُضَارَّ يعني لا يُلحَق بها الضرر هي من قِبل الزوج، أو من قِبل أهله بسبب هذا الولد، فكل ذلك منهيٌ عنه - والله أعلم -.

يقول: والمعنى النهي عن الإضرار بالكاتب، والشهيد - يعني على الفتح يُضَارَر بإيذايتهما بالقول، أو بالفعل.

"وَإِنْ تَفْعَلُوا [البقرة:282] أي: إن، وقعتم في الإضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ [البقرة:282] حالٌّ بكم."

يعني حال، أو كائن بكم، هذا التقدير فَإِنَّهُ فُسُوقٌ.

"وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] إخبارٌ على وجه الامتنان."

لاحظ على هذا المعنى إخبارٌ على وجه الامتنان، وهذا الذي اختاره، هو ظاهر اختيار ابن جرير - رحمه الله - أنه إخبار وَاتَّقُوا اللَّهَ هذا أمر عطف عليه الخبر وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فهو يُخبر على وجه الامتنان أنه قد علَّم عباده، وامتن عليهم بهذا التعليم، هذا هو الأقرب.

"وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ إخبارٌ على وجه الامتنان، وقيل: معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله، وألهمه، وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يُعطيه؛ لأنه لو كان كذلك لجزم يُعَلِّمُكُمُ [البقرة:282] في جواب اتَّقُوا [البقرة:282]."

لاحظ المعنى الثاني، وهو الذي يُكثر من ذكره كثيرون: بمعنى أن تقوى الله تكون سببًا لنيل العلم، فيكون ذلك من قبيل الوعد، إذا اتقيت الله علمك، هذا الذي يذكرونه كثيرًا، يجري على الألسن، ويُحتج بهذه الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فكأن الأول شرط، والثاني جزاء، لكن لفظ الآية لا يساعد عليه؛ لأنه لو كان ذلك من قبيل الشرط، والجزاء لكان الثاني مجزومًا، و"وَيُعَلِّمْكُمُ" لكنه جاء مرفوعًا وَيُعَلِّمُكُمُ فدل على أنه خبر، وليس بجزاء، فهذه الآية لا يصح الاحتجاج بها على هذا المعنى الذي كثُر تداوله، وإن كان المعنى في نفسه صحيحًا، لكن الآية لا تدل عليه؛ لأنه ليست من قبيل الشرط، والجزاء، إنما هي أمرٌ، وخبر فحسب، لكن هنا يقول: بأن المعنى صحيح يعني من حيث هو، لا من حيث دلالة الآية عليه، يعني تدل عليه أدلة أخرى أن تقوى الله تكون سببًا لتحصيل العلم، والعلم رزقُ الله - تبارك، وتعالى - وهو من أعظم الرزق.

والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] وهكذا في سائر النصوص، والأدلة التي تدل على هذا المعنى: أن تقوى الله سبب لجلب الخيرات، فيكون ذلك فتحًا على الإنسان في العلم، والرزق، وتفريج الكرب، والشدائد، والضيق وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2 - 3] والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جعلها كقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] - لاحظ - يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا يعني تفرقون بين الحق، والباطل، فالآية هناك إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا واضحة في هذا المعنى، كما يقول ابن جُزي: المعنى صحيح من أدلة أخرى إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ابن كثير جعل هذه الآية كتلك إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] وكقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28] فهذا النور هو البصيرة، والعلم، فهذه الآيات دلت على هذا المعنى الذي أشار إليه ابن جُزي أنه صحيحٌ في نفسه، لكن الآية لا تدل عليه، هذه الآية من سورة البقرة التي يكثر الاستدلال بها على هذا المعنى، لكن يمكن أن يُستدل على ذلك بمثل قوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] وهكذا في الآية الأخرى التي أشرت إليها - والله تعالى أعلم -.

والذين يقولون هذا يحتجون بهذه الآية على هذا المعنى، الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يؤيدهم عليه، لكن الأقرب أن الآية ليست بهذا السياق، وإنما هو خبر عن تعليم الله على سبيل الامتنان - والله أعلم -.

  1.  - لم أقف عليه غير أنه، ورد عند ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/383): "أسند النقاش إلى النبي ﷺ أنه فسر الآية بهذا".
  2.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/725).
  3.  - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/95).
  4.  - تفسير الطبري (5/95).
  5.  - انظر: تفسير الطبري (5/100 - 102).
  6.  - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/726).
  7.  - أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، برقم (3607)، والنسائي، كتاب البيوع، التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، برقم (4647)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (1286).
  8.  - المحلى بالآثار (7/225).
  9.  - تفسير الطبري (6/87)، برقم (6418).