الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم.
وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله  وكذلك قال السدي.
وقال ابن جريج: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ أهل الكتاب، والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم، والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس، فعيَّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ أي: تتركون أنفسكم وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعَهْد من التوراة، وتتركون أنفسكم أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [سورة هود:88]، فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف، والخلف.
قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ الهمزة هنا للإنكار أي: كيف تأمرون الناس بالبر، وتنسون أنفسكم، ويدخل فيه كل ما ذكره المفسرون، حيث كانوا يأمرون بعض من يعرفون مثلاً باتباع النبي ﷺ، والثبات على هذا الدين، ثم هم لا يتبعونه - عليه الصلاة والسلام -، وكذلك أيضاًَ ما كانوا يأمرون به الناس من طاعة الله وهم أبعد الناس عن ذلك بفسادهم، وارتكابهم للموبقات، وأكلهم لأموال الناس بالباطل، وصدهم عن سبيل الله تعالى بأفعالهم قبل أقوالهم.
وهذه الآية موجهة لبني إسرائيل، ولكنها لا تختص بهم، فإذا كان هؤلاء قد نهوا عن مثل هذا الصنيع؛ فإن هذه الأمة مخاطبة بذلك من باب أولى، فهذا فعل لا يليق بالعقلاء فضلاً عن أهل الإيمان، ولذلك قال: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] أي: كيف يكون هذا؟ كيف تأمر الناس بشيء وأنت تخالف هذا الشيء، قولك يدلهم عليه، وفعلك يصرفهم عنه، بل ينبغي أن تكون قال شعيب ﷺ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [سورة هود:88]، كذلك عليك أن تتنبه لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3].
فالإنسان ينبغي عليه أن يجمع بين ما يدعو الناس إليه وبين الامتثال لذلك في نفسه، ولكن كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: إن التبعة لا تسقط على الإنسان إذا كان غير ممتثل في نفسه، لا تسقط عنه تبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه الشريعة فيها واجبات كثيرة منها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع، وما أشبه ذلك من بر الوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك، فإذا ترك الإنسان واحداً من هذه الأشياء فإن ذلك لا يعني أنه يترك الآخر، فإنه يجمع إلى هذا التقصير تقصيراً غيره، فيكون ذلك أحط لمرتبته، وأعظم في الذنب والجرم.
فالأمر بالمعروف واجب، والنهي عن المنكر واجب، فإذا اقتصر الإنسان على الأمر بالمعروف فقط دون النهي عن المنكر يكون قد ترك واجباً، لكنه أفضل من الذي لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، والذي يقتصر فقط في النهي عن المنكرات، ولا يأمر بالمعروف؛ يكون قد ترك واجباً، وكذلك من ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإن هذا قد ترك واجباً، وترْكُ الامتثال كذلك.
فالناس على مراتب:
- منهم من يترك الامتثال، ويترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالكلية؛ هذه مرتبة.
- وأحط من هذا من يترك الامتثال، وينهى عن المعروف، ويأمر بالمنكر.
- يليها أن يفعل المنكر، ويترك المعروف، ويترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هذه مرتبة فوق التي قبلها وأعلى منها، وهذا أحسن حالاً من الذي قبله في الانحراف.
- ثم يأتي بعد ذلك من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولكنه لا يمتثل.
- ثم يأتي بعد ذلك من يمتثل في نفسه، ولكنه لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر.
- ثم الذي أحسن منه حالاً هو من يمتثل، ولا يأمر، ولا ينهى.
- ثم الذي أحسن منه حالاً هو من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويكون ممتثلاً في نفسه.
وقضية الامتثال مطلوبة في الجملة، ولكن ذلك متعين في الأمور الواجبة، والمحرمة، فيجب أن نفرق بين هذه الأمور.
هناك أشياء واجبة وأشياء محرمة، وحدود الله لا يجوز أن تنتهك، فيجب على الإنسان أن يقف عندها، سواءً كان يأمر أو ما يأمر، فإذا ضيعها فإن ذلك لا يسوغ له تضييع واجب آخر وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا من تضييع حدود الله .
يبقى القدر المستحب من الامتثال فهذا أمر يتفاوت الناس فيه غاية التفاوت، وهو لا يجب على الإنسان ابتداءً، ولا يستطيع الإنسان أن يحيط بكل ما جاءت به الشريعة فيعمل هذه الأمور جميعاً، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا غضاضة عليه أن يأمر بلون من ألوان المعروف والطاعة المستحبة وإن كان هو لا يفعل هذا، كالذي يحث الناس مثلاً على لون من العبادة مستحبة وهو لا يفعلها لسبب أو لآخر، فهو مشتغل بعبادات أخرى، كالذي يحث الناس على إغاثة الملهوف، والقيام على الأرملة واليتيم؛ وهو لا يفعل هذا، لكنه مشتغل بأمور أخرى من العبادات قد استحوذت على جهده، واهتمامه، ووقته، فلا يجد وقتاً لمثل هذا.
والذي يحث الناس على أن يعلم الناس الخير وهو لا يعلم الناس - بمعنى أنه لا ينتصب للتعليم -، فهذا قد لا يكون ملوماً؛ لأنه قد يكون مشغولاً بأمور أخرى أهم من هذا.
فالمستحبات لا يستطيع الإنسان أن يحيط بها، أما الواجبات فيجب عليه أن يلتزم بها، وكذلك عليه أن يترك المحرمات، وبالتالي هذا اللوم يتوجه إلى المفرطين القاعدين عن طاعة الله ، المرتكبين لحدوده ومحارمه، لكن هذا التفريط والمعاتبة التي جاءت في حق هؤلاء لا تعني أن الإنسان يتخلى عن هذه الواجبات جميعاً، ويقول: أنا لن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر لأني أنا غير ممتثل أصلاً، بل التقصير عام عند الجميع، وكل إنسان مقصر، فيجب على الإنسان أن يأمر وينهى وإن كان مقصراً حتى إن بعضهم يقول: يجب على أصحاب الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، وهذا أمر لا بد منه وإن كان الإنسان غير ممتثل.
قال الإمام أحمد: عن أبي وائل قال: قيل لأسامة - وأنا رديفه -: ألا تكلم عثمان ؟ فقال: "إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من افتتحه".
هؤلاء الناس يقولون لأسامة لأن عثمان بن عفان كان يقربه، كما كان النبي ﷺ يقربه، ويدنيه، يقولون: ألا تكلم عثمان بن عفان يعني في أمور أخذوها عليه  يعني ألا تنصح عثمان.
فأسامة يبين لهم أنه قد فعل، وقد قام بهذا الواجب، ونصحه، وبيَّن لهم أن نصحه له لا يعني تعيير عثمان بذلك، وأن هذا النصح لا بد  من إظهاره للآخرين، فإن النصح يختص بعثمان ، وقد حصل، فهو يقول: هل تريدون مني إذا نصحت عثمان أن آتي وأشنع عندكم وأقول قلت له كذا، وأجابني بكذا، إلى آخره.
المقصود أنه يقول: قد نصحته، هل تريدون أن أخبركم عن ذلك؟! هل تريدون أن أظهر لكم ذلك؟! إذ لو كانت النصيحة بهذه الطريقة لصارت فضيحة ليست نصيحة، وهذا هو الفرق بين النصيحة والفضيحة.
إلا أن هذا الفرق لا يعتد به في عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمنكرات الظاهرة يجب أن تنكر علناً؛ إذ ما ظهر علناً يجب أن ينكر علناً، إلا إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، فلا يصح الاحتجاج بمثل هذا، وتقرير قواعد منه غير صحيحة، وإلزام الناس بها، وامتحانهم بذلك، فإن ذلك - كما هو ظاهر - إنما هو في النصيحة، فالنصيحة لا تكون تعييراًِ، ولا تكون تشهيراً، فإذا نصح الإنسان يحتسب ذلك عند الله ، ويرجو الإصلاح بهذا النصح، ولا يأتي بعد أن ينصح فيشنع بهذه النصيحة، أو يتخذ من هذه النصيحة سبباً لنفوقه عند الناس، أو لشجاعته، وبطولته، وأنه نصح الخليفة، وقال له، ورد عليه، وأجابه، لا، بل هذه بينك وبينه، أنت نصحته تريد أجرك من الله ، فهذا يختلف عن قضية إنكار المنكر الظاهر، فلذلك علينا أن نجمع بين النصوص ولا نقف عند نص واحد.
في حديث أبي سعيد الخدري لما أراد مروان أن يخطب قبل صلاة العيد أخذه أبو سعيد بثوبه أمام الناس، وقال له: "الصلاة أولاً"، وكذلك قصة ابن عمر مع الحجاج وهو على المنبر أمام الناس، رد عليه بمحضر الناس في صلاة الجمعة.
وهذا الأسلوب في النصيحة يصح إذا لم يترتب عليه فتنة أو مفسدة أعظم، فالمنكر الظاهر يجب أن ينكر ويعرف الناس هذا الإنكار حتى لا يلتبس عليهم الحق بالباطل، وحتى لا يأتي ملبِّس بعد مدة ويقول: الشيخ الفلاني رأيته جالس والعمل الفلاني يُفعل ولم ينكره، فهذا يدل على الجواز، وهذا كثير ما نسمعه يُردد من بعض من يتكلم وهو ليس بأهل أن يتكلم ويقول على الله بغير علم، فلذلك لا بد أن نفرق بين هذه المقامات، والنصوص يجب أن تجمع جميعاً، ثم بعد ذلك يستخرج منها الأحكام، فلا يقتصر على بعضها، أو يكون ذلك بطريقة انتقائية، فإنما يحصل ذلك الخلط بسبب الجهل بالنصوص الأخرى وليس بسبب الهوى.
فقال: "إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس، وإن كان عليّ أميرًا بعد أن سمعت رسول الله ﷺ يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه[1] [ورواه البخاري ومسلم].
هذا الوعيد لمن أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ولم يمتثل، فما ظنكم بمن لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر، ولم يمتثل ألا يكون أشد عقوبة من هذا؟ فما ظنكم بمن ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر ولا يمتثل، ولا يرفع لهذه الأمور رأساً؟!
وهنا تنبيه وهو أن مثل هذه الآية وهذا الحديث قد يكون سبباً لقعود بعض الناس عن هذا الواجب، وهذا خطأ، وإنما ينبغي للإنسان أن يتقي الله في نفسه، وأن يأمر وينهى قدر استطاعته، ولا يتحمل من البلاء ما لا يطيق، ولا يدخل في أمر لا يعرف المخرج منه وكما قال النبي ﷺ في الحديث الذي إسناده حسن: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه فسئل عن هذا، فقال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق[2]، فمن الناس من يتكلم بقوة، ويعجب به كثير من الناس، ثم بعد ذلك يبتلى فينقلب رأساً على عقب، فيقال: ليتك ثم ليتك ما تكلمت، ولا أمرت، ولا نهيت، وهذا كثير، ولو فتشت في حال كثير من الناس اليوم ستجد أنه كان في يوم من الأيام في الجهة المقابلة تماماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال إبراهيم النخعي: "إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3]، وقوله إخباراً عن شعيب: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [سورة هود:88]".المقصود بالقصص هنا وعظ الناس، وتذكير الناس بجذبهم، وترقيق قلوبهم، وتذكيرهم بحيث يغلب على ذلك بإيراد الأخبار، والقصص، والحكايات مع شيء من الوعظ، فيقال: قصص، ويقال: القُصَّاص، وقد جاء عن جماعة من أهل العلم ذم ذلك، ومن يقوم به، ويتعاطاه، وجاء عن الحسن الثناء عليه، وبهذا نعرف الفرق متى يكون المدح، ومتى يكون الذم، فالذم للقصاص الذين يريدون شد أسماع الناس، والتأثير عليهم، والتكثر منهم، ولفت أنظارهم ولو باختلاق القصص، أو إيراد ما هب ودب ودرج من غير تحقق ولا تثبت، فيورد القصص المختلقة المكذوبة، وكل ذلك فقط من أجل أن يعرض مادة على هؤلاء الناس تشد انتباههم، وتستهويهم، أو ترقق قلوبهم أو ما أشبه ذلك ولو باختلاق الكذب فهذا هو المذموم، وأما من يتحرى الصدق، ويتثبت، وينقل الأشياء الصحيحة ونحو ذلك فهذا لا إشكال فيه، وهو الذي أثنى عليه الحسن - رحمه الله -، والله جعل لكل شيء قدراً، والناس وزع الله بينهم هذه المواهب والهمم، وصار منهم من يشتغل بهذا، ومنهم من يشتغل بهذا، فينفع الله بهذا وهذا وهذا، وقد يكون هذا لا يحسن هذا، ولم يفتح عليه فيه، وهذا لم يحسن هذا، ولم يفتح عليه فيه، وهكذا.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: صفة النار وأنها مخلوقة (3094) (ج 3 / ص 1191) ومسلم في كتاب: الزهد والرقائق - باب: عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله (2989) (ج 4 / ص 2290).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن - باب: ما جاء في النهي عن سب الرياح (2254) (ج 4 / ص 522)، وابن ماجه في كتاب: الفتن - باب:  باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [(105) سورة المائدة] (4016) (ج 2 / ص 1332)، وأحمد (ج 5 / ص 405)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7797).

مرات الإستماع: 0

"أَتَأْمُرُونَ تقريع، وتوبيخ لليهود.

 بِالْبِرِّ عام في كل أنواعه فوبخهم على أمر الناس، وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد ﷺ ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد ﷺ[1]."

على كل حال هذا كله داخل فيه، ويدخل فيه سائر ما يكون من الأمر بالبر مع مخالفة الآمر في ذلك في خاصة نفسه، يعني لا يمتثل، سواء كان ذلك في أمرهم بالإيمان بمحمد ﷺ أو بأمرهم بأي نوع من أنواع البر مع غير التلبس به من قِبَل الآمر.

"تَنْسَوْنَ أي تتركون، وهذا تقريع."

لاحظ هنا فُسر النسيان بالترك.

"تَتْلُونَ الْكِتابَ حجة عليهم.  أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ."

وهذا كما هو معلوم أن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لغير الممتثل يعني كون الإنسان لا يفعل المعروف، ويأمر الناس به، أو ينهى عن المنكر، وهو متلبس به هذا قبيح، وهو الذي عابه الله على هؤلاء اليهود، ولكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن من كان مقصرًا فترك المعروف أنه لا يأمر به، أو أن من فعل المنكر أنه لا ينهى عنه، بل هما واجبان، الامتثال في خاصة نفسه: بفعل المعروف، وترك المنكر، والواجب الآخر: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فصارت المراتب متفاوتة:

فأعلى المراتب: أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر مع الامتثال.

المرتبة الثانية: أن يفعل المعروف، ويترك المنكر لكنه لا يأمر، ولا ينهى. فهذا كما في أصحاب السبت الذين انقسموا إلى ثلاث طوائف: طائفة تفعل المنكر، وطائفة تنهى عنه، وطائفة تقول: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف: 164] يعني: سكتوا، فهذه المرتبة الثانية، يعني: يتمثل في نفسه لكنه لا يأمر، ولا ينهى، فهذا مقصر، ومتوعد لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة: 78، 79] لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 63].

المرتبة الثالثة: أن يفعل المنكر، أو يترك المعروف، ولكنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. فهذا مثل حال بني إسرائيل هؤلاء أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44].

المرتبة الرابعة: ألا يفعل المعروف، ولا يأمر به، ويفعل المنكر، ولا ينهى عنه.

المرتبة الخامسة: ألا يفعل المعروف، ويفعل المنكر، وينهى عن المعروف، ويأمر بالمنكر.، وهي أسوأ هذه المراتب، كحال المنافقين الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] فهؤلاء أقبح المراتب، ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار، ولذلك تجدهم دائمًا يعادون الحق، والفضيلة، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر هم أشد أعداء المنافقين، يبغضونهم بغضًا شديدًا، ويلمزونهم بالأوصاف القبيحة، فهؤلاء لا يكتفون بفعل المنكر بل يؤمرون به، ولا يكتفون بترك المعروف بل ينهون عنه، فهم قد حملوا على عواتقهم الصد عن سبيل الله وتثبيط الناس عن فعل الخير، وأمر الناس، وإغواء الناس، وإغراء الناس بالشر، والمنكر، والفساد، وتزيين ذلك في نفوسهم هذه حال المنافقين - نسأل الله العافية - فلا تستغرب إذا رأيت هؤلاء في حال من العداوة الشديدة لأهل الحسبة، ولأهل الفضيلة، ولأهل المعروف، ويلمزونهم بأقبح الأوصاف، فكما قال الله :  الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور: 26] كما يقول ابن جرير: الخبيثون من الناس للخبيثات من الأقوال.

فهي تصدر عنهم، وهم أهلها، ومظنتها، وهم معدنها، والشيء من معدنه، وأصله لا يُستغرب، فهؤلاء يُستغرب منهم لو أمروا بمعروف، وتكلموا في فضيلة، فهذا الذي يُستغرب، أما أن يأمروا بالمنكر، وأن ينهوا عن المعروف فهذا هو المتوقع منهم.

  1. تفسير الطبري (1/7).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] والله -تبارك وتعالى- يُنكر على بني إسرائيل أن كانت حالهم أنهم يأمرون الناس بالبر بعمل الخير، وينسون أنفسهم، فلا يكون الواحد منهم مُمتثلاً، ولا يأمر نفسه بذلك، مع أنهم يقرؤون كتابهم، وما فيه من الأمر بالاستجابة والانقياد، انقياد الإنسان في خاصة نفسه، مع أمر غيره المعروف، ونهيه عن المنكر، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة:78، 79] (كانوا) فهذا يدل على ثبوت هذه الصفة السلبية فيهم، فلا ينهى بعضهم بعضًا عن منكر عظُم أم صغُر لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هذا في عموم بني إسرائيل.

وأما العلماء والربانيون فإن ترك ذلك من قِبلهم يكون أشد وأعظم، كما قال الله -تبارك وتعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] ففي عموم بني إسرائيل، قال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ولما ذكر الربانيين، قال: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ والصُنع أخص من مُطلق الفعل، فهو فعل وزيادة، يعني بإتقان وحذق وبتعمد وتكلف، فكان ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من قِبل الربانيين أعظم وأشد من ترك غيرهم له.

فهؤلاء بهذه الصفة ومن كان هذا شأنه، فإن ذلك يدل على قلة عقله؛ ولهذا قال: أفلا تعلقون فمن أمر غيره بالخير والمعروف، ولم يفعله، أو نهاه عن الشر، ولم يتركه في نفسه هو، فإن ذلك يدل على جهله، وضعف عقله، لكن إذا كان الإنسان غير مُمتثلٍ في خاصة نفسه، يعني: عنده تقصير، فهل يعني ذلك أنه لا يأمر غيره بمعروف هو لا يفعله، أو أنه لا ينهى غيره عن منكر هو واقع فيه؟ الجواب: ليس الأمر كذلك...

الأول: هو فعل المعروف وما أوجب الله على العبد.

والثاني: أمر غيره بفعله، وكذلك هناك واجب وهو أن الإنسان عليه أن يترك المنكر والمعصية في نفسه، وهناك واجب آخر أن ينهى غيره عنه، فالجهة مُنفكة، فإذا كان الإنسان مُقصرًا في نفسه ولم يفعل هذا المعروف، فيُنظر في هذا المعروف، هل هو واجب أو غير واجب؟ فإن كان من الواجبات، فهل يكون ذلك مُسوغًا له: أن يترك أمر غيره بهذا المعروف؟ هل يكون مسوغًا له بأن لا يأمر غيره بهذا المعروف؟

الجواب: لا؛ لأنه إن لم يأمر غيره به، فإنه يكون قد ترك واجبين:

الأول: الامتثال بفعل هذا المعروف في نفسه.

الأمر الثاني: الامتثال الآخر بنهي غيره عن تركه، فجمع إساءتين، هو في نفسه غير مُمتثل، وكذلك أيضًا هو لا ينهى غيره، أو لا يأمر غيره بهذا المعروف، وقل مثل ذلك في المنكر، فإذا كان الإنسان يتعاطى شيئًا من المحرمات والمنكرات، فهذا لا يجوز، ثم رأى غيره يفعل هذا الشيء، فهل كون الإنسان يفعل هذا المنكر يسوغ له ألا ينهى غيره عنه؟

الجواب: لا، فيكون قد ارتكب مُخالفتين:

الأول: أنه فعل هذا المنكر بنفسه.

الثاني: أنه لم ينه الآخرين عنه حين فعلوه، فيكون جُرمه أشد، فإذًا ما الذي أنكره الله   على بني إسرائيل هنا؟ هذا التوبيخ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:44] إنما هو بسبب أنهم أمروا بالمعروف، وتركوا الامتثال، فليس الإنكار أنهم يأمرون بالمعروف، فهذا مطلوب، ولكن ما صاحب ذلك من ترك الامتثال، فقبُح فعلهم بذلك، ولو أردنا أن نصور مراتب الناس بهذا الاعتبار.

نقول: أعلى المراتب هو الذي يفعل المعروف، ويأمر غيره به، ويترك المنكر، وينهى غيره عنه، هذه المرتبة العليا التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن.

المرتبة التي بعدها: هي: أن يكون الإنسان يعمل المعروف، لكنه لا يأمر غيره به، فيكون مُقصرًا بهذا، المرتبة الثالثة: أن يكون هذا الإنسان يأمر غيره بالمعروف، ولكنه هو غير مُمتثل، فلا يفعل المعروف، فهذه الحالة هي التي أنكرها الله على بني إسرائيل، فهذا والذي قبله كل واحد منهما فعل أحد الواجبين، وأما المرتبة الأولى: فذاك الكامل الذي فعل الواجبين، امتثل وأمر.

الثاني: امتثل ولم يأمر.

الثالث: أمر ولم يمتثل في نفسه.

المرتبة الرابعة: وهي ذاك الذي لم يمتثل في نفسه، ولم يأمر غيره.

الخامسة: هو الذي لم يمتثل في نفسه، وينهى عن المعروف أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى [سورة العلق:9- 12] فهو ليس على الهدى، ولم يأمر بالتقوى، فهذا أحط المراتب، ينهى الآخرين عن الخير والمعروف، ويُثبطهم عنه، كما كان المنافقون يفعلون على عهد رسول الله ﷺ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47] فهذا شر الناس.

والمقصود: أن الإنسان حينما يجب عليه ما يجب مما فرض الله عليه، ثم يُقصر في ذلك، فليس ذلك يعني أنه أن هذا التقصير يحمله على تقصير آخر، وهو ترك أمر الناس بهذا المعروف، فيكون قد ترك واجبين، وتكون إساءته أعظم، وإساءة واحدة أسهل من إساءتين.

أما إن كان ذلك من قبيل المندوب، أو من قبيل المُستحب، فهو لا يمتثل، لكن يأمر الآخرين به، فهذه حال أكثر الدعاة إلى الله، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وهذا الذي قال فيه السلف -رحمهم الله- بأنه لو لم يأمر إلا من كان مُمتثلاً لم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر، لكن يحاول الإنسان أن يُكمل نفسه، وأن يتقي الله ما استطاع، ولكنه لن يُحيط بالنوافل والعبادات المُختلفة من التطوعات بأنواعها، إذا كان لا يأمر إلا بما يفعل فقط، فمعنى ذلك أنها ستضيق الدائرة، وكيف سيعرف الناس شرائع الإسلام، وأبواب البر، فهذا يُفتح له في هذا، وهذا يُفتح له في هذا، ويكون من دلّ على هدى، فله مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيء، وهكذا في الأمور غير الواجبة، ولا يكون بذلك آثمًا، ولا مُسيئًا، وقد يحث الناس مثلاً على فضائل الأعمال من ألوان التطوعات في الصيام والذكر، وما إلى ذلك من أنواع البر، لكنه قد لا يتيسر له أن يفعل كل ما يأمر به، ففي هذه الحال لا يكون مؤاخذًا، وبهذا يحصل الدعوة إلى الله، وتعليم الناس الخير، أما الأول فظهر وجهه؛ ولهذا قيل:

إذا لم يعظ من هو مُذنب فمن يعظ الناس بعد محمد ﷺ.

فكل الناس صاحب تقصير وذنوب وعيوب، ولكن يحاول المرء أن يُسدد ويُقارب، وإذا وجه الكلام إلى الآخرين أن يكون واعظًا لنفسه بهذا الكلام قبل الناس، أما أن يتكلم في أشياء، وكأنه قد كمل نفسه بلغة الخطاب لهم: أنتم كذا، أنتم كذا، هذه ثقيلة على الأسماء، إذا تركتم كذا، إذا قصرتم في كذا، إذا وقعتم حينما تفعل هذه المعصية، يكون عليك من الوزر كذا وكذا، حينما تُهمل كذا، لا لا، قل: حينما نُهمل، حينما نُقصر، حينما نُضيع، حينما نُذنب، فأنت معهم.

وقد ذكرت في بعض المناسبات على سبيل طرفة ذلك الرجل الذي وقف يعظ الناس بعد الصلاة، ويقول لهم: الموضوع جِد، المسألة فيها جنة ونار، لا يأتيني أحد غدًا يقول لي: كيري ميري، يعني: الآن إذا حللت هذه الجملة ماذا تعني؟ تعني: أنه مستشعر أنه قد حقق النجاة، لكن هو يتحدث عن هؤلاء الهلكى، من الآن اعملوا واستعدوا، لا يأتيني أحد غدًا، يعتذر أو يقول: ما انتبهت، أو ما دريت، طيب وأنت خلص نفسك، لكن أحيانًا يكون عند الإنسان مثل هذا الشعور إذا غفل عن نفسه، وقد لا يتفطن لذلك.

ثم أيضًا في قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] إنما يتحقق الاقتداء والقبول والتأثير فيمن كان مُمتثلاً، فإذا رأى الناس قولاً جميلاً، ولكن الحال لا تُسعف من هذا القائل، فإنهم لا يقبلون كلامه، ولا ينتفعون به؛ لأنهم ينظرون إليه، وأخطاؤه وعيوبه، كما قال بعضهم:

كفوفة الظُفر تخفى من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهور
وخطأ الجاهل المغمور مغمور وخطأ ذي الشرف المشهور مشهور[1]

فهذا ينظرون الناس إليه بنظر بمُكبر، فتتضخم أخطاؤه وعيوبه، ونحو ذلك، فإذا لم يروا قدوة، وحالاً صالحة للاقتداء والامتثال، فإنهم لا ينتفعون بهذا الذي يقوله لهم، ويُخاطبهم به، وهذا أمر مُشاهد.

فهنا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] يُرشد إلى مُطابقة الحال مع المقال، وهذا هو الذي يكون فيه التأثير إن وجِد معه الصدق والإخلاص، فلا بد من تطابق بين السلوك والقول، والقول والعمل، وهذا يحتاج إلى شيء من المُجاهدة والصبر، وكثرة المُحاسبة للنفس.

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] فهذه حالة تدعو إلى التُعجب؛ ولهذا جاءت هذه الهمزة التي يُعجب الله فيها من حالهم، ويوبخهم على هذا الصنيع القبيح.

ثم انظروا إلى التعبير، حيث جاء بالمُضارع أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [سورة البقرة:44] فالفعل المضارع يدل على الدوام والتجدد حينًا بعد حين، فهذا يدل على أن هذه الصفة تتكرر، وهذه الخلة والفعل والسلوك يتكرر منهم، يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ تأمرون هذا فعل مُضارع، فهذا ديدنهم وحالهم، وهو خطاب للذين عاصروا النبي ﷺ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وإلا وجد في بني إسرائيل من يأمر بالمعروف لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:113، 114].

وكذلك في أولئك الذين اعتدوا في السبت أخبر الله عن خبرهم، وعن أولئك الذين نهوهم، وعن أولئك الذين وجهوا الخطاب للناهين، فدل على وجود فئة كانت تُنكر أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [سورة الأعراف:164] يعني: نحن نفعل ذلك إعذارًا إلى الله -تبارك وتعالى- ولعلهم يتقون، فلعله ينفع، فوجد فيهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لكن في هذه الأمة، وهذه الشعيرة أعظم وأكبر وآكد، والقائمون بها أعظم من القائمين بها من بني إسرائيل.

ولذلك انظر في الخطابين لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة آل عمران:113، 114] ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم قال: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:114] لكن لما ذكر هذه الأمة، ماذا قال؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] فذكر الإيمان بعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأخذ منه بعض أهل العلم: أن المُغايرة في الخطابين بتقديم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في أول صفات المؤمنين، من هذه الأمة، وذكره قبل الإيمان، بخلاف بني إسرائيل: أنه في هذه الأمة أبرز وآكد وأعظم ما تميزوا به، وإلا فهم يشتركون في الإيمان، لكن لما تميزت هذه الأمة أنها قائمة بأمر الله، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، كانت خير أمة.

ولذلك قال الله -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] وسطًا عدولاً خيارًا، فهؤلاء من كونهم بهذه المثابة العدول الخيار فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فإذا جاءك من يأمرك بالمعروف، وينهاك عن المنكر اقبل ذلك بصدر رحب، ولا تعتقد أن هذا تدخل في خصوصياتك، فإن هذا من القيام بالعدل وبالقسط، والامتثال لأمر الله، وتحقيق الصفة الكبرى، التي اتصفت بها هذه الأمة، وتميزت على سائر الأمم، وبهذا يكون لهم هذا الوصف من الخيرية خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] بماذا؟ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران:110] فإذا كانوا لا يأمرون بالمعروف، وكل واحد في شأنه، وفي حاله، ويعتقدون أن ذلك من قبيل التدخل في الخصوصيات، فإن هذا يكون سلبًا لهذه الخيرية، ولا بد.

وأيضًا تأمل قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله: "النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة"[2] ونسيان النفس يعني بترك الامتثال، فعبّر عن الترك بالنسيان، وهذا مبالغة في الترك؛ لأن النسيان يأتي بمعنى الترك، تقول: فلان نسي أصحابه، فلان صار له شأن ومال فنسي رفقاءه، بمعنى تركهم، والنسيان الآخر: وهو ذهاب المعلوم من الذهن، فهذا هو النسيان المعروف، تقول مثلاً: نسيت المسألة، يعني لم يعد يتذكر ذلك، فهذا يقال له: نسيان، ولكن النسيان المقصود هنا هو الترك وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ يعني تتركون الامتثال بما تأمرون به، ففي هذا العتاب والتوبيخ قال لهم: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:44] فهذه جملة حالية يصدر الكلام بهذا الضمير (وأنتم) ففيه زيادة في التقريع والتوبيخ، وتسجيل التبكيت على هؤلاء، فحينما تبكت إنسانًا تقول: وأنتم تفعلون كذا، وأنت تفعل كذا، وأنت حصل منك كذا، فأنت تبكته وتقرعه وتوبخه بذلك.

ثم هذا يدل أيضًا على أن من يتلو الكتاب ينبغي أن يكون على حال مرضية في نفسه من الامتثال والاستجابة لأمر الله ومع غيره في دعوته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر؛ ولهذا قال الله : وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُون [سورة آل عمران:79] ماذا تدرسون؟ الكتاب وتعاليم الكتاب، وتعلمون الكتاب، فكيف تدرسون وتعلمون ولستم بهذه الصفة؟! بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ فالباء هذه تدل على التعليل، وتدل على السببية، بما كنتم تعلمون، فحري بمن يعلم الكتاب، ومن يدرس الكتاب من طلاب العلم الشرعي أن يكون الواحد منهم أكثر الناس تميزًا وامتثالاً ومبادرة لأمر الله، واستجابة لطاعته، لا يكون العوام يسبقونه إلى الطاعات، وهو من الذين يتأخرون عنها، فهذا فيه عظة وعبرة، وهذه الأمة تتلو الكتاب، فأين أثر الكتاب على أمة محمد ﷺ؟

إذا كان هذا الخطاب لبني إسرائيل يتلون كتابهم، فهذه الأمة أشرف من بني إسرائيل، وهذا الكتاب الذي أُنزل أشرف من الكتاب الذي أُنزل على بني إسرائيل، وهو أعظم تأثيرًا لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة الحشر:21] فأين أثر هذا الكتاب على من يتلوه من هذه الأمة؟! فهذه القضية لا تختص بالعلماء، وطلاب العلم أَفَلَا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44] أين عقولكم؟ أين يُذهب بها؟

فإن ترك الامتثال في الوقت الذي يأمر الإنسان الآخرين بالمعروف الذي لم يفعله، فإن ذلك يدل على عدم عقله، طيب لو كان لا يأمر بالمعروف، ولا يمتثل، فهذا عقله أسوأ حالاً من الأول، طيب لو كان لا يفعل المعروف، وينهى عنه، فهذا في الحضيض، أسوأ حالاً، وكلما كان العبد أكثر إعراضًا عن أمر الله، وعن الامتثال لما دعاه إليه القرآن، وما دعاه إليه الرسول ﷺ فإن ذلك يكون نقصًا في عقله؛ ولذلك انظروا في الآيات الكثيرة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:164].

ولما ذكر الله خبر أيوب وقصته في موضع، قال بعد ما ذكر السياق كاملاً: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [سورة الأنبياء:84] وفي الموضع الآخر: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [سورة ص:43] فأخذ منها بعض أهل العلم ما يسمى دلالة الإشارة عند الأصوليين، فقال هنا في نفس السياق ذكرى للعابدين وذكرى لأولي الألباب، وهم أصحاب العقول الراجحات، فدلّ على أن أعقل الناس أعبدهم لله -تبارك وتعالى؛ لماذا؟

لأنه ينظر نظر بعيد، في آخرة، ولا تغره الدنيا والشهوات، والمطامع القريبة؛ لأنه يعرف أنه إذا أخذ هذا الذي لا يحل له، فهي جمرة، فيتركها، والآخرون يمكن ينظرون إليه أن هذا مغفل، كيف يترك هذه الفرص؟ لكن هو الذي ينظر بنظر صحيح، وهؤلاء ينظرون بنظر قريب، لا يجاوز آنفاهم، فهذه لقلة عقولهم، فالإنسان الذي يتهافت على المعصية هذا لقلة عقله؛ لأنه يحمل على ظهره، والإنسان الذي يفري لسانه بأعراض الناس، هذا لقلة عقله، لماذا؟ لأنه سيدفع الثمن، وهي حسنات تذهب إليهم، كل غيبة بحسنات، لو قيل له: ادفع الآن كل غيبة بشيك، ادفع ثلاثة آلاف ريال في هذه الغيبة لفلان وفلان، ففي هذا المجلس كما اغتبت من إنسان؟ هذا أعطه ثلاثة آلاف، وهذا ثلاثة آلاف، لتاب توبة نصوحة من الغيبة، من أجل ثلاثة آلاف، لكن إذا قيل له: الحسنات ستوزع هنا وهناك، فأكثر أو أقل من هذه الغيبة، وكل ذلك محسوب عليك، فهذا الذي يتكلم ولا يبالي هذا لقلة عقله.

وهكذا -أيها الأحبة- فإن ضعف التدين والاستقامة والاستجابة والتقوى في نفوسنا، هذا لقلة عقلنا، ولقلة بصرنا، ولقلة علمنا؛ ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- عد ذلك الذي يفعل المعاصي جاهلاً مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] وليس معناه: أنه ما يعرف أن هذا حرام؛ لأن الذي لا يعرف، فهذا غير مؤاخذ، لكن الله ذكر بعده التوبة، فالذي يتوب هو الذي يعلم بالحكم، فكل من عصى الله فهو جاهل، ولو قيل لأحد من الناس: يا جاهل لغضب، ولم يقف لغضبته شيء، لكن الواقع أنه جاهل، فلو عرف الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، وعظمه لما اجترأ على معصيته، ولكن لجهله يقع في ذلك، مثل الصغير الذي يأخذ ما يضره، فلربما وقع على النار، أو أخذ السكين وجرح يده، أو وضع في فيه شيئًا ربما يضره. 

  1.  البيتان للمخزومي، زهر الأكم في الأمثال والحكم (3/ 104) والدر الفريد وبيت القصيد (4/ 136).
  2.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:51).