هذه الآية شقت على أصحاب النبي ﷺ كما جاء ذلك في عدد من الروايات، واختلفت آراء المفسرين في الحكم عليها - نسخاً وإثباتاً - إلى قولين:
القول الأول: أنها منسوخة، وهم يريدون بذلك النسخ في عرف السلف، وهو أنها مُبَيَّنة بما بعدها وهو قوله سبحانه: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ... [سورة البقرة:286] قال: قد فعلت، فخفف ذلك عنهم، لكن القول بالنسخ يُستدرك عليه أمران:
أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
أن الآية أفادت خبراً، والنسخ لا يتعلق بالأخبار؛ لأن نسخ الخبر تكذيب له، وإنما النسخ يتعلق بالإنشاء - الأمر، والنهي، والأخبار التي هي بمعنى الإنشاء -، فلا يمكن أن يقال: إن هذا الخبر منسوخ.
القول الثاني: أنها محكمة، وإنما اختلفوا في توجيه المعنى، فذهبت طائفة إلى أن الآية من العام الباقي على عمومه، والمعنى: أن الله يعلم ما في النفوس، ومحيط بما تنطوي عليه الضمائر، وأنهم إذا أخفوا أمراً أو أظهروه فإنه سيحاسبهم عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، لكن قد يرد اعتراض على هذا القول، وهو كيف يحاسبهم الله على أمر لا يملكه الواحد منهم؟ إذ الإنسان لا يملك حديث النفس، ولا الخواطر التي تهجم على القلب من غير تطلّب، ولا إرادة لها، فإذا حوسب عليها كان ذلك من قبيل التكليف بما لا يطاق هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حديث النفس أمر قد تجاوز الله عنه كما قال سبحانه في الآية بعدها: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ... وأن الله قال: قد فعلت، والنبي ﷺ يقول: إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم[1] فكيف يحاسبون بحديث النفس؟ ورد أرباب هذا القول: بأن المحاسبة لا تقتضي التعذيب، واستدلوا بما جاء عن عائشة - ا - أن النبي ﷺ قال: من نوقش الحساب عذب، قالت: فقلت: أفليس قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [سورة الانشقاق:7-8]؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب[2]، ولهذا جاء في كلام كبير المفسرين ابن جرير الطبري في بعض المواضع ما يوافق هذا المعنى، حيث حملها على أعم معانيها، فقال بأن الله يُعرِّفه، ويقرره بصنيعه، ثم يتجاوز عنه، ويتفضل عليه بالعفو، إلا من كان مستحقاً للعقوبة كالمنافق، والكافر، وهذا قول جيد، ويجمع بعض الأقوال بطريقة حسنة لا تخالف ظاهر القرآن، والله أعلم.
وبعضهم حمل الآية على معنى العام المراد به الخصوص، لكنهم اختلفوا في تحديد هذا المعنى الخاص:
فقيل: إن الآية متعلقة بكتمان الشهادة في الآية قبلها وهي قوله: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، وتوجيه المعنى: أن الله لما أمر الشهود ألا يخفوا الشهادة، ولا يكتموها، وترجح أن بعض الشهود قد تسول لهم أنفسهم التلاعب بالشهادة؛ نبههم الله إلى أنه يعلم ما في النفوس، وما تنطوي عليه الضمائر، وأنه سيحاسبهم على ما يختلج في نفوسهم، وصدورهم؛ قاله جماعة من السلف، ونقله ابن جرير في أحد المواضع عند كلامه على الآية.
وقيل: إن ذلك مختص بعمل، وهو ما يتصل بالكفر، والنفاق، والريب؛ لأن هذا الأمر إذا وقع في النفوس شك العبد في وحدانية الله ، والله يحاسب الإنسان على هذه العقائد، والريب، والشكوك التي تقع في التوحيد والإيمان وما أشبه ذلك، وهي من أسباب العقوبة والخلود في النار.
وقيل: إن ذلك مختص بطائفة، وهو يرجع إلى القول الذي قبله، قالوا: هذه في المنافقين، والكفار، وأما أهل الإيمان فيغفر الله لهم، باعتبار أن حديث النفس عند أهل الإيمان ليس فيه نفاق، ولا كفر، فيغفر لمن يشاء يعني من أهل الإيمان.
لكن من المقرر أن الأشياء التي يخفيها العبد في نفسه هي أنواع: منها ما يتعلق بالإيمان، ومنها ما يتعلق بالشك، ومنها ما يتعلق بالنفاق، وأيضاً بالكفر، وكذا كتمان الشهادة إلى غير ذلك من المعاني التي تنطوي عليها النفوس، ولاشك أن قدراً مما تنطوي عليه النفوس يؤاخذ به العبد، وقدراً يعفو الله عنه ويتجاوز كحديث النفس، والخواطر التي ترد على الإنسان فيدفعها؛ لأنه لا حيلة له فيها، وقد مر بنا قوله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ولذا فليس من الصواب القول بإطلاق: إن ما يختلج في النفوس لا يحاسب عليه الإنسان، ولا يعاقب، وإنما في ذلك التفصيل المذكور، والله أعلم.
ولعل الملاحظ أن أمر المحاسبة على ما تنطوي عليه النفوس جاء بعد الكلام على سعة ملكه سبحانه، وإحاطته، بقوله: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ فهو لما أمرهم، ونهاهم، وذكر لهم ما يتعلق بكثير من الأحكام من العِدد، وما يتصل بالقضايا المالية من الربا، والصدقات، وأحكام المداينة، ذكر بعد ذلك تمجده ، وعظم نفسه بذكره سعة ملكه، وإحاطته، وأنها بلغت مبلغاً جسيماً عظيماً حتى إنه يعلم ما تكنه الضمائر، وتخفيه النفوس، ويحاسب على ذلك، وهذا القدر لا إشكال فيه، والله أعلم.
يمكن أن يكون هذا النسخ بمعنى بيان ما أجمل في الآية السابقة، ويمكن أن يراد به النسخ الحقيقي وهو رفع الحكم.
القول بالنسخ الذي هو رفع الحكم نسب إلى طائفة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن مسعود وعائشة - ا - وجماعة من التابعين مثل ابن سيرين، والشعبي وغيرهم، وهم يعرفون أن النسخ ما يدخل الأخبار؛ لأن النسخ في الخبر تكذيب له، فكيف يوجه هذا القول؟
الجواب أن يقال بأن في قوله سبحانه: يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ أثراً ونتيجة لحكم، فالحكم هو المؤاخذة بما تنطوي عليه النفوس، إذ صار من التكاليف الشرعية التي يخاطب بها المكلف، ووجهت إليه، وطالبه الشارع بها، فصار من جملة التكاليف، ثم رفع، فلما رفع الحكم ارتفع الأثر وهو المحاسبة؛ لأن المحاسبة كانت نتيجة لخطاب وتكليف شرعي، وبهذا لا يكون الحكم من قبيل نسخ الخبر، لكن أحسن منه والله أعلم ما ذكرته آنفاً.
بكاء ابن عمر فيه شبه الدلالة على أن مذهبه في الآية أنها تجرى على ظاهرها، وأنه لم يتطرق إليها النسخ.
وقد روى الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً[4]"
فلو عزم على السيئة العزم المصمم، وعجز؛ فإنه يلحقه الإثم ويحاسب، ودليله حديث أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله ﷺ: مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر وفيه: ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله ﷺ: فهما في الوزر سواء[5]، وحديث: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟!، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[6]، فالعزم المصمم ينزل منزلة الفعل، فيدخل تحت قوله سبحانه: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ.
- رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلظ والنسيان في الطلاق والشرك وغيره برقم (4968) (5/2020)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر برقم (127) (1/116).
- رواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من نوقش الحساب عذب برقم (6171) (5/3394)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب إثبات الحساب برقم (2876) (4/2204).
- رواه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان أنه لم يكلف إلا ما يطاق برقم (125) (1/115)، ورواه أحمد في مسنده برقم (9333) (2/412).
- رواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من هم بحسنة أو بسيئة (6126) (5/2380)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب برقم (128) (1/117).
- رواه ابن ماجه برقم (4228) (2/1413)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (4228).
- رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما برقم (2888) (4/2213)