يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ومتابعة محمد - عليه من الله أفضل الصلاة والسلام -، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم افعل كذا، يا ابن الشجاع بارز الأبطال، يا ابن العالم اطلب العلم ونحو ذلك.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [سورة الإسراء:3].
قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هذا مثال على ما سبق ذكره من الكلام حول المفرد المضاف أنه يفيد الجمع، فالنعمة مفرد مضاف إلى الضمير - الياء - اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ والمعنى اذكروا نعمي عليكم، وهذا الخطاب صريح في أنه موجه إلى بني إسرائيل في تذكيرهم بنعم الله .
بعض أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - يقولون: إن كل ما سبق من الحديث عن خلق آدم، وأمر الملائكة بالسجود له، وإسكانه الجنة، وما أشبه ذلك؛ كل ذلك موجه أيضاً لبني إسرائيل يذكرهم بهذه النعم، وأن الله أكرمهم بإكرام أبيهم آدم بأن خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته وما إلى ذلك، فهؤلاء العلماء يرون أن ما سبق هو أيضاً موجه إلى بني إسرائيل، مع أن ظاهر ذلك أنه عام، فالله يحكي خبر آدم ﷺ، ومن ضمن ذلك تذكير للناس بنعمته عليهم، وتحذيرهم من عدوهم إبليس، ثم تحدث بعد ذلك عن بني إسرائيل.
وعلى قول ابن جرير - رحمه الله - إن ذلك شروع في مخاطبة بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعمه - تبارك وتعالى - عليهم، ثم صرح باسمهم بعد ذلك، وإلا فالكلام معهم بدأ قبل ذلك.
قوله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ: أي: اذكروا نعمي، فتدخل في ذلك جميع النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، ولا يختص ذلك بنعمة دون نعمة، وبالتالي ما يذكره السلف في تعداد بعض النعم كله داخل في معنى الآية، والله تعالى أعلم، فمن ذلك أنه أنجاهم من آل فرعون، وأغرق فرعون وقومه، ومن ذلك أنه أنزل عليهم المنَّ والسلوى، وأنه اصطفاهم على عالمي زمانهم، وجعل فيهم الأنبياء، وجعلهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي يمتن الله بها على بني إسرائيل.
اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ: أي: اذكروا نعمي باللسان، وبالقلب، وبالعمل بالجوارح بالقيام بوظائف العبودية، فهذا كله داخل في معنى قوله: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.
هذا الخطاب عن النعم يتوجه إلى الأحياء من بني إسرائيل مع أن تلك النعم التي كانت لهم من إنقاذهم من فرعون، وإنزال المن والسلوى، وجعل الملك فيهم، وغير ذلك من النعم التي ذكرها الله تعالى؛ إنما كانت لأجدادهم، فكيف صح مخاطبتهم بذلك مع أنهم لم يدركوا تلك النعم، ولم يروها، ولم تحصل لهم وإنما حصلت للأجداد؟
الجواب عن ذلك أن يقال: إن القاعدة أن النعمة التي تكون للآباء تتصل بالأبناء، والذرية، وبالنسبة للرزايا فإن ذلك يكون متصلاً بذريتهم إذا كانوا على طريقتهم، ولهذا يقول لهم الله : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، مع أن الذين كانوا في زمان النبي ﷺ ما قالوا هذا، لكن لما كانوا على طريقتهم صح أن يوجه إليهم هذا الخطاب، وهكذا في أمثلة كثيرة، وهذا هو الفرق بين المخاطبة بالنعمة وذكر الرزايا التي قارفوها.
فإسرائيل هو يعقوب؛ بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عباس - ا - قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله ﷺ فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ قالوا: اللهم نعم، فقال النبي ﷺ: اللهم اشهد.
وروى الطبري عن عبد الله بن عباس - ا - أن إسرائيل كقولك: عبد الله.
يقولون: إن إسرائيل هي كلمة أعجمية مركبة الجزء الأول منها بمعنى عبد، والثاني بمعنى الله، ولهذا يقال: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل وما أشبه هذا، وهذا أشهر ما فسرت به، وإلا فقد فسرت بأشياء كثيرة غير هذا، منها قول بعضهم: إن المراد بإسرائيل هو أن يعقوب ﷺ أسر الشيطان، فإيل هو الشيطان، وهذا قول غير صحيح، نعم.
وقوله تعالى: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:40] قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى، وفيما سِوَى ذلك؛ أن فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجاهم من عبودية آل فرعون.
وقال أبو العالية: "نعمته أن جعل منهم الأنبياء، والرسل، وأنزل عليهم الكتب".
قلت: وهذا كقول موسى لهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] يعني في زمانهم.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه.
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة:40] قال: بعهدي الذي أخذت في أَعناقكم للنبي ﷺ إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه، واتباعه؛ بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم.
وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12].
لعل أحسن ما يفسر به هذا الموضع من كتاب الله أن يفسر بالقرآن، وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فعهد الله مصرح به في هذه الآية: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة المائدة:12]، ثم بعد ذلك العهد إن وفوا به يكون لهم الجزاء الحسن لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12]، فهذا عهد الله لبني إسرائيل، والله أعلم.
وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيماً يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد ﷺ، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه، وأدخله الجنة، وجعل له أجرين.
هذا داخل في قوله تعالى: وَآمَنتُم بِرُسُلِي الذين منهم محمد ﷺ فهذا من العهد الذي أخذ الله عليهم كما قال الله : وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا [سورة آل عمران:81] فهذا من العهد الذي أخذه الله على الأنبياء - عليه الصلاة والسلام -، وأمم وأتباع هؤلاء الأنبياء تبع لهم كما هو مصرح به في هذه الآية: وَآمَنتُم بِرُسُلِي [سورة المائدة:12].
وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بمحمد ﷺ.الرازي في التفسير الكبير ذكر من الكتب السابقة طائفة من هذه البشارات، وذكره غيره أيضاً جماعة من المفسرين، فهم حينما يوردون ما ورد في الكتب السابقة من البشارة بمحمد ﷺ يورودنها في هذا المقام، وبعضهم يوردها في مقام آخر وهو قوله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6]، فتجد مثلاً صديق حسن خان في كتاب فتح البيان أورد نماذج كثيرة من كتب بني إسرائيل التي تصرح بمجيء النبي ﷺ.
وقال أبو العالية: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي [سورة البقرة:40] قال: "عهده إلى عباده: دين الإسلام، وأن يتبعوه".
وهذا مثال على ما سبق أيضاً من الكلام على المفرد المضاف والذي يؤديه من معنى، وهو أن المقصود أوفوا بعهودي.
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة:40] قال: "أرْضَ عنكم، وأدخلكم الجنة"، وكذا قال السدي، والضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس.
وقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [سورة البقرة:40] أي: فاخشونِ؛ قاله أبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة.
وقال ابن عباس - ا - في قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي: أن أُنزِل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.
أي أنه يخوفهم، وكل ذلك من التفسير بما يقرب المعنى، وليس ذلك من قبيل التفسير بالمطابق، وإلا فإن الرهبة تفترق عن الخوف في المعنى الزائد أو قل: في المعنى الخادم، وإن كانت تتفق معه في المعنى الأصلي، فالمعنى الأصلي للرهبة هو الخوف كما فسرت به هنا، ولكنها تفترق معه في المعنى التكميلي، فالرهبة نوع من الخوف هي أخص منه، والخوف على مراتب، كما أن المحبة على مراتب، فالخوف منه ما يكون رعباً، ومنه ما يكون من قبيل الرهبة، ومنه ما يكون من قبيل الخشية، فهو في كل مقام بحسبه، فتارة يكون ذلك مع علم بالمخوف منه، فيكون ذلك من قبيل الخشية، وتارة يملأ القلب فيضطرب له القلب ويرتجف، فيكون ذلك من قبيل الرعب، وتارة يكون مع شيء من التعظيم لهذا المخوف...، إلى غير ذلك مما يصاحب الخوف، فيكون له معنىًِ يخصه.