الأربعاء 15 / شوّال / 1445 - 24 / أبريل 2024
وَءَامِنُوا۟ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوٓا۟ أَوَّلَ كَافِرٍۭ بِهِۦ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا۟ بِـَٔايَٰتِى ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّٰىَ فَٱتَّقُونِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول ﷺ، والاتعاظ بالقرآن، وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم؛ ولهذا قال: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ [سورة البقرة:41] يعني به القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ النبي الأمي العربي بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
قال أبو العالية - رحمه الله - في قوله تعالى: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم يقول: لأنهم يجدون محمدًا ﷺ مكتوبًا عندهم في التوراة، والإنجيل، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.
الكتب التي يذكر فيها مناظرة النصارى، والرد على النصارى؛ تجد فيها نماذج كثيرة من هذه النصوص المنقولة عن كتبهم.
نظر مثلاً في كتاب "إظهار الحق" للكرواني الهندي - رحمه الله - في مجلدين مطبوع، وهو من أفضل ما كُتب في مجادلة النصارى، والرد عليهم؛ تجد فيه نصوصاً كثيرة نقلها من كتبهم، وقد اعتنى بهذا طائفة من المعاصرين الذين تصدوا للرد على النصارى، ومجادلتهم، ومناظرتهم، وجمعوا أشياء من هذا.
وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41]، قال ابن عباس - ا -: "ولا تكونوا أول كافر به، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم".
قال أبو العالية: يقول: "وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ من كفر بمحمد ﷺ يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه" وكذا قال الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.
قوله: من جنسكم أهل الكتاب: هو جواب على إشكال مقدر وهو: كيف وصفهم بهذا الوصف وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مع أنهم سُبقوا إلى ذلك الكفر؛ إذ إن هذا القرآن أول ما طرق إنما طرق أسماع المشركين في مكة، فكفر من كفر من أهل مكة، فكيف خاطبهم بذلك في هذه السورة المدنية؟
فالجواب: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ يعني من أهل الكتاب، فيكونون بذلك قد سنوا سنة سيئة لمن جاء بعدهم ممن هو على دينهم من أهل الكتاب.
ولا شك أن هؤلاء اليهود الذين عاصروا النبي ﷺ، أو من جاوره في المدينة هم أول من طرق سمعه هذا القرآن من أهل الكتاب، فلما ردوه، وكذبوا به، ووصفوا النبي ﷺ بما وصفوه به؛ كان ذلك إغلاقاً لباب القبول، فتتابع أهل الكتاب على ذلك، وصار عامة اليهود لا يدخلون في الإسلام إلا الواحد بعد الواحد عبر قرون متطاولة.
واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: بِهِ عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ.
أي أن القول الأول في قوله: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ يعني بمحمد ﷺ، والقول الثاني بالقرآن.
نص الآية: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41]، فالنبي ﷺ لم يذكر في الآية، فمن قال: إن المراد بقوله: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ إنه القرآن، قال: لأنه هو المحدث عنه في الآية، وهذا هو المتبادر، والذين قالوا: إن المقصود به النبي ﷺ قالوا: هو الذي جاء بالقرآن فكفروا به، وقالوا بأنه كذاب مفترٍ على الله ، وأي القولين أرجح؟
القول الأول أرجح، وعلى القول الثاني بان المراد به النبي ﷺ يكون هذا من قبيل المثال على ما سبق ذكره، وهو عود الضمير على غير مذكور، والله أعلم.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: يمكن أن يجتمع المعنيان لما بينهما من الملازمة، وسبق الكلام على ذكر قاعدة أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر، وأمكن حملها على الجميع من غير معارض؛ فإنها تحمل عليها؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعنى الكبير.
ومن صور هذه القاعدة - وهو من أجلى صورها التي يحمل فيها هذا على هذا - أن يكون بين المعنيين ملازمة، ولا شك هنا أنه بين المعنيين ملازمة، فالذي كفر بالقرآن لا شك أنه كفر بمن جاء بالقرآن وهو محمداً ﷺ، إذا قال: هذا القرآن كذب؛ فالذي جاء به كذلك متصف بالكذب، ولكن حينما تفسر الآية يذكر هذا على سبيل بيان المعنى باللازم بمعنى أننا لا نفسر به لأول وهلة، ونقف عليه، لا نقول: معنى الآية وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي: بمحمد ﷺ فهذا من قبيل التفسير باللازم، وإنما يذكر هذا للحاجة، وإلا فالأصل أن يذكر المعنى الأصلي المتبادر - بالمطابق مثلاً - فنقول: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي بالقرآن، ونقول: ولازمه، ولا تكونوا أول كافر بمن جاء بالقرآن؛ لأن من كفر بالقرآن يلزم منه أن يكون كافراً بمن جاء بالقرآن.
والنص القرآني يفسر بجميع أنواع الدلالة، يفسر بالمطابق، وباللازم، وبالتضمن، وبالإشارة، وبالإيماء، والتنبيه، فهو كلام حق صدر من عليم حكيم لا يخفى عليه شيء ، فيقلَّب الكلام بألوان هذه الدلالات، ويستنبط منه المعاني بها جميعاً، فإذا جئنا نوجه الآن قول من قال بأن المقصود بالآية محمد ﷺ نقول: هذا مثال على التفسير باللازم، وللعلم فإننا بهذه الطريقة نستطيع أن نوجه عبارات السلف ، وهذا أفضل من أن نقول: وفي الآية قولان، القول الأول كذا، والقول الثاني كذا، ثم نمضي، فهذا ليس بتفسير، إنما التفسير أن نناقش هذه الأقوال، فنقول: هذا القول محمول على كذا، وهذا القول محمول على كذا، وهكذا نوجه هذه الأقوال أو نختار منها ما هو أرجح، فلا نقول مثلاً: من قال بأنه محمد ﷺ فقوله هذا باطل، بل نقول: هذا تفسير باللازم.
واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: بِهِ عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ، وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان؛ لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد ﷺ، ومن كفر بمحمد ﷺ فقد كفر بالقرآن.
من الأمثلة في التفسير باللازم قوله تعالى: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، قيل: إن الغاسق الليل، وقيل: القمر، والقمر والليل بينهما ملازمة؛ لأن القمر هو آية الليل التي في قوله تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [سورة الإسراء:12]، فإذا ذكر القمر ذكر الليل، وإذا ذكر الليل ذكر القمر.
وأما قوله: أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.
وقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:41] يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي، وتصديق رسولي؛ بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية.
في أول السورة قال الله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، وقلنا: إنهم ما كانوا يملكون الهدى حتى يشتروا الضلالة، لكن لا يخفى عند من سلمت فطرته وسليقته العربية أن يفهم أن المراد بذلك أنهم استعاضوا بالضلالة عن الهدى.
وقوله: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:41] هذا تعبير دقيق، ومعناه لا تعتاضوا أو لا تستبدلوا، والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، واشتريت الكتاب بثوب؛ كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك.
 قال بعض الرجاز:
بُدِّلتُ بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا  
أي: استعاض عن الإسلام النصرانية ولم يكن نصرانياً قبل ذلك.
وهنا وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً أي: لا تعتاضوا عنها، بمعنى أنكم ترتضون الكفر، والبقاء على الضلال والانحراف بسبب إحراز الدنيا، وذلك عن طريق ما كانوا يأخذونه من الرشى، فيبدلون بذلك أحكام الله حيث كانوا يجعلونه في قراطيس يبدونها، ويخفون كثيراً منها، كما قال الله : إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:34]، فيأكلون أموال الناس بالباطل بصور شتى، ومنها: الرشى التي يأخذونها، إضافة إلى الأموال الأخرى كالسخرة وغير ذلك مما كانوا يتعاطونه، ويفعلونه بهيمنة رجال الدين والكنيسة، والرهبان وما إلى ذلك، وتارة ما يأخذونه على أنه يصرف في أعمال البر، وهم يأخذونه لأنفسهم في الحقيقة إلى غير ذلك من أكلهم أموال الناس بالباطل.
فقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً الرشى داخلة فيه، كما أن الثمن القليل لا يشترط أن يكون مالاً؛ وإنما قد يكون المحافظة على المنزلة، والأتباع، والمكانة وما أشبه ذلك، واقرؤوا ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المعلمي - رحمه الله - في أواخر كتاب "التنكيل" الذي فصل وسُمِّي "القائد إلى تصحيح العقائد"، فيه كلام في غاية الجودة عن موانع الهدى، يبين فيه ما الذي يجعل الإنسان يصر على الضلال والانحراف، ويبقى شيخ طريقة، أو رأساً في البدعة، وذكر أموراً كثيرة جداً، ومما ذكر أن منهم من يكون له في الباطل شهرة، ومعيشة، فإذا اهتدى ربما فقد شهرته، ومعيشته؛ مما قد يؤدي إلى الرجوع إلى حاله الأول إلا أن يكتب الله له الرجوع الصادق إلى الحق.
ومن أمثلة هؤلاء: كبار الصوفية، وشيوخ الرافضة، وأشباههم ممن يأخذون أموال الناس ولهم في ذلك أتباع، ولهم منزلة عند الناس، فمثل هؤلاء إذا أرادوا الرجوع عن الضلال والانحراف يعلمون أنهم سيفقدون هذه الأمور جميعاً من شهرة، ومعيشة، فربما بقوا على ما كانوا فيه من الضلال إبقاء على تلك المنازل، والأموال ثمناً قليلاً على حساب دينهم.
ومن أمثلة ذلك أن تجد إنساناً موظفاً في وظيفة محرمة، فيصر على الباطل، ويبقى على انحرافه، وذلك إبقاء على هذا الثمن القليل؛ لأنه يعلم أنه إن رجع إلى الحق فسيفقد تلك الوظيفة، وما تدر عليه من أموال ونحو ذلك.
وقوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] روى ابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب  قال: "التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.بمعنى أن التقوى ليس معناها أن يترك المرء الحرام لعدم رغبته فيه بطبيعته مثلاً، وليست نفسه مما يطلب ذلك ويشتهيه، أو يترك ذلك خوفاً من الناس، أو حياءً منهم، وإنما على نور من الله، ترجو ثواب الله، أو تخاف عقاب الله.
ومعنى قوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق، وإظهار خلافه، ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

مرات الإستماع: 0

"بِما أَنْزَلْتُ يعني: القرآن."

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ القرينة هنا، لو قال: آمنوا بما أنزلت. فقط يشمل الكتب المنزلة، لكن قوله: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ هذا قرينة تدل على أن المراد القرآن.

"مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي: مصدقا للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة، وغيرها، وتصديق محمد ﷺ للأنبياء، والمتقدمين له ثلاث معان:"

هذا مفيد في مثل هذه المواضع مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ما المراد به؟ فهذا يشمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها، وكلها صحيح، وداخلة تحت معنى الآية - والله أعلم -.

أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به.

مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يعني: هو يصدق ما معكم أن هذه الكتب، وهؤلاء الأنبياء الكرام - عليهم الصلاة، والسلام - أخبروا بصفته فجاء مطابقًا للوصف الذي قالوه، فذلك تصديق لهم، هذا وجه.

"والآخر: أنه ﷺ أخبر أنهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم."

مصدق، يعني: هو بلسان المقال، مصدقهم يقول هم أنبياء يشهد لهم بالصدق، فهذا غير الأول، الأول أنهم أَخبروا، فجاء كما أَخبروا، فكان ذلك المجيء تصديقًا، لكن هنا مصدق بالقول، يقول: يشهد لهم بأنهم أنبياء.

"والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد، وذكر الدار الآخرة، وغير ذلك من عقائد الشرائع، فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك." 

هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - كما قال النبي ﷺ: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد[1] فأصول الدين في العقائد، والأحكام، الأصول الكبار، أصول الشريعة، وأصول الأخلاق واحدة، ولكن التفاصيل تختلف، فحينما تتفق هذه الأصول فهذا تصديق، يشهد بعضهم لبعض أن هذا شرعه - الله تبارك، وتعالى - وأنه حق، فالله إله واحد لا شريك، وهو متصف بصفات الكمال بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، واحد في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، هذا في كل الكتب، وعلى لسان جميع الرسل - عليهم الصلاة، والسلام -وكلهم يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65، 73] [هود: 50، 84] [المؤمنون: 23، 32] يصدق بعضهم بعضًا في ذلك، وكذلك تجد مثل إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ونحو ذلك من الأصول العظام، يتفقون عليها، وإن اختلف ذلك في الصفة، والتفصيل.

وفي نسخة خطية: فهو مصدق لهم لاتفاقه في الإيمان بذلك. لكن لاتفاقهم أوضح، وعلى كل حال هذا الذي يقول: في جميع النسخ الخطية. غاية ما هناك أنه رجع إلى أربع نسخ خطية، والكتاب له نسخ كثيرة جدًا، فإذا قيل: في جميع النسخ. معناها النسخ الأربع فقط التي رجع إليها من قابل الكتاب على تلك النسخ، وليس جميع النسخ الموجودة، فهذه العبارة: لاتفاقه في الإيمان بذلك. ليست واضحة، لكن لاتفاقهم في الإيمان بذلك، هذه أوضح.

"وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الضمير عائد على القرآن، وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر به في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل، بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته."

الضمير يقول: عائد على القرآن.، وهذا قال به ابن جريج[2] ولكن هذا ليس محل اتفاق، وقد قال بعض السلف: كأبي العالية: بأن ذلك يرجع إلى النبي ﷺ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي: النبي ﷺ وهذا قال به أيضًا جماعة: كالحسن، والسدي، والربيع بن أنس[3].

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ بما أنزلت: يعني القرآن، هذا هو المتبادر وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فالضمير يرجع إليه، هذا هو ظاهر السياق، ولكن هنا ملازمة بين القرآن، ومن أُنزل عليه، فمن كفر بالقرآن فقد كفر بالنبي ﷺ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ .

يقول: وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر به في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل. يعني إن مفهوم المخالفة، وهو ما يُفهم من جهة السكوت، المسكوت عنه، فالمنطوق هو الذي يُفهم من جهة النطق، والمفهوم من جهة السكوت، فهنا مفهوم المخالفة، المخالفة في الأصل حجة، فهل يقال هنا: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أن النهي هنا جاء مقيدًا بالأولية: أول كافر، فيصح أن يكونوا كفارًا لكن بعد الناس، المهم أنه لا يكون أول كافر، هذا غير صحيح، ومفهوم المخالفة نُهي عن أن يكون أول كافر به، فإذا قال: أنا لا أريد أن أكون كذلك، لكن في غمار الناس، وآخر من يكفر - نسأل الله العافية - فهذا لا يجوز، وليس هو المراد، ولكن مفهوم المخالفة حجة إلا في مواضح لا يكون فيها حجة التي ذكرها صاحب المراقي بقوله:

كذا دليل للخطاب انضافا ودعْ إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلبْ للسؤل أو جرى على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهلِ والتأكيد عند السامع

وهذا لا يرد على الشارع عمومًا لكنه يتكلم عن المفهوم في العموم حتى في كلام الناس، أو جهل النطق يعني جهل المنطوق، أو الحكم انجلب للسؤل: يعني أجاب على قدر السؤال، أو جرى على الذي غلب: يعني على الغالب، أو امتنان: يعني في سياق الامتنان لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل: 14] لا يدل على أن القديد حرام، المجفف من السمك، أو وفاق الواقع: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 28] لو قال: أوالي الكافرين مع المؤمنين. قال: لا، هذه جاءت هكذا وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور: 33]، وإن لم ترد التحصن؟ كذلك لا يجوز، لكن هذا جاء في سياق معين، أن عبد الله بن أُبيّ كان يكره جاريتين على الزنا عنده ليكتسب من ورائهما، فنزلت الآية، وإلا لا يجوز تمكينها من ذلك مطلقًا، ولو كانت تطلبه، أو وفاق الواقع فجاءت الآية موافقة لواقع معين ... إلخ ما ذكر، فالشاهد نحو سبعة مواضع لا يُعتبر فيها مفهوم المخالفة، والجهل، والتأكيد عند السامع: هذا مجموع ما ذكره.

فهنا وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فهذا لا يُعتبر، ويمكن أن يكون هذا داخلًا في قوله: والتأكيد عند السامع. فهو نهي لهم عن الكفر مطلقًا، لكن كون هؤلاء يكونون أول من يكفر به، وهم أعلم الناس بصدقه هذا في غاية القُبح.

"وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء هنا استعارة في الاستبدال: كقوله: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [البقرة: 16] والآيات هنا هي الإيمان بمحمد ﷺ والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رياستهم، وأخذ الرُشا على تغيير أمر محمد ﷺ وغير ذلك، وقيل: كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن."

وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا هو ما يؤخذونه من الرُشا فيبدلون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وفي شأن النبي ﷺ وفي غيره، وما يستعيضون به من الدنيا عن قول الحق، وبيانه، والعمل به، واتباعه.

وهل هذه الآية: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا تدخل في تعليم القرآن بالأجرة؟.

الجواب: فهموا هذا من عموم اللفظ، وإن كانت هذه الآية في بني إسرائيل، والكلام في أخذ الأجرة على تعليم القرآن فيها خلاف معروف بين أهل العلم، ولكن حتى الحنفية انتهى أمرهم إلى الترخيص بأخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لما رأوا من أثر القول بالمنع من تعطيل التعليم، والتعلم لكتاب الله يعني رأوا أن هذا يؤدي إلى الترك فقالوا: يُرخص. هكذا انتهى القول بذلك عند متأخريهم.

"الْحَقَّ بِالْباطِلِ الحق هنا يراد به نبوّة محمد ﷺ والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها." 

لبس الحق بالباطل يدخل فيه ما كان في صفة النبي ﷺ من التبديل، والتغيير، يعني يجدونه عندهم مثلًا ربعة من الرجال يعني متوسط بين الطول، والقصر، ليس بالطويل البائن الطول، ولا بالقصير البين القصر، فيقولون: هو طويل. يجدونه مثلًا أبيض مشرب بحمرة، فيقولون: آدم. يعني فيه سُمرة، أسمر، وهكذا يبدلون في صفاته ﷺ وكذلك يدخل فيه أيضًا لبس الحق بالباطل بما يحرفون من كتبهم، ويبدلون تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91] فهذا من لبس الحق بالباطل، فكل تحريف يقع عندهم، وتبديل فهو داخل في هذا.  

"وَتَكْتُمُوا معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار (أن) في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأول أرجح؛ لأن العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده."

يعني، وأن تكتموا، ولا تلبسوا الحق بالباطل، وأن تكتموا الحق يعني في الوقت الذي تكتموا فيه الحق، والواقع أن كل من لبس الحق بالباطل فلا بد أن يكون قد كتم الحق، فبينهما ملازمة، لكنه يريد أن يقول هنا بأن كون الواو هنا عاطفة، وأنه معطوف على ما قبله وَلَا تَلْبِسُوا وتكتموا يعني، ولا تكتموا، يقول: وتكتموا معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار (أن) في جواب النهي بمعنى الجمع، والأول أرجح؛ لأن العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين بخلاف النصب... إلخ.

"وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق."

كما في قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: 71].

"وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ يراد بها صلاة المسلمين، وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر بالدخول في الإسلام."

لاحظ هذه الآية: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ هذا هو الأمر لهم بالدخول في الإسلام وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا إلى أن قال: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فالأمر لهم بالدخول في الإسلام هو في قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أما هذا فهو أمر بالصلاة، والزكاة.

"وَارْكَعُوا  خصص الركوع بعد ذكر الصلاة؛ لأن صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد."

 مَعَ الرَّاكِعِينَ  مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة."

هذا يذكره كثير من أهل العلم كما في قوله: وَارْكَعُوا لكن مثل هذا ليس بالضرورة أنه يدل على وجوب صلاة الجماعة، يعني صلاة الجماعة تؤخذ من أدلة أخرى، هم النبي ﷺ أن يحرق على من يتخلفون عنها بيوتهم، ونحو ذلك، ولكن قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ  لا يدل على لزوم الجماعة من حيث هو، ويدل على ذلك أن الله قال لمريم - رحمها الله -: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] فهل هذا أمر لها بصلاة الجماعة؟ الجواب: لا، والمرأة ليست بمطالبة بهذا أصلًا، وإنما المقصود الدخول في جملتهم، فيكون في جملة المصلين، ولكن العلماء - رحمهم الله - يريدون من الأدلة ما يكون صريحًا، ويريدون أيضًا أدلة تكون محتملة يعني دونه في القوة. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى ، رقم: (2365).
  2. تفسير الطبري (1/563).
  3. تفسير ابن كثير (1/243).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يقول في جُملة ما خاطب به بني إسرائيل: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] يُخاطبهم بهذا الأسلوب: يا بني إسرائيل آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم، يعني: القرآن الذي أنزله على محمد ﷺ موافقًا لما يعلمونه من صحيح التوراة، ولا تكونوا أول فريقًا من أهل الكتاب يكفر به، ولا تشتروا ولا تستبدلوا وتستعيضوا بآياتي ثمنًا قليلاً، من حطام الدنيا الزائل، وإياي وحدي فأطيعون، واعملوا بطاعتي، واجتنبوا معصيتي.

وتأمَّل قوله -تبارك وتعالى- في هذا الخطاب لبني إسرائيل: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41] خاطبهم بهذا الخطاب الذي يدعوهم فيه بالإيمان بما أنزل على محمد ﷺ وذكر معه ما يدعوهم إلى الإذعان والاستجابة والانقياد مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ هذا الذي ندعوكم إلى الإيمان به هو مُصدق لما معكم من الكتاب وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وقد سبقهم الكفار من أهل مكة بالكفر به، حينما كان النبي ﷺ بين أظهرهم، ثم هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، فنزلت هذه السور التي خاطب الله فيها أهل الكتاب، وكان من أولها سورة البقرة، وكان من جُملة هذه السور، سورة آل عمران التي جاء الخطاب فيها كثيرًا للنصارى، وسورة البقرة يُقال: إنها أول سورة نزلت في المدينة، وجاء الخطاب فيها طويلاً مفصلاً لليهود، فهؤلاء قال عنهم: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41] يعني: أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب نحو هذا الكتاب، فهم العارفون بالكتب المُنزلة، وبالرُسل، وبأوصاف النبي ﷺ الذي يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل، وهذا التصديق الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا، مُصدقًا لما معكم، تصديق القرآن للتوراة، ولغيرها من الكتب، وتصديق النبي ﷺ للأنبياء، كل ذلك يكون لمعانٍ ثلاثة ذكرها أهل العلم:

الأول: أنهم أُخبروا به، ثم ظهر كما جاء الخبر عندهم، فهذا مُصدق لما معهم من الإخبار بمحمد ﷺ فقد جاءت صفته الكاشفة التي لا تدع في الحق لبسًا؛ ولهذا قال الحق -تبارك وتعالى- عن هؤلاء وشدة معرفتهم بالنبي ﷺ لما وصف به من الصفة الدقيقة التي لا يلتبس فيها بحال من الأحوال مع غيره، قال الله تعالى : يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] وقد ذكرنا في بعض المناسبات أنه لم يقل: يعرفونه كما يعرفون أنفسهم باعتبار أن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد الولادة بمدة، ولكنه يعرف ولده بمجرد خروجه من بطن أمه، بأشباهه، وأوصافه، ومن حماليق عينيه، معرفة لا تشتبه ولا تلتبس، فهذا مُصدق لما معهم بهذا الاعتبار.

والثاني: أنه ﷺ أخبر عن موسى وأنبياء بني إسرائيل أنهم أنبياء أُرسلوا من عند الله -تبارك وتعالى- وأن الله أنزل عليهم هذه الكتب، فهو مُصدق لما معهم، يقول: هؤلاء الذين جاءوا إليكم هم أنبياء من عند الله حقًا، وما كانوا متقولين على الله، وهذه الكتب التي نزلت من التوراة والزبور والإنجيل الله هو الذي أنزلها، فالنبي ﷺ بهذا الاعتبار والقرآن كذلك هو مُصدق لما معهم.

والثالث: أن النبي ﷺ جاء فيما أخبر به عن ربه من صفة الله أوصاف المعبود، وكذلك أصول الشرائع وغيرها مما أخبر الله -تبارك وتعالى- به من خبر الأنبياء مع أُممهم، مما يجدونه عندهم مقصوصًا في كتابهم، فجاء هذا مُصدقًا لما معهم، وجاء دينه في أصوله وكُلياته ومبانيه العِظام موافقًا لما عندهم؛ لأن أصول الدين، وأصول الشرائع متفقة بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا ذكر النبي ﷺ أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إخوة لعلات، وبين ذلك بأن دينهم واحد، وشرائعهم شتى، فأصل الدين واحد، فالذي جاء به هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من أصول الدين الكِبار جاء به النبي ﷺ ودعا إليه، فكان ذلك تصديقًا لما معهم، فهذه ثلاثة معاني كلها صحيحة في قوله: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ.

وفي قوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة البقرة:41] وعرفنا في بعض المناسبات السابقة في هذه المجالس، وفي دروس التسهيل: بأن الاشتراء يُقال للمعاوضة، فيُقال للبيع تارة، ويُقال للشراء تارة، فهو يدل على معانٍ من الأضداد وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً [سورة البقرة:41] أي: لا تستعيضوا عنها بثمن قليل، وما هو هذا الثمن القليل؟ هو كل ما يُعطى من الدنيا في هذا السبيل فهو قليل، فلو أخذ هؤلاء في سبيل تبديل الحق، أو في سبيل كتمانه، أو سبيل تحريفه: الدنيا وما فيها من الأموال والكنوز، فإن ذلك يُعد قليلاً، وهذا يدل على أن ما في الحياة الدنيا من هذا الحطام أنه قليل، ولو كثُر في نظر من قصُر نظره. 

فالدنيا ليس فيها شيء يمكن أن يُقال عنه بأنه جدير بالعناية، وأنه شيء عظيم سوى طاعة الله -تبارك وتعالى- وعبادته، وأما هذا الحُطام فهو شيء يسير، فموضع السوط في الجنة خير من الدنيا، وما عليها[1] وما الدنيا!! في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المُضمر السريع تحت ظلها مائة عام لا يقطعها[2] فهذه الأرض برُمتها لا يوجد فيها مثل هذه المساحة، شجرة واحدة، وكم في الجنة من الأشجار؟! وقد صح في الحديث: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب[3] فهذا الحطام كله قليل، فينبغي أن يُزهد فيه، وأن يُلتفت إلى الآخرة، وأن يُتمسك بأهداب الحق، فذلك خير وأبقى، وقد قال الله : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [سورة الكهف:46]. 

وما هي الباقيات الصالحات؟ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويدخل في ذلك أيضًا سائر الأعمال الصالحة التي يُتقرب بها إلى الله -تبارك وتعالى؛ لأنها ذخائر تبقى، أما هذا الحطام فهو إن أكلته فني، وصار إلى ما قد علمتم، وإن تركته بقي لوارث، فإن تقربت به بصدقة ومعرف وصلة، فذلك الذي يبقى للعبد.

ويُؤخذ من هذه الآية وإن كانت خاصة في بني إسرائيل إلا أنها تتناول مَن فعل فعلهم، فكل من اشترى بالحق ثمنًا قليلاً بأخذ الرُشى، أو غير ذلك مما يحصل به إبطال الحق، سواء كان الإنسان حاكمًا قاضيًا، أو كان مُفتيًا، أو غير ذلك، فإنه حينما يأخذ هذا العوض من رشوة وغيرها مما يُبطل به الحق، أو يُبدل به الحق، أو يكتم به الحق، فإن هذا يكون داخلاً في هذه الآية.

وقد ذكر القرطبي -رحمه الله[4] وكذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع[5]: أن من امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجرًا، فقد دخل في مُقتضى هذه الآية، وهذا تكلمنا عليه في شرح مُختصر أخلاق حملة القرآن، وكذلك في مجلس آخر بعنوان: وإنه لكتاب عزيز، وأيضًا في مجلس: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، في الكلام على أن الدعوة مجانًا، لا تُتخذ الدعوة سبيلاً للتكسب والتجارة (البزنس) كما يُقال، وكذلك أيضًا لا يُتخذ القرآن سبيلاً للتكسب والارتزاق، فإن العلم كذلك إذا تعيّن عليه وجب عليه أن يُعلم، أو أن يُفتي، أو نحو ذلك من غير أن يشترط على تعليمه، أو إفتاءه أجرًا.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا وجوب تقوى الله -تبارك وتعالى- فهذا أمر وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] وأن تكون هذه التقوى أيضًا خالصة لله، فإن تقديم المعمولات على عواملها -كما هو معلوم- يُفيد الاختصاص أو الحصر، كما تقول: إياك نعبد وإياك نستعين، لكن حينما تقول: نستعين بك، نعبدك، فقد تعبده وتعبد غيره، وتستعين به وتستعين بغيره، لكن إذا قُدم المعمول دل على الحصر، تقول: إياك أعني، يعني: لا أعني أحدًا سواك.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله برقم: (2892). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم: (6553) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها برقم: (2828). 
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة شجر الجنة برقم: (2525) وصححه الألباني. 
  4.  تفسير القرطبي (1/ 334). 
  5.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 172).