قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] قال: بما أعطوا من الملك، والرسل، والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالَماً، ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك.فيقول الله في تعداده لنعمه على بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ أي: استحضروها في قلوبكم، والهجوا بها في ألسنتكم، واذكروها بأعمالكم، وجوارحكم؛ شكراً لله ، وعرفنا أن قوله: نِعْمَتِيَ مفرد مضاف يفيد العموم، بمعنى اذكروا نعمي التي أنعمت عليكم.
ومن هذه النعم أنه فضلهم على العالمين: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، والعالمين أحسن ما يفسر به هو قوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:23]، فأجابه موسى قائلاً: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الدخان:7] فهذا هو الذي يفسر به، والمراد به هنا يفهم مع غيره من نصوص الآيات، والأحاديث.
من أهل العلم من قال: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: على الجم الغفير من الناس، فإن الجم الغفير من الناس يقال لهم: عالَم، تقول: رأيت عالماً عند فلان، وتقول: يوجد في مكة عالَم من الناس، أو عوالم من الناس، يعني أناس كثير، وتقول: رأيت في السوق عالماً من الناس، فهذا لا إشكال فيه، وسواءً قيدته بالناس أو لم تقيده، ولكن يمكن أن يقال هنا ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، ونقله أيضاً عن غيره وهو الذي عليه كثيراً من أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - بأن المقصود بقوله: عَلَى الْعَالَمِينَ أي في زمانهم؛ لأنه لم يكن لبني إسرائيل انفراد في ذلك الزمان في الوجود، أي: لم يكن هؤلاء هم الذين يمثلون الناس فقط، كان يوجد القبط، وغير القبط من الأمم من الرومان وغيرهم، ففضل الله بني إسرائيل، وهم أقلية في ذلك الزمان بالنسبة للأمم الأخرى، ويكفيك قولهم عن العماليق حينما قيل لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21]، فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [سورة المائدة:22]، فهم يرون أن هؤلاء أقوى منهم، وأعظم خلقة، وبأساً، فالتفضيل هنا على العالمين أي على عالم زمانهم فقط حيث اختارهم الله على الناس في ذلك الوقت، وليس ذلك على جميع العالم إلى قيام الساعة؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم بدلالة النصوص الصريحة على ذلك، كقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، والاصطفاء، والاجتباء؛ لا يمكن إلا أن يكون لمن فضلوا على غيرهم.
وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] يقول أبو هريرة كما جاء في الأثر: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام"[1].
والنصوص الدالة على تفضيل هذه الأمة كثيرة، أضف إلى ذلك النصوص الأخرى التي تدل على طرد بني إسرائيل، ولعنهم، وإقصائهم كقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة المائدة:78]، وكذلك ما ذمهم الله به، وأوقع بهم من نقمته كقوله: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [سورة الأعراف:168] إلى غير ذلك مما حل بهم، وهذا لا يمكن أن ينزل إلا بأمة ملعونة مبعدة من رحمة الله ، فكيف يكون هؤلاء إلى ساعتنا هذه هم أهل الاصطفاء، والاجتباء، وقد أبعدهم الله - تبارك وتعالى -؟
إذن: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] أي: على عالم زمانكم فقط، فيكون بهذا الاعتبار من العام المراد به الخصوص، حيث أطلق العالمين، ودخلت عليه أل، فظاهر ذلك أنه في جميع العالمين.
والعموم يندرج تحته أربعة أشياء: الأفراد، والأزمان، والأمكنة، والأحوال، فإذا أجريناه على ظاهره فمعنى ذلك أنه في كل زمان، ومكان.. الخ، ولكن هذا ليس بمراد، فيكون من العام المراد به الخصوص، يعني أنك تطلق لفظاً عاماً وتريد به معنىً خاصاً هذا هو المراد.
أمة محمد أفضل من بني إسرائيل:
ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطاباً لهذه الأمة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم [سورة آل عمران:110].
وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري قال: قال رسول الله ﷺ: أنتم تُوفُونَ سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله[2]، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِومن أدلة تفضيل هذه الأمة على غيرها من الأمم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143]، وما جاء في الأحاديث مثل: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[3]، وحديث العمل في أول النهار، وفي وسط النهار، وفي آخر النهار[4]، فكل هذه النصوص تدل على أن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل.
وحتى من الناحية العملية الواقعية - كما سيأتي في هذه الآيات وفي غيرها - لا يصح أن يقال: إن تفضيل بني إسرائيل على جميع العالمين مطلقاً؛ ومما يبين ذلك من الناحية العملية أن الله تعالى قال عنهم أنهم قالوا: يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، فهل يقول أحد مثل هذا الكلام؟
حتى أن الذين اصطفاهم موسى ﷺ لميعاده لربه في الطور الذين قال الله عنهم: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155]، لما سمعوا موسى يناجي ربه قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] طمعوا في الرؤية، فتأمل كيف يتصرفون وهم خيار بني إسرائيل، وأفضلهم، حتى أنه قيل: إنهم لما أخذ عليهم العهد، وسمعوا أمر الله؛ قالوا: "إن شئت فافعل، وإن شئت فذر"، إنهم حتى في هذا المقام يقولون مثل هذا الكلام!!
ولما أمروا بالسجود كما قال الله : وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [سورة النساء:154]، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة:63]، فهؤلاء يتلكئون عن التلقي عن الله ، فرفع الله فوقهم الطور حتى كاد الطور- أي الجبل - أن يقع فوقهم، حتى إنه قيل: إن سجدة بني إسرائيل كانت على جانب الجبهة ويرفعون العين الأخرى، فهم كانوا في حالة السجود وهم تحت الجبل في غاية الخوف أن يسقط عليهم، ومع ذلك سجدوا هذا السجود الذي يكون بهذه الصفة بحيث ينظرون بالعين الأخرى إلى الجبل، فكان ذلك سنة متبعة لهم في سجودهم إلى غير ذلك.
فهؤلاء ابتلاهم الله بخوف وطمع، وطمعهم يظهر في قصة الحيتان قال تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف:163]، فاحتالوا الحيلة المعروفة فمسخوا، وابتلاهم بخوف كما في قصة الجبارين فلم يثبتوا.
وهذه الأمة ابتلاها الله بالخوف، والطمع؛ فأفلحوا، فلما قال النبي ﷺ وهو يستشير أصحابه في يوم بدر: أشيروا علي أيها الناس قالوا: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"[5].
وكذلك لما ابتلاهم الله بالطمع ثبتوا، وهذا له أمثلة كثيرة جداً، منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] إلى غير ذلك، فكان الواحد منهم يمر بالضبي حاقفاً لا يثيره، ولا يريبه أحد.
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: قوله تعالى: كُنتًم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] (4281) (ج 4 / ص 1660).
- أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن - باب: سورة آل عمران (3001) (ج 5 / ص 226)، وابن ماجه في كتاب: الزهد - باب: صفة أمة محمد ﷺ (4288) (ج 2 / ص 1433) وأحمد (ج 5 / ص 3)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2301).
- أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة - باب: فرض الجمعة (836) (ج 1 / ص 299) ومسلم في كتاب: الجمعة - باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (855) (ج 2 / ص 585).
- أخرجه البخاري في كتاب: الإجارة - باب: باب الإجارة إلى نصف النهار (2148) (ج 2 / ص 791).
- البداية والنهاية (ج 1 / ص 279) وتاريخ الطبري (ج 2 / ص 27)، وأصله في البخاري في كتاب: المغازي - باب قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] (3736) (ج 4 / ص 1456).