وقوله: لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً أي: لا تجزيه أو لا تجزي فيه - على القولين المشهورين عند المفسرين وأصحاب معاني القرآن - لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، أو لا تجزيه، والأوضح في المعنى لا تجزي نفس أي: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً.
لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164]، وقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:37]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا [سورة لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.هذا كما قال الله : يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورة المعارج:11].
فالحاصل أن قوله: لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:48] يعني لا تكفي وتقضي أو تغني نفس عن نفس شيئاً، يعني أنه إذا كان أحد من الناس محتاجاً إلى شيء من الحسنات لترجح كفته ولو كان أقرب الناس كالوالد والولد، فإن أحداً من الناس لا يقضي عنه قال تعالى: وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18]، فمعنى لا تجزي أي لا تقضي، أو لا تغني؛ وهما متقاربان في المعنى، أو لا تكفي: من الكفاية، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يمكن أن يفسر بها ذلك، والمعنى لا ينفع أحد أحداً.
ويستثنى من ذلك ما ورد في النصوص فيما يتعلق بالشفاعة لأهل التوحيد من أهل الكبائر وغيرهم، أما أن يعطي أحد من الناس أحداً غيره من حسناته، أو أنه يعيره شيئاً من ذلك؛ فإن ذلك غير وارد ولو كان أقرب الناس إليه؛ بل هو يتمنى أن يفتدي بهؤلاء جميعاً.
وقوله تعالى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:48] يعني من الكافرين، كما قال: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [سورة المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء:100-101].وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ يعني من الكافرين؛ لأنه يفهم من الأدلة الأخرى إثبات الشفاعة.
وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ لا في قليل، ولا في كثير؛ لأن شروط الشفاعة الثلاثة المعروفة منها: أن يرضى الله عن المشفوع له، وأن يأذن بالشفاعة، والله لا يرضى عن الكافرين، فلا تنفعهم الشفاعة.
والشفاعة معروفة وهي من الشفع، ومعناها الشرعي معروف، فالمقصود أن ذلك مخصوص بالشفاعة بأهل التوحيد.
وقوله: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [سورة آل عمران:91]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:36]، وقال تعالى: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70]، وقال: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ [سورة الحديد:15] الآية.
يفسَّر قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123]، وقوله في الآية الأخرى: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:48] بأن ذلك بمعنى الفداء كما قال الله : لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ [سورة الحديد:15]، وكذلك في قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] أي مهما قدمت من الفداء الذي تريد الخلاص به فإن ذلك لا ينفعها، ولا يغني عنها عند الله شيئاً.
والعدل كما في قول الله في الآية الأخرى لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [سورة المائدة:36] وكذلك: مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [سورة آل عمران:91]، فالذهب وما في الأرض جميعاً ليس من جنس الإنسان، فالإنسان يريد أن يفتدي بأموال الدنيا من الذهب وغيره، وذلك ليس من جنس الإنسان، فإذا افتدى بغير جنسه فذلك يقال له: العدل، فقوله: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ أي فداء، يفتدي بالمال وما إلى ذلك.
والعِدل - بالكسر - ما كان الفداء فيه من جنس المفتدي، فإذا افتدى بإنسان فإن ذلك يكون من قبيل العِدل، ومنه ما يوضع على البعير من الحمل بحيث يستوي يكون أحد الطرفين في الجهة اليمنى، والطرف الآخر في الجهة اليسرى فيقال: هذا عِدل لهذا، وما كان المعاوضة فيه من غير الجنس يقال له: عَدل، فهنا لا يقبل منها عَدل أي فداء بالمال وما أشبه ذلك، وهذا هو الغالب في لغة العرب أي: التفريق بهذا الاعتبار، وإن كان يرد هذا أحياناً في مكان الآخر، فيستعمل أحياناً بالكسر وبالفتح مراداً به الفداء مطلقاً، لكنه لكن الغالب ما ذكرت، والله أعلم.
فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله، ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه؛ فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهباً كما قال تعالى: مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:254]، وقال: لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31].
وقوله تعالى: وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم، وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة، ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف.
قوله: "من جانب التلطف" يعني كما يقال: بالطرق الدبلوماسية بأن يأتي أحد يتوسط ويشفع، أو يدفع المقابل - المعاوضة - هذه طرق الخلاص، إما أن يأتي أحد يتوسط فيطلق هذا الإنسان الأسير، أو أنه بالمعاوضة بالفداء، وبالتفاهم؛ يدفع مقابل ذلك مال، ويطلق وتنتهي المشكلة، أو بالقوة بحيث يأتي أناس يخلصونهم بالقوة، أما في ذلك اليوم فقد قطع الله عليهم طرق الخلاص، لا فداء، ولا شفاعة، ولا بالقوة لوجود الناصر.
ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من غيرهم كما قال: فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [سورة الطارق:10] أي: إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة، ولا شفاعة، ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير منه أحد كما قال تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ [سورة المؤمنون:88]، وقال: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [سورة الفجر:25-26]، وقال: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:25-26]، وقال: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [سورة الأحقاف:28] الآية.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [سورة الصافات:25] ما لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ابن جرير: وتأويل قوله: وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل، ولا فدية، بَطَلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرِّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر، والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء، والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها، وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:24-26].