الخميس 29 / ربيع الأوّل / 1446 - 03 / أكتوبر 2024
لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284] يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر، ولا السرائر والضمائر، وإن دقت وخفيت، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه، وما أخفوه في صدورهم كما قال تعالى: قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:29]، وقال: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [سورة طه:7]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة ، وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدة إيمانهم، وإيقانهم".

هذه الآية شقت على أصحاب النبي ﷺ كما جاء ذلك في عدد من الروايات، واختلفت آراء المفسرين في الحكم عليها - نسخاً وإثباتاً - إلى قولين:
القول الأول: أنها منسوخة، وهم يريدون بذلك النسخ في عرف السلف، وهو أنها مُبَيَّنة بما بعدها وهو قوله سبحانه: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ... [سورة البقرة:286] قال: قد فعلت، فخفف ذلك عنهم، لكن القول بالنسخ يُستدرك عليه أمران:
أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
أن الآية أفادت خبراً، والنسخ لا يتعلق بالأخبار؛ لأن نسخ الخبر تكذيب له، وإنما النسخ يتعلق بالإنشاء - الأمر، والنهي، والأخبار التي هي بمعنى الإنشاء -، فلا يمكن أن يقال: إن هذا الخبر منسوخ.
القول الثاني: أنها محكمة، وإنما اختلفوا في توجيه المعنى، فذهبت طائفة إلى أن الآية من العام الباقي على عمومه، والمعنى: أن الله يعلم ما في النفوس، ومحيط بما تنطوي عليه الضمائر، وأنهم إذا أخفوا أمراً أو أظهروه فإنه سيحاسبهم عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، لكن قد يرد اعتراض على هذا القول، وهو كيف يحاسبهم الله على أمر لا يملكه الواحد منهم؟ إذ الإنسان لا يملك حديث النفس، ولا الخواطر التي تهجم على القلب من غير تطلّب، ولا إرادة لها، فإذا حوسب عليها كان ذلك من قبيل التكليف بما لا يطاق هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حديث النفس أمر قد تجاوز الله عنه كما قال سبحانه في الآية بعدها: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ... وأن الله قال: قد فعلت، والنبي ﷺ يقول: إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم[1] فكيف يحاسبون بحديث النفس؟ ورد أرباب هذا القول: بأن المحاسبة لا تقتضي التعذيب، واستدلوا بما جاء عن عائشة - ا - أن النبي ﷺ قال: من نوقش الحساب عذب، قالت: فقلت: أفليس قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۝ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [سورة الانشقاق:7-8]؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب[2]، ولهذا جاء في كلام كبير المفسرين ابن جرير الطبري في بعض المواضع ما يوافق هذا المعنى، حيث حملها على أعم معانيها، فقال بأن الله يُعرِّفه، ويقرره بصنيعه، ثم يتجاوز عنه، ويتفضل عليه بالعفو، إلا من كان مستحقاً للعقوبة كالمنافق، والكافر، وهذا قول جيد، ويجمع بعض الأقوال بطريقة حسنة لا تخالف ظاهر القرآن، والله أعلم.
وبعضهم حمل الآية على معنى العام المراد به الخصوص، لكنهم اختلفوا في تحديد هذا المعنى الخاص:
فقيل: إن الآية متعلقة بكتمان الشهادة في الآية قبلها وهي قوله: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، وتوجيه المعنى: أن الله لما أمر الشهود ألا يخفوا الشهادة، ولا يكتموها، وترجح أن بعض الشهود قد تسول لهم أنفسهم التلاعب بالشهادة؛ نبههم الله إلى أنه يعلم ما في النفوس، وما تنطوي عليه الضمائر، وأنه سيحاسبهم على ما يختلج في نفوسهم، وصدورهم؛ قاله جماعة من السلف، ونقله ابن جرير في أحد المواضع عند كلامه على الآية.
وقيل: إن ذلك مختص بعمل، وهو ما يتصل بالكفر، والنفاق، والريب؛ لأن هذا الأمر إذا وقع في النفوس شك العبد في وحدانية الله ، والله يحاسب الإنسان على هذه العقائد، والريب، والشكوك التي تقع في التوحيد والإيمان وما أشبه ذلك، وهي من أسباب العقوبة والخلود في النار.
وقيل: إن ذلك مختص بطائفة، وهو يرجع إلى القول الذي قبله، قالوا: هذه في المنافقين، والكفار، وأما أهل الإيمان فيغفر الله لهم، باعتبار أن حديث النفس عند أهل الإيمان ليس فيه نفاق، ولا كفر، فيغفر لمن يشاء يعني من أهل الإيمان.
لكن من المقرر أن الأشياء التي يخفيها العبد في نفسه هي أنواع: منها ما يتعلق بالإيمان، ومنها ما يتعلق بالشك، ومنها ما يتعلق بالنفاق، وأيضاً بالكفر، وكذا كتمان الشهادة إلى غير ذلك من المعاني التي تنطوي عليها النفوس، ولاشك أن قدراً مما تنطوي عليه النفوس يؤاخذ به العبد، وقدراً يعفو الله عنه ويتجاوز كحديث النفس، والخواطر التي ترد على الإنسان فيدفعها؛ لأنه لا حيلة له فيها، وقد مر بنا قوله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ولذا فليس من الصواب القول بإطلاق: إن ما يختلج في النفوس لا يحاسب عليه الإنسان، ولا يعاقب، وإنما في ذلك التفصيل المذكور، والله أعلم.
ولعل الملاحظ أن أمر المحاسبة على ما تنطوي عليه النفوس جاء بعد الكلام على سعة ملكه سبحانه، وإحاطته، بقوله: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فهو لما أمرهم، ونهاهم، وذكر لهم ما يتعلق بكثير من الأحكام من العِدد، وما يتصل بالقضايا المالية من الربا، والصدقات، وأحكام المداينة، ذكر بعد ذلك تمجده ، وعظم نفسه بذكره سعة ملكه، وإحاطته، وأنها بلغت مبلغاً جسيماً عظيماً حتى إنه يعلم ما تكنه الضمائر، وتخفيه النفوس، ويحاسب على ذلك، وهذا القدر لا إشكال فيه، والله أعلم.
"روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله ﷺ: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، فأتوا رسول الله ﷺ، ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله ﷺ: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما أقر بها القوم، وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله في أثرها آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... [سورة البقرة:286] إلى آخره[3]"

يمكن أن يكون هذا النسخ بمعنى بيان ما أجمل في الآية السابقة، ويمكن أن يراد به النسخ الحقيقي وهو رفع الحكم.
"ورواه مسلم فذكر مثله، ولفظه: فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... قال: نعم، رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال: نعم".

القول بالنسخ الذي هو رفع الحكم نسب إلى طائفة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن مسعود وعائشة - ا - وجماعة من التابعين مثل ابن سيرين، والشعبي وغيرهم، وهم يعرفون أن النسخ ما يدخل الأخبار؛ لأن النسخ في الخبر تكذيب له، فكيف يوجه هذا القول؟
الجواب أن يقال بأن في قوله سبحانه: يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ أثراً ونتيجة لحكم، فالحكم هو المؤاخذة بما تنطوي عليه النفوس، إذ صار من التكاليف الشرعية التي يخاطب بها المكلف، ووجهت إليه، وطالبه الشارع بها، فصار من جملة التكاليف، ثم رفع، فلما رفع الحكم ارتفع الأثر وهو المحاسبة؛ لأن المحاسبة كانت نتيجة لخطاب وتكليف شرعي، وبهذا لا يكون الحكم من قبيل نسخ الخبر، لكن أحسن منه والله أعلم ما ذكرته آنفاً.
"روى الإمام أحمد عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس - ا - فقلت: يا أبا عباس كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى، قال: أية آية؟ قلت: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ"

بكاء ابن عمر فيه شبه الدلالة على أن مذهبه في الآية أنها تجرى على ظاهرها، وأنه لم يتطرق إليها النسخ.
"قال ابن عباس: إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله ﷺ غماً شديداً، وغاظتهم غيظاً شديداً، وقالوا: يا رسول الله هلكنا إنا كنا نؤاخذ بما تكلمنا، وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله ﷺ: قولوا: سمعنا، وأطعنا فقالوا: سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ إلى لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة:286] فتجوّز لهم عن حديث النفس، وأُخذوا بالأعمال.
وقد روى الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً[4]"

فلو عزم على السيئة العزم المصمم، وعجز؛ فإنه يلحقه الإثم ويحاسب، ودليله حديث أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله ﷺ: مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر وفيه: ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله ﷺ: فهما في الوزر سواء[5]، وحديث: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟!، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[6]، فالعزم المصمم ينزل منزلة الفعل، فيدخل تحت قوله سبحانه: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ.
  1. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلظ والنسيان في الطلاق والشرك وغيره برقم (4968) (5/2020)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر برقم (127) (1/116).
  2. رواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من نوقش الحساب عذب برقم (6171) (5/3394)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب إثبات الحساب برقم (2876) (4/2204).
  3. رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (125) (1/115)، ورواه أحمد في مسنده برقم (9333) (2/412).
  4. رواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة أو بسيئة (6126) (5/2380)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب برقم (128) (1/117).
  5. رواه ابن ماجه برقم (4228) (2/1413)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (4228).
  6. رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما برقم (2888) (4/2213)

مرات الإستماع: 0

 

"وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] الآية، مقتضاها المحاسبةُ على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواءً أبدوه، أو أخفوه، ثم المعاقبةُ على ذلك لمن يشاء الله، أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكالٌ؛ لمعارضته لقول رسول الله ﷺ إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها[1] ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة "أنه لما نزلت شقَّ ذلك على الصحابة، وقالوا: هلكنا إن حوسبنا بخواطر أنفسنا، فقال لهم النبي ﷺ: قولوا: سمعنا، وأطعنا[2] فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فكشف الله عنهم الكُربة" ونسخ بذلك هذه الآية، وقيل: هي في معنى كتم الشهادةِ، وإبدائها؛ وذلك محاسبٌ به، وقيل: يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين، والمنافقين، والصحيح: التأويل الأول؛ لوروده في الصحيح، وقد ورد أيضًا عن ابن عباس، وغيره، فإن قيل: الآية خبر، والأخبارُ لا يدخلها النسخ، فالجواب: أن النسخ إنما وقع في المؤاخذة، والمحاسبة؛ وذلك حكمٌ يصح دخول النسخ فيه، فلفظ الآية خبرٌ، ومعناها حكم".

فقوله هنا: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] الآية، مقتضاها المحاسبةُ على ما في النفوس - نفوس العباد - من الذنوب، سواءً أبدوه، أو أخفوه، ثم المعاقبةُ على ذلك لمن يشاء الله، أو الغفران لمن شاء الله".

وفسر ابن جرير قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] بقوله: فيُعرِّف مؤمنكم بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانيةِ خالقه، ونبوة أنبيائه[3] فعلى هذا المعنى الذي ذكره ابن جرير تكون الآية محكمة.

وابن جُزي يقول: "مقتضاها المحاسبةُ على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواءً أبدوه، أو أخفوه، ثم المعاقبةُ على ذلك لمن يشاء الله، أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكالٌ لمعارضته لحديث: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها[4]" وذكر أنها لما نزلت شقَّ ذلك على الصحابة "وقالوا: هلكنا إن حوسبنا بخواطر أنفسنا، فقال لهم النبي ﷺ قولوا: سمعنا، وأطعنا[5] فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فكشف الله عنهم الكُربة" ونسخ بذلك هذه الآية.

لكن ابن جرير - رحمه الله - يرى أن هذه الآية محكمة، وليست منسوخة.

ويقول ابن جرير هنا أيضًا: أولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنها محكمة، وليست بمنسوخة[6].

ويقول النحَّاس: هذا لا يجوز أن يقع فيه نسخ؛ لأنه خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ[7] إلا إذا كانت الصيغة خبرية، والمعنى إنشاء، يعني أمر، أو نهي.

ويقول ابن رجب: لما نزل قول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] شقَّ ذلك على المسلمين، وظنوا دخول هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذ له، ولا مكلفٌ به.

يقول: وقد سمى ابن عباس، وغيره ذلك نسخًا، ومرادهم: أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولى، وبينت أن المراد بالآية الأولى: العزائم المصمم عليها، ومثل هذا البيان كان السلف يسمونه نسخًا[8].

وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم - فالراجح: أن هذا من قبيل البيان، وليس بنسخ بمعنى الرفع، والسلف كانوا يقولون لكل ما يعرض للنص من بيانٍ للمجمل، وتقييد للمطلق، وتخصيص للعموم، أن ذلك يسمونه نسخًا، فيقولون: نسختها الآية التي بعدها، ونسخها قوله كذا، يعني: بيّنها مثلًا، أو قيّدها، أو خصصها، ونحو ذلك، فهذا ليس برفع، وهي خبر، والأخبار لا يتطرق إليها النسخ.

والطاهر بن عاشور يقول: أحسنُ كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري، وعياض، في شرحيهما لصحيح مسلم، وهو - مع زيادة بيان - أن ما يخطر في النفوس إن كان مجرد خاطر، وتردد من غير عزمٍ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، وإن كان قد جاش في النفس عزمٌ، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعالٌ بدنية، أو لا، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال، مثل: الإيمان، والكفر، والحسد، فلا خلاف في المؤاخذة به؛ لأن مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثارٌ في الخارج، فإن حصلت الآثار، فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال، كمن يعزمُ على السرقة فيسرق، وإن عزم عليه، ورجع عن فعله اختيارًا لغير مانعٍ منعه، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، وهو مورد حديث: من همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة[9] وإن رجع لمانعٍ قهره عن الرجوع، ففي المؤاخذة به قولان: أي إن قوله تعالى: يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] محمولٌ على معنى: يجازيكم، وأنه مجمل تبينه موارد الثواب، والعقاب في أدلةٍ شرعيةٍ كثيرة، وإن من سمى ذلك نسخًا من السلف، فإن ما جرى على تسميةٍ سبقت ضبط المصلحات الأصولية - يعني قبل هذا الاصطلاح إطلاق النسخ على الرفع فقط، فأطلق النسخ على معنى البيان، وذلك كثيرٌ في عبارات المتقدمين، وهذه الأحاديث، وما دلت عليه دلائل قواعد الشريعة هي البيان لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:284] في قوله: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:284][10].

فهذه الآية على كل حال محكمة، وليست بمنسوخة، وهذا رواية عن ابن عباس - ا - وبه قال جماعة من السلف كالربيع، والحسن، والضَّحاك[11].

فالمقصود أن قولهم: إنها منسوخة، أو نسخها قوله في هذه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] هذا من قبيل البيان، وأن قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] يعني: فيما يجري فيه الحساب، من الإيمان، والكفر، والنفاق، والشك، والأعمال القلبية، والخوف، والرجاء، والمحبة، وما إلى ذلك، والأعمال القلبية المحرمة أيضًا، مثل: الحسد، والغل، وسوء الظن بالله - تبارك، وتعالى - أو سوء الظن بالناس - فهذا كله لا يجوز - فهذا يُحاسب عليه الإنسان، أما الخواطر التي تعرض فهذه لا يد للإنسان فيها، ولا يؤاخذ عليها، لكن هو مُطالب بدفعها، وألا يسترسل معها - والله أعلم.

فيقول هنا: "فأنزل الله بعد ذلك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فكشف الله عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية" والقول بالنسخ مروي عن جماعة من السلف: كابن مسعود، وعائشة، وأبي هريرة، والشعبي، وعطاء، وابن سيرين، ومحمد بن كعب[12] لكن كما سبق أن هذا ليس بالضرورة أن النسخ بمعنى الرفع، ولكن يأتي بمعنى البيان، وفي الحديث: أنه لما شقَّ عليهم فيه، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] هذا في بعض ألفاظ الحديث هكذا: فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا، وُسْعَهَا [البقرة:286][13] فيكون ذلك بمعنى: بين الإجمال الذي فيها.

يقول: "وقيل: هي في معنى كتم الشهادة" يعني أنها متصلة بما سبق "وذلك مُحاسبٌ به" وهذا قال به جماعة: كابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومجاهد[14] واختاره ابن جرير[15] قالوا: إنها متصلة بالشهادة وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:286] أن هذا يتعلق بالشهادة، وعليه فلا نسخ أيضًا، وخصصها مجاهد بما يرد على النفوس من الشك، واليقين[16] يعني: هذا يُحاسب به الإنسان، فليس هناك نسخ على هذا التخصيص.

وقيل: "ذلك يختص بالكفار، والمنافقين" وهذا لا دليل عليه.

وعلى كل حال الإنسان يؤاخذ، ويحاسب على بعض ما تنطوي عليه النفوس، كما سبق مما يدخل تحت طوقه - والله أعلم -.

"فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ [البقرة:284] قُرأ بجزمهما عطفًا على: يُحَاسِبْكُمْ [البقرة:284] وبرفعهما على تقديرِ: فهو يغفر".

 

يَغْفِرُ ويُعَذِّبُ بالرفع، قراءة متواترة، قرأ بها ابن عامر، وعاصم، كما نقرأ، وقراءة الجمهور بالجزم[17] عطفًا على يُحَاسِبْكُمْ يعني باعتبار أنها جواب شرط، فعُطف عليه فَيَغْفِر ويُعَذِّب معطوف على المجزوم. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس، والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر برقم: (127).
  2.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة:284] برقم: (125).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/147).
  4.  سبق تخريجه.
  5.  سبق تخريجه.
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/143).
  7.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص:274).
  8.  تفسير ابن رجب الحنبلي (1/199).
  9.  التحرير، والتنوير (3/130).
  10.  لم أعثر عليه بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب برقم: (130) بلفظ: ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تكتب، وإن عملها كتبت.
  11.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/574).
  12.  تفسير ابن كثير ط العلمية (1/567).
  13.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة:284] برقم: (125).
  14.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/572).
  15.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/128).
  16.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/141).
  17.  السبعة في القراءات (ص:195)، ومعاني القراءات للأزهري (1/237).