الخميس 29 / ربيع الأوّل / 1446 - 03 / أكتوبر 2024
وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا۟ كَاتِبًا فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا۟ ٱلشَّهَٰدَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة البقرة:283] يقول تعالى: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ أي مسافرين، وتداينتم إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتباً يكتب لكم، قال ابن عباس - ا -: "أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً، أو دواة، أو قلماً فرُهُن مقبوضة، أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة في يد صاحب الحق"، وقد استُدل بقوله: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس : أن رسول الله ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير، رهنها قوتاً لأهله[1] وفي رواية من يهود المدينة".

فقوله - تبارك وتعالى -: كَاتِبًا جاء في قراءة أخرى منسوبة إلى ابن عباس، وأبي العالية، وعكرمة، وجماعة من السلف ولم تجدوا كتاباً ويدل عليها أثر ابن عباس السابق حيث قال: "أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً، أو دواة..."، فأرشدهم الله سبحانه إلى طريقة أخرى إذا لم يجدوا كاتباً فقال: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ هذه إحدى القراءات المتواترة في الآية، وقرئت بتخفيف الهاء، وقرئت بالإفراد فَرَهْنٌ مقبوضة وقرئت فَرُهُن مقبوضة، وجميعها ترجع إلى معنىً واحد، إذ الرُهُن: جمع رِهان، والرَّهْن هو الواحد من الرُّهُن، والمعنى: فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة في يد صاحب الحق.
وقد استُدل بقوله: فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ كما ذكر الحافظ ابن كثير على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وهذا عليه عامة أهل العلم خلافاً لمن صححه بالإيجاب والقبول كالإمام مالك - رحمه الله -، ولكن لما كان المقصود من الرهان الاستيثاق، والاحتراز، وحفظ الحق؛ لئلا يبطل ويضيع؛ كانت المقابضة فيه أولى وأحرز لحق الغير.
وأخذ بعض أهل العلم من ظاهر الآية أن الرهن إنما يكون في السفر، ولكن السنة دلت على عمومه في السفر والحضر، واستشهدوا برهنه ﷺ درعه عند يهودي من يهود المدينة، وكان حينها مقيماً في المدينة، والله أعلم.
"وقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "هذه نسخت ما قبلها".
وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس ألا تكتبوا، أو لا تشهدوا.
وقوله: وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة عن الحسن عن سمرة : أن رسول الله ﷺ قال: على اليد ما أخذت حتى تؤديه[2]"

الحديث فيه ضعف، ورواية الحسن عن سمرة فيها كلام كثير لأهل العلم، ومنهم من يصحح ذلك مطلقاً، ومنهم من يرده مطلقاً، ومنهم من لا يصحح من روايات الحسن عن سمرة إلا حديثاً واحداً باعتباره الحديث الوحيد الذي سمعه منه، وبقية تلك الأحاديث لم يسمعها منه.
"قوله: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ أي لا تخفوها، وتغلوها، ولا تظهروها، قال ابن عباس - ا - وغيره: "شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك"، ولهذا قال: وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال السدي: يعني فاجر قلبه، وهذا كقوله تعالى: وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ [سورة المائدة:106]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة النساء:135].
وهكذا قال هاهنا: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ".

أضيف الآثم إلى القلب في الآية باعتبار أن القلب هو ملك الجوارح، وقد يكون باعتبار أن الكتمان إنما يكون في القلب، والله أعلم.
  1. رواه البخاري في كتاب المغازي - باب وفاة النبي ﷺ برقم (4197) (4/1620)، ومسلم في كتاب المساقاة - باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر برقم (1603) (3/1226).
  2. رواه أبو داود برقم (3563) (3/321)، والترمذي برقم (1266) (3/566)، وابن ماجه برقم (2400) (2/802)، وأحمد برقم (20098) (5/8)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (8176).

مرات الإستماع: 0

"وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283] لما أمر الله - تعالى - بكتابة الديون - وفي النسخة الخطية: بكتب الديون - جعل الرهن توثيقًا للحق عِوضًا عن الكتابة - وفي النسخة الخطية: من الكتابة - حيث تتعذر الكتابة في السفر، وقال الظاهرية: لا يجوز الرهنُ إلا في السفر لظاهر الآية[1] وأجازه مالكٌ، وغيره في الحضر[2] لأن النبي ﷺ رهن درعه بالمدينة[3]."

هو هذا؛ لأن المقصود هو الاستيثاق، وحفظ الحق، فيُحفظ بالكتابة، وكذلك يُحفظ أيضًا بالرهن، ولا يختص ذلك بالسفر، توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي.

"فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] يقتضي بينونة المرتَهن بالرهن، وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن، وقبض، وكيله[4] وأجاز مالكٌ[5] والجمهور على، وضعه على يد عدلٍ، والقبض للرهن شرطٌ في الصحة عند الشافعي[6] وغيره لقوله - تعالى -: مَقْبُوضَةٌ وهو عند مالكٍ شرطُ كمالٍ لا صحة."

لاحظ الآن فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ رهان: مبتدأ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ومقبوضة: نعت فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ وإن الخبر محذوف على هذا، والتقدير: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ تكفي من ذلك، تكفي يعني من الإشهاد، تغني عن الإشهاد فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ تكفي من ذلك، أو أنه خبر لمبتدأٍ محذوف، فالوثيقةُ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ أو فالقائم مقام ذلك رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ يعني يقول: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ هنا جاءت مرفوعة باعتبار أنها مبتدأ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ تكفي عن الإشهاد، أو أنها خبر لمبتدأ محذوف، فالقائم مقام ذلك رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ أو وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فالوثيقةُ رهان مقبوضة، ويحتمل أنه مرفوع بفعلٍ محذوف، فيكفي في ذلك رِهَانٌ يكفي رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ كل هذا يحتمل، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: بأن التقدير وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فليكن بدل الكتابة رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ في يد صاحب الحق[7].

وفي القراءةِ الأخرى رِهَانٌ فهنا قراءة "رُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ" وهذه قرأ بها ابن كثير، وأبو عمر، وروي عنهما تخفيف الهاء "رُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ" وهي جمع رهان "رِهَانٌ" "رُهْنٌ" و"رُهُنٌ" وفي قراءة لعاصم: "فَرَهْنٌ مَقْبُوضَةٌ" الرهن توثقة الدين بعين يمكن استيفاء الدين، أو بعضه منها، الآن حصل مداينة، ولم يوجد ما يوثق به هذا الدين - الكتابة - وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ فما هو العمل؟ العمل أن يأخذ منه رهنًا، فيقول له مثلًا: أعطني رهنًا يعطيه صك الدار التي يسكنها مثلًا، أو يعطيه صك المزرعة، أو يعطيه مثلًا أرضًا، أو نحو ذلك، ويقول له: هذا الدين إلى مدة كذا، إلى سنة، فإذا لم أوفك حقك تصرف، يكون هذا قد ضمن حقه، فإذا لم يحصل الوفاء ففي هذه الحال له أن يبيع هذا الرهن، ويستوفي، فإن زاد الثمن فإنه يعود عليه بالزيادة، يعني يستوفي حقه، هو باع هذه الأرض بعشرة ملايين، والدين ثمانية ملايين، فيأخذ ثمانية، ويعيد إليه مليونين، فهذا هو الرهن، فهذا توثقة الدين بعين يمكن استيفاء الدين، أو بعض الدين منها، أو من بعضها، قد تكون الرهن أكبر من الدين، من أجل أن يضمن حقه، يقول: أنا أريد أن أقترض منك، وهذا رهن، إذا لم أوفك فتبيع، وتستوفيه، فيكون ضامنًا لحقه فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.

فهنا مسألة القبض يقول: أجمع العلماء على صحة قبض المرتهن، وقبض وكيله؛ لأن، وكيله يقوم مقامه، يعني يمكن قبض المرتهن لا إشكال فيه، لكن الزيادة هنا، وقبض وكيله؛ لأن الوكيل يكون بمنزلة الأصيل، فإذا قبض وكيله حصل المقصود، الوكيل مثل المكتب العقاري مثلاً، أو غير ذلك.

وأجاز مالكٌ، والجمهور، وضعه على يد عدلٍ وضع الرهن على يد عدل، يعني طرف ثالث ليس بوكيلٍ لصاحب الحق الذي يطلب الرهن، أو يأخذ الرهن، يعني ليس بوكيلٍ للدائن، الذي يأخذ الرهن هو الدائن، فيمكن أن يأخذه هو، أو أن يأخذ ذلك الوكيل، أجاز مالك، والجمهور وضعه - يعني الرهن - على يد عدل، يعني طرف ثالث ليس بوكيل له، اقترضت مني قرضًا فأريد ما يوثق ذلك، فجعلت هذا الرهن عند زيد من الناس، قلت: هذا صك هذه الدار، أو العقار سأضعه عند فلان إن لم يحصل، وفاء يُباع، ثم بعد ذلك تستوفيه، وأنت قبلت هذا، ورضيت فلان تثق به، وتطمأن إليه، وهو عدلٌ أن يضيع الحق، فلا إشكال في ذلك؛ لأن المقصود هو التوثق للحق، لو قال: أضع هذا عند القاضي مثلًا لا إشكال، لو قال: أضع هذا عند كاتب العدل، جاءوا عند كاتب العدل، وقال: نريد أن تكتب هذه الوثيقة بيننا مداينة، ونريد أن نوثقها بصفةٍ رسمية، وهذا رهن اجعله عندك، لا إشكال في هذا، على يد عدل.

والقبض للرهن شرطٌ في الصحة عند الشافعي، وغيره، هذا قول الجمهور: إن القبض للرهن شرط في الصحة، لكن لو أنه بقي عند المدين، أو قال: أنا أعطيك رهن أعطيك صك بيتي، ولا أعطاه، وبنى على الثقة، لا قيمة لهذا الكلام، إنه مثل ما يقول أنا أعطني هذا الدين، وسأرده إليك، يقول: أنا سأعطيك صك بيتي رهن، ولا أعطاه إياه، فلا بد من القبض، وإلا لا يكون ذلك رهنًا، فهو ليس بشيء، إنما هو كلام لا يحصل به الاستيثاق للحق.

فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] يقول: وهو عند مالك شرط كمالٍ لا صحة، يعني أن القبض شرط كمال لا شرط صحة، يعني عند مالك يصح بالإيجاب، والقبول، الإيجاب، والقبول أنه يقول له مثلًا: أنا أرهنك كذا، فيقول: قبلت لكن الواقع أن هذا لا يحصل به الاستيثاق للحق.

"فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الآية[البقرة:283] أي إن أمن صاحب الحق المديانَ لحسن ظنه به."

المديان يعني المدين، إن أمن صاحبُ الحقِ المدينَ يعني المقترض.

"إن أمن صاحب الحق المديان لحسن ظنه به فليستغنِ عن الكتابة، وعن الرهن، فأمر أولًا بالكتابة، ثم بالرهن، ثم بالائتمان، فللدين ثلاثة أحوال، ثم أمر المديان بأداء الأمانة ليكون عند ظن صاحبه به.

وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ [البقرة:283] محمولٌ على الوجوب فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283] أي معناه قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة."

هذا واضح فَإِنَّهُ آثِمٌ [البقرة:283] ولا تكتمونها عن كتمانها، والأصل أن النهي قال: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فهنا يجب الأداء كقوله - تعالى: وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106].

"فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283] معناه قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة، وارتفع آثِمٌ [البقرة:283] بأنه خبر إن، وقَلْبُهُ فاعلٌ به، ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأً آثِمٌ خبره."

وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ إِنَّ هذه تنصب المبتدأ على أنه اسم لها، وترفع الخبر فَإِنَّهُ فالضمير هو اسمها فَإِنَّهُ آثِمٌ وآثِمٌ خبر إنَّ مرفوع وقَلْبُهُ ما الآثم؟ آثِمٌ قَلْبُهُ فاعل، يقول: ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأً، وآثمٌ خبره فَإِنَّهُ الهاء ضمير اسم إنَّ، والخبر جملة "قلبه آثم".

"ويجوز أن يكون قَلْبُهُ مبتدأً، وآثِمٌ خبره، وإنما أسند الإثم إلى القلب، وإن كانت جملة الكاتم هي الآثمة؛ لأن الكتمان من فعل القلب."

جملة الآثم، ما يقصد الجملة من جهة اللفظ، إنما جملته يعني بكليته هو الآثم، وليس فقط القلب، يعني أن هذا الكاتم آثم، هل الآثم قلبه فقط هو يريد هذا، يقول: جملته؛ لأن الكتمان من فعل القلب فأضافه إليه آثِمٌ قَلْبُهُ الكتمان يتصل بالقلب.

"جملة الكاتم هي الآثمة؛ لأن الكتمان من فعل القلب، إذ هو يضمرها، ولئلا يُظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان."

انتهت آية الدين، وما بعدها ما يتعلق بموضوعها، وهي أطول آية في كتاب الله - تبارك، وتعالى - لأطول سورة، وأكثر سور القرآن تضمنًا للأحكام، وقد قال بعض السلف: بأن آية الدين هي أرجى آية في كتاب الله[8] يعني باعثة على الرجاء في رحمة الله، ومغفرته، وعفوه، ووجه ذلك عند القائل به: أن هذه معاملة تتصل بمال المسلم، فاحتاط الله له بهذه الاحتياطات الكثيرة بهذه الآية التي هي أطول آية في القرآن، هي من أجل الاحتياط لمال المسلم، ولو كان قليلًا دراهم معدودة، فجاء بهذا السياق الطويل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] كل هذه التوجيهات المتتابعة من أجل حفظ مال المسلم، قالوا: فالمسلم أعظم حرمةً من ماله، فإذا كان الله - تبارك، وتعالى - قد احتاط لماله هذا الاحتياط، فرحمته بعبده صاحب المال أعظم من أن يضيعه، من هذا الوجه قال: وهي أرجى آية.

والمشهور أن أرجى آية على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، لكن المشهور قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] لكن هذا الكلام هنا أيضًا له وجه، لا على أنها أرجى آية، لكنها من آيات الرجاء، ثم أيضًا هذه الاحتياطات الكثيرة في قضايا الدين لكثرة ما يقع بسبب ذلك من المشكلات بين الناس، فكثيرٌ من الناس يتساهلون في كتابة، وتوثيق هذه القضايا، فيحصل ذهول، أو نسيان، أو جحود، أو يحصل مماطلة، وكثيرٌ من الناس ينشط في أخذ الأموال، والقروض، وعند الوفاء يضمحل، ويتلاشى، ويتحول صاحب الحق - الدائن - إلى حالٍ من الإذلال، والابتذال، وهو يطلب حقه، فيتصل، ثم يتصل، ثم يتصل، ويواجه بأمورٍ غريبة: ترك الرد، أو إعطاء مشغول، أو لربما الردود الباردة، يعني بعضهم يأتي إلى إنسان، ويطلب قرضًا، فإذا أعطاه من ساعته من غير تأخير، ولا مطل، الدائن يعطيه مباشرةً، ويقول: لا تمسي إلا، وهذا المال عندك، من غير أي مماطلة، إحسانًا إليه فإذا جاء، وتأخر، وانتهى الأوان - إن كان قد حُدد - وقال له: أنا أقرضتك، أحيانًا يواجه بردود سيئة، بعضهم يقول: وما تطلب لو كان غداك، وعشاك في هذا الدين هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] يقول: إن طعام أولادك لا يتوقف على هذا حتى تأتي، وتطلب، لماذا تطلب؟ وينكر عليه أنه يطلب حقه، وقبل ذلك جاء إليه يسعى، وذاك لم يُمهل حتى أعطاه، وهذا يتكرر كثيرًا - للأسف - مثل هذا الرد البارد، يتضايق، وينزعج لماذا تطلب، هذا إذا أجابه، وإلا في كثير من الأحيان لا يجيب أصلًا، ويختفي، ينتهي، كان يراه كل يوم، بعد ذلك صار لا يراه أبدًا، تمضي السنة، وهو ما رآه، لماذا؟ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ فصار ذلك سببًا لامتناع كثير من الناس عن الإقراض، إذا جاء من يقترض تذكر سيرة طويلة، ومسيرة من هؤلاء النماذج السيئة، فيغلب على ظنه أن هذا من هذا الجنس، فيقول: لو أني وهبته هذا المال، أو تصدقت به عليه، ولا أعطيه مالًا أرجيه، ولا يحصل، هذه من الأعمال السيئة التي ينبغي للإنسان أن يترفع عنها، وأصلًا إذا استطاع ألا يقترض من أحد، الديون ليست بالشيء السهل، والنبي ﷺ لم يصل على الرجل الذي كان عليه مبلغ يسير، عليه ديناران، فلم يصل عليه، حتى قال أبو قتادة : "هي عليّ يا رسول الله"[9] وكان يسأله بعد ذلك عنها: هل قضى هذا الدين، أو لا؟

سؤال:

شيخنا - أحسن الله إليك - هل الاقتراض يعتبر معيب يعني أن تقترض؟ أم أنه يُفصل إذا كان الاقتراض لمصلحة، هل هو يعني منقصة أن الشخص يقترض؟

النبي ﷺ مات ودرعه مرهونة عند يهودي[10] مرهونة بسبب دين اشترى منه طعامًا، فيكون هذا في حال الضرورة، أو ما يشبه الضرورة، حاجة حقيقية، ولا يكون ذلك للتوسع، يكون بقدر هذه الحاجة، الواقع الآن حياة الناس الآن - للأسف - أصحبت الديون فيها - للأسف - نوع من الأمور السهلة، بل أصبح الدين ثقافة عند الكثيرين، تجد أكثر المجتمع يقترض، ويتساهل في هذا، والسبب في ذلك هو هذه التسهيلات التي تُعطى لهم من قِبل البنوك، والإغراء، الإغراء الدعاية الواسعة، فهو لو أراد أن يشتري شيئًا يسيرًا، يشتري جهازًا قد لا تتجاوز قيمته ألف ريال، يقولون: بالأقساط، يشتري أجهزة كهربائية قيمتها قد لا تتجاوز ألف ريال، ويقولون: بالأقساط، يشتري شاشة، يشتري مكنسة، يشتري ثلاجة، يشتري أي شيء، يقولون: بالأقساط، فضلًا عن الأشياء الكبيرة: بناء، عقار، بيوت، ونحو ذلك.

ويوجد شركات وسيطة أيضًا مع البنوك تدفع الناس دفعًا لمثل هذا، ويوجد هذه البطاقات: البطاقات الائتمانية، والفيزا، ونحو ذلك، هذه تجعل الناس يشترون، وليس لهم رصيد، في أكثر أنواع هذه البطاقات، ثم بعد ذلك يبدأ الحساب بالربا، له مدة معينة، فإذا لم يوف يبدأ العد، وكثير من الناس يسهل عليه الشراء بالبطاقة، هو لا يدفع مالًا، الأمر سهل كأنه يأخذ بالمجان، وكثيرٌ من الناس يسهل عليه الدَين، وهذا من قديم، حتى إنه قد يكثر في بعض صنوف الناس، يعني عُرف مثلًا عن كثيرٍ من البادية أن الشيء إذا كان عندهم بدَين كأنه بالمجان يؤخذ، دين هات، حتى كان بعض المحتالين يحتالون على هؤلاء، فماذا يفعل؟ يقول له: هذه العمامة - هذه الغترة - بريالين منقودة، وريالين دين، هو يضع كلمة دين معها بس، هي قيمتها أصلًا بريالين، تُباع بريالين، فيقول لهم: هي بريالين نقدًا، وريالين آجلة، فيأخذونها فيها دين؛ لأنه عندهم غير مردود، هات الدين، وهم الواقع أخذوها بثمنها، وهذا قد ضمن، فإذا جاءوا له بشيء فيما بعد فهو زيادة، وإن لم يأتوا بشيء يكون قد استوفى الثمن، كان بعضهم يفعل هذا، وبعضهم ما حصًّل تجارة إلا بهذه الطريقة، لكن الذين كانوا يُقرضون، ويبيعون بالدَين لمثل هؤلاء، ويذهبون، ضاعت تجارتهم، وأفلسوا؛ لأن هؤلاء في الغالب - للأسف - لا يوفون، فتساهل الناس الآن، وقد سمعت من بعضهم، ورأيت نماذج، وأحوال تجد الرجل يبكي كالطفل، والمرأة كذلك، يقول: لو بقينا العمر كله ما استطعنا قضاء هذا الدين، يشترون بالبطاقة، تراكمت عليهم الديون، والربا، وما يستطيعون قضاءها، وبعض هؤلاء يقترض من البنوك، ويشتري سيارات بالأقساط، فيجتمع عليه هذا، وهذا، بعضهم يقول: كل الراتب يذهب في قضاء الديون، الديون هذه في ماذا؟ اشترى دارًا بالدين، وسيارة جديدة بالدين، والأثاث أثث الدار بالدين، واشترى لأخيه سيارة بالدين، واشترى لأبيه مزرعة بالدين، هكذا نتحدث عن واقع، كل هذا نتحدث بالدين، طيب مزرعة لماذا إذًا؟ البيت لماذا؟ كان يمكن تستأجر شقة بعشرين ألف، أو أقل، أو أكثر يحصل بها المقصود، ولو غرفتين.

ولماذا سيارة جديدة؟ ممكن تشتري سيارة بعشرين ألف بخمسة عشر ألف، تذهب عليها، وتأتي، لا تشتري سيارة بمائة، وستين، ولا مائة، وثمانين، أو أكثر، وفي التي بمليونين، ثم بعد ذلك تقول: عليّ ديون، وكل راتبي يذهب، بعضهم يقول: زوجتي عند أهلها منذ سنة، منذ ستة أشهر، كلام كثيرًا يتكرر نسمعه، يُقسمون الأيمان المغلظة أنه لا يملك خمسين ريال، بعضهم يقول: ما أملك عشرة ريالات طعام لأكلةٍ وجبةٍ واحدة آكلها، ما عندي غير عشرة ريالات، كل راتبه، وقد يكون راتب هذا الإنسان كثير، ويذهب جميعًا، وهذه الديون ليست في الضرورات، يعني الدار يمكن أن يُكتفى بالاستئجار، ليس بالضرورة أن يشتري، ومثل هؤلاء لا أرى أنهم يُعطون من الزكاة، يعني هذا الذي يقول: اشترى سيارة جديدة، واشترى دارًا، ونحو ذلك، يمكن أن يُستغنى عن ذلك، لكن لو كان لا يجد قيمة الأجرة بأجرة معقولة فهذا يُعطى من الزكاة، أما أن يُعطى من الزكاة ليشتري، فلا، الزكاة لم تشرع لهذا، لكفاية هؤلاء لنهاية الحول، سنة فقط، وكذلك مثل هذه السيارات الجديدة، ثم يقول: أنا الآن سأسجن، ولا أجد أي طريق لقضاء هذه الديون، فيكون فعل ذلك بنفسه، ثم بعد ذلك تورط، وما عرف طريقًا للخروج من هذه الديون.

وهذه مشكلة اجتماعية - للأسف - ثقافة كثير من الناس بهذه الطريقة، حياتهم ديون، لا يكاد يصفو له شيء، قد تراه تظن هذه الدار، أو هذه الدار التي يسكنها، والواقع أن هذا كله بالدين، ويبقى معلقًا بدينه - والله المستعان -.

  1.  - المحلى بالآثار (6/362).
  2.  - المقدمات الممهدات (2/361)، وبداية المجتهد، ونهاية المقتصد (4/57)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/271).
  3.  - أخرجه البخاري، كتاب الرهن، باب من رهن درعه، برقم (2509).
  4.  - انظر: الإقناع في مسائل الإجماع (2/192).
  5.  - انظر: المدونة (4/138)، والبيان، والتحصيل (11/46).
  6.  - انظر: تفسير ابن كثير (1/727).
  7.  - انظر: المصدر السابق.
  8.  - انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/489).
  9.  - أخرجه البخاري، كتاب الحوالات، باب إن أحال دين الميت على رجل جاز، برقم (2289).
  10.  - أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، والسير، باب ما قيل في درع النبي ﷺ والقميص في الحرب، برقم (2916).