الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، يذكرهم تعالى بسَالفَ نعمه على آبائهم، وأسلافهم، وما كان فَضَّلهم به من إرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم على سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الدخان:32]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20].
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] قال: بما أعطوا من الملك، والرسل، والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالَماً، ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك.
فيقول الله في تعداده لنعمه على بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ أي: استحضروها في قلوبكم، والهجوا بها في ألسنتكم، واذكروها بأعمالكم، وجوارحكم؛ شكراً لله ، وعرفنا أن قوله: نِعْمَتِيَ مفرد مضاف يفيد العموم، بمعنى اذكروا نعمي التي أنعمت عليكم.
ومن هذه النعم أنه فضلهم على العالمين: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، والعالمين أحسن ما يفسر به هو قوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:23]، فأجابه موسى قائلاً: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الدخان:7] فهذا هو الذي يفسر به، والمراد به هنا يفهم مع غيره من نصوص الآيات، والأحاديث.
من أهل العلم من قال: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: على الجم الغفير من الناس، فإن الجم الغفير من الناس يقال لهم: عالَم، تقول: رأيت عالماً عند فلان، وتقول: يوجد في مكة عالَم من الناس، أو عوالم من الناس، يعني أناس كثير، وتقول: رأيت في السوق عالماً من الناس، فهذا لا إشكال فيه، وسواءً قيدته بالناس أو لم تقيده، ولكن يمكن أن يقال هنا ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، ونقله أيضاً عن غيره وهو الذي عليه كثيراً من أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - بأن المقصود بقوله: عَلَى الْعَالَمِينَ أي في زمانهم؛ لأنه لم يكن لبني إسرائيل انفراد في ذلك الزمان في الوجود، أي: لم يكن هؤلاء هم الذين يمثلون الناس فقط، كان يوجد القبط، وغير القبط من الأمم من الرومان وغيرهم، ففضل الله بني إسرائيل، وهم أقلية في ذلك الزمان بالنسبة للأمم الأخرى، ويكفيك قولهم عن العماليق حينما قيل لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21]، فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [سورة المائدة:22]، فهم يرون أن هؤلاء أقوى منهم، وأعظم خلقة، وبأساً، فالتفضيل هنا على العالمين أي على عالم زمانهم فقط حيث اختارهم الله على الناس في ذلك الوقت، وليس ذلك على جميع العالم إلى قيام الساعة؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم بدلالة النصوص الصريحة على ذلك، كقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، والاصطفاء، والاجتباء؛ لا يمكن إلا أن يكون لمن فضلوا على غيرهم.
وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] يقول أبو هريرة كما جاء في الأثر: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام"[1].
والنصوص الدالة على تفضيل هذه الأمة  كثيرة، أضف إلى ذلك النصوص الأخرى التي تدل على طرد بني إسرائيل، ولعنهم، وإقصائهم كقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة المائدة:78]، وكذلك ما ذمهم الله به، وأوقع بهم من نقمته كقوله: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [سورة الأعراف:168] إلى غير ذلك مما حل بهم، وهذا لا يمكن أن ينزل إلا بأمة ملعونة مبعدة من رحمة الله ، فكيف يكون هؤلاء إلى ساعتنا هذه هم أهل الاصطفاء، والاجتباء، وقد أبعدهم الله - تبارك وتعالى -؟
إذن: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] أي: على عالم زمانكم فقط، فيكون بهذا الاعتبار من العام المراد به الخصوص، حيث أطلق العالمين، ودخلت عليه أل، فظاهر ذلك أنه في جميع العالمين.
والعموم يندرج تحته أربعة أشياء: الأفراد، والأزمان، والأمكنة، والأحوال، فإذا أجريناه على ظاهره فمعنى ذلك أنه في كل زمان، ومكان.. الخ، ولكن هذا ليس بمراد، فيكون من العام المراد به الخصوص، يعني أنك تطلق لفظاً عاماً وتريد به معنىً خاصاً هذا هو المراد.
أمة محمد أفضل من بني إسرائيل:
ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطاباً لهذه الأمة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم [سورة آل عمران:110].
وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري قال: قال رسول الله ﷺ: أنتم تُوفُونَ سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله[2]، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
ومن أدلة تفضيل هذه الأمة على غيرها من الأمم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143]، وما جاء في الأحاديث مثل: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[3]، وحديث العمل في أول النهار، وفي وسط النهار، وفي آخر النهار[4]، فكل هذه النصوص تدل على أن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل.
وحتى من الناحية العملية الواقعية - كما سيأتي في هذه الآيات وفي غيرها - لا يصح أن يقال: إن تفضيل بني إسرائيل على جميع العالمين مطلقاً؛ ومما يبين ذلك من الناحية العملية أن الله تعالى قال عنهم أنهم قالوا: يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، فهل يقول أحد مثل هذا الكلام؟
حتى أن الذين اصطفاهم موسى ﷺ لميعاده لربه في الطور الذين قال الله عنهم: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155]، لما سمعوا موسى يناجي ربه قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] طمعوا في الرؤية، فتأمل كيف يتصرفون وهم خيار بني إسرائيل، وأفضلهم، حتى أنه قيل: إنهم لما أخذ عليهم العهد، وسمعوا أمر الله؛ قالوا: "إن شئت فافعل، وإن شئت فذر"، إنهم حتى في هذا المقام يقولون مثل هذا الكلام!!
ولما أمروا بالسجود كما قال الله : وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [سورة النساء:154]، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة:63]، فهؤلاء يتلكئون عن التلقي عن الله ، فرفع الله فوقهم الطور حتى كاد الطور- أي الجبل - أن يقع فوقهم، حتى إنه قيل: إن سجدة بني إسرائيل كانت على جانب الجبهة ويرفعون العين الأخرى، فهم كانوا في حالة السجود وهم تحت الجبل في غاية الخوف أن يسقط عليهم، ومع ذلك سجدوا هذا السجود الذي يكون بهذه الصفة بحيث ينظرون بالعين الأخرى إلى الجبل، فكان ذلك سنة متبعة لهم في سجودهم إلى غير ذلك.
فهؤلاء ابتلاهم الله بخوف وطمع، وطمعهم يظهر في قصة الحيتان قال تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف:163]، فاحتالوا الحيلة المعروفة فمسخوا، وابتلاهم بخوف كما في قصة الجبارين فلم يثبتوا.
وهذه الأمة ابتلاها الله بالخوف، والطمع؛ فأفلحوا، فلما قال النبي ﷺ وهو يستشير أصحابه في يوم بدر: أشيروا علي أيها الناس قالوا: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"[5].
وكذلك لما ابتلاهم الله بالطمع ثبتوا، وهذا له أمثلة كثيرة جداً، منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] إلى غير ذلك، فكان الواحد منهم يمر بالضبي حاقفاً لا يثيره، ولا يريبه أحد.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: قوله تعالى: كُنتًم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] (4281) (ج 4 / ص 1660).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن - باب: سورة آل عمران (3001) (ج 5 / ص 226)، وابن ماجه في كتاب: الزهد - باب: صفة أمة محمد ﷺ (4288) (ج 2 / ص 1433) وأحمد (ج 5 / ص 3)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2301).
  3. أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة - باب: فرض الجمعة (836) (ج 1 / ص 299) ومسلم في كتاب: الجمعة - باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (855) (ج 2 / ص 585).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: الإجارة - باب: باب الإجارة إلى نصف النهار (2148) (ج 2 / ص 791).
  5. البداية والنهاية (ج 1 / ص 279) وتاريخ الطبري (ج 2 / ص 27)، وأصله في البخاري في كتاب: المغازي - باب قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] (3736) (ج 4 / ص 1456).

مرات الإستماع: 0

"عَلَى الْعالَمِينَ أي: أهل زمانهم."

لاحظ هذان قولان عَلَى الْعَالَمِينَ أي أهل زمانهم، فتكون الآية بهذا الاعتبار يعني أنه من قبيل العام المراد به الخصوص.

والعام المراد به الخصوص: لفظ عام أريد به معنى خاص، وهذا غير العام المخصوص، العام المراد به الخصوص منذ تكلم به قائله، وهو يريد به المعنى الخاص، لا أنه طرأ بعد ذلك ما يخصصه، العام المخصوص حينما تكلم به قائله يريد به العموم، ثم جاء دليل يخرج بعض الأفراد، يعني هنا وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: عالم زمانكم، فالعالمين يشمل: ما في السموات، والأرض قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء: 23، 24] وهذا في كل زمان، ومكان، فالله رب كل العالمين الأولين، والأخرين، لكن هنا وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ هل المقصود به أهل السموات، والأرض، وما بينهما في كل زمان، ومكان؟ الجواب: لا، وإنما المقصود بعض العالمين، من هم؟ هم أهل زمانهم، وما الدليل على أن المقصود بذلك أهل زمانهم؟ 

أن النصوص الواردة في تفضيل هذه الأمة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر: 32] هذه الأمة فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32].

وكذلك أيضًا: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[1]وما جاء من فضائل هذه الأمة المتنوعة، فهذه الأمة أفضل الأمم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] فهذا العام المراد به الخصوص الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] هل كل الناس قالوا لهم؟! إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران: 173] أو المقصود بعض الناس؟ رجل واحد مثلًا كما جاء في السير؟ المقصود رجل واحد الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ كل الناس جمعوا لهم من الأولين، والآخرين؟! أو المقصود قريش أو المقصود بذلك أبو سفيان؟ فسواء قلت: إن المقصود هم قريش، أو أن المقصود أبو سفيان فهذا يكون من قبيل العام المراد به الخصوص.

ليس كل البشر من العرب، والعجم قد جمعوا لهم في غزوة أحد مثلًا، أو ما بعد أحد، في حمراء الأسد.

لكن في قوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ [البقرة: 228] هذا عام، كل المطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] لكن جاء ما يخصصه قال: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] فخرج بعض الأفراد، وهن الحوامل، لا تبقى ثلاثة قروء، وإنما وضع الحمل طالت المدة أو قصرت، وخرج به الآيسة التي انقطع حيضها لكبر سنها، أو الصغيرة التي ما حاضت بعد وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4] يعني: كذلك، الصغيرة، فليست ثلاثة قروء: ثلاث حيض، أو ثلاث أطهار، وكذلك الأمة فإنها تُستبرأ بحيضة واحدة.

"وقيل: تفضيل من، وجه ما هو كثرة الأنبياء، وغير ذلك."

كثرة الأنبياء، يعني: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فيكون على عمومه، لكن ما فضّلوا في كل شيء، وإنما في شيء واحد، وهو كثرة الأنبياء فيهم، فتكون هذه مزية لكن لا تعني التفضيل بإطلاق على سائر الأمم، فإن هذه الأمة أفضل، والقاعدة: أن المزية لا تقتضي الأفضلية.

وقد قال النبي ﷺ في حق علي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي[2] وهو زوج فاطمة - ا - لكنه ليس بأفضل من أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان .

وقال ﷺ في عثمان: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم[3] حينما جهز جيش العسرة، وزوجه ابنتيه.

وقال في حق عثمان: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة[4] ولكن هذا لا يقتضي أنه أفضل من أبي بكر، وعمر؛ لأن المزية لا تقتضي الأفضلية.

القول الثاني: أن المقصود ببعض الجوانب، يعني كثرة الأنبياء فيهم. ليس بتلك القوة؛ لأن التعبير الذي جاء في الآية: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فظاهره الإطلاق فلا يقال هذا من بعض الوجوه، لكن يمكن أن يقيد بأن ذلك كما يقوله جمهور المفسرين الجواب الأول وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يعني: على عالم زمانكم، لماذا قلنا على عالم زمانكم؟ لوجود أدلة تدل على أن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل، وإلا فبنو إسرائيل الله - تبارك، وتعالى - لعنهم، وقال: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف: 168] وحكم عليهم بالذل، والصغار، والمهانة، والمسكنة.

وكذلك أيضًا: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف: 167] فهذا سخطه - تبارك، وتعالى - فانتفى عنهم ذلك التفضيل.

وبعضهم يقول: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يعني: على الجم الغفير من الناس، وليس معنى العالمين الذي هو من في السموات، والأرض، وما بينهما.

وبعض السلف يذكر أن ذلك باعتبار ما أُعطوا من الملك وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20] فجعل فيهم الملك، والنبوة، الرسل الكثير، وكذلك كثرة الأنبياء فيهم، وقد كانوا يسوسونهم، وكذلك الكتب التي نزلت عليهم.

وعلى كل حال، فهذا قول لأبي العالية - رحمه الله - باعتبار أنهم فضّلوا في جوانب معينة، وليس بإطلاق، وهذا مثل قول من قال: كثرة الأنبياء فيهم. لكن هذا ذكر أمثلة أخرى.

وعلى كل حال لكل زمان عالم، وهذا كما سبق قول الجمهور، وقد جاء هذا عن مجاهد، والربيع، وقتادة، وإسماعيل ابن أبي خالد[5] أن المقصود بذلك أهل زمانهم وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32] اختارهم على أهل زمانهم - والله أعلم -.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله [الفتح: 15] (9/143)، رقم: (7495)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، (2/586)، رقم: (855).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (5/19)، رقم: (3706)، ومسلم،  كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب (4/1870)، رقم: (2404).
  3.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ (5/626)، رقم: (3701)، والحاكم في  المستدرك على الصحيحين (3/10)، رقم: (4553).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عثمان بن عفان (4/1866)، رقم: (2401).
  5.  تفسير ابن كثير (1/255).

مرات الإستماع: 0

قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] يُخاطبهم كما مضى في الآية قبلها في قوله -تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [سورةالبقرة:40] فهنا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] خاطبهم كما ذكرنا من قبل بهذا الخطاب الذي أضافهم فيه إلى أبيهم يعقوب وهو إسرائيل، يقولون: إن إسرائيل بمعنى عبد الله، يا بني الرجل الصالح، والنبي التقي إسرائيل، يعقوب : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، فحينما يُضيفهم إلى أبيه، وهو من هو بالإيمان والتقوى، فذلك يكون باعثًا لهم على الاستجابة والانقياد والقبول؛ ولذلك قال بنو إسرائيل لمريم لما جاءت بعيسى قالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [سورةمريم:28].

فتذكير الإنسان بآبائه من الصالحين يكون له وقع وأثر في الاستجابة أو الانقياد، أو نحو ذلك مما يُراد أن يُذكر به يَا أُخْتَ هَارُونَ وهارون بعضهم يقول: المقصود به هارون بن عمران وحملوا المعنى بهذا الاعتبار مع البُعد الزمني بينهما يعني يا شبيهة هارون في الصلاح والتقى، ولكن الذي ينبغي أن تُفسر به الآية ولا يُعدل عنه هو ما فسرها به النبي ﷺ حينما وجهوا هذا السؤال إلى المغيرة بن شعبة حينما بعثه النبي ﷺ إلى نجران، وفيها النصارى، فسألوه عن هذا كيف قال: يَا أُخْتَ هَارُونَ مع أن هارون بينه وبين مريم زمنًا طويلاً، فأخبره النبي ﷺ بالجواب، فحينما رجع إليه، وسأله عن ما سألوه عنه بأنهم كانوا يسمون على أنبيائهم، يعني: هارون هذا غير هارون النبي، الذي هو أخو موسى فهم يقولون: يَا أُخْتَ هَارُونَ.

والذي يظهر من السياق -والله أعلم- أن هارون هذا كان من الصالحين؛ ولهذا أضافوها إليه يَا أُخْتَ هَارُونَ وذكروا أباها وأمها مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [سورةمريم:28] من أين جئتِ بهذا الولد؟! فآباؤك: أبوكِ وأمكِ كانوا من أهل الصلاح والتقى! فهنا يقول لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورةالبقرة:40] فيُذكرهم بهذه النعم، كما ذكرنا سابقًا، فإن التذكير بالنِعم يقود إلى الشكر، فإذا استحضر العبد النِعمة، فإن ذلك يحمله على شكر المُنعم المُتفضل بها يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وكما قال الله -تبارك وتعالى- في القرآن مخاطبًا هذه الأمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [سورةالأحزاب:9] إلى غير ذلك مما امتن الله -تبارك وتعالى- به على عباده المؤمنين.

فهنا يقول لهم: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ والنعمة هنا مُفرد مُضاف إلى المعرفة، وهي الضمير (ياء المُتكلم) وقلنا: بأن هذه الإضافة تفيد العموم، يعني: اذكروا نِعمي التي أنعمت عليكم.

وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] وهذا التفضيل هو من جملة هذه النِعم، فهو داخل في هذا العموم الذي قبله، اذكروا نِعمي، ومن هذه النِعم أنهم فضلهم على العالمين، ولكنه خصّ ذلك لما فيه من المزية والنِعمة الجلية العظيمة التي خصصها بالذكر من أجل أن يستحضروها، فهي من أجل النِعم أن يُفضلوا على العالمين، والمقصود بالعالمين، كما عليه إطباق المفسرين، هو أنهم فضلوا على عالم زمانهم، وإلا فلا شك أن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل، فالله يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ يعني: الكتاب الذي كان ينزل على بني إسرائيل الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورةفاطر:32] وهم هذه الأمة، فاصطفاهم الله -تبارك وتعالى- فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورةفاطر:32] بطوائفهم الثلاث: من السابقين، والمقتصدين، والظالمين لأنفسهم، فكل هؤلاء من أمة الاصطفاء والاجتباء، والنبي ﷺ قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة [1]والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورةالبقرة:143] إلى غير ذلك من أدلة تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم.

وكذلك أيضًا في مقامات تجلّى فضل هذه الأمة فيها، لما ابتلى الله بني إسرائيل بتحريم الصيد في يوم السبت، وقد كانوا حرموا ذلك على أنفسهم العمل في يوم السبت، ومنه الصيد، فهي مهنة، فالله -تبارك وتعالى- ابتلاهم، فصاروا في حال من الابتلاء لم يطيقوا معها الثبات والصبر إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [سورةالأعراف:163] تأتي قريبة في الساحل، وتستعرض أمامهم وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا ينقطعون عن أعمالهم، فإن السبت بمعنى القطع، وهو أحد معانيه لا تَأْتِيهِمْ يعني: في الأيام الأخرى لا تأتي، يبحثون عنها في عمق البحر، ولا يجدونها، فأخذهم القرم، وهو شدة التوقان للحم، فوضعوا شباكهم في يوم الجمعة، وأخذوها يوم الأحد، وبقوا يوم السبت يتفرجون لا يعملون شيئًا، فكانت هذه حيلة عاقبهم الله فيها بالمسخ إلى قِردة.

وأما هذه الأمة، فكما قال الله -تبارك وتعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورةالمائدة:94] فكانوا يأتون على الصيود وهي قريبة المنال، مما تناله الأيدي والرماح، كما أتى النبي ﷺ في سفره في حجة الوداع -عليه الصلاة والسلام- فأتى على ظبي حاقف، والظبي الحاقف: هو الذي قد انحنى عنقه على جنبه إذا نام، وفي طريقهم يمرون عليه لا يتحرك، فقال النبي ﷺ: لا يريبه أحد [2]يعني: لا أحد يستفز هذا الظبي، أو يشد عليه، أو نحو ذلك، فكانوا يأتون وهم عدد كبير، عشرات الألوف، والذين وافوا النبي ﷺ في مكة -كما هو معلوم- بلغوا مائة ألف من الصحابة  فكانوا يمرون فما يريبه أحد، مع أن النفوس إذا رأت الصيد تُستفز، فكانوا أفضل من بني إسرائيل، وأثبت، وأصبر إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على فضل هذه الأمة وثباتها ورفعتها، والنبي ﷺ قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة [3].

وفي قوله: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورةالبقرة:47] يعني: على عالم زمانكم.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة برقم: (876) ومسلم في الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم: (855). 
  2.  أخرجه مالك في الموطأ، رواية أبي مصعب الزهري برقم: (1139) وابن حبان برقم: (5111) والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (11958). 
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب كيف الحشر برقم: (6528) ومسلم في الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة برقم: (221).