الأحد 11 / ذو القعدة / 1445 - 19 / مايو 2024
وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرْكَعُوا۟ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ أمرهم أن يصلوا مع النبي ﷺ.
وَآتُواْ الزَّكَاةَ أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي ﷺ.
وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد ﷺ، يقول: كونوا منهم ومعهم.
وقوله تعالى: وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة.
قوله: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ سبق الكلام على معنى الإقامة، وأنه إذا أمر بالصلاة أمر بإقامتها، وما معنى الإقامة، ولماذا يجمع بين الصلاة والزكاة كثيراً؟ كل هذا سبق الكلام عنه في أول السورة.
وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] الركوع معروف، وهو يطلق على الركوع المعروف في الصلاة، ويطلق أيضاً على السجود، ويطلق على الانحناء؛ كل ذلك من الركوع، وكذلك يطلق على الخضوع، فتقول: فلان يركع لفلان بمعنى أنه خاضع له.
والمقصود هنا أن الله أمرهم أن يركعوا مع الراكعين كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وهو من أحسن ما تفسر به هذه الآية، والله أعلم.
أي: كونوا مع أهل الإيمان، وشاركوهم في أعمالهم الصالحة الطيبة، ومن أخص ذلك الصلاة المعبر عنها بالركوع، والعبادة قد يعبر عنها بجزء منها كما قال الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [سورة الإسراء:78] يعنى صلاة الفجر أي الفريضة، فعبر عنها بجزء منها شريف، ولا شك أن مثل هذا التعبير يدل على أن ذلك من أركانها، إذا عبر عن العبادة بجزء منها فإن ذلك يدل على منزلة فيها، وأنه ركن من أركانها.
وهذه الآية يستدل بها العلماء كما أشار الحافظ - رحمه الله - على أن صلاة الجماعة واجبة، وهذا الاستدلال في بادئ الأمر لربما يتراءى للإنسان لأول وهلة أنه احتجاج واستدلال قوي، ولكن ماذا يقولون في قوله - تبارك وتعالى -: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43]، هل هي مأمورة بصلاة الجماعة، مع أنه لم يذكر الركوع فقط وإنما ذكر السجود أيضاً، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ فلماذا تقولون هنا: هذا ليس أمراً بالجماعة مع أن السياق واحد؟
على كل حال قوله تعالى: وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] لا يكفي في الاحتجاج على وجوب صلاة الجماعة، ولكننا نأخذ وجوب صلاة الجماعة من أدلة أخرى مثل همِّ النبي ﷺ أن يحرق على أقوام بيوتهم، وما أشبه ذلك من الأدلة.

مرات الإستماع: 0

"بِما أَنْزَلْتُ يعني: القرآن."

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ القرينة هنا، لو قال: آمنوا بما أنزلت. فقط يشمل الكتب المنزلة، لكن قوله: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ هذا قرينة تدل على أن المراد القرآن.

"مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي: مصدقا للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة، وغيرها، وتصديق محمد ﷺ للأنبياء، والمتقدمين له ثلاث معان:"

هذا مفيد في مثل هذه المواضع مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ما المراد به؟ فهذا يشمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها، وكلها صحيح، وداخلة تحت معنى الآية - والله أعلم -.

أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به.

مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يعني: هو يصدق ما معكم أن هذه الكتب، وهؤلاء الأنبياء الكرام - عليهم الصلاة، والسلام - أخبروا بصفته فجاء مطابقًا للوصف الذي قالوه، فذلك تصديق لهم، هذا وجه.

"والآخر: أنه ﷺ أخبر أنهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم."

مصدق، يعني: هو بلسان المقال، مصدقهم يقول هم أنبياء يشهد لهم بالصدق، فهذا غير الأول، الأول أنهم أَخبروا، فجاء كما أَخبروا، فكان ذلك المجيء تصديقًا، لكن هنا مصدق بالقول، يقول: يشهد لهم بأنهم أنبياء.

"والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد، وذكر الدار الآخرة، وغير ذلك من عقائد الشرائع، فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك." 

هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كما قال النبي ﷺ: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد[1] فأصول الدين في العقائد، والأحكام، الأصول الكبار، أصول الشريعة، وأصول الأخلاق واحدة، ولكن التفاصيل تختلف، فحينما تتفق هذه الأصول فهذا تصديق، يشهد بعضهم لبعض أن هذا شرعه - الله تبارك، وتعالى - وأنه حق، فالله إله واحد لا شريك، وهو متصف بصفات الكمال بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، واحد في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، هذا في كل الكتب، وعلى لسان جميع الرسل - عليهم الصلاة، والسلام -وكلهم يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65، 73] [هود: 50، 84] [المؤمنون: 23، 32] يصدق بعضهم بعضًا في ذلك، وكذلك تجد مثل إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ونحو ذلك من الأصول العظام، يتفقون عليها، وإن اختلف ذلك في الصفة، والتفصيل.

وفي نسخة خطية: فهو مصدق لهم لاتفاقه في الإيمان بذلك. لكن لاتفاقهم أوضح، وعلى كل حال هذا الذي يقول: في جميع النسخ الخطية. غاية ما هناك أنه رجع إلى أربع نسخ خطية، والكتاب له نسخ كثيرة جدًا، فإذا قيل: في جميع النسخ. معناها النسخ الأربع فقط التي رجع إليها من قابل الكتاب على تلك النسخ، وليس جميع النسخ الموجودة، فهذه العبارة: لاتفاقه في الإيمان بذلك. ليست واضحة، لكن لاتفاقهم في الإيمان بذلك، هذه أوضح.

"وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الضمير عائد على القرآن، وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر به في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل، بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته."

الضمير يقول: عائد على القرآن.، وهذا قال به ابن جريج[2] ولكن هذا ليس محل اتفاق، وقد قال بعض السلف: كأبي العالية: بأن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي: النبي ﷺ وهذا قال به أيضًا جماعة: كالحسن، والسدي، والربيع بن أنس[3].

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ بما أنزلت: يعني القرآن، هذا هو المتبادر وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فالضمير يرجع إليه، هذا هو ظاهر السياق، ولكن هنا ملازمة بين القرآن، ومن أُنزل عليه، فمن كفر بالقرآن فقد كفر بالنبي ﷺ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ .

يقول: وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر به في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل. يعني إن مفهوم المخالفة، وهو ما يُفهم من جهة السكوت، المسكوت عنه، فالمنطوق هو الذي يُفهم من جهة النطق، والمفهوم من جهة السكوت، فهنا مفهوم المخالفة، المخالفة في الأصل حجة، فهل يقال هنا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أن النهي هنا جاء مقيدًا بالأولية: أول كافر، فيصح أن يكونوا كفارًا لكن بعد الناس، المهم أنه لا يكون أول كافر، هذا غير صحيح، ومفهوم المخالفة نُهي عن أن يكون أول كافر به، فإذا قال: أنا لا أريد أن أكون كذلك، لكن في غمار الناس، وآخر من يكفر - نسأل الله العافية - فهذا لا يجوز، وليس هو المراد، ولكن مفهوم المخالفة حجة إلا في مواضح لا يكون فيها حجة التي ذكرها صاحب المراقي بقوله:

كذا دليل للخطاب انضافا ودعْ إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلبْ للسؤل أو جرى على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهلِ والتأكيد عند السامع

وهذا لا يرد على الشارع عمومًا لكنه يتكلم عن المفهوم في العموم حتى في كلام الناس، أو جهل النطق يعني جهل المنطوق، أو الحكم انجلب للسؤل: يعني أجاب على قدر السؤال، أو جرى على الذي غلب: يعني على الغالب، أو امتنان: يعني في سياق الامتنان لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل: 14] لا يدل على أن القديد حرام، المجفف من السمك، أو وفاق الواقع: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 28] لو قال: أوالي الكافرين مع المؤمنين. قال: لا، هذه جاءت هكذا وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور: 33]، وإن لم ترد التحصن؟ كذلك لا يجوز، لكن هذا جاء في سياق معين، أن عبد الله بن أُبيّ كان يكره جاريتين على الزنا عنده ليكتسب من ورائهما، فنزلت الآية، وإلا لا يجوز تمكينها من ذلك مطلقًا، ولو كانت تطلبه، أو وفاق الواقع فجاءت الآية موافقة لواقع معين ... إلخ ما ذكر، فالشاهد نحو سبعة مواضع لا يُعتبر فيها مفهوم المخالفة، والجهل، والتأكيد عند السامع: هذا مجموع ما ذكره.

فهنا وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فهذا لا يُعتبر، ويمكن أن يكون هذا داخلًا في قوله: والتأكيد عند السامع. فهو نهي لهم عن الكفر مطلقًا، لكن كون هؤلاء يكونون أول من يكفر به، وهم أعلم الناس بصدقه هذا في غاية القُبح.

"وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء هنا استعارة في الاستبدال: كقوله: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [البقرة: 16] والآيات هنا هي الإيمان بمحمد ﷺ والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رياستهم، وأخذ الرُشا على تغيير أمر محمد ﷺ وغير ذلك، وقيل: كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن."

وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا هو ما يؤخذونه من الرُشا فيبدلون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وفي شأن النبي ﷺ وفي غيره، وما يستعيضون به من الدنيا عن قول الحق، وبيانه، والعمل به، واتباعه.

وهل هذه الآية: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا تدخل في تعليم القرآن بالأجرة؟.

الجواب: فهموا هذا من عموم اللفظ، وإن كانت هذه الآية في بني إسرائيل، والكلام في أخذ الأجرة على تعليم القرآن فيها خلاف معروف بين أهل العلم، ولكن حتى الحنفية انتهى أمرهم إلى الترخيص بأخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لما رأوا من أثر القول بالمنع من تعطيل التعليم، والتعلم لكتاب الله يعني رأوا أن هذا يؤدي إلى الترك فقالوا: يُرخص. هكذا انتهى القول بذلك عند متأخريهم.

"الْحَقَّ بِالْباطِلِ الحق هنا يراد به نبوّة محمد ﷺ والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها." 

لبس الحق بالباطل يدخل فيه ما كان في صفة النبي ﷺ من التبديل، والتغيير، يعني يجدونه عندهم مثلًا ربعة من الرجال يعني متوسط بين الطول، والقصر، ليس بالطويل البائن الطول، ولا بالقصير البين القصر، فيقولون: هو طويل. يجدونه مثلًا أبيض مشرب بحمرة، فيقولون: آدم. يعني فيه سُمرة، أسمر، وهكذا يبدلون في صفاته ﷺ وكذلك يدخل فيه أيضًا لبس الحق بالباطل بما يحرفون من كتبهم، ويبدلون تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91] فهذا من لبس الحق بالباطل، فكل تحريف يقع عندهم، وتبديل فهو داخل في هذا.  

"وَتَكْتُمُوا معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار (أن) في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأول أرجح؛ لأن العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده."

يعني، وأن تكتموا، ولا تلبسوا الحق بالباطل، وأن تكتموا الحق يعني في الوقت الذي تكتموا فيه الحق، والواقع أن كل من لبس الحق بالباطل فلا بد أن يكون قد كتم الحق، فبينهما ملازمة، لكنه يريد أن يقول هنا بأن كون الواو هنا عاطفة، وأنه معطوف على ما قبله وَلَا تَلْبِسُوا وتكتموا يعني، ولا تكتموا، يقول: وتكتموا معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار (أن) في جواب النهي بمعنى الجمع، والأول أرجح؛ لأن العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين بخلاف النصب... إلخ.

"وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق."

كما في قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: 71].

"وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ يراد بها صلاة المسلمين، وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر بالدخول في الإسلام."

لاحظ هذه الآية: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ هذا هو الأمر لهم بالدخول في الإسلام وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا إلى أن قال: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فالأمر لهم بالدخول في الإسلام هو في قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أما هذا فهو أمر بالصلاة، والزكاة.

"وَارْكَعُوا  خصص الركوع بعد ذكر الصلاة؛ لأن صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد."

 مَعَ الرَّاكِعِينَ  مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة."

هذا يذكره كثير من أهل العلم كما في قوله: وَارْكَعُوا لكن مثل هذا ليس بالضرورة أنه يدل على وجوب صلاة الجماعة، يعني صلاة الجماعة تؤخذ من أدلة أخرى، هم النبي ﷺ أن يحرق على من يتخلفون عنها بيوتهم، ونحو ذلك، ولكن قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ  لا يدل على لزوم الجماعة من حيث هو، ويدل على ذلك أن الله قال لمريم - رحمها الله -: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] فهل هذا أمر لها بصلاة الجماعة؟ الجواب: لا، والمرأة ليست بمطالبة بهذا أصلًا، وإنما المقصود الدخول في جملتهم، فيكون في جملة المصلين، ولكن العلماء - رحمهم الله - يريدون من الأدلة ما يكون صريحًا، ويريدون أيضًا أدلة تكون محتملة يعني دونه في القوة. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى ، رقم: (2365).
  2. تفسير الطبري (1/563).
  3. تفسير ابن كثير (1/243).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في خطابه لبني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] هذا أمر لهم بإقام الصلاة على الوجه الصحيح المشروع، مستوفية لشروطها، وأركانها، وواجباتها، وكذلك أيضًا بإيتاء الزكاة المفروضة على الوجه المشروع، وأن يكونوا في جملة الراكعين المصلين وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] وهذا أمر لهم في الواقع أيضًا بالدخول في الإسلام؛ لأنهم لا يمكن أن يأتوا بذلك على الوجه المشروع في وقت هذا الخطاب إلا بدخولهم في الإسلام، فإن الكفار لا يُقبل منهم صلاة ولا زكاة ولا عبادة من العبادات -كما هو معلوم- إلا إذا دخلوا في الإسلام.

والله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران:85] فالله -تبارك وتعالى- لا يتقبل أعمال الكفار على جميع مِللهم ونِحلهم وأديانهم ومذاهبهم، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] وشبّه أعمالهم بالرماد وبالسراب.

ويُؤخذ من هذه الآية وهي قوله -تبارك وتعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] أن الصلاة والزكاة كانتا واجبتين على هؤلاء من بني إسرائيل، وهما واجبتان في شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وذكرت في بعض المناسبات بأن أصول الدين العِظام، ومبانيه الكِبار قد اتفقت عليها الشرائع يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43] فهذا موجود في خطاب هؤلاء الذين خُوطبوا به، وكما قال الله -تبارك وتعالى- في الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183].

وقد بينا الكلام في ذلك مفصلاً في شرح آيات الصيام وتفسيرها، وقلنا: إن التشبيه في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183] في أصل الفرضية، كما ذهب إلى ذلك طوائف من أهل العلم، وقلنا: إن مثل هذا يُخفف العبادة ويهونها على النفوس، كأنه يقول: لستم ببدع في هذا الأمر، فلستم أول من يُصلي، أو أول من يُزكي، أو أول من يصوم، وإنما كان ذلك مفروضًا على من قبلكم.

والإنسان حينما يُكلف بالتكاليف الشاقة، ثم يُقال له هذا الطريق قد سلكه سالكون قبلك وهذا العمل قد فُرض على أُمم قبلك، فإن ذلك يُخففه، وهكذا في سائر المزاولات الصعبة الشاقة، الإنسان حينما يُريد أن يسلك طريقًا في سفر مخوفة، أو حينما يُريد أن يتعاطى لونًا من العلاج لا يخلو من مخاطر أو عملية جراحية، أو نحو ذلك، فيُقال: هذا عمله فلان، وهذه الأدوية قد تعاطاها فلان، وهذه المزاولات قد زاولها قبلك فلان وفلان وفلان، فيخف أثر ذلك عليه، ويهون، بخلاف ما إذا كان هو الطارق الأول لهذا السبيل، فإن ذلك يشق عليه، فإذا عرف المؤمن أن هذه العبادات والفروض الكِبار قد فُرضت على هذه الأمم قبلنا، فإن ذلك يُخففها عليه، وهكذا الحج فقد كان مفروضًا عليهم، وقد أخبر النبي ﷺ أن مسجد الخيف الذي في مِنى قد صلى فيه سبعون نبيًا[1] وذكر النبي ﷺ يونس بن متى في طريقه إلى مكة، قال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته ليف خلبة، مارًا بهذا الوادي، ملبيًا[2].

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] أن الصلاة إنما يُطلب إقامتها، فلا نجد موضعًا واحدًا في كتاب الله: أدوا الصلاة، فإن إقامة الصلاة تعني أن يأتي بها على الوجه المشروع مستوفية لما يُطلب فيها من شرط وواجب ومندوب، فإذا جاء بها على هذه الصفة، فهي التي تؤثر الأثر المذكور المرتب عليها، وكذلك في قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] فإن هنا تدل على التوكيد كما أنها تدل على التعليل، كأنه يقول: لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وذكرنا مرارًا القاعدة المعروفة، وهي أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، هنا وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت:45] فالوصف إقام الصلاة، والحكم المرتب عليها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فبقدر إقامتها يكون أثرها، وبقدر ما نُقيمها يحصل هذا الأثر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، فإذا نقص ذلك الوصف، يعني إقام الصلاة، يُصلي الإنسان بلا قلب حاضر، ولا يُقيم ركوعها وسجودها على الوجه المطلوب، فإن أثرها يضعف، فيكون نهيها عن الفحشاء والمنكر ضعيفًا، كما نُشاهد.

ثم أيضًا هنا هذه الزكاة تُحمل على المُتبادر إلى الأذهان وَآتُوا الزَّكَاةَ الزكاة المفروضة، وقد ذكرت عصر هذا اليوم في الكلام على الزكاة أن الزكاة قيل لها ذلك لأمرين:

الأمر الأول: أنها بمعنى النماء في أصلها اللغوي، فهذا يحصل به نماء المال، ما نقص مال عبد من صدقة[3].

والأمر الثاني: وهو الطهارة، طهارة النفس من الشُح والبُخل، وطهارة المال مما قد يشوبه من المكاسب التي ليست بتلك، فيحصل الطهارة لهذا وهذا، وأما زكاة الفطر فهي طُهرة للصائم، تلك التي يُقال لها زكاة الأبدان، أو زكاة النفوس، فهذه يحصل بها الزكاة لهذا الصوم، مما قد يُداخله، وأما الزكاة بإطلاق زكاة النفوس والأرواح والقلوب فذلك بالإيمان قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [سورة الشمس:9] وقلنا: بأن قوله -تبارك وتعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ۝ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة فصلت:6، 7] وأن الأرجح أن المقصود به زكاة الأرواح والنفوس بالإيمان، والعمل الصالح، والمُباعدة عن الشرك ومساخط الله - وتقدست أسمائه.

فهذه الأسماء الشرعية، الصلاة صِلة بين العبد وربه، فهي نعمة جليلة، ومِنة عظيمة يبقى صِلة بين هذا المخلوق الضعيف الهباءة في هذا الكون الواسع الشاسع، وبين العظيم الأعظم، إذا كانت الكرة الأرضية كحبة رمل في هذا الفضاء، فما بال الناس فيها، فتبقى هذه الصلاة صِلة بين العبد وربه، خمس فرائض، وما بين ذلك من النوافل ما شاء، فإذا قويت صلته بربه -تبارك وتعالى- فلا تسأل عن ألطاف الله النازلة عليه، فيكون في حال من المنعة والعزة والقوة والمهابة، ويحصل له من السمو والراحة والروح والنعيم، فيكون في جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة؛ ولذلك كان النبي ﷺ يقول: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها[4] فانظروا أثر هذه الصلاة، وانظروا إلى حالنا قبل الصلاة حينما أتينا إلى المسجد، وإلى حالنا بعد الصلاة، فرق واضح، في النفوس، والوجوه، والأبدان.

والزكاة هي زكاة على اسمها، تطهير للنفوس والأرواح، وتطهير للأموال، وهذا شيء لا شك أنه نعمة عظمية، ينبغي أن يغتبط بها العبد، وأن يستشعر أنها مِنة من الله، يُطهر بها نفسه وماله في آنٍ واحد، لا أنها من قبيل المغرم، فتثقل عليه، فإذا أراد أن يُخرج الزكاة بدأ يحسب ألف حساب، هذا فيه زكاة، أو هذا ليس فيه زكاة؟! هذه الأرض أنوي بها كذا أو أنوي بها كذا؟! وإذا جاء قبل الحول يبدأ يُفكر كيف يتخلص من هذه الزكاة، وإذا جاء الحج بدأ يُفكر كيف يأتي بحج لا هدي فيه، فيشعر أن هذه العبادات المالية أو البدنية، أو ما رُكب منهما: أثقال تُرهق كاهله، فإذا كان في صلاة يريد أن يتخلص منها، وإذا جاءت الزكاة يشعر أن ذلك قد قُطع من قلبه، فهذا المال الذي يخرج يشعر أنه غير مخلوف، وغير معوض، وأن هذا المال يذهب كأنه ضريبة قد فُرضت عليه، المؤمن يفرح ويُسر ويحمد الله ويُخبت، ويسأل الله -تبارك وتعالى- القبول، فهذا هو الصحيح لمن عقل عن الله -تبارك وتعالى- وانظروا اسم هذه العبادة: زكاة، فليست ضريبة، وليست مغرمًا، وإنما هي من قبيل المغنم بحق.

ثم أيضًا تأمّل قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ هذا أمر، فدل على أنها كانت واجبة عليهم، وكذلك الزكاة، وهل كانت هناك واجبات أخرى عليهم؟ الجواب: نعم، وفي خطاب الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان من أهل هذه الأمة يرد كثيرًا الاقتران بين الصلاة والزكاة، وقد ذكرت في بعض المناسبات كلام أهل العلم في الجواب عنه، وقلت: إن ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن الصلاة صِلة بين العبد وربه، والزكاة صِلة واصلة إلى الخلق من إخوانه، وأن سعادة العبد دائرة بين الأمرين، حُسن الصلة بالله، والإحسان إلى الخلق، هذه السعادة مُركب يدور على هذين الأمرين، صلة العبد بربه، كيف هي؟ والأمر الثاني: الإحسان إلى الخلق، فذكر الصلاة، والزكاة.

الوجه الثاني: هو أن هذه الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، والعبادات إما مالية، وإما بدنية في الأصل، فالعبادات البدنية أعظمها الصلاة، والعبادات المالية أعظمها الزكاة، فذكر رأس العبادات البدنية، ورأس العبادات المالية؛ ليدل على ما عدا ذلك، فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فهذا وجه في الاقتران بين الصلاة والزكاة، وهو كثير في القرآن، وهذا يدل على أنهما أعظم شرائع الدين بعد الشهادتين.

كما قلنا في أول سورة البقرة ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] من هؤلاء؟ قال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] فهؤلاء هم المتقون، والذي لا يُصلي ولا يُزكي ما حاله؟ قد ضيع هذه الأصول الكبار بعد الشهادتين، وأعظم أصلين، فما ظنك كيف تكون حياته في هذه الدنيا وراحته وسعادته وتوفيقه؟ كيف يكون؟! وكيف يأكل وينام ويستيقظ ويذهب ويجيء؟ وفي الآخرة فالنبي ﷺ أخبرنا: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك[5].

وأخبرنا في الزكاة عن ذاك الذي لا يُزكي إن كان صاحب غنم ماذا تفعل به هذه البهائم؟ وإن كان صاحب ذهب أو فضة، فإنه تُصفح بصفائح من نار، كما قال الله تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة:35] فلنعتني بهذا، ونرقب ربنا في هذه الفرائض، ولنحمل من تحت أيدينا على القيام بها على الوجه المطلوب وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [سورة طه:132] وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [سورة مريم:55] فهذا مما يجب على الإنسان كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته[6] فلا يصح أن يبقى هؤلاء في فُرشهم، فيُتركون عطفًا، أو شفقة، أو يُتركون سآمة، أو انشغالاً عنهم، أو قلة مُبالاة، فإن الإنسان سيُحاسب.

وأيضًا تأملوا قوله -تبارك وتعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] أخذ منه جمع من أهل العلم وجوب صلاة الجماعة وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[7] وذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي[8] وآخرون.

لكن هذا يمكن أن يُذكر على أنه من باب الاستئناس، ولكن عند التحقيق فإنه قد لا يكون دليلاً صريحًا في وجوب صلاة الجماعة، صلاة الجماعة دلت عليها أدلة صريحة واضحة، والنبي ﷺ هم أن يُحرق على أقوام بيوتهم، حيث تخلفوا عنه ﷺ فهذا يدل على الوجوب لا يمكن أن يُحرق على هؤلاء البيوت إلا أنهم تركوا واجبًا[9].

وكذلك في صحيح مسلم من أثر ابن مسعود لما ذكر هذه الصلوات الخمس، وأنها من سنن الهدى، ثم ذكر بعد ذلك في الإجابة إليها، ونحو ذلك، قال: "حيث يُنادى بهن"[10] وإنما يُنادى بهن في المساجد، فلا يُصلي الإنسان في بيته لا بمفرده ولا جماعة، وإنما يُصلي حينما يُنادي بهن، وما بُنيت المساجد إلا لهذا، فالأدلة على صلاة الجماعة الصريحة متحققة وموجودة، لكن هل هذه من الأدلة الصريحة الواضحة؟

الجواب: لا، لكن هذا يُذكر في حشد الأدلة؛ لماذا نقول بأن قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] أنه ليس بصريح؟ لأن الله قال لمريم -كما سبق- قال: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة آل عمران:43] فهل هي مأمورة بصلاة الجماعة؟

الجواب: لا، وهنا قال: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] أي في جملة الراكعين، يعني في جملة المصلين، فيكون داخلاً مع هؤلاء، يعني: أنه موصوف بصفتهم، وقد فعل فعلهم، وتحلى بحليتهم، هذا المقصود -والله تعالى أعلم- مع أن أهل العلم كثيرًا ما يذكرون هذا الدليل على وجوب صلاة الجماعة، ولكن هو ليس بصريح، ولا بأس أن يُذكر مع غيره، لكن عند التحقيق ليس من الأدلة الصريحة.

ثم هنا عبّر بالصلاة بماذا؟ بالركوع، وهو جزء منها، وإذا عُبر عن العبادة بجزء منها فإن ذلك يدل على أن هذا الجزء ركن فيها، فهذه قاعدة، فحيث عُبّر عن العبادة بجزئها، فهذا دليل على أنه رُكن منها، كما يُعبر عن الإنسان بالرقبة؛ لماذا؟ لأنه لا يمكن أن تنفصل عنه إلا بمفارقة الروح، فلم يُعبر عن الإنسان باليد أو بالرجل، أو بنحو ذلك، وإنما بالرقبة لأنها لا تنفك ولا تنفصل إلا بالانفصال عن الحياة، وكذلك هذه العبادات وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] المراد: القراءة في صلاة الفجر، تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، يشهدون صلاة الفجر، كما أخبر النبي ﷺ: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح، وصلاة العصر[11].

فهنا عُبر عن هذه الصلاة الفريضة (صلاة الفجر) بقرآن الفجر، فدلّ على أن القراءة رُكن فيها.

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۝ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:40، 41] إلى أن قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [سورة البقرة:43] فرتّبها بهذا الترتيب، حيث بنى بعض الكلام على بعض، وجاء العطف هنا بالواو، مع أن الواو لا تقتضي الترتيب، فاُفتتح بذكر النِعم وأول الإنعام عليهم، تذكيرًا بالمِنة مما يقتضي الانقياد والاستجابة، واخُتتم أيضًا بالأمر بالانقياد للمُنعم وَارْكَعُوا والركوع يدل خضوع وتذلل للمُنعم المُتفضل -جل جلاله وتقدست أسمائه، وذكر بين ذلك جملة من الأمور المُتصلة بالاعتقاد وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41] وقضايا أخرى وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة البقرة:41] إلى غير ذلك مما ذكره من التكاليف البدنية والمالية، مما يدعو إلى الاستجابة والانقياد والخضوع لله -جل جلاله وتقدست أسمائه.

وهذه الأشياء التي أوردها -أيها الأحبة- هي إشارات، ووقفات قليلة، لا تفي بما تضمنته هذه الآيات من الهدايات، ولا تظن بحال من الأحوال أن هذا هو غاية ما يمكن أن يُستخرج، فالقرآن مليء بالهدايات، فنفتح قلوبنا له، ونُقبل عليه، ونتدبر كلام الله  فهذا الذي تسمعونه هو شيء قليل، مما تضمنته هذه الآيات، فهي تفتح آفاقًا، ويكون ذلك سبيلاً إلى مزيد من الإقبال والنظر والتأمل؛ ولذلك أعرض بعد كل مرة على الإخوان، أقول: من عنده إضافات على ما ذُكر؟ فلا تظن أن هذا نهاية المطاف، فيمكن أن يُجلس في الآية الواحدة مدة أضعاف هذا الذي يُذكر، وليس من عندي، ولا من كلامي، ولا من استنباطاتي، ولكن كلام أهل العلم.

القرآن كتاب عجيب، مليء بالكنوز، فأقبلوا عليه، واعرفوا قدره، ولا تقرأ بقلب معُرض مُشتغل، أو تقرأ قراءة من يُريد الأجر فقط بالقراءة والتلاوة، ولا يقف ولا ينتفع؛ وهذا القرآن الذي نسمعه في الصلاة، ولو تأمّل الإنسان الآيات التي تُقرأ لوجد ما لا يُقادر قدره من الهدايات، والمعاني العِظام، وعجبًا -والله- كيف تضل أمة، أو كيف يضل فئام من الأمة، وكتاب الله موجود، يُتلى كأنه قد أُنزل اللحظة! 

  1.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم: (5407) والمعجم الكبير برقم: (12283) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1127).
  2.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، وفرض الصلوات برقم: (166).
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر برقم: (2325) وصححه الألباني.
  4.  أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة برقم: (4985) وصححه الألباني. 
  5.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة برقم: (413) وصححه الألباني.
  6.  أخرجه البخاري في كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق، وقوله: عبدي أو أمتي برقم: (2554) ومسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر برقم: (1829).
  7.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 271).
  8.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:51).
  9.  أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة برقم: (644) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاة الجماعة برقم: (651).
  10.  أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب صلاة الجماعة من سنن الهدى برقم: (654). 
  11.  أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر برقم: (555) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر برقم: (632).