الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَٱسْتَعِينُوا۟ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ۝ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة"45-46].
يقول تعالى آمرًا عبيده فيما يؤمّلون من خير الدنيا، والآخرة، بالاستعانة بالصبر، والصلاة، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة، فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد.
قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث.
وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات، وأعلاها: فعل الصلاة.
روى ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب  قال: "الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله".
قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر .
فقوله تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ هذا خطاب لبني إسرائيل كما هو ظاهر من هذه الآيات، كما أن السياق يدل على ذلك.
ومعنى وَاسْتَعِينُواْ السين والتاء للطلب، أي اطلبوا العون بالصبر، والصلاة.
والمعاني التي ذكرها في الصبر، وكذلك ما لم يذكره كثير منها يدخل في معناه العام، فالصبر هو أصله بمعنى الحبس تقول: صبرت نفسي على كذا بمعنى حبستها على كذا.
فصبرتِ عارفةً بذلك حرةً ترسوا إذا نفسُ الجبان تطلَّع
والمعنى أنها ثبتت فحبسها عن الفرار في ساحة القتال.
فحبس النفس على طاعة الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وحبس النفس عن التسخط والجزع؛ كل ذلك من الصبر، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فكل أمر شاق على النفوس مما يتصل بالتروك، أو كان من جهة المأمورات؛ فإنه بحاجة إلى صبر، فالله نهى عن أشياء ومنها التسخط والجزع عند المصائب، وعلى هذا فالإنسان مأمور بأن يصبر؛ لأن النفس تدعوه إلى ما جبلت عليه من الضعف، والميل إلى رغباتها، ومطلوباتها، فالمدافعة، والحبس، والمنع عن ذلك يحتاج إلى جهد، فهذا صبر، وكذلك فعل المأمورات يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى عمل من العبد كي يحمل نفسه على هذه الطاعة، وهذا المأمور، وإلا فإن النفس تدعوه إلى الإخلاد والراحة، ومن هنا كان بحاجة إلى الصبر.
ولذا يمكن أن يقال بصفة عامة: إن الصبر هو الثبات على طاعة الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فالصبر على الأقدار المؤلمة بهذا الاعتبار داخلاً في الأمرين، فالله أمر العبد عند المصيبة بأمور، ونهاه عن أمور، فلهذا هو يحتاج إلى حبس للنفس.
ولا شك أن كل مطلوب ترتفع به النفس فهو بحاجة إلى صبر حتى في المطالب الدنيوية، فلا يمكن أن يرتفع الإنسان، ويرتقي لا في علم، ولا في عمل؛ إلا بالصبر.
وليس هناك شيء لا يحتاج إلى الصبر إلا التوافه، والدنايا، والشهوات، بل حتى هذه الأمور ليس في كل أحوالها لا تحتاج إلى صبر، فأحياناً لا يحصلها الإنسان إلا بشيء من الصبر، فلا يكاد ينفك ​​​​​الصبر أمر من الأمور.
فالله يقول: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ومن فسر الصبر بالصوم باعتبار أن الصوم متعلق بالصبر، وأن رمضان هو شهر الصبر فليس بظاهر، وإنما الأقرب أن يفسر الصبر بمعناه الظاهر المتبادر المعروف من كلام العرب، فإذا أطلق الصبر فهو معروف، فلا يلجأ إلى معنىً آخر من غير دليل.
وأما قوله: وَالصَّلاَةِ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة العنكبوت:45] الآية.وجه تعلق الصلاة بالصبر يمكن أن يقال فيه - والله تعالى أعلم - بأن الصلاة عبادة يقرأ فيها القرآن في أعظم الأحوال، وذلك حينما العبد مع ربه في صلاته، فقراءة القرآن في الصلاة أعظم من قراءة القرآن خارج الصلاة، والقرآن يأمره بالصبر، ويروض نفسه على الطاعة، أضف إلى ذلك أن الصلاة من أعظم ما يروض النفوس، إذ إن النفس فيها تطمئن، ويحصل لها ما يحصل من السكينة، والخضوع، والخشوع، والإخبات، والتواضع، وهذه الصلاة التي تؤثر هذا التأثير ليست أي صلاة، وإنما هي الصلاة التي تقام، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ وليست الصلاة التي تؤدى، وإقامة الصلاة ذكرنا مرراً بأن المقصود به: أن يأتي بها مستوفية لأركانها وشروطها، وواجباتها بخشوعها، وسننها وما إلى ذلك، وعلى قدر إقام الصلاة يكون قدر التأثير.
 إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45] ذكرنا مراراً أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فالحكم هنا: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ هذه النتيجة، والوصف هو قوله: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ فنهيها عن الفحشاء والمنكر مرتب على هذا الوصف الذي هو إقامتها، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فعلى قدر إقامة الإنسان للصلاة على قدر ما تؤثر فيه، فيتفاوت الناس بذلك تفاوتاً عظيماً، فهذه الصلاة التي يحصل بها هذا الخضوع، وتذليل الجبهة والوجه، وهي أشرف الأشياء، فتستوي مع القدمين في حال السجود، إلى غير ذلك مما يفعله ويقوله الإنسان حينما يمد عنقه، وينحني في الركوع في حال يقول فيها: سبحان ربي العظيم، وهو في غاية الذل، فإذا صار في أسفل شيء يقول: سبحان ربي الأعلى، كل ذلك يؤثر في هذه النفس فتُخبت، وتستكين، ومن ثم فإن ذلك أدعى وأعون للإنسان على أن يطمئن في أموره كلها عند المصائب، ويكون ذلك دافعاً له على زم النفس، وخطمها، وتثبيتها على طاعة الله وعن معصيته، فتنقاد له نفسه هينة سهلة، وهذا أمر مشاهد في المصلين إذ أنهم أقل من غيرهم من ناحية الانفلات، والتمرد على الله ، ومحادته بالمعاصي والموبقات، وليست هذه تزكية مطلقة للمصلين، وإنما المراد أنهم أقل حالاً في التفلت ممن لا يصلون، وقد يحصل منهم ما يحصل من غيرهم، لكن الذي لا يصلي تتوقع منه أي شيء، ولا تدري ما الذي يأتيك منه، لكن إذا قيل لك: فلان يصلي حتى الفجر في المسجد، هذا مؤشر أن هذا الإنسان يرجى منه خيراً كثيراً، ففيه خير كثير، تطمئن إليه ابتداءً، ثم بعد ذلك تحتاج أن تعرف بعض أحواله إن كان لك حاجة بهذا، لكن إذا قيل لك: لا يدخل المسجد، فإنك مباشرة تنقبض؛ لأن هذا لا تدري ما الذي يأتيك منه؛ لأن إنساناً لا يدخل المسجد إن زوَّجته فلا تدري كيف يصنع؛ إذ ربما كان القرب منه سبباً لكل كارثة، فنفسه غير مروضة، وإنما هي نفس منفلتة، لا ترعوي عن شيء إلا أن يكون الخوف من الناس أو نحو ذلك، فالمقصود أنه لا بد من الاستعانة بالصبر، والصلاة على هذه الأمور جميعاً.
والخطاب - وإن كان لبني إسرائيل - إلا أن ذلك يشمل غيرهم بالضرورة؛ لأن هذه الأمور هي قضايا أخبر الله عنها أنها تؤثر هذا التأثير، وطالبهم بها، فنحن أيضاً مطالبون بذلك.
على أي شيء نستعين بالصبر والصلاة؟
نستعين بالصبر والصلاة على تذليل المصاعب والمشاق في أمورنا الدنيوية والأخروية، ومن ذلك المشاق التي تواجهنا عند أداء العبادة، والمشاق التي تحصل بسبب فطم النفس عن الشهوات، والمشاق التي تحصل بترويض النفس عند المصيبة على حال يرضاها الله من الصبر، أو الشكر، أو الرضى - والرضى بين الشكر والصبر - فكل ذلك يُحتاج إليه.
ومن ذلك - خاصة وأن الخطاب موجه لبني إسرائيل - فطم النفس عن مطلوباتها من تحصيل الرئاسات، والعلو في الأرض، والترفع على الخلق، وهذه من أعظم الشهوات، فقد يستطيع الإنسان أن يقوم الليل، ويصوم النهار، ومع ذلك إذا نوزع الرئاسة كشر عن أنيابه واستمات، ولربما باع دينه من أجل هذه الرئاسات، وقال على الله الكذب، والإفك، والباطل، والزور، وكل ذلك من أجل تحصيل رئاسة يطلبها، أو من أجل تثبيت رئاسته، وهذا الأمر أكثر من يحتاج إليه أهل العلم، فهم أكثر الناس حاجة إلى مثل هذا، ولذلك لا بد من أن تطهر النفس، وتزكى من الحسد، ومن التطلع إلى ما عند الآخرين.
إنك تجد الناس لربما يحصل لهم حث على العلم، وعلى طلب العلم، ويفرح بطالب العلم إذا نشأ، فإذا برز وتميز لربما رماه بعضهم، ونصب نفسه عدواً له، وحاول أن يغمطه حقه، وتمنى زوال هذا الإنسان، مع أن هذا الإنسان قد لا يعرفه، ولم يسيء إليه، ولم يجد منه أي تقصير في حقه، ولكن النفس تشتعل بالحسد، والغيرة التي تدعو إلى فعل كل قبيح من غيبة، وحسد ونحو ذلك من أمراض القلوب، وكلام أهل العلم كثير جداً في هذا الموضوع وفيه بيان كيف أن النفس تحتاج إلى مجاهدة كبيرة لفطمها عن هذه الأمراض الخبيثة، وبالتالي ينبغي للمرء أن فيستعين على ذلك بالصبر والصلاة.
والضمير في قوله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [سورة البقرة:45] عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير.
ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:80]، وقال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت:34-35] أي: وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وَمَا يُلَقَّاهَا أي: يؤتاها ويلهمها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
قوله: وَمَا يُلَقَّاهَا: يعني هذه الخصلة أو الوصية، ومثل ذلك قوله: وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:80].
وقوله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [سورة البقرة:45] القول بأن الضمير يرجع إلى الصلاة هذا باعتبار القاعدة المعروفة وهي أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فيكون المعنى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا أي الصلاة.
ومن قال: إن الضمير يرجع إلى ذلك جميعاً فهو فسره بمعنى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: الوصية المذكورة، فالهاء هنا للتأنيث فيرجع إلى معنى الوصية المذكورة بالأمر بالاستعانة بالصبر، والصلاة.
وعلى كل حال لا إشكال بأن يقال: إنه يرجع إلى الأمرين من حيث ما جرى استعماله في القرآن، وفي لغة العرب؛ إذا كان مراداً بذلك مجموع الأمرين - الصبر، والصلاة - وهذا له أمثلة كثيرة، فتارة يرجع الضمير إلى أحد المذكورين باعتبار أن الآخر يدخل فيه، وتارة باعتبار أنه الأهم أي يرجع إلى الأهم والمقصود الأعظم، ومن أمثلة ذلك: لما أمر الله بطاعته وطاعة رسوله، ثم أعاد الضمير إلى الله قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [سورة الأنفال:20]، والأصل أن يقال: ولا تولوا عنهما، فهذا باعتبار أن طاعة الرسول ﷺ داخلة في طاعة الله، فهذا مثال على الأول، أي: أن يكون الثاني داخلاً في الأول.
وتارة لأنه الأهم مثل قول الله في توليهم عن النبي ﷺ وهو يخطب يوم الجمعة: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11] فهو ذكر قضيتين، تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ثم قال: انفَضُّوا إِلَيْهَا فهذا كما سبق يمكن أن يقال بأنه رجع إلى التجارة؛ لأنها هي المقصودة، وليس اللهو هو المفصود، وإنما اللهو - وهو الطبل على هذا التفسير - كان يضرب به بين يدي القافلة إيذاناًَ بقدومها، وهذا قبل أن تحرم المعازف، وعموماً فالقافلة أصلاً لدحية الكلبي قبل إسلامه، فأعاد الضمير إلى أحد المذكورين، قبل؛ لأنه هو المقصود، هو الأهم.
ومنه قول حسان :
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاصَ كان جنوناً
الأصل أن يقول: ما لم يعاصيا، فأرجع الضمير إلى أحدهما فقال: ما لم يعاصَ كان جنوناً، وهذا كثير جداً.
وعلى كل تقدير، فقوله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني المصدّقين بما أنزل الله.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني المصدّقين بما أنزل الله: معاني الخشوع ترجع إلى معنى التطامن، إذا قلت: أرض خاشعة فإنه يصدق عليها هذا المعنى، وهكذا في كل استعمالاته يرجع إلى معنى التطامن.
وكلام أهل العلم فيه كثير جداً، لكنه معنىً يلتئم من الذل، والانكسار، والمحبة مع التعظيم، تجتمع هذه المعاني فيه، ولهذا يفسره بعضهم بأنه لين القلب، ورقته، وخضوعه، وانكساره، وكثير من الألفاظ قد لا يمكن تفسيرها بلفظ واحد، تقول: كذا هو كذا، إلا إذا أردت ما يقرب من معناه، أو تفسير اللفظ بنوع من أنواعه، أو بجزء معناه، فتقول: الخشوع هو التطامن، أو التواضع، لكن هذا التفسير لا يكفي، فهو ليس مجرد التطامن، وإنما يكون مع الخضوع، والذل، والانكسار، والمحبة، والتعظيم، فإذا اجتمعت هذه في القلب مع لينه، ورقته؛ قيل له: الخشوع، ويظهر أثر ذلك على الجوارح؛ لأن أصل الخشوع في القلب، فما يقال عن الخشوع الذي يكون في الجوارح إنما هو أثر من آثاره، والله أعلم.
لذلك لما وصف الله الأرض بقوله: بأنها ترى الأرض بقوله: خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [سورة فصلت:39] ففيها معنى التطامن، فإذا جاءها المطر انتفخت، وارتفعت بالنبات، والله أعلم.

على أي شيء نستعين بالصبر والصلاة؟
نستعين بالصبر والصلاة على تذليل المصاعب والمشاق في أمورنا الدنيوية والأخروية، ومن ذلك المشاق التي تواجهنا عند أداء العبادة، والمشاق التي تحصل بسبب فطم النفس عن الشهوات، والمشاق التي تحصل بترويض النفس عند المصيبة على حال يرضاها الله من الصبر، أو الشكر، أو الرضى - والرضى بين الشكر والصبر - فكل ذلك يُحتاج إليه. ومن ذلك - خاصة وأن الخطاب موجه لبني إسرائيل - فطم النفس عن مطلوباتها من تحصيل الرئاسات، والعلو في الأرض، والترفع على الخلق، وهذه من أعظم الشهوات، فقد يستطيع الإنسان أن يقوم الليل، ويصوم النهار، ومع ذلك إذا نوزع الرئاسة كشر عن أنيابه واستمات، ولربما باع دينه من أجل هذه الرئاسات، وقال على الله الكذب، والإفك، والباطل، والزور، وكل ذلك من أجل تحصيل رئاسة يطلبها، أو من أجل تثبيت رئاسته، وهذا الأمر أكثر من يحتاج إليه أهل العلم، فهم أكثر الناس حاجة إلى مثل هذا، ولذلك لا بد من أن تطهر النفس، وتزكى من الحسد، ومن التطلع إلى ما عند الآخرين. إنك تجد الناس لربما يحصل لهم حث على العلم، وعلى طلب العلم، ويفرح بطالب العلم إذا نشأ، فإذا برز وتميز لربما رماه بعضهم، ونصب نفسه عدواً له، وحاول أن يغمطه حقه، وتمنى زوال هذا الإنسان، مع أن هذا الإنسان قد لا يعرفه، ولم يسيء إليه، ولم يجد منه أي تقصير في حقه، ولكن النفس تشتعل بالحسد، والغيرة التي تدعو إلى فعل كل قبيح من غيبة، وحسد ونحو ذلك من أمراض القلوب، وكلام أهل العلم كثير جداً في هذا الموضوع وفيه بيان كيف أن النفس تحتاج إلى مجاهدة كبيرة لفطمها عن هذه الأمراض الخبيثة، وبالتالي ينبغي للمرء أن فيستعين على ذلك بالصبر والصلاة.
مرات الإستماع: 0

"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قيل: معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا، وقد روي أن رسول الله ﷺ: كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة[1] ونعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلى ركعتين، وقرأ الآية[2] وقيل: استعينوا بهما على طلب الآخرة."

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ هذا أمر، وقد جاء بإطلاق يعني حُذف متعلق الفعل، ما قال: واستعينوا بالصبر، والصلاة على مطالبكم الدنيوية، أو واستعينوا بالصبر، والصلاة على المطالب الأخروية.

والأصل أن حذف المتعلق يُحمل على العموم المناسب، يعني يُحمل على أعم معانيه مما يصلح له في كل موضع، كما لا يخفى، فهنا حينما أطلق ذلك فقال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة على مطالبكم الدنيوية، وعلى الأقدار المؤلمة، هذه الحياة كما هو معلوم لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4] فهو يكابد منذ أن يخرج من بطن أمه باكيًا، وهكذا يكابد في كل مزاولاته، وأعماله، وطلبه للرزق، وما ينتابه من الأمراض، والعلل، والأوجاع، والهم، ونحو ذلك، فهذا يستعان عليه بالصبر، والصلاة.

ولهذا كان النبي ﷺ يقول: أرحنا بها[3] إذا حزبه أمر، فإذا وقع له شدة فهذا يفسر قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ والسين، والتاء للطلب يعني اطلبوا العون، فإن هذه المشقات التي تلحق في مطالب الدنيا، وما ينتاب الإنسان من الأقدار المؤلمة إضافة إلى المطالب الأخروية، كل ذلك يُستعان عليه بالصبر، والصلاة، فتخف وطأته بما يقع له من المكاره، ويحصل له العون على أمور دينه، ودنياه وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فيحمل على المعنيين، وكذلك ابن عباس لما نُعي له أخوه قُثَم نزل، وكان في طريقه إلى مكة، فصلى ركعتين، وقرأ الآية، وقد جاء هذا أيضًا عن غير ابن عباس - ا -.

"وقيل: الصبر هنا الصوم، وقيل: الصلاة هنا الدعاء."

يمكن أن يوجه القول بأنه الصوم باعتبار أن الصوم هو عبادة أعلق بالصبر، ولهذا يسمى شهر الصوم شهر الصبر، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] والله يقول في الحديث القدسي: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به[4] فلم يذكر له مقدارًا معينًا من الأجر، والثواب، فيكون ذلك كأنه من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالصبر في الأصل عمل قلبي، وهو المقصود، عمل قلبي، عبادة قلبية تحمل صاحبها على الثبات، وترك التسخط، والجزع حال المصائب، وكذلك تحمله على الامتثال لأمر الله وطاعته، والصبر عن معصية، فهو عبادة قلبية تظهر آثارها، فتفسيره بالصوم يمكن أن يوجه بهذا الاعتبار، وإلا فالصبر ليس هو الصوم، لكن لما كانت هذه العبادة من ألصق، وأعلق العبادات بالصبر، قال من قال: بأنه الصوم، وإلا ليس ذلك معنى الصبر.

وقيل: الصلاة هنا الدعاء، لكن الحديث: كان إذا حزبه أمر صلى[5]. يدل على أن المقصود بالصلاة الصلاة المعروفة الشرعية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وهو أن ألفاظ الشارع تُحمل على المعني الشرعي ابتداء، فإن لم يوجد فالعرفي، يعني في عُرف المخاطبين، فإن لم يوجد فاللغوي، فتفسيرها بالدعاء هو تفسير بالمعنى اللغوي، ولا يوجد قرينة تدل عليه، وإنما الصلاة الشرعية، وهي متضمنة للدعاء، لكن هي المقصودة، كما يقال في الصبر: هي تلك العبادة القلبية، وليس هو الصوم، لكن إنما نذكر ما سبق من أجل التوجيه لمثل هذه الأقوال، وبيان محاملها - والله أعلم -.

"وَإِنَّها الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر، والصلاة، أو على الاستعانة، أو على الصلاة."

لاحظ هنا وَإِنَّهَا هو ذكر أمرين: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ فعاد الضمير مفردًا، فهذا يحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الأمرين معًا باعتبار، باعتبار ماذا؟ قال: الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر، والصلاة.

وَإِنَّهَا أي: العبادة، فهذه العبادة منها عبادة قلبية، وهي: الصبر، ومنها عبادة تتعلق بالجوارح، وهي: الصلاة وَإِنَّهَا أي العبادة المذكورة من صبر، وصلاة، فأعاد الضمير مفردًا مؤنثًا بهذا الاعتبار، وإلا فالصبر مذكر، وجاء الضمير مؤنثًا مفردًا، أو على الاستعانة: وَاسْتَعِينُوا وَإِنَّهَا أي: الاستعانة لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ هذه الاستعانة بالصبر، والصلاة، والاستعانة مصدر، ولفظه مؤنث، أو على الصلاة، بأي اعتبار؟ باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا أي الصلاة، لا سيما أن الصلاة مؤنث في اللفظ، وهي أقرب مذكور، والضمير أعيد مفردًا وَإِنَّهَا أي الصلاة لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ وهذا يحتمل، يعني إذا قلنا: إنه يعود إلى الصلاة يحتمل أن يكون المراد الصلاة بعينها كبيرة إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ بمعنى أنها شاقة، ولهذا ذكر الله في صفة المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء: 142] فهي عبادة شاقة عليهم إلا على أهل الخشوع وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاكتفاء، يعني ذكر أمرين، وأعاد الضمير على أحدهما اكتفاء بذلك عن الآخر؛ ليكون تنبيهًا عليه، يعني المراد ما سبق من الصبر، والصلاة، لكن أعاد الضمير على أحدهما، وهذا له نظائر في كلام العرب، وفي كلام الله : كقوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة: 11] ذكر أمرين: التجارة، واللهو انْفَضُّوا إِلَيْهَا اللهو مذكر، والتجارة مؤنث، قيل: المراد التجارة؛ لأنها هي المقصودة، وإما اللهو فليس بمقصود، وهذا اللهو فُسر بالطبل، عن جابر قال: أقبلت عير، ونحن نصلي مع النبي ﷺ الجمعة، فانفض الناس إلا اثني عشر رجلا فنزلت هذه الآية: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا[6] ما قال: انفضوا إليهما.

إما باعتبار أن التجارة هي المقصودة، وليس اللهو، مع أنه قيل في اللهو: كل ما يُلهي، والاشتغال بالتجارة، يعني من باب عطف العام على الخاص، أن التجارة من اللهو، فعطف العام اللهو على الخاص، ويحتمل أن يكون ذلك جميعًا لا سيما إذا فسرنا اللهو بكل ما يُلهي، وليس الطبل، فيكون الضمير يرجع إلى الأمرين فأعاده على أحدهما من باب الاكتفاء؛ ليُنبه على الآخر، فهنا على كل حال الآية تحتمل أن يكون وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ يعني: المذكورات، هذه العبادة، أو من باب الاكتفاء وَإِنَّهَا أي: الصلاة، وما ذكر معها من الصبر لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ كبيرة يعني شاقة ثقيلة.

"لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة صعبة.
  1.  أخرجه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب، وقت قيام النبي ﷺ من الليل، رقم: (1319).
  2.  تفسير الطبري (1/14).
  3.  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، رقم: (4985).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما يذكر في المسك (7/164)، رقم: (5927)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم: (1151).
  5. أخرجه أبو داود، أبواب قيام الليل، باب، وقت قيام النبي ﷺ من الليل، (2/35)، رقم: (1319)، وأحمد، رقم: (23299).
  6.  أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها [الجمعة: 11] رقم: (2064)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما [الجمعة: 11] رقم: (863).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- مُخاطبًا بني إسرائيل، في جملة ما خاطبهم به في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] استعينوا في كل أموركم بالصبر بجميع أنواعه، وكذلك الصلاة: استعينوا بها بفرضها ونفلها، فهذه الصلاة شاقة إلا على المتقين الخاشعين، الذين يخافون الله -تبارك وتعالى- ويخشونه، ويرجون ما عنده، ويوقنون أنهم مُلاقوا ربهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه- بعد الموت، فيُجازيهم ويُحاسبهم على أعمالهم، وأنهم راجعون إليه يوم القيامة، كما قال الله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46] فهي شاقة إلا على الخاشعين الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفة، يظنون أنهم ملاقوا ربهم، والظن المراد به هنا اليقين، فإن الظن يأتي لمعنيين في كلام العرب، وفي كتاب الله :

المعنى الأول: اليقين، كما في هذه الآية، وكما في قوله -تبارك وتعالى- عن قول الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ [سورة الجن:12] أي: علمنا وأيقنا، وهكذا في قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [سورة الحاقة:20] فالمقصود به أنه كان مُتيقنًا، ولا ينفع في ذلك إلا اليقين.

ويأتي للظن المعروف، الذي يكون خلاف اليقين، فهذا كما قال الله عن هؤلاء الكفار: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [سورة الجاثية:32] فهم يتبعون الظنون، والظن لا يُغني من الحق شيئًا، فالله -تبارك وتعالى- في هذه الآية يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] هذه الصلاة مع الصبر هما أعظم عون للعبد على تحمل الصِعاب والمشاق؛ ولذلك جاءا مع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في قوله -تبارك وتعالى- في وصية لقمان لابنه حينما قال له: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [سورة لقمان:17] فأمره أولاً بإقام الصلاة، وذكر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعقب ذلك بالصبر على ما أصابه، فذلك عقبه الله -تبارك وتعالى- بهذا الختم لتلك الآية في وصية لقمان بأن ذلك من عزم الأمور إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [سورة لقمان:17].

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:45] استعينوا بالصبر والصلاة على ماذا؟ استعينوا بالصبر والصلاة، الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على الأقدار المؤلمة، فكل هذا يحتاج إلى صبر، فهذه ثلاثة أنواع للصبر، وهي داخلة في هذا الأمر.

فالطاعة تحتاج إلى صبر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [سورة آل عمران:200] وكذلك أيضًا ترك المعاصي، ومطلوبات النفس من الشهوات المحرمة، يحتاج إلى صبر، فالنفس تُنازعه لفعل شهواتها ومرغوباتها من المعاصي، وارتكاب حدود الله -تبارك وتعالى- فيحتاج إلى صبر، وكل بحسبه، فمن الناس من تُنازعه نفسه لأخذ المال الحرام، ومن الناس من تُنازعه نفسه للنظر الحرام، ومن الناس من تُنازعه نفسه للظلم والعدوان، لا سيما إذا كان ذلك مقدورًا له، فيتسلط على غيره إن كان ذلك الغير هو ولده، أو زوجته، أو من تحت يديه من خادم وأجير، أو كان ذلك غير هؤلاء ممن يعملون تحت يده، أو له ولاية عليهم، والإنسان ظلوم جهول، فلا يحجزه عن هذه الأوصاف إلا الصبر، وحبس النفس؛ لأن الصبر بمعنى الحبس؛ ولهذا يُقال: قُتل فلان صبرًا، يعني أنه حُبس على القتل، ضُربت عنقه، يعني لم يُقتل مواجهة في ميدان المعركة، وإنما حُبس للقتل، فهذا الصبر هو حبس النفس، فدخل فيه هذه الأنواع الثلاثة.

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:45] الصلاة المكتوبة، والصلاة غير المكتوبة، كالراتبة، وسائر النوافل، لا سيما قيام الليل، فالله -تبارك وتعالى- لما أمر نبيه ﷺ بقيام الليل قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة المزمل:2] ماذا قال له بعد ذلك؟ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [سورة المزمل:5] فتحمل أعباء الدعوة والصِعاب والمشاق التي يُلاقيها الداعية في طريقه، هذه تحتاج إلى عزائم وصبر، واحتمال، والصبر قد ينقطع، والإنسان القوي قد يضعف، ما لم يكن لُطف من الله بالفتى، وهذه الألطاف من أعظم مقوماتها وأسبابها، هي هذه الصلاة، ولاحظوا هنا أنه لم يقل: استعينوا بالصبر والصلاة على كذا، أو على تحمل الأقدار المؤلمة، أو على المشاق والمصاعب في الأعمال الدنيوية، وطلب الرزق، أو على المشكلات والهموم، أو على العبادة والطاعة، أو على جهاد الأعداء، وإنما أطلقه، والأصل أن حذف المُتعلق يُفيد العموم النسبي، فيبقى على إطلاقه، أي: استعينوا بالصبر والصلاة على كل مطلوب من مطلوباتكم الدنيوية والأخروية، مما تقصدونه، وتسعون إليه، ومما يقع من غير اختياركم.

فالذي يسعى إليه الإنسان، ويطلبه مما لا يلحقه فيه تبعة، يعني غير الآثام، والمعاصي والذنوب، فهذا صبر مذموم، إذا صبر نفسه على طلبها، لكن الصبر المحمود هو الصبر على المطالب التي يطلبها العبد، مما لا يلحقه فيه تبعة، أو يكون مشروعًا في حقه، فمن ذلك المطالب الدنيوية في طلب الرزق، وما إلى ذلك، فالإنسان كما قال الله : لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فالإنسان يُكابد فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [سورة طه:117] وقد ذكرت في بعض السنوات الماضية مناسبة تتعلق بقوله: فَتَشْقَى إنه ذكر الضمير مُثنى فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا [سورة طه:117] آدم وحواء، وأعاد الضمير مُفردًا فَتَشْقَى من الذي يشقى؟ آدم أخذ منه بعض أهل العلم أنه أُعيد الضمير مُفردًا؛ لأن الرجل هو الذي يخرج فيضحى، ويتعرض للشمس، ويشقى في طلب الرزق، ويعتمل خارج المنزل؛ ليوفر لقمة العيش لزوجته وأولاده، والمرأة قارة في بيتها، فأضاف الشقاء إلى الرجل؛ لهذا السبب، وهو أن الرجل هو الذي يخرج ويُكابد، والمرأة في خِدرها لا تخرج، كما هي الفطرة، فالمرأة تقوم بوظيفتها الرئيسة، وهي القيامة على الزوج والأولاد، وتربيتهم أحسن تربية، ولا تكل ذلك إلى غيرها، فتكون:

كمُرضعة أولاد أخرى وضيعت بنيها فلم ترقع بذلك مرقعًا[1]

تعمل أجيرة عند آخرين، وتترك الوظيفة الكبرى الأساسية، فالمقصود هنا: أن هذه الحياة تعب وعناء ومُكابدة، فيخرج الإنسان من بطن أمه باكيًا، ويلقى أنواع المُكابدة والتعب، من حر، وبرد وجوع وعطش وألم ومرض وسهر وما إلى ذلك، ويُكابد، فإذا أراد شيئًا من هذه الدنيا أن يطلبه من مال؛ ليُحصله، فيحتاج إلى عمل وكد وشقاء، وإذا أراد أن يتعاطى شيئًا من هذه التي يُحصلها من المطعوم والمشروب، فيحتاج إلى أن يعتمل، حتى ينضج هذا الطعام، ويُهيأ، وربما يُعجبه، أو لا يُعجبه، وإذا أراد زوجة يحتاج أن يعمل دهرًا طويلاً، حتى يُحصل المهر، وما يتطلبه هذا الزواج، وقد تُلائمه هذه الزوجة، وقد لا تُلائمه، وقد تكون سببًا لغم وشقاء، وهو الذي تعب، حتى حصلها، فهذه الحياة كبد، يُكابد الإنسان في طلبها، ويُكابد مع ولده، ويُكابد مع من حوله، فيحتاج إلى توطين للنفس على الصبر؛ لأنه يصله من أنواع التعب والألم والأذى، وليس يخلو أحد من ضد، كما قيل:

ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس جبل[2]

فإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- لم يسلم من أذى الناس يؤذيني ابن آدم [3]ولا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- سلموا من الأذى، فدل ذلك على أن السلامة مُتعذرة، إذًا يحتاج الإنسان إلى شيء يستعين به؛ لئلا ينفرط صبره، فيصدر منه ما لا يليق، أو ينكسر وينهار، فيحتاج إلى أن يستعين بالصبر والصلاة على فعل العبادات، فهذه الصلاة التي نُصليها، وهذا الصوم الذي نصومه، إلى متى؟ نقول: طالما أن عقل الإنسان معه، فإنه لا يترك الصلاة، وطالما أنه قادر على الصوم فإنه يصوم، فهذا لا يُحد بسنة، أو سنتين، أو ثلاث...، إلى آخره، وإنما لزوم للصراط المستقيم؛ ولشرائع الإسلام إلى الممات، فهذا يحتاج إلى صبر، فالمسألة ليست طفرة أن يُصلي الإنسان أيامًا، ثم يترك الصلاة، ويمل ويسأم، ما الذي يجعل هذا الإنسان يستمر ويصبر الصلوات الخمس، وإذا أذن المؤذن ترك ما في يده وتوجه إلى المسجد، وهكذا يكون ديدنه في العمر كله، فهذا يحتاج إلى استعانة على ذلك بالصبر والصلاة؛ ولذلك كان النبي ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها [4].

وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- لما جاءه نعي أخيه قُثم، نزل عن راحلته، وهو في طريقه إلى مكة، وقرأ هذه الآية: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:45] واستقبل القبلة، وصلى ركعتين، فهذا مما يقوي النفس، فإذا جاءت المصيبة، وكان الإنسان أمام الشدة والصعوبة يتوضأ، ويستقبل القبلة، ويُكبر ويُصلي ركعتين بدلاً من النياحة، فإنها لا ترد فائتًا، ولا تدفع المصيبة، وإنما يحصل بها الوزر، وفوات الأجر، فالتجلد في استقبال المصائب، ونحو ذلك، فيحتاج إلى توطين للنفس على الصبر بالإضافة إلى هذه الصلاة، فهي تمنح الإنسان قوة في التحمل، لا يحصل ذلك بدونها بحال من الأحوال.

ولذلك نجد الذين لا يصلون يكون عنده من قلة الاحتمال والصبر والجزع ما لا يُقادر قدره، بل ربما يكون الواحد مُنعمًا مُرفهًا، ومع ذلك يكون في حال من الحسرة والضيق، الحياة بطبيعتها صعبة؛ ولذلك انظروا إلى الذين لا يعرفون الله في بلاد الغرب مثلاً: المصحات النفسية، والاكتئاب والقلق، وقد ذكرت في بعض المناسبات تلك الطبيبة التي تسأل امرأة، فحينما رأت صواحبتها يُضاحكنها، وحينما أتين لعيادتها، فدخلت مرتين، وخرجت تنظر، فبعد أن خرجوا سألتها، قالت: هل أنتم تناولتم شيئًا؟ قالت: لا، يعني: هل أنتم أخذتم شيئًا مُسكرًا، أو نحو ذلك؟ قالت: لا، قالت: إذًا لماذا تضحكون؟ قالت: سبحان الله! نضحك نؤانس بعضنا، وهكذا مجالسنا، نتحدث ونضحك ونُسر، فتعجبت، وقالت: لكننا لا نعرف هذا؛ لأن الحياة عندهم شقاء، تقول: ولذلك كثُرت الأعياد عندهم، ويُكثرون فيها من شُرب المُسكرات، من أجل أن يخرجوا من واقعهم، الحياة كئيبة مع ما هم فيه من مظاهر التقدم المادي، كما هو معلوم.

وهكذا حينما رأت تلك المرأة، وقد ظهرت عليها مبادئ إسقاط الحمل، ولم تكن تحمل من قبل، فهذا أول حمل، فكانت تُقدم لها وتُمهد بمقدمات طويلة، فلما سألتها ما الخبر؟ فأخبرتها أن هذه بوادر إسقاط، فقالت: الحمد لله، فتعجبت هذه وذُهلت كيف تقولين هذا؟ هكذا ببساطة بعد هذا الانتظار هذه السنوات، ثم يسقط الحمل، وتقولين: الحمد لله، هذا قضاء الله وقدره، وتعجبت كيف أنتم تعيشون؟! فهؤلاء تطحنهم هذه الحياة بما فيها، هؤلاء لا يعرفون الصبر ولا الصلاة، وقد صدر تقرير قبل سنين في مصِر عن المُخدرات والإدمان، وما أشبه ذلك، فكان في ضمن هذا التقرير مما لفت نظري: أنه لا يوجد حالة واحدة أن صاحبها يُحافظ على الصلاة، ما الذي جعلهم يصيرون إلى الإدمان؟ هو هذا التمزق، والخواء الروحي، فيبحثون عن شيء يحصل به الشرود عن الواقع المشهود، وعن الحياة الصعبة، وعن المشكلات التي يواجهونها، فيذهب إلى عالم الوهم، فيكون كالمُستجير من الرمضاء بالنار.

كان الشيخ عمر بن سليم -رحمه الله- من علماء القصيم، في القرن الماضي، وهو عالم معروف، وقاضي مشهور، إذا نزل به مصيبة، أو نحو ذلك، أو شدة، ترك درسه الذي بين العشاءين، ويُصلي ما بين ذلك، هكذا كان أهل العلم والإيمان قديمًا وحديثًا.

وأيضًا في قوله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [سورة البقرة:45] الصلاة عبادة شاقة، لكن هي صلة بين العبد وربه، وهي مداواة للنفوس والأرواح، فحينما تكون مُتصلة بباريها وخالقها فذلك هو مدد الحياة لها، ولا حياة لها إلا بذلك، تكون كالأرض التي قُطع عنها سبب الحياة وهو الماء، فإذا جفت هذه النفوس، وانقطعت الصلة بالله التي عنوانها هذه الصلاة، فإن هذه النفس تتصحر وتجف، ثم بعد ذلك يحصل لها الموات، وقد أخذ من هذا شيخ الإسلام -رحمه الله- من هذا الموضع: أنه ليس من حُسن الرعاية لمن تحت يد الإنسان أن ينظر في رغباتهم فيُحقق هذه الرغبات، يعني: أن الوالد حينما ينظر إلى أولاده: ما الذي يُريدون، ولو كان يضرهم، وإذا كان عليهم مشقة في الاستيقاظ للصلاة، صلاة الفجر، أو صلاة الظهر، في مثل هذه الأيام، أو الذهاب إلى الحلقة، أو غير ذلك، أعاد عليهم هذه الأغطية، وتركهم ينامون، فهذا من التفريط، وليس من حُسن الرعاية، والقيام عليهم بالتربية الصحيحة، فالنفوس تحتاج إلى أن تُعالج بما يرفعها وينفعها، وقد يكون ذلك بأمور تشق عليها، فالله قد فرض هذه الصلاة، وأخبر أنها كبيرة إلى على الخاشعين، فلا تنظر إلى طبيعة العبادة، أو العمل أنه شاق، أو غير شاق، ولكن انظر إلى المصالح المترتبة عليه، وما يحصل بسببه من الثمار الطيبة.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] يعني: تخف عليهم، يُؤخذ منها أن خفة الطاعة من آثار محبة المُطاع  ولهذا فإن قُرة عين المُحب في طاعة المحبوب، وقد قال النبي ﷺ: وجُعلت قُرة عيني في الصلاة [5]وإنما تقر عين الإنسان في الشيء الذي يستلذه، ويفرح به، ويغتبط؛ لأن دموع الفرح - كما قيل: باردة، ودموع الحزن ساخنة، فهذا بسبب ما يكون فيها من الصلة بالله، ومُناجاته، والقُرب منه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. 

ثم أيضًا دلت هذه الآية على أن الخشوع إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] هو من أعظم ما يُخفف هذه العبادات الشاقة، التي منها الصلاة، والخشوع يكون في الصلاة، ويكون وصفًا للعبد في كل حالاته، يقال: فلان من الخاشعين، من المُخبتين، فهذا الخشوع أصله في القلب، فهو منشأه ومُستقره، ويكون آثاره على الجوارح، يحصل في القلب من الانكسار والإخبات لله -تبارك وتعالى- فهذا الخشوع مجموع أوصاف، ينكسر معها القلب لربه وفاطره -تبارك وتعالى- ويظهر أثر ذلك على الجوارح، ونجد كلام أهل العلم في تفسير الخشوع يختلف، فمنهم من يُفسره ببعض مظاهره، وهذا كثير، ومنهم من يُفسره ببعض معانيه، أو أجزاءه، أو أوصافه، وقد تكلمنا على هذا المعنى بكلام مُفصل في الكلام على الأعمال القلبية.

إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] من هؤلاء؟ بيّنهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46] فمن أعظم أسباب المحافظة على الصلاة وأعظم ما يُقوي على ذلك هو الاتصاف والتحقق بالخشوع، وأن يتذكر العبد أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- فيقف بين يديه ويُحاسبه ويُجازيه على أعماله، فعندها إذا وقف بين يدي الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يستثقل هذه الصلاة؛ ولذلك كان بعض السلف  وبعض أهل العلم يذكرون هذا المعنى: فيما يتحقق به الخشوع: أن يستشعر العبد حينما يقف في الصف وقوفه بين يدي الله للحساب، فيخشع، فالإنسان لو كان يقف أمام عظيم من أهل الدنيا، فإنه ربما يحسب حسابًا لتحريك شفته، أو جفنه، فكيف بالوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى؟!

وحينما يستشعر الإنسان أنه سيرجع إلى الله وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46] فإليه المرجع والمصير، فالعبد سيُلاقي ربه، وسيرجع إليه، فهما موقفان - كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- من حَسُن وقوفه في الموقف الأول رُجي أن يحسُن وقوفه في الموقف الثاني، الموقف الأول في الصلاة، والموقف الثاني بين يدي الحساب[6]فإذا وقف للحساب، فهذان موقفان للعبد، وهذه الصلاة هي مدد للصبر أيضًا، وحينما يستشعر الإنسان أنه سيرجع إلى الله -تبارك وتعالى- فذلك مدد آخر، يعلم أن الحياة الحقيقية هناك، وأن هذا مُزدرع للآخرة، فيصبر ويتحمل، وإذا كان العبد في حال من الخشوع الذي لا يتحقق إلا بمحبة الله -تبارك وتعالى- والخوف منه، ومراقبته، فإنه بذلك يأنس بهذه الصلاة، ويُسر؛ ولهذا كان بعض السلف يقول: "إني لأدخل في الليل فيهولوني فينقضي، وما قضيت منه أربي" وكانوا يقولون: أهل الليل في ليلهم أعظم أُنسًا من أهل اللهو في لهوهم، وكان بعضهم يقول عن نفسه ومن على شاكلته: إنهم في لذة، لو علم بها الملوك، وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.

وشيخ الإسلام يقول: "في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" [7]وكانوا يقولون: "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن وذُكر منها: الصلاة" وكلامهم في هذا كثير.

ومن ثَم أقول -أيها الأحبة: هؤلاء الخُشع لله -تبارك وتعالى- وجوههم لربهم وخالقهم لا تكون هذه الصلاة صعبة عليهم، بل تكون مؤنسة لنفوسهم، وأرواحهم، بل قد يستوحش من الناس، ومجالس الناس، ويأنس بالصلاة، ومُناجاة الله، بخلاف من ضعُف يقينه وخشوعه، فهو في الصلاة يتململ، وإذا طلع من باب المسجد ربما يقف بالساعة، وأكثر يتحدث، ولا يشعر، لكن لاحظوا أمرًا: وهو من كان يُناجي ويتحدث مع من يُحبه كثيرًا، فإنه لا يشعر بالوقت، فيمضي الوقت الطويل، وهو يلتذ، ولا يشعر بالتعب، فكيف بُمناجاة الله ؟! وهكذا العمل والمزاولات والذهاب والمجيء إذا كان يعمل في خدمة من يُحبه جدًا، فإنه يستلذ بهذا التعب، وتحقيق مطالبه، فيحاول أن يتعرف عليها، وأن يبحث عنها، من أجل أن يُحقق ذلك له.

فهذه كلها -أيها الأحبة- تخُفف هذه المشاق، وإذا كانت هذه الصلاة قد دخلها العبد بقلب حاضر يستحضر الهيئات الركوع والسجود، وما يقوله فيها من قراءة، وذكر، ونحو ذلك، فلا تسأل عن حال هذا، والله المستعان.

وهكذا إذا كان العبد غير موقن بلقاء الله -تبارك وتعالى- وأنه لن يُحاسب، ولن يُجازى، أو ضعُف يقينه في ذلك، صارت هذه الصلاة عنده عناء وتعب، فهو لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضُر، فتكون كبيرة ثقيلة فادحة في حقه، كما يقول ابن جرير -رحمه الله[8].

وهكذا فإن هذه الصلاة تخف على هؤلاء الخاشعين؛ لأنهم يعلمون بالمُدخرات التي تكون لهم من هذه العبادة فذلك يُخفف، فإذا علم الإنسان قدر ما يطلب هان عليه ما يبذل، هو يطلب رضا الله والجنة، فيكون البذل في هذا السبيل سهلاً خفيفًا.

فدلّ قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] على أن أصل كل خير الذُل والخضوع لله -تبارك وتعالى- والإخبات.

قال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورةالبقرة:45] ثم بعد ذلك بيّن صفة هؤلاء الخاشعين، فقال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] وعرفنا أن الظن هنا بمعنى اليقين.

يُؤخذ من هذه الآية أعني قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] أن هذا اليقين وبقدر ما يتحقق منه في قلب العبد، يحصل له من خِفة العبادة، ولا سيما هذه الصلاة؛ ولذلك فإن اليوم الآخر كثيرًا ما يذكره الله -تبارك وتعالى- أعني الإيمان به، مع الإيمان بالله وكثيرًا ما يأتي التعليل في إعراض من أعرض، وكفر من كفر، وظلم من ظلم، بأنهم لا يرجون لقاء الله، أو لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر هو المُحرك الذي يدفع الإنسان إلى العمل بمرضاة الله -تبارك وتعالى- والامتثال امتثال الطاعة، وترك المعصية.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] فهذا هو الذي يُخفف عنهم ثِقل العبادات والتكاليف الشرعية، وهو الذي أوجب لهم التسلي حال المصائب؛ لأنه يعلم أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- ويجزيه بحسب ما كان عليه من الأعمال، فإن صبر فله الجزاء الأوفى، وإن هو جزع فقد ضيع حقه من الأجر، وحصل هل الوزر، ولم يعد له ما فات، مما ذهبت نفسه عليه حسرات، فإذا علم العبد أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- وأنه إليه راجع، إذًا هذه الحياة قصيرة، هي لا تستحق أن يعيش الإنسان من أجلها، وأن يحزن من أجلها، وأن تذهب نفسه حسرات عليها، وعلى ما فاته من حُطامها، فهي أقل شأنًا من ذلك، فالكل سيرجع إلى الله.

فهذا الذي مات يحزن الإنسان لموته، ولكن ذلك لا يُفضي به بحال من الأحوال إلى الجزع والتسخط، وهذا المال الذي فات، وهذه الصفقة إذا علم العبد أنه سيرجع إلى الله، فهذا المال الذي قد ذهب لن يكون بعده البقاء لصاحبه، الكل سيذهب، فأين الأولون؟ وأين أموالهم؟ وأين مراكبهم؟ وأين دورهم؟ وأين ذواتهم وأجسامهم؟

كل ذلك قد تلاشى، يفرح أولئك الذين يتتبعون الآثار، وهو أمر ليس بمحمود، فحينما يجدون شيئًا يُضيفونه إلى أولئك الذين قد تصرموا وصاروا خبرًا بعد عين، حينما يجدون قطعة من فخار، أو من شيء من صنائعهم، أو أثاثهم، أو أوانيهم، أو غير ذلك، ولربما لا يقدرون بذلك بثمن، هذا الشيء صار نادرًا، مع أنه قد لا يكون صالحًا للاستعمال، فأين تلك الدور التي كانت قائمة والمدن والقرى والزروع والأنعام والذهب والفضة؟ أين حُليهم الذي كانوا يلبسونه وتلبسه بناتهم؟ أين ذهب ذلك جميعًا؟ أين الأسواق التي كانت عامرة بكل لون من حاجتهم من المطعوم والمشروب والملبوس؟ أين الذين عمروا تلك الديار؟ وأين ذلك العِمران؟ كله قد ذهب، ونحن بالتبع، سيكون ذلك لا محالة، فلن يبقى أحد، لن يبقى لك هذا اللباس، ولا المركب، ولا الأثاث، ولن يبقى إلا ما يُراد به وجه الله -تبارك وتعالى- فالمؤمن يتعزى بهذا الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46].

لذلك إذا أُصيب الإنسان بالمصيبة ماذا يقول؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، كما قال الله : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ من هم؟ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:156] فهو يصنع بنا كما شاء، ونحن جميعًا سنرجع إليه، ونوافي، فيُجازينا على الأعمال؛ ولذلك انظروا إلى عروة بن الزبير -رضي الله عنه ورحمه- وهو من أئمة التابعين؛ لما فقد ولده؛ وذلك أنه دخل وهو صغير اسطبل الخيل للوليد بن عبد الملك في الشام، فذهب أبوه يزور الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف، فدخل الغلام في الاسطبل فأصابه فرس، فكانت نفسه فيها، فأتوا يعزونه، ووقعت الأكلة برجله، فقُطعت بالمنشار من غير تخدير، ولا مستشفى، ولا تعقيم، وإنما هو القطع بالمنشار، ثم بعد ذلك الغمس بزيت مغلي ليرقأ الدم، فأصيب في هذه الزيارة بولده وبقدمه، فماذا قال؟ قال: "الحمد لله، وهبتني سبعة من الولد، وأخذت واحدًا، وبقي ستة، فإن كنت قد أخذت فقد أبقيت، ووهبتني أربعة من الأعضاء، وأخذت واحدًا، وبقي ثلاثة، فإن كنت قد وهبت، فقد أبقيت"[9]فهذه يحتسبها الإنسان عند الله، أخذ رجله ونظفها وطيبها ولفها، ثم بعد ذلك أمر بدفنها، هذا حال، لكن انظر إلى حال أهل الجزع الذين لا يوقنون هذا، حتى لو كان كما يقول ابن الجوزي -رحمه الله- يتزيا بزي العلم، أو الدين.

وذكر الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- نماذج من هذا، ونقل جملة منها شارح كتاب التوحيد: تيسير العزيز الحميد، وكذلك أيضًا صاحب الآداب الشرعية، وكذلك ذكر قبله ابن عقيل الفقيه الحنبلي في كتابه الفنون، جملة من أخبار هؤلاء المعترضين على أقدار الله الذين ينهارون وينكسرون، رأى أحدهم دابة مريضة هزيلة، فقال كلامًا لا أستطيع أن أحكيه، كلامًا قبيحًا في حق الله ووقع على أحدهم شيء من الجرب، فقال مُعترضًا كلامًا لا يصح أن يُنقل ويُحكى، وكان مما قال: لو كان هذا على بهيمة لكان -نسأل الله العافية- لكان ظالمًا، يعني: ربه -تبارك وتعالى- وآخر عاش في مسغبة.

وكان يتعاطى الفقه، ثم صار في آخر عمره يتعاهده أحد الكُبراء والأغنياء بألوان الطعام، فنظر إليه، وقال: ساقه لي على كِبر حيث لا أستطيع أن أذكره في حق الله يعترض على أقدار الله، يعني: يقول هذا التدبير جاءني في حال لا أستطيع أن أستصيغ هذا الطعام لضعفي وكِبر سني، وقد انقضى العمر ولم يحصل شيء من ذلك، وإنما جاء في غير حينه، وهكذا.

ويمرض أحدهم فيتكلم بكلام قبيح مفاده: ما هذا التدبير؟ فكان هؤلاء يتعرضون على الله يظن الواحد منهم أنه أوتي من العلم أو الذكاء أو الدين والصلاح، ثم يرى آخرين مُنعمين، فيرى أن ذلك من سوء التدبير، وما عملوا أن الله عليم حكيم، وأنه يبتلي المؤمن ليرفعه، وأن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فلم يدركوا هذه المعاني، وما عرفوا الله معرفة صحيحة، لكن المؤمن الذي يعلم ويستيقن أنه لله الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [سورةالبقرة:156، 157] فهؤلاء هم الذين عرفوا ربهم -تبارك وتعالى- معرفة صحيحة، فإذا عرف العبد أنه يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- فهذا يهون عليه المصائب، ويحمله على فعل المأمورات، ويزجره عن المحرمات؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى الله ويُحاسب على القليل والكثير وأنه لن يمضي شيء هكذا، الحساب بمثاقيل الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورةالزلزلة:7، 8].

إذًا: هو سيلقى الله وسيُحاسبه، فيكون سلوكه وسيره على الصراط مُستقيمًا، وأما من لم يؤمن بلقاء الله وأنه يرجع إليه، فإن هذه العبادات لا سيما الصلاة تكون شاقة، فبحسب ما يكون عند العبد من اليقين تخف عليه يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها [10] وبحسب ما عنده من الضعف يتململ في الصلاة، ويستثقلها، ويتبرم بها، وإذا أطال الإمام قليلاً ضاق ذرعًا بذلك، فهذه لضعف يقيننا، وذكر هذا المعنى جمع من أهل العلم، كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي[11]وغيره.

ثم هذا الذي يوقن أنه سيرجع إلى الله -تبارك وتعالى- سيخشاه في السر والعلن، تستوي عنده السر والعلانية، وأيضًا سيُراقب ربه -تبارك وتعالى- ثم إنه سيتسحي منه الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورةالبقرة:46] إذا كان سيُلاقي ربه ويرجع إليه فيرجع إليه بحال تُجمله، الإنسان إذا كان يتكلم بكلام لا يليق في حق أحد من الناس من الكبراء، أو غيرهم، ثم بعد ذلك قُدر له أن يلاقاه، فإنه يستحي مما قال، مما صدر وبدر منه، فكيف بالعظيم الأعظم إذا كان المؤمن يوقن بأنه سيلقاه، بل من أدرك هذه الصلاة وما فيها من مُناجاة الله فلا شك أنه سيستحي، كيف يعصي ربه -تبارك وتعالى- ثم يصف قدميه ويقف يُصلي يُناجي ربه؟ ويكون ذلك زاجرًا له من مُقارفة ما لا يليق، إلا إذا كان يُصلي صلاة لا يعقل فيها، فهذا اللقاء المُتجدد والمُناجاة المُتجددة في اليوم والليلة خمس مرات، فهذا لا شك أنه يزجر لمن استشعار وقوفه بين يدي الله .

  1.  البيت لابن جذل الطعان، في تاج العروس (15/ 91) ولسان العرب (5/ 326).
  2.  البيت لابن الوردي من قصيدته التي مطلعها:
    اعتزل ذكر الأغاني والغزل *** وقل الفصل وجانب من هزل
    في المحاضرات والمحاورات (ص: 349) والكشكول (1/ 234). 
  3. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [سورة الجاثية:24] الآية برقم: (4826) ومسلم في الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر برقم: (2246). 
  4.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة برقم: (4985) وصححه الألباني. 
  5.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (14037) وقال محققو المسند: "إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين". 
  6. اجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 84). 
  7.  المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 153). 
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/ 22). 
  9.  المعرفة والتاريخ (1/ 553). 
  10.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة برقم: (4985) وصححه الألباني. 
  11.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 51).