الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ۚ وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ۝ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:49-50].
يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم، وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ أي: خلصتكم منهم، وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى  وقد كانوا يسومونكم أي: يوردونكم، ويذيقونكم، ويولونكم سوء العذاب.
قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم أي: واذكروا إذ نجيناكم، أي: خلصناكم، وفككناكم؛ والإنجاء معروف وهو التخليص، وأصله مأخوذ من النجوة، أي: الشيء المرتفع من الأرض البائن منها.
قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ الله - جل وعلا - خلصهم من آل فرعون يعني من فرعون وقومه، فإن آل تأتي بمعنى أهل، فيقال: آل فلان، وقد يطلق مراداً به ذات الشخص كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46]، فليس المقصود هنا أنهم فقط آل فرعون أو أتباع فرعون، لا بل هو على رأسهم، بل إن بعض المفسرين يقول: أدخلوا آل فرعون يعني أدخلوا فرعون، ومثل هذا قوله تعالى: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] يعني وبقية مما ترك موسى وهارون.
فـ(آل) تأتي أحياناً مراد بها نفس الشخص، وأحياناً يراد بها نفس الشخص مع قومه، وأتباعه، أو أهله وما أشبه ذلك.
هنا قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعني من فرعون وقومه؛ لأن الذي كان يلي تعذيبهم هم قوم فرعون بأمر فرعون، ففرعون هو المتحكم فيهم، وإنما أولئك الذين يسومونهم سوء العذاب إنما يصدرون عن أمر فرعون.
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ وفرعون معروف، كل من ملك مصر فهو فرعون،أي أنه لقب يعني وليس اسماً لشخص معين، فكل من ملك مصر من هؤلاء الكفرة فإنه يقال له: فرعون، وبعضهم يقول: هو لفظ أعجمي، وبعضهم يقول: هو عربي من تفرعن.
يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ: قال: يسومونكم هنا بمعنى يذيقونكم، ويوردونكم، ويولونكم، تقول: سامه خطة خسف، بمعنى أذاقه وألبسه، وتقول: سامه الخسف، والذل، وسامه العذاب، بمعنى أذاقه، وأولاه العذاب.
يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ: فهذه يمكن أن تكون حالاً بمعنى يكون الكلام هكذا: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائمين لكم سوء العذاب، يعني في حال كونهم سائمين، ويمكن أن يكون وإذ نجيناكم من آل فرعون وكانوا يسومونكم سوء العذاب، فتكون الجملة خبر لكان، فالمقصود أن الله ذكرهم بهذه النعمة حيث خلصهم من فرعون، وقومه.
قال سبحانه: يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ، ثم قال مفسراً لهذا العذاب: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ [سورة البقرة:49].
وذلك أن فرعون - لعنه الله - كان قد رأى رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدسهذا جواب لسؤال هو: لماذا كان فرعون يقتل الأبناء، ويبقي البنات؟ وقد ذُكرت في هذا آثاراً وردت عن بعض السلف وهي مبنية على إسرائيليات، فالحاصل أن مما ذُكِر أن الكهنة أخبروه لما رأى رؤيا ففسرت له، أو أن الكهنة أخبروه ابتداءً بأنه سيولد من الإسرائيليين ولد، وأنه سيكون زوال ملكه على يد هذا الولد، فصار يقتلهم سنة، ويتركهم سنة، وسبب تركهم سنة إما أن هؤلاء المنجمين أو هؤلاء الكهنة كما جاء في بعض الإسرائيليات أخبروه عن شيء من ذلك فصار بمقتضاه يفعل هذا سنة وسنة، وإما أن يكون هذا الإبقاء - كما قال بعضهم - من أجل أن يبقى من يقوم على الأعمال المهينة الوضيعة، فكان الفراعنة يترفعون عنها، ويكلونها إلى الإسرائيليين، فكانوا يبقون بعضهم من أجل هذا، ويقولون فكان هارون ﷺ في العام الذي لا يقتل فيه الأولاد، هكذا قال بعضهم، والعلم عند الله .
رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال: بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة، ورفعة، فعند ذلك أمر فرعون - لعنه الله - بقتل كل ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال، وأرذلها.يعني كأن بني إسرائيل عندهم نبوءة أنه سيخرج فيهم رجل يخلصهم، فبطبيعة الحال هذه القضايا تتنامى وتصل إلى كثير من الناس حتى من أعدائهم، وخصومهم، وهؤلاء السمار عند السلطان كأنهم في سوق كما هو معروف ينفق فيه هؤلاء السمار بحسب حال هذا السلطان، وهؤلاء السمار يعرفون فرعون، ويعرفون حاله، فيوردون له من الحكايات، والقصص، والأخبار ما يصلح له، ويطرب له، فهذا أمر طبيعي؛ إذ لن يتحدثوا معه عن قيام الليل، وصيام النهار، وأخبار العبَّاد، وإنما سيحدثونه عن أمور يطرب لها، ولهذا قالوا: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127]؟ هؤلاء هم سماره، وجلساؤه، وخاصته، فما الظن بمثل فرعون أن يقرب منه إلا مثل هؤلاء، فهو لا يقرب إلا من كان على شاكلته، والطيور على أشكالها تقع، والله المستعان.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة إبراهيم:6]، وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى، وبه الثقة، والمعونة، والتأييد.
يقول ابن كثير: وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء: ولا شك أن هذا من العذاب الذي كانوا يولونهم إياه يقول تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ [سورة البقرة:49] وفي الآية الأخرى بالواو: وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ فما الفرق بين المقامين، أي لماذا جيء بالواو هناك، وهنا لم بدون الواو؟
الجواب هو أنه لما كان المقام هناك - في سورة إبراهيم - التصريح بتعداد الآلاء عليهم ناسب فيه التكثير، فلهذا قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ يعني أنه امتن عليهم بنعم كثيرة، منها: أنه أنجاهم من آل فرعون حيث كانوا يسومونهم سوء العذاب بما كانوا يشغلونهم به من أمور الخدمة العظيمة الشاقة في الأمور المهينة، وكانوا يذبحون أبناءهم، وكانوا يستحيون نساءهم، فهذا هو الفرق بين المقامين.
ومعنى يَسُومُونَكُمْ أي: يولونكم قاله أبو عبيدةأبو عبيدة اسمه عمر بن المثنى، ومعنى يَسُومُونَكُمْ: يولونكم، تقول: سامه بمعنى أولاه، وأوقع به، وأنزل به، ويمكن أن يفهم منه أيضاً معنى الإدامة من الدوام، فـيَسُومُونَكُمْ: أي يديمون، ويواصلون أذيتكم، وعذابكم بشكل دائم لا ينقطع، ومنه يقولون "السائمة" يعني التي تديم الرعي في المرعى، أو يكون ذلك في غالب أحوالها، فهذه يقال لها: سائمة أي أن غالب أحوالها ترعى في المرعى إلحاقاً لذلك بالأصل، فإذا كان الأصل فيها دوام الرعي في المرعى فهي سائمة.
فهؤلاء يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أي يطيلون عذابكم، ويواصلون ذلك، ويديمونه، فهو عذاب ينزل بكم بشكل دائم لا ينقطع.
كما يقال: سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، وقيل: معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ثم فسره بهذا لقوله هاهنا: اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:40]، وأما في سورة إبراهيم فلما قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ [سورة إبراهيم:5] أي: بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة إبراهيم:6]، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل.قوله: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ [سورة إبراهيم:5] الأيام هنا المراد بها الإنعام، وقد تأتي لغير هذا المعنى؛ إذ قد تأتي بمعنى العقوبات، والمثلات التي تنزل بالأقوام.
في سورة إبراهيم قال تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ [سورة إبراهيم:5]، فالمقام هناك أرسخ في التذكير بالنعم، فهو يأمره أن يذكرهم بأيام الله، فهو يحتاج أن يقول لهم: اذكروا كذا، واذكروا كذا، وهذا مما يلتمسه المفسرون فيما يسمونه بالمتشابه في اللفظ - يسمونه المتشابه اللفظي -، والمتشابه المعنوي هو الذي يحتاج أن يرجع إلى غيره ليتبين معناه، فهذا يسمونه المتشابه اللفظي، فيذكرون مثل هذه الوجوه، وقد تكون هذه الوجوه متكلفة وقد تكون قريبة، لكن على كل حال هذا الذي ذكره هنا قد ذكره جماعة من المفسرين، وله وجه لكن لا يقطع بمثل هذا، وعامة ما يذكره هؤلاء في المتشابه اللفظي يعني لا يقطع به، لكن يمكن أن يذكر، ومنه ما هو متكلف لا يستحق أن يذكر، ومنه ما لا يتضح وجهه أصلاً.
وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر كافرًا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من مَلَك الروم مع الشام كافرًا، وكسرى لمن مَلَك الفرس، وتُبَّع لمن مَلَك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة.قوله: "والنجاشي لمن ملك الحبشة" لم يقل: كافراً؛ لأن النجاشي أسلم، وتبع ورد فيه حديث أن النبي ﷺ ذكره فقال: ما أدري أتبع لعيناً كان أم لا والحديث صححه بعض أهل العلم، على كل حال تبَّع هذا المشهور الذي جاب المشرق والمغرب، ولما تقرأ في كتب معجم البلدان تجد أن عدد من أسماء بعض الأماكن يقال: إن تبَّع هو الذي سماها.
يقولون: إنه مر بالمدينة قبل مبعث النبي ﷺ، وأنه لقي بعض الأحبار من اليهود، وكلموه أن هذه الأرض أو البلدة لن يسلط عليها، وأنها مبعث نبي؛ إلى آخره، فذكروا عنه أموراً حسنة في قبوله، ثم أخذ معه اثنين من الأحبار، وذهب ناحية مكة، وأخبروه أن هذه البلدة لا يسلط عليها لأن فيها بيت الله، فيقال: إنه هو أول من كساها بالخز، فالحاصل أنه أجرى عليها بعض الأمور، ثم رجع إلى اليمن، ويذكرون أيضاً أن في بعض الأماكن يوجد وادٍ أو منطقة هي أشبه بالوادي تبعد عن المدينة أربعين كيلو تقريباً اسمها ملل، من نزلها ولو لم يعرف اسمها يدرك أنها تستحق أن تسمى ملل، المقصود أني قرأت في معجم البلدان لما رأيت الاسم مطابق للمسمى فإذا هم يقولون: إن تبع نزل بها فملَّ فسماها ملل، ثم فارقها!! وعلى كل حال اسم تبَّع يطلق على من ملك اليمن، وهل يشترط أن يكون كافراً، الله أعلم.
وكذلك يقولون: من ملك الهند يقال له: بطليموس، وفرعون بعضهم يقول: أصله عربي، ويزنونه بالأوزان العربية، ويقولون: إنه من تفرعن، وبعضهم يقول: هو اسم أعجمي وهو من العماليق، ويقول بعضهم بأن أصله من فارس من اصتخر، والله أعلم بهذا كله، ويذكرون اسم فرعون موسى فيقول بعضهم: اسمه مصعب بن الوليد بن الريان، وإذا كان اسمه مصعب بن الوليد بن الريان فهو عربي إذن؛ لأن هذه أسماء عربية، ولا أدري من أين جاؤوا بهذا الاسم، وبعضهم يقول: اسمه الوليد بن الريان، وبعضهم يقول غير هذا، والآن يقال اسمه رمسيس الثاني، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة البقرة:49] قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آبائكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك.
وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء:35]، وقال: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف:168]، قال ابن جرير: وأكثر ما يكون في الشر بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير: أبليه إبلاءً وبلاء.
وقد يأتي هذا في مقام هذا، وعلى كل حال فقوله: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أي وفي ذلكم الإنجاء بلاء من ربكم عظيم، أي في إنجائهم من آل فرعون، ويمكن أن يعود إلى ما حل بهم من النقمة، وهي أنهم يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم.
وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أي هذا الذي وقع بكم من العذاب، والنقمة من تذبيح الأبناء، واستحياء النساء، وهذا قول الجمهور، وهو أن قوله: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ أن اسم الإشارة ذلكم يرجع إلى ما حل بهم من العذاب.
وهنا سؤالان:
الأول: أن الله قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ والمقصود بالاستحياء للبنت أي أنه يبقيها حية، فإذا كان تذبيح الأولاد عذاب وبلاء أليس إبقاء البنات في الحياة، وعدم قتلها؛ هو من باب حنانيك بعض الشر أهون من بعض؟ فكيف كان استحياء البنات عذاب وبلاء لبني إسرائيل؟ الجواب واضح، وهو أن ذبح البنت أسهل من أن يسترقها عدوها، وتبقى أسيرة عنده، يسومها الخسف، والذل، ويكل إليها من الأعمال ما يكون فوق طاقتها، وهي عِرض الرجل، وخدشها خدش لكرامته، والعار الذي يلحق بها يلحق بأبيها، وأهلها، وعشيرتها، فلا شك أن قتل البنت أسهل من أن تقع بيد عدوها، وهذا شيء لا يجادل فيه أحد، ولهذا قال الله : يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ أي يبقي بنتك حية من أجل أن يوليها ذلك جميعاً فهذا عذاب أشد من تذبيح الأولاد.
السؤال الثاني: أنه قال: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ فكيف عبر عن البنات الصغيرات بلفظ: نساءكم مع أن هذا اللفظ لا يقال إلا للمرأة الكبيرة أما الصغيرة فيقال لها "جارية" ومعلوم أن استحياءهن من قبل فرعون كان يتم وهن صغيرات؟
الجواب هو أن الصغيرات قد يطلق عليهن نساء باعتبار المئآل، فالله تعالى أطلق عليهن ذلك بهذا الاعتبار، فهي تكون بيده، فيحصل الغبن حينما تكون امرأة تصلح للخدمة، وتستطيع أن تعمل، فهذا جواب، وهناك أجوبة أخرى، فالله أعلم.

مرات الإستماع: 0

"وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تقديره: اذكروا إذ نجيناكم أي: نجينا آباءكم، وجاء الخطاب للمعاصرين للنبي ﷺ منهم؛ لأنهم ذريتهم، وعلى دينهم، ومتبعون لهم، فحكمهم كحكمهم، وكذلك فيما بعد هذا من تعداد النعم؛ لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء، ومن ذكر مساوئهم؛ لأن ذريتهم راضون بها."

هذا في جميع المواضع، يكون مقدر محذوف وَإِذْ يعني واذكروا إذ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى [البقرة: 61] واذكروا إذ قلتم يا موسى وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ اذكروا إذ نجيناكم، فهذا الخطاب في ظاهره أنه موجه للذين كانوا في زمن النبي ﷺ فهنا يرد سؤال. 

فإن قيل: إن هؤلاء لم يحصل لهم التنجية، وإنما كان ذلك للذين كانوا في زمن موسى، وهم أجداد هؤلاء، فكيف خاطب الموجودين في عهد النبي ﷺ؟.

فالجواب: أن هذا في سياق الامتنان فالنعمة الواصلة للآباء لاحقة للأبناء فصح الامتنان عليهم بذلك، النعمة التي تكون للآباء تلحق الأبناء، وهذا في القرآن كثير، في خطاب بني إسرائيل في النعم، وفيما يتعلق بالمساوئ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ [البقرة: 61].

وكذلك أيضًا في سائر المواضع كقوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ هذا، ونظائره من المساوئ خوطب به الذين كانوا في زمن النبي ﷺ مع أنه ما صدر عنهم، يقال: المذمة التي تلحق الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وإلا فإنه وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164].

"مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ المراد من فرعون، وآله، وحذف لدلالة المعنى، وآل فرعون هم جنوده، وأشياعه، وآل دينه لا قرابته خاصة."

مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ المراد من فرعون، وآله، وحذف لدلالة المعنى، هي لفظة آل فرعون، ونحو ذلك آل فلان، تطلق تارة، ويراد بها الشخص نفسه، يعني هنا نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعني: من فرعون، وتطلق، ويراد بها الشخص نفسه، وأتباعه وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ فرعون، ومن معه من جنوده، إذا قلت: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد. فلما ذُكر النبي ﷺ مفردًا، ثم عُطف عليه، وعلى آل محمد فصار آله غير محمد ﷺ، فهم أهل بيته، أو أتباعه على دينه إلى يوم القيامة، فإن آل محمد يطلق بإطلاقات متعددة، بإطلاق ضيق جدًا، وبإطلاق أوسع، وبإطلاق أوسع، وبإطلاق واسع، فقد يطلق على دائرة ضيقة، وهم من مُنع الصدقة، وقد يطلق على ما هو أضيق منه، فإن النبي ﷺ كما في حديث الكساء دعا عليًا، وفاطمة إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] دعا عليًا، وفاطمة، والحسن، والحسين، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا[1] ولم تدخل معهم أم المؤمنين، ولكن في آيات سورة الأحزاب السياق في أمهات المؤمنين يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ [الأحزاب: 32]، وقال - تبارك، وتعالى -: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ فيدخل نساؤه في ذلك؛ لأن السياق فيهن، لكن في نفس الحديث استُعمل فيما هو أضيق من ذلك، في دعائه ﷺ، وكذلك من مُنع الصدقة هذا أوسع، وهم آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، والإطلاق الواسع كل أتباعه على دينه، آل محمد، فهنا إذا قلت: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد. فصار آله هم أهل بيته، أو أتباعه على دينه، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، فكذلك أيضًا، لكن حينما تقول: اللهم صل على آل محمد. يدخل فيه النبي ﷺ.  

"ويقال: إن اسمه الوليد بن مصعب، وهو من ذرية عمليق."

هذا لا يثبت، وإن كان مشهور في كتب التواريخ، وكتب التفسير، وبعضهم يقول: إن اسمه قابوس. لكن كل هذا لا يثبت.

"ويقال: فرعون لكل من ولي مصر.، وأصل آل أهل، ثم هل أبدلت من الهاء همزة، وأبدل من الهمزة ألف."

وفرعون لقب لكل من ملك مصر، كما يقال أيضًا: قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس.

"فائدة: كل ما ذكره في هذه الصور من الأخبار معجزات للنبي ﷺ؛ لأنه أخبر بها من غير تعلم."

يعني باعتبار أن النبي ﷺ من أمة أمية، ورجل لا يقرأ، ولا يكتب، ولم يتلق عن أحد من أهل الكتاب، ولا عهد له بالكتاب، ثم بعد ذلك يأتي بهذه الأخبار مفصلة وَإِذْ قُلْتُمْ يذكر قولهم، وما جرى لهم بالتفصيل، وهو بين أظهرهم، عنده في المدينة اليهود، وفيهم الأحبار، والعلماء، وكتب هؤلاء بين أيديهم، فيذكر ذلك مفصلًا، فهذا يدل على أن ذلك من عند الله - تبارك، وتعالى - وإلا لا يمكن أن يجترئ أحد لا علم له بحال هؤلاء، وليس له أي دراسة لتاريخهم، وكتبهم، ثم بعد ذلك يأتي بتفاصيل دقيقة، وهم حضور، ثم بعد ذلك يكون كما قال، ولهذا جاء في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ كما في خيبر سألهم - عليه الصلاة، والسلام - عن مسائل، سألهم عن أشياء، سألهم قال: من أبوكم قالوا: فلان. قال: كذبتم، أبوكم فلان قالوا: صدقت.

وسألهم عن مسائل، وكذبهم فيها حينما أجابوه، إلى أن سألهم عن الشاة(هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ قالوا: نعم[2] وحينما سألهم مثلًا عن ما حرم إسرائيل، وهو يعقوب ﷺ على نفسه؟ فكذبهم النبي ﷺ في جوابهم.

"يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي: يلزمونهم به، وهو استعارة من السوم في البيع، وفسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ولذلك لم يعطفه هنا."

أصل السوم الذهاب في ابتغاء الشي، ولهذا يقال: السائمة تبتغي المرعى، والمعنى يولونكم إذلالًا، واستخفافًا، ومهانة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أي: يلزمونكم، وهو استعارة من السوم في البيع، وفسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ولذلك لم يعطفه هنا. يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ فيكون يُذَبِّحُونَ هو تفسير لسوء العذاب، فلم يعطفه.

"وأما حيث عطفه في سورة إبراهيم، فيحتمل أن يراد بسوء العذاب غير ذلك، فيكون عطف مغايرة."

باعتبار أن تقتيل الأولاد، تذبيح الأولاد، واستحياء النساء ليس هو سوء العذاب الذي كانوا يسومونهم، يعني يسومونهم سوء العذاب بأنواع من النكال، والإهانة، والإذلال، ومع ذلك يقتلون أبناءهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم فيكون ذلك من باب عطف المغايرة، وهذا الأصل في العطف أنه يقتضي المغايرة، ويحتمل أن يكون ذلك من باب عطف الأوصاف فيُنزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات، فيكون قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فإذا عطف عليه قال: ويذبحون، أو ويقتلون.

فيكون ذلك من باب عطف الأوصاف، فيكون ذكر سوء العذاب فهذا عام، ثم ذكر التقتيل، والاستحياء، فهذا يكون من قبيل عطف الخاص على العام، وإنما ذكره من أفراد العذاب السيء؛ لأنه أشد، هذا العذاب الذي كانوا يولونهم إياه، أشد العذاب الذي كان يقع عليهم ما هو؟ هو تقتيل الأولاد، واستحياء النساء، واستحياء النساء معناه أنهم يبقون البنت حية، وهنا عُبر بالنساء مع أن البنت صغيرة حديثة الولادة وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ لا يقال: إنها امرأة، وهي صغيرة حديثة الولادة، فهذا باعتبار ما يكون فهم يستحيونها لماذا؟ يبقونها حية حتى تصير امرأة فعبر بالغاية، فهذا أشد على النفوس، يعني الصغيرة لا عورة لها، لكن إذا صارت كبيرة، وعند عدوها، أجنبي، وعدو، يستعملها في المهن، والأعمال الشاقة التي يترفع عنها الفراعنة، فهذا في غاية المشقة فموتها أسهل، وإذا كان العرب يقتلون البنات يئدونهن خشية أن تفتقر، وتحتاج، ثم بعد ذلك تبيع العرض كما يقول بعضهم:

إِذا تذكرت بِنْتي حِين تندبني فاضت لرحمة بِنْتي عبرتي بدمي
أحاذر الْفقر يَوْمًا أَن يلم بهَا فيهتك السّتْر عَن لحم على وَضم[3]

ويقول:

أخْشَى فظاظة عَم أَو جفَاء أَخ وَكنت أُبْقِي عَلَيْهَا من أَذَى الْكَلم
تهوى حَياتِي وأهوى مَوتهَا شفقا وَالْمَوْت أكْرم نزال على الْحرم[4]

لاحظ هو رقيق المشاعر، ومع ذلك يدفنها يقول: أنا لا أتحمل كلمة توجه إليها، أخشى عليها من أذى الكلم، وأخشى عليها بعدي أن تفتقر، ويجفوها أخوها، أو عمها ثم تبيع عرضها فيئدها، ليستريح، وإلا لم تكن تلك عن قسوة، وشدة، وكراهية مجردة، وإنما خشية العواقب السيئة.

والآخر الذي عنده بنت اسمها مودة يقول:

مودة تهوى عمر شيخٍ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري[5]

والثالث الذي يقول لما خُطبت ابنته الجرباء: 

إني وإن سيقَ إليّ المهرُ ألفٌ وعبدان وذودٌ عشرُ[6]

فالحاصل أنه عُبر هنا بالنساء وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ باعتبار العاقبة.

"أو أراد به ذلك، وعطف لاختلاف اللفظة، وكان سبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل أن أخبره الكهان، والمنجمون أن هلاكه على يد مولود ذكر من بني إسرائيل."

ما سبب هذا التقتيل؟ ظاهر القرآن يدل على أن هذا التقتيل وقع أكثر من مرة:

المرة الأولى: عند ولادة موسى - عليه الصلاة، والسلام - وهذا الذي قالوا فيه: إن المنجمين قالوا له: إنه سيولد ولد من هؤلاء، وسيكون ذهاب ملكك عليه، وهلاكك على يده فصار يقتل، وهارون - عليه الصلاة، والسلام - قالوا: كان يقتل سنة، ويبقي سنة. فالسنة التي ولد فيها هارون - عليه الصلاة، والسلام - لم يكن التقتيل، ويمكن أن يكون الولد الذي يذهب ملكه على يده في السنة التي لا يقتلون فيها الأولاد!، ولهذا قال بعضهم: إن هذا التقتيل ما كان رؤيا، ولا عن قول كهان، وإنما المقصود به الإضعاف. أن يبقى هؤلاء ضعفاء، لماذا يبقي البعض؟ قالوا: من أجل أن يلووا الأعمال التي لا يليها الفراعنة يترفعون عنها، الأعمال المهينة الوضيعة، يليها هؤلاء من الإسرائيليين في الخدمة يعني، والبنات يبقونها من أجل أن تعمل في الخدمة.

التقتيل الآخر الذي حصل: هو حينما بُعث موسى ﷺ وخاطب فرعون، ودعاه فقال الملأ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ۝ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۝ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف: 127 - 129] فهذا تقتيل جديد نكاية بهم لما بُعث موسى - عليه الصلاة، والسلام - فالتقتيل، وقع أكثر من مرة.

"وقيل: إن آل فرعون تذاكروا وعد الله لإبراهيم بأن يجعل في ذريته ملوكًا، وأنبياء، فحسدوهم على ذلك، وروي أنه وكل بالنساء رجالًا يحفظون من تحمل منهن."

قوله: وروي أنه وكل بالنساء رجالًا يحفظون من تحمل منهن: يحفظون يعني يأخذون المرأة إذا حملت حتى تلد، ثم بعد ذلك يجهزون على هذا الولد.

"وقيل: بل وكّل على ذلك القوابل."

القوابل هي التي تلي المرأة عند الولادة، يقال لهن: قوابل. عملية التوليد تليها، هذه يقال لها قابلة.

"ولأجل هذا قيل معنى يستحيون: يفتشون الحياء من كل امرأة، وهو فرجها، وهذا بعيد، والأظهر أنه من الحياة ضد الموت."

يفتشون الحياء هذا بعيد، حياء المرأة يعني فرجها، يستحيون يعني ينظرون في حيائها هذا بعيد، وإنما يبقونها حية، وعلى كل حال قد يقول قائل: إبقاء البنت حية هذا جيد لا يقتلونها؟ لا، ليس بجيد؛ لأنها تبقى عند عدوها يذلها، ويهينها، فيستعملها في الأعمال الشاقة فموتها أسهل من ذهابها إلى هذا العدو - والله أعلم -.

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب: ومن سورة الأحزاب، رقم: (3205).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم، رقم:  (3169).
  3.  طبقات الشعراء لابن المعتز (ص: 281).
  4.  البحر المحيط في التفسير (3/383).
  5.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/389).
  6.  العقد الفريد (2/64).

مرات الإستماع: 0

يقول مذكرًا لهم بآلائه ونِعمه، مذكرًا بني إسرائيل بالنِعم: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فـ(إذ) هذه تكون مسبوقة بـ(اذكر) مقدرًا، على قول كثير من المحققين من أهل اللغة والتفسير، يعني: وإذ نجيناكم واذكروا إذ نجيناكم وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ [سورةالأحزاب:37] واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه.

وهنا وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ أي: اذكروا نعمتنا عليكم، حين أنقذناكم وخلصناكم من بطش فرعون، وأتباعه، وهم يذيقونكم أشد العذاب، فيكثرون من ذبح أبناءكم، وترك بناتكم للخدمة والامتهان، وفي ذلكم اختبار من ربكم، وفي إنجاءكم منه أيضًا نعمة عظيمة، فهذا الابتلاء الذي وقع عليكم من القتل والذبح للأولاد، يسومونكم سوء العذاب، فالابتلاء يكون بالخير، ويكون بالشر، بالمحبوب وبالمكروه وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورةالأنبياء:35] فالله -تبارك وتعالى- ابتلاهم بهذا وهذا، فإنجاؤهم كان من البلاء العظيم، فالإنعام يُقال له ذلك، فهنا يُذكّرهم بأن هذه النعمة تستوجب الشكر لله وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وكما ذكرنا من قبل بأن الإنجاء حصل لأجدادهم، والخطاب جاء موجهًا إلى الذين عاصروا النبي ﷺ وقلنا: بأن علة ذلك: أن النِعمة الواصلة للآباء تلحق الأبناء، فالله يمتن على هؤلاء المعاصرين للنبي ﷺ بنعمة حصلت لآبائهم، فهي واصلة للأبناء، فصح الامتنان على هؤلاء، يعني: لا يحق لأحد منهم أن يقول: لم يحصل لنا هذا، هذا حصل لأجدادنا، فهم تبع لهم في ذلك.

وفي قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أضاف التنجية والإنجاء إليه فالنجاة لا تتحقق إلا من قِبله سبحانه، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يُنجي عباده من الكروب والشدائد قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [سورةالأنعام:64] فهنا إذا وقع العبد بالشدة، فينبغي أن يتذكر أن طريق النجاة بالالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى- وسوالف ذلك هو بالاستقامة على طاعته، والإيمان به، كما قال النبي ﷺ: احفظ الله يحفظك[1] احفظ الله في حدوده يحفظك احفظ الله تجده تُجاهك[2] وقال: تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة[3] وانظروا إلى حال أولئك الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة، فقد توسلوا بصالح أعمالهم.

وهنا يقول الله : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ففسّر سوء العذاب بتذبيح الأبناء، واستحياء البنات، فجاء بالفعل المضارع، وجاء به بهذه الصيغة يُذبِّحُونَ التي تدل على كثرة الذبح يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ولم يقل: ذبحوا أبناءكم، وإنما قال: يُذبِّحُونَ كأنه يعرض عليهم هذا المشهد الذي مضى وانقضى وكأنهم يشاهدونه الآن، السكين في رقبة الطفل، حديث الولادة، وهذه أعظم في استحضار المِنة والنِعمة يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ حينما يُعبر عن أمر مضى بالفعل المضارع، ويأتي بهذه الصيغة الدالة على التكثير يُذَبِّحُونَ فكأنك تُشاهد تذبيح هؤلاء الأطفال، وهذا يدل على جبروت فرعون، وتذبيح هؤلاء الصغار بعض أهل العلم يقول: إن سببه أن فرعون قيل له: -إما برؤيا عُبرت، أو بكِهانة تُكهنت- بأنه سيخرج من هؤلاء الإسرائيليين، وكان الإسرائيليون قد جاءوا إلى مصر؛ وهم أولاد يعقوب فحينما صار يوسف عزيزًا في أرض مصر، قال: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [سورةيوسف: 93] فجاء يعقوب مع زوجته وأولاده جميعًا.

وكما ذكر الله -تبارك وتعالى- في تعبير الرؤيا: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [سورةيوسف:4] هؤلاء إخوته وهو الثاني عشر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورةيوسف:4] الأب والأم، فتحقق ذلك، وخروا لها سُجدًا، فبقوا في مصر، وتناسلوا، فكان الأسباط وهم قبائل بني إسرائيل من ذرية يعقوب، تناسلوا من أولاده هؤلاء، وكثروا، والمؤرخون يذكرون المدة التي كانت بين مجيء يعقوب مع بنيه إلى مصر، وحينما خرجوا مع موسى وكم عدد هؤلاء، لكنها أخبار إسرائيلية، لا يعول عليها، بعضهم يذكرون أنهم بلغوا ثمانين ألفًا، وبعضهم يذكرون أنهم بلغوا أكثر من مائتي ألف.

فالمقصود: أن تذبيح هؤلاء الأولاد قيل بأن ذلك حينما استقر عند فرعون أنه يخرج من هؤلاء الإسرائيليين غُلام يكون هلاك فرعون على يده، فصار يُذبح هؤلاء الأولاد، وهارون ما ذُبح، قالوا: بأنه كان يذبح سنة، ويترك سنة، لماذا؟ قال: حتى لا يُفنيهم، فيُبقي بعضهم للخدمة، حتى لا ينقرضوا، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عما أوحى إلى أم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورةالقصص:7] فهذا قاله بعض أهل العلم في التعليل.

وبعضهم يقولون: بأن التذبيح كان بسبب أنه أراد أن يُضعف بني إسرائيل، بحيث يبقون تحت السيطرة، ويشتغلون في الخدمة، دون أن يُفنيهم، يعني بصرف النظر عما قيل من أنه حصل كِهانة أو رؤيا، أو غير ذلك، وإنما أراد إضعافهم، فصار يذبح سنة، ويترك سنة؛ ليبقون أقلية تكفي للغرض الذي أراده فرعون، وهو أن يكون هؤلاء في خدمة الفراعنة يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [سورةالبقرة:49] هذا ذكره في جملة البلاء العظيم، قد يقول قائل: إبقاء البنت حية هذه نِعمة، فلم تُذبح، يذبحون فقط الأبناء، فما وجه كون ذلك من البلاء؟

الجواب عن هذا: أن إبقاء البنت حية في يد عدوها يستذلها، ويُهينها، ويُسخرها في الأعمال المُذلة والمهينة والشاقة، فهذا من أعظم البلاء، فحينما يستحضر الإنسان أن بنته تُستذل، وتكون سُخرة لهؤلاء الفراعنة في الأعمال التي يترفعون ويتنزهون عنها، فهذا شاق، الموت أسهل عليه من كونها تبقى في يد هؤلاء الأعداء، لكن لاحظوا هنا في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) لما ذكر ما يفعلون بهم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [سورةالبقرة:49] مُباشرة قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [سورةالبقرة:49] ما جاء بحرف العطف، فلم قال: ويذبحون أبناءكم، وإنما قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ فكان تفسيرًا لسوء العذاب الذي كانوا يسمونهم به، فحُذفت الواو، لكن في سورة إبراهيم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [سورةإبراهيم:6] وهناك قال: ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ما الفرق بين المقامين؟

هنا تذكير بجنس النعمة اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [سورةالبقرة:40] فالنِعمة جنس مُضاف إلى معرفة، تذكير لهم بجنس النعمة، فجعل ذلك تفسيرًا لهذا يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وليس مقام تفصيل في النِعم وتعداد، فهناك في سورة إبراهيم قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [سورةإبراهيم:5] فهو مقام تفصيل للنِعم، تعداد للنعِم، فجاء بها مُفصلة ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ فهذه نعمة مستقلة، وهكذا وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فهذا فرق بين المقامين.

وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ولاحظ التفخيم في التنكير (بلاء) و(عظيم) بلاء نكرة، ثم وصفه بأنه عظيم، فهذا يدل على التهويل.

وآل الرجل يُطلق بإطلاقات مُتعددة، فمن هذه المعاني: أن يُقال ذلك يدخل فيه الرجل الذي أُضيف إليه، آل فرعون، ويدخل فيه أتباعه، فحينما يقول: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [سورةالبقرة:49] فيدخل فيه فرعون، وأتباع فرعون، وهكذا في قوله: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ [سورةالبقرة:50] فأول من غرق هو فرعون، فهو المقصود أساسًا، فيكون داخلاً في ذلك، وحينما نقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، هنا ذكر محمدًا ﷺ ثم ذكر آله، فالآل هنا لما عُطف عليه صار غير الرجل الذي أُضيف إليه، آل محمد، فيدخل فيه الآل الذين هم زوجاته وقرابته ممن مُنعوا الصدقة، ويدخل فيه أيضًا أتباعه على دينه، فالآل يُطلق بإطلاقات مُتعددة، إطلاق ضيق، وإطلاق أوسع، وإطلاق واسع جدًا.

  1.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2516) وصححه الألباني. 
  2.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2516) وصححه الألباني. 
  3.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (2803) وقال محققو المسند: "حديث صحيح".