الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
وَٱتَّقُوا۟ يَوْمًا لَّا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْـًٔا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] لما ذكَّرهم الله تعالى بنعمه أولاً عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال: وَاتَّقُواْ يَوْماً يعني: يوم القيامة.وَاتَّقُواْ يَوْماً أي: اتقوا أهوال يوم، وأوجال يوم؛ لأن اليوم ظرف زمان، ومثل هذا لا يتقى في الأصل، ولكنه جرت عادة العرب أن تحذر من ساعة، أو من يوم، أو من سنة، أو من زمان من الأزمان، والمراد بذلك ما يقع فيه من الأهوال، والأوجال، فقوله: وَاتَّقُواْ يَوْماً أي: اتقوا أهوال يوم.
وقوله: لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً أي: لا تجزيه أو لا تجزي فيه - على القولين المشهورين عند المفسرين وأصحاب معاني القرآن - لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، أو لا تجزيه، والأوضح في المعنى لا تجزي نفس أي: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً.
لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164]، وقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:37]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا [سورة لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.هذا كما قال الله : يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورة المعارج:11].
فالحاصل أن قوله: لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:48] يعني لا تكفي وتقضي أو تغني نفس عن نفس شيئاً، يعني أنه إذا كان أحد من الناس محتاجاً إلى شيء من الحسنات لترجح كفته ولو كان أقرب الناس كالوالد والولد، فإن أحداً من الناس لا يقضي عنه قال تعالى: وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18]، فمعنى لا تجزي أي لا تقضي، أو لا تغني؛ وهما متقاربان في المعنى، أو لا تكفي: من الكفاية، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يمكن أن يفسر بها ذلك، والمعنى لا ينفع أحد أحداً.
ويستثنى من ذلك ما ورد في النصوص فيما يتعلق بالشفاعة لأهل التوحيد من أهل الكبائر وغيرهم، أما أن يعطي أحد من الناس أحداً غيره من حسناته، أو أنه يعيره شيئاً من ذلك؛ فإن ذلك غير وارد ولو كان أقرب الناس إليه؛ بل هو يتمنى أن يفتدي بهؤلاء جميعاً.
وقوله تعالى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:48] يعني من الكافرين، كما قال: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [سورة المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ۝ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء:100-101].وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ يعني من الكافرين؛ لأنه يفهم من الأدلة الأخرى إثبات الشفاعة.
وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ لا في قليل، ولا في كثير؛ لأن شروط الشفاعة الثلاثة المعروفة منها: أن يرضى الله عن المشفوع له، وأن يأذن بالشفاعة، والله لا يرضى عن الكافرين، فلا تنفعهم الشفاعة.
والشفاعة معروفة وهي من الشفع، ومعناها الشرعي معروف، فالمقصود أن ذلك مخصوص بالشفاعة بأهل التوحيد.
وقوله: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [سورة آل عمران:91]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:36]، وقال تعالى: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70]، وقال: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ [سورة الحديد:15] الآية.
يفسَّر قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123]، وقوله في الآية الأخرى: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:48] بأن ذلك بمعنى الفداء كما قال الله : لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ [سورة الحديد:15]، وكذلك في قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] أي مهما قدمت من الفداء الذي تريد الخلاص به فإن ذلك لا ينفعها، ولا يغني عنها عند الله شيئاً.
والعدل كما في قول الله في الآية الأخرى لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [سورة المائدة:36] وكذلك: مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [سورة آل عمران:91]، فالذهب وما في الأرض جميعاً ليس من جنس الإنسان، فالإنسان يريد أن يفتدي بأموال الدنيا من الذهب وغيره، وذلك ليس من جنس الإنسان، فإذا افتدى بغير جنسه فذلك يقال له: العدل، فقوله: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ أي فداء، يفتدي بالمال وما إلى ذلك.
والعِدل - بالكسر - ما كان الفداء فيه من جنس المفتدي، فإذا افتدى بإنسان فإن ذلك يكون من قبيل العِدل، ومنه ما يوضع على البعير من الحمل بحيث يستوي يكون أحد الطرفين في الجهة اليمنى، والطرف الآخر في الجهة اليسرى فيقال: هذا عِدل لهذا، وما كان المعاوضة فيه من غير الجنس يقال له: عَدل، فهنا لا يقبل منها عَدل أي فداء بالمال وما أشبه ذلك، وهذا هو الغالب في لغة العرب أي: التفريق بهذا الاعتبار، وإن كان يرد هذا أحياناً في مكان الآخر، فيستعمل أحياناً بالكسر وبالفتح مراداً به الفداء مطلقاً، لكنه لكن الغالب ما ذكرت، والله أعلم.
فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله، ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه؛ فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهباً كما قال تعالى: مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:254]، وقال: لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31].
وقوله تعالى: وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم، وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة، ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف.

قوله: "من جانب التلطف" يعني كما يقال: بالطرق الدبلوماسية بأن يأتي أحد يتوسط ويشفع، أو يدفع المقابل - المعاوضة - هذه طرق الخلاص، إما أن يأتي أحد يتوسط فيطلق هذا الإنسان الأسير، أو أنه بالمعاوضة بالفداء، وبالتفاهم؛ يدفع مقابل ذلك مال، ويطلق وتنتهي المشكلة، أو بالقوة بحيث يأتي أناس يخلصونهم بالقوة، أما في ذلك اليوم فقد قطع الله عليهم طرق الخلاص، لا فداء، ولا شفاعة، ولا بالقوة لوجود الناصر.
ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من غيرهم كما قال: فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [سورة الطارق:10] أي: إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة، ولا شفاعة، ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير منه أحد كما قال تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ [سورة المؤمنون:88]، وقال: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۝ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [سورة الفجر:25-26]، وقال: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ۝ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:25-26]، وقال: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [سورة الأحقاف:28] الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [سورة الصافات:25] ما لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ابن جرير: وتأويل قوله: وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل، ولا فدية، بَطَلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرِّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر، والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء، والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ۝ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ۝ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:24-26].

مرات الإستماع: 0

"لا تَجْزِي لا تغني، وشيئًا مفعول به، أو صفة لمصدر محذوف، والجملة في موضع الصفة، وحذف الضمير أي فيه."

لا تَجْزِي لا تغني، وشيئًا مفعول به يعني لا تجزي شيئًا، يعني: لا تكفي، وتقضي شيئًا، والجزاء يأتي بمعنى القضاء، وأصله قيام الشيء مقام الشيء، ومكافأته إياه لَا تَجْزِي لا تقضي، يعني: لا يقضي عنه شيئًا، وهنا قال: لا تغني، وهذا قريب من لا تقضي، وشيئًا يقول: مفعول به.

لا تقضي شيئًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ هذا فاعل عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا فيكون مفعول به، أو صفه لمصدر محذوف، والجملة في موضع الصفة، وحذف الضمير أي فيه. لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا فيكون شيئًا صفه لمصدر محذوف، لا تجزي نفس عن نفس جزاء مثلًا، لا تجزي فيه، يقول: حذف الضمير أي فيه.

"وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ "

لاحظ هنا شفاعة نكرة في سياق النفي، وذلك للعموم، قال: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فهذا نفي لعموم الشفاعة، لكن دلت الأدلة على ثبوت الشفاعة لأهل الإيمان بعد أن يأذن الله للشافع، ويرضى عن المشفوع له.

"ليس نفي الشفاعة مطلقًا."

ظاهره العموم، فهذا يكون باعتبار الأدلة السابقة أنه من قبيل العام المراد به الخصوص، كما يقول ابن جرير - رحمه الله - لفظ عام نكرة في سياق النفي المراد به الخصوص، وهذا معنى قول من قال: بأن ذلك في الكفار.

وإنما المراد أنه لا يشفع أحد من بعد أن يأذن الله كما قال الله : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] فيكون هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، وهذا معنى قول من قال: بأن ذلك محمول على الكفار.

ونفي الشفاعة يعني في حق الكافرين، وهذا نقل عليه ابن عطية الإجماع أن هذه الآية محمولة على الكفار[1] فالشفاعة ثابتة، وهي مما تواتر عن رسول الله ﷺ كما هو معلوم.

"فإن مذهب أهل الحق ثبوت الشفاعة لسيدنا محمد ﷺ وشفاعة الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين، وإنما المراد أنه لا يشفع أحد إلا بعد أن يأذن الله له؛ لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255]، ولقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3]، ولقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23]، وانظر ما ورد في الحديث: أن رسول الله ﷺ يستأذن في الشفاعة فيقال له: اشفع تشفع[2].

فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقًا يحمل على هذا؛ لأن المطلق يحمل على المقيد، فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة.

عَدْلٌ هنا فدية.

وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ العَدل يقال بالكسر العِدل يعني المثل، بعضهم يفرق بين العَدل، والعِدل، فيقول: بالكسر العِدل ما كان من جنس الشيء، وما كان من غيره فهو بالفتح عَدل، ويقال: للفداء إذا كان من غير جنسه أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة: 95] الآن الصيد لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] فهذا الذي يصوم إن لم يجد فدية فيعدل ذلك الصيام، فالصيام ليس من جنس الصيد، قال: عَدْلُ ذَلِكَ فإذا كان من جنسه يقال له: عَدل، وإذا كان من جنسه كعدلي البعير، يعني من هذه الناحية، ومن هذه الناحية في الحِمل، فهذا عِدل هذا، فيكون بالكسر، لكن هذا ليس محل اتفاق، بعضهم يقولون: بأن العَدل، والعِدل بمعنى، واحد، وأنهما لغتان. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران: 91] فهذا ملئ الأرض هو عدل يقدمه للفداء إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [المائدة: 36] هذا كله بمعنى هذه الآية وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام: 70] فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد: 15].

"وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جمع لأن النفس المذكورة يراد بها نفوس."

لاحظ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا هذا مفرد وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فهذا كله على سبيل الإفراد مِنْهَا ثم قال: وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ فجاء بالجمع قال: لأن النفس المذكورة يُراد بها النفوس.

فهذا من جهة المعنى، فأعاد اللفظ إليه بصيغة الجمع وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ كما قال الله : فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق: 10] مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [الصافات: 25] فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الأحقاف: 28].

فنفوا عنهم كل سبل الخلاص التي يمكن أن تتصور، لم يبق لهم شيئًا، ولاحظ يعني إما أن يُقدم الإنسان فدية للخلاص لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ أو يخلص بشفاعة، أو بغير ذلك كأن يُخلص بالقوة وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ولا أحد ينفع أحد بأن يعطيه من حسناته مثلًا، ولا يؤخذ منها عدل: فدية، ولا تنفع الواسطة، والشفاعة، ولا يخلص بالقوة، هذه كل الصور التي يمكن أن يحصل بها الخلاص: أن ينفعه أحد بنافعة كحسنات ترجح بها كفة الموازين، أو بشفاعة، أو بفداء، أو بالقوة، أربعة أشياء فنفاها جميعًا. 

  1. تفسير ابن عطية (1/39).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/180)، رقم: (193).

مرات الإستماع: 0

قال الله -تبارك وتعالى- مخاطبًا لهم: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورةالبقرة:48] خافوا يومًا أي اجعلوا بينكم وبين هذا اليوم وقاية، اليوم لا يُتقى، وإنما يُتقى ما فيه من الأهوال والأوجال، ويكون ذلك بالأعمال، فهناك لا ينفع أن الإنسان يأتي وقد لبس درعًا أو تُرسًا، وأنى له ذلك؟! هناك لا يُتقى إلا بالأعمال الصالحة، وترك مساخط الله -تبارك وتعالى- وَاتَّقُوا يَوْمًا اليوم ظرف، والمعنى: واتقوا أوجال يومٍ لا تَجْزِي نَفْسٌ أي: لا يُغني أحد عن أحد، ولا تُقبل فيه الشفاعة للكافرين، ولا تُقبل الفدية، ولو افتدى بأموال الأرض جميعًا، ولا يملك أحد في هذا اليوم أن يُنقذه، وأن ينصره، لاحظ قطع عليهم جميع سُبل الخلاص.

وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [سورةالبقرة:48] نفس: نكرة في سياق النفي، أي نفس كبير أو صغير، لا أحد يجزي عن غيره نَفْسٌ ونفس هنا نكرة أيضًا، أي نفس شَيْئًا نكرة في سياق النفي، أي: شيء لا قليل ولا كثير، لا صغير ولا كبير، لا أحد يجزي عن أحد شيئًا لا يُغني عنه.

وقد يقال: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا لكنها تُقبل الشفاعة والواسطة، فيُشفع له ويُترك، لا؛ ولهذا قال: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ لا توجد شفاعات لهؤلاء الكفار، وأما لغير الكفار فهي موجودة، ولكن بشرطها، وهو أن يأذن الله للشافع وللمشفوع له، وهذا لكمال غِناه، ولكمال مُلكه، فإن الكبير من أهل الأرض ربما يقبل الشفاعة من الآخرين، إما لأنه لا يقوم ملكه إلا بهم، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله[1]أو لأنه يتخوف غوائلهم، إما أنه يرجو نفعهم، أو ليدفع ضررهم، يتخوف أنهم ينقمون عليه إذا ما قبل الشفاعة، فيقبل الشفاعة استدفاعًا لشره، يخشى إن رد شفاعته يحصل عنده نقمة عليه، أو يكون هو محتاج إليه، فيقبل شفاعته؛ ليُحصل من وراء ذلك أمورًا أخرى يطلبها منه، فهي مسألة مقايضة.

أما الله فلكمال غِناه فلا يحتاج إلى أحد، فلا أحد يتقدم بالشفاعة عنده إلا بإذنه، فهنا لا تُقبل هذه الشفاعة وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فهذه طرق الخلاص: واسطة يُؤخذ منها عدل، يعني الفداء، يُقال: خلاص يُطلق كم؟ مليون، عشرة ملايين، مائة مليون، مليار، خذ فلان مكانه، لا يمكن، لو كان له ما في الأرض جميعًا يريد أن يفتدي به من عذاب يوم القيامة لا يُقبل، كنوز الدنيا كلها التي عند الناس من الأولين والآخرين يريد أن يقدمها ليتخلص ويُطلق سراحه ويُترك هذا لا يوجد، طيب ما الذي بقي؟ بقي التخليص بالقوة، أن يُفك أسره بالقوة وَلا هُمْ يُنصَرُونَ لا يمكن أن يأتي أحد فيُخلص هذا.

فإذا كان الإنسان يرى أقرب الناس إليه: أباه وأمه وأولاده، الأم تقول: أُلقي نفسي ولطالما سمعنا هذه العبارة من النساء حينما تُعذب وتُظلم من قِبل زوج لا يرقب الله فيها، وتعيش في قهر وحال بائسة، فيقال لها: طيب تطلقي منه، تقول: الأولاد، أُلقي نفسي بالنار في سبيل هؤلاء الأولاد، أصبر وأتحمل هذا الظلم والضرب والعسف والقهر، ومصادرة جميع الحقوق، والسب والشتم لها ولأهلها صباح مساء، وتقول: أُلقي نفسي في النار من أجل الأولاد، فهذه الكلمة طالما سمعناها من النساء، طيب في الآخرة تُلقي نفسها في النار؟ أبدًا يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يعرفهم، هذا قريبه، وهذه أمه يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورةالمعارج:11] تصور هؤلاء الأولاد الذي يُلقي نفسه في النار من أجلهم يتمنى لو يُقبل منه أنهم يؤخذون جميعًا إلى الجحيم في سبيل أنه يتخلص؛ لأنه يرى ما لا قِبل له به، هناك الوشائج والعلائق تنتهي، ويبقى العمل هو الذي يُخلِّص الإنسان، فتقطع جميع طرق الخلاص، فما الذي يبقى؟ الإيمان، والعمل الصالح.

وتنكير اليوم في قوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا يدل على التعظيم والتهويل، فهو يوم هائل وعظيم، لا يمكن أن يُقادر ما فيه من الشدائد، يكفي أن الله -تبارك وتعالى- قال عن هذا اليوم: يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورةالمزمل:17] الولدان حديث الولادة رأسه أبيض من شدة الأهوال.

والحامل يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورةالحج:2]، وتكلمنا على هذا المعنى في بعض المناسبات، وقلنا: إن الأوصاف المختصة بالإناث مثل: الحمل والإرضاع، والولادة يقال: مُرضع ومُرضعة، فإذا دخلت عليها التاء (مُرضعة) فهي تعني المُباشرة، وإذا جُردت من التاء، فهي تعني مُطلق الوصف، يعني: لو قال: يوم ترونها تذهل كل مرضع عن ما أرضعت، هي مُرضع من شأنها أن تُرضع، لكن الولد في البيت، وهي في زيارة، أو في المسجد، أو غير ذلك، عندها ولد تُرضعه، لكن حينما يقول: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورةالحج:2] فلما دخلت عليها التاء دل على المُباشرة، أنها ألقمت الولد الثدي، وهذه حالة لا يمكن أن يُوضع حال تصف الشفقة أبلغ منها، منتهى الشفقة هي شفقة الأم، وفي حال الإرضاع، فتصور إذا قامت القيامة تذهل عن هذا الولد الذي تُرضعه، خلاص ينتهي، يسقط من يديها، وتذهل عنه، ولا تراه ولا يكون في خلدها؛ لشدة الهول، كل مرضعة، وليست الخوافة مثلاً، لا، كل مرضعة عن ما أرضعت من الآدميين والبهائم، فهذا في يدها تركته.

وإذا كان في بطنها وَتَضَعُ كُلُّ [سورةالحج:2] وليست الضعيفة، أو ذات الحمل الهش، أو الذي يحتاج إلى مُثبتات، لا، وإنما كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ [سورةالحج:2] تنزل ما في بطنها من الأميين والبهائم، فشيء هائل، تضع كل ذات حمل حملها، وأيضًا فمن كانت لا حامل ولا مُرضع وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى [سورةالحج:2] السكران كيف يمشي؟ يخبط يضرب بالجدار والباب، ولا يدري أين يذهب؟ ولا يدري أين يتجه؟ يمشي بلا وعي وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورةالحج:2] هذا يوم القيامة.

فهنا نكر هذا اليوم وَاتَّقُوا يَوْمًا يوم شديد هائل لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وتنكير النفس يُفيد العموم، ففيه إقناط كلي، لا يقول: والله هذا عنده حسنات كثيرة، وهذا من أهل الإيمان القوي الراسخ، سينفعنا يوم القيامة، إذا كان هؤلاء على غير الإيمان لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا الشفاعة ثابتة بين المؤمنين، ولكن هذا الذي لا يؤمن لا يستطيع أحد أن يُخلصه، ولا يجرؤ أحد أن يشفع له وَلا هُمْ يُنصَرُونَ جاء بها جملة اسمية، وهناك وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي فعل وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فعل وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ يعني: فدية، ثم جاء بجملة اسمية وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورةالبقرة:48] وهذا يدل على المُبالغة، ويدل على الثبات والديمومة، وأن النصر لا يكون في لحظة من اللحظات، ولا يحتاج أن يتحين لعله تحصل له فرصة، فيُنصر، لا لا، هذا قد قُطع عليه الطريق، نسأل الله العافية وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورةالبقرة:48].

  1.  قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 13).