قال أبو العالية - رحمه الله - في قوله تعالى: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم يقول: لأنهم يجدون محمدًا ﷺ مكتوبًا عندهم في التوراة، والإنجيل، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.الكتب التي يذكر فيها مناظرة النصارى، والرد على النصارى؛ تجد فيها نماذج كثيرة من هذه النصوص المنقولة عن كتبهم.
نظر مثلاً في كتاب "إظهار الحق" للكرواني الهندي - رحمه الله - في مجلدين مطبوع، وهو من أفضل ما كُتب في مجادلة النصارى، والرد عليهم؛ تجد فيه نصوصاً كثيرة نقلها من كتبهم، وقد اعتنى بهذا طائفة من المعاصرين الذين تصدوا للرد على النصارى، ومجادلتهم، ومناظرتهم، وجمعوا أشياء من هذا.
وقوله: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41]، قال ابن عباس - ا -: "ولا تكونوا أول كافر به، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم".
قال أبو العالية: يقول: "وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ من كفر بمحمد ﷺ يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه" وكذا قال الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.قوله: من جنسكم أهل الكتاب: هو جواب على إشكال مقدر وهو: كيف وصفهم بهذا الوصف وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مع أنهم سُبقوا إلى ذلك الكفر؛ إذ إن هذا القرآن أول ما طرق إنما طرق أسماع المشركين في مكة، فكفر من كفر من أهل مكة، فكيف خاطبهم بذلك في هذه السورة المدنية؟
فالجواب: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ يعني من أهل الكتاب، فيكونون بذلك قد سنوا سنة سيئة لمن جاء بعدهم ممن هو على دينهم من أهل الكتاب.
ولا شك أن هؤلاء اليهود الذين عاصروا النبي ﷺ، أو من جاوره في المدينة هم أول من طرق سمعه هذا القرآن من أهل الكتاب، فلما ردوه، وكذبوا به، ووصفوا النبي ﷺ بما وصفوه به؛ كان ذلك إغلاقاً لباب القبول، فتتابع أهل الكتاب على ذلك، وصار عامة اليهود لا يدخلون في الإسلام إلا الواحد بعد الواحد عبر قرون متطاولة.
واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: بِهِ عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ.
أي أن القول الأول في قوله: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ يعني بمحمد ﷺ، والقول الثاني بالقرآن.
نص الآية: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [سورة البقرة:41]، فالنبي ﷺ لم يذكر في الآية، فمن قال: إن المراد بقوله: وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ إنه القرآن، قال: لأنه هو المحدث عنه في الآية، وهذا هو المتبادر، والذين قالوا: إن المقصود به النبي ﷺ قالوا: هو الذي جاء بالقرآن فكفروا به، وقالوا بأنه كذاب مفترٍ على الله ، وأي القولين أرجح؟
القول الأول أرجح، وعلى القول الثاني بان المراد به النبي ﷺ يكون هذا من قبيل المثال على ما سبق ذكره، وهو عود الضمير على غير مذكور، والله أعلم.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: يمكن أن يجتمع المعنيان لما بينهما من الملازمة، وسبق الكلام على ذكر قاعدة أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر، وأمكن حملها على الجميع من غير معارض؛ فإنها تحمل عليها؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعنى الكبير.
ومن صور هذه القاعدة - وهو من أجلى صورها التي يحمل فيها هذا على هذا - أن يكون بين المعنيين ملازمة، ولا شك هنا أنه بين المعنيين ملازمة، فالذي كفر بالقرآن لا شك أنه كفر بمن جاء بالقرآن وهو محمداً ﷺ، إذا قال: هذا القرآن كذب؛ فالذي جاء به كذلك متصف بالكذب، ولكن حينما تفسر الآية يذكر هذا على سبيل بيان المعنى باللازم بمعنى أننا لا نفسر به لأول وهلة، ونقف عليه، لا نقول: معنى الآية وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي: بمحمد ﷺ فهذا من قبيل التفسير باللازم، وإنما يذكر هذا للحاجة، وإلا فالأصل أن يذكر المعنى الأصلي المتبادر - بالمطابق مثلاً - فنقول: وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ أي بالقرآن، ونقول: ولازمه، ولا تكونوا أول كافر بمن جاء بالقرآن؛ لأن من كفر بالقرآن يلزم منه أن يكون كافراً بمن جاء بالقرآن.
والنص القرآني يفسر بجميع أنواع الدلالة، يفسر بالمطابق، وباللازم، وبالتضمن، وبالإشارة، وبالإيماء، والتنبيه، فهو كلام حق صدر من عليم حكيم لا يخفى عليه شيء ، فيقلَّب الكلام بألوان هذه الدلالات، ويستنبط منه المعاني بها جميعاً، فإذا جئنا نوجه الآن قول من قال بأن المقصود بالآية محمد ﷺ نقول: هذا مثال على التفسير باللازم، وللعلم فإننا بهذه الطريقة نستطيع أن نوجه عبارات السلف ، وهذا أفضل من أن نقول: وفي الآية قولان، القول الأول كذا، والقول الثاني كذا، ثم نمضي، فهذا ليس بتفسير، إنما التفسير أن نناقش هذه الأقوال، فنقول: هذا القول محمول على كذا، وهذا القول محمول على كذا، وهكذا نوجه هذه الأقوال أو نختار منها ما هو أرجح، فلا نقول مثلاً: من قال بأنه محمد ﷺ فقوله هذا باطل، بل نقول: هذا تفسير باللازم.
واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: بِهِ عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: بِمَا أَنزَلْتُ، وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان؛ لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد ﷺ، ومن كفر بمحمد ﷺ فقد كفر بالقرآن.
من الأمثلة في التفسير باللازم قوله تعالى: وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3]، قيل: إن الغاسق الليل، وقيل: القمر، والقمر والليل بينهما ملازمة؛ لأن القمر هو آية الليل التي في قوله تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [سورة الإسراء:12]، فإذا ذكر القمر ذكر الليل، وإذا ذكر الليل ذكر القمر.
وأما قوله: أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.
وقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:41] يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي، وتصديق رسولي؛ بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية.في أول السورة قال الله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، وقلنا: إنهم ما كانوا يملكون الهدى حتى يشتروا الضلالة، لكن لا يخفى عند من سلمت فطرته وسليقته العربية أن يفهم أن المراد بذلك أنهم استعاضوا بالضلالة عن الهدى.
وقوله: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً [سورة البقرة:41] هذا تعبير دقيق، ومعناه لا تعتاضوا أو لا تستبدلوا، والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، واشتريت الكتاب بثوب؛ كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك.
قال بعض الرجاز:
بُدِّلتُ بالجمة رأساً أزعرا | وبالثنايا الواضحات الدردرا |
كما اشترى المسلم إذ تنصرا |
وهنا وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً أي: لا تعتاضوا عنها، بمعنى أنكم ترتضون الكفر، والبقاء على الضلال والانحراف بسبب إحراز الدنيا، وذلك عن طريق ما كانوا يأخذونه من الرشى، فيبدلون بذلك أحكام الله حيث كانوا يجعلونه في قراطيس يبدونها، ويخفون كثيراً منها، كما قال الله : إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة التوبة:34]، فيأكلون أموال الناس بالباطل بصور شتى، ومنها: الرشى التي يأخذونها، إضافة إلى الأموال الأخرى كالسخرة وغير ذلك مما كانوا يتعاطونه، ويفعلونه بهيمنة رجال الدين والكنيسة، والرهبان وما إلى ذلك، وتارة ما يأخذونه على أنه يصرف في أعمال البر، وهم يأخذونه لأنفسهم في الحقيقة إلى غير ذلك من أكلهم أموال الناس بالباطل.
فقوله تعالى: وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً الرشى داخلة فيه، كما أن الثمن القليل لا يشترط أن يكون مالاً؛ وإنما قد يكون المحافظة على المنزلة، والأتباع، والمكانة وما أشبه ذلك، واقرؤوا ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المعلمي - رحمه الله - في أواخر كتاب "التنكيل" الذي فصل وسُمِّي "القائد إلى تصحيح العقائد"، فيه كلام في غاية الجودة عن موانع الهدى، يبين فيه ما الذي يجعل الإنسان يصر على الضلال والانحراف، ويبقى شيخ طريقة، أو رأساً في البدعة، وذكر أموراً كثيرة جداً، ومما ذكر أن منهم من يكون له في الباطل شهرة، ومعيشة، فإذا اهتدى ربما فقد شهرته، ومعيشته؛ مما قد يؤدي إلى الرجوع إلى حاله الأول إلا أن يكتب الله له الرجوع الصادق إلى الحق.
ومن أمثلة هؤلاء: كبار الصوفية، وشيوخ الرافضة، وأشباههم ممن يأخذون أموال الناس ولهم في ذلك أتباع، ولهم منزلة عند الناس، فمثل هؤلاء إذا أرادوا الرجوع عن الضلال والانحراف يعلمون أنهم سيفقدون هذه الأمور جميعاً من شهرة، ومعيشة، فربما بقوا على ما كانوا فيه من الضلال إبقاء على تلك المنازل، والأموال ثمناً قليلاً على حساب دينهم.
ومن أمثلة ذلك أن تجد إنساناً موظفاً في وظيفة محرمة، فيصر على الباطل، ويبقى على انحرافه، وذلك إبقاء على هذا الثمن القليل؛ لأنه يعلم أنه إن رجع إلى الحق فسيفقد تلك الوظيفة، وما تدر عليه من أموال ونحو ذلك.
وقوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة:41] روى ابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب قال: "التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.بمعنى أن التقوى ليس معناها أن يترك المرء الحرام لعدم رغبته فيه بطبيعته مثلاً، وليست نفسه مما يطلب ذلك ويشتهيه، أو يترك ذلك خوفاً من الناس، أو حياءً منهم، وإنما على نور من الله، ترجو ثواب الله، أو تخاف عقاب الله.
ومعنى قوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق، وإظهار خلافه، ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.