يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فنهاهم عن الشيئين معًا، وأمرهم بإظهار الحق، والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس - ا -: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب.
وقال قتادة: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ لا تلبسوا اليهودية، والنصرانية؛ بالإسلام، وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية، والنصرانية؛ بدعة ليست من الله، وروي عن الحسن البصري نحو ذلك.قوله: أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية، والنصرانية بدعة ليست من الله: معنى ذلك في قوله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة آل عمران:67] مشركاً، فإبراهيم ﷺ، وموسى، وعيسى وغيرهم من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا يهوداً، ولا نصارى - حاشاهم من ذلك -، وإنما كانوا حنفاء على الإسلام.
بعض أهل العلم يستشكلون القول بأن هؤلاء يخلطون الحق بالباطل، ويقولون: إذا خلط الحق بالباطل صار كله باطلاً فكيف قال: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ؟ كما أن هناك استشكال مشابه في آية أخرى عن كان لا علاقة لها بالموضوع هنا، وهي قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106]؟
والحقيقة أنه لا إشكال في هذه المعاني إطلاقاً، إذ يمكن أن يجتمع هذا وهذا فيكون الإنسان قد جمع بين الإيمان والكفر، والنفاق والإيمان، والجاهلية والإسلام، ويكون قد جمع بين الحق والباطل؛ فبعض طوائف اليهود، أو طوائف النصارى؛ مثلاً منهم من كان يعترف بنبوة محمد ﷺ، بعضهم كانوا يقرون بهذا، ولكنهم يقولون: إنه مبعوث إلى العرب خاصة، ولسنا مخاطبين بذلك، فهذا من لبس الحق بالباطل.
وكذلك حينما يعترفون أنه سيأتي نبي، ويذكرون أوصافه؛ فهذا من الحق، ولكن حينما يقولون: إنه ليس بمحمد ﷺ فهذا من لبس الحق بالباطل، وكذلك حينما كان الواحد منهم يقول لصهره، أو لرضيعه، أو لقريبه من الأوس أو الخزرج هذا هو النبي الذي بشرنا به، فاثبت على هذا الدين - يعني الإسلام - وهذا حق، ومع ذلك هو كافر بمحمد ﷺ، وبما جاء به، ولهذا قال بعده: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:44] فهذا من المعاني الداخلة تحته، يقول: هذا حق اثبت عليه، وهو أبعد الناس عنه، فيمكن أن يجتمع هذا وهذا، ويخلط الحق بالباطل، وهذا كثير، وقد شابهتهم هذه الأمة في ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام-: لتتبعن سنن من كان قبلكم[1].
إذن: يوجد من يخلط الحق بالباطل، ويلبس على الناس الحق فيجمع بين هذا وهذا، وتجد في الكلام الواحد من اجتماع الحق والباطل الشيء الكثير، حتى إن السامع لربما يتحير لهذا القائل ماذا يريد أن يقول، فهو يجمع بين أمور صحيحة وأمور باطلة، ولربما كان ذكر الأمور الصحيحة في مقدمة ذلك، ومطلعه من أجل الترويض والتهيئة لما سيذكره بعد ذلك من الباطل.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:42] أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في ما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
هذا من أجلى صور كتمان نبوة محمد ﷺ، ولكن يدخل فيه أيضاً من الكتمان أشياء أخرى كانوا يكتمونها، كما قال الله : وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، ومن ذلك لما سألهم النبي ﷺ عن حد الزنا فأخفوه، وذكروا له التحميم، فلما دعا بالتوراة وضع الحبر أصبعه على آية الرجم، وأنكروا أن يكون ذلك في التوراة، وكل هذا من كتمان الحق، فلما قال عبد الله بن سلام ما قال، وأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - الحبر أن يرفع أصبعه ماذا قال الحبر؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فألقمه الله حجراً حيث قال: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91].
قلت: ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيان: الإيضاح، وعكسه الكتمان، وخلط الحق بالباطل.
هذا المعنى الذي ذكره تحتمله الآية، لكن المعنى المتبادر هو أي تقومون بذلك عن علم، ولا يقع ذلك بسبب جهل وخفاء في الحق، وإنما تفعلون ذلك قصداً وعمداً فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:79]، قال: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِم ليقرر وليثبت هذه الجريمة عليهم، وهذا من أجلى صور التأكيد.
وفي قوله: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [سورة البقرة:42] ذكر قضية وهي أنه نهاهم عن أمرين يمكن أن يكون النهي عنهما معاً على قول بعض المفسرين، بمعنى أن الكلام مركب بهذه الطريقة، ولا وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [سورة البقرة:42] يعني نهاهم عن اجتماع الأمرين.
ولا شك أن كل من لبس الحق بالباطل أنه لا بد أن يكون قد كتم الحق، لا بد من هذا؛ إذ بينهما ملازمة، فالحاصل أن بعض أهل العلم يقولون: نهاهم عن الأمرين معاً، أي: عن كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ.
وللتوضيح نذكر هذا المثال: لو قلتَ لشخص: لا تقرأ وتقف، فهل أنت نهيته عن كل واحد من هذين الأمرين على سبيل الاستقلال، بمعنى أنه منهي عن القراءة ومنهي عن الوقوف، أم إنه منهي عن القراءة في حال الوقوف؟
لا شك أنه منهي من القراءة في حال الوقوف، فهذا بين من السياق، وفي الآية، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ [سورة البقرة:42] هل يوجد أحد يلبس الحق بالباطل، ويكون مع ذلك غير كاتم للحق؟
لا يوجد، ولذلك فالحاصل أن بعض أهل العلم يقول: النهي هنا متوجه لمجموع الأمرين.
لكن إذا قلنا بأن كل واحد أيضاً منهي عنه على سبيل الاستقلال لا تلبسوا الحق بالباطل، ولا تكتموا الحق، ما الإشكال في هذا؟
لا إشكال؛ وبالتالي فعلى الأول يكون: وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ في حال كونكم كاتمين للحق، فهو نهاهم عن شيئين لا شك، لكن لا ندقق في هذا كثيراً؛ لأننا في والواقع إذا قلنا: نهاهم عن لبس الحق بالباطل فقد نهاهم - ولا بد - عن كتمان الحق؛ لأنهم لا يمكن أن يفعلوا هذا إلا بالكتمان، لذا فهو نهاهم عن الكتمان.
- أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم (6889) (ج 6 / ص 2669)، ومسلم في كتاب: العلم - باب: باب اتباع سنن اليهود والنصارى (2669) (ج 4 / ص 2054).