الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قوله - تبارك وتعالى -: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] إذا قلنا: إن الآيات الأربع في طائفة واحدة سواء قلنا بأنهم عموم أهل الإيمان من عرب، وعجم، وأهل كتاب - كما قال ابن كثير هنا -، أو قلنا القول الثالث - وهو قول بعيد - وهو أنها جميعاً في من آمن من أهل الكتاب فإن قوله: أُوْلَئِكَ يرجع إلى الجميع، وإذا قلنا بقول ابن جرير ومن وافقه: إن الآيتين قبلُ في غير أهل الكتاب، وهذه الآية، والتي بعدها في أهل الكتاب فيكون قوله: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعود على إحدى الطائفتين، وما ذكره ابن كثير - رحمه الله - هو الراجح.
وقد ردَّ شيخ الإسلام على من فرق بين هذه الآيات الأربع ممن جعل الآيتين الأوليين في من آمن من غير أهل الكتاب، والثالثة، والرابعة فيمن آمن منهم.
مسألة:
هل يصح إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ وإيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين؟
لا يصح أبداً إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ، ولا يصح إيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين.
يقول الله تعالى: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:1-4].
ويقول تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285].
ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136].
فالله - جل وعلا - أمرهم بالإيمان به، وأمرهم بالإيمان بملائكته، ورسله، وكتبه وما أشبه ذلك، سواء يذكر ذلك على سبيل الثناء عليهم، أو على سبيل التعليم، أو على سبيل الأمر أو غير ذلك، فهذه الأمور كلها مطلوبة، ولا يحصل الفلاح إلا باجتماعها جميعاً، فكل هذه الآيات الأربع في طائفة واحدة هي طائفة أهل الإيمان.
وأما قوله - تبارك وتعالى -: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة:2-3] فقد سبق الكلام عليها أيضاً، وهو أن هؤلاء إما أن يكونوا على حال صدق النية في طلب الحق، والتمحض لذلك، ومفارقة الهوى، فهم متهيئون للهداية، فالقرآن هداية لأمثالهم، أو يكون هؤلاء ممن أسلم فالله يهديهم بهذا القرآن إلى التفاصيل، فلا إشكال في الآية.
"كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] الآية. وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [سورة العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم [سورة النساء:47]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة المائدة:68]. وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ [سورة النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله، ورسله، وكتبه."المقصود أن الإيمان بالكتب السابقة ليس مختصاً بأهل الكتاب حتى يقال: إن قوله تعالى: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ المقصود بهم أهل الكتاب؛ لأنهم خوطبوا به، وإنما الصواب أن ذلك يشمل الجميع.
وكذلك لا يشكل قوله: بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ بأن يقال: كيف يؤمنون مع ما يوجد ويقع فيها من التناقضات؟ لأنها حرفت بما يتعارض مع القرآن، ولأنها منسوخة أصلاً، إذ إن حقائق الإيمان واحدة عند جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فما دخله التحريف فلا يؤمنون به، وإنما يؤمنون بأصل المنزل، وما نسخ فهم مطالبون باتباع الناسخ وهو القرآن، لكن يؤمنون بأن هذه الكتب في أصلها نزلت من عند الله .
وهنا فيما ذكره ابن جرير - رحمه الله - لاحَظوا التفريق في التعبير في ذكر هذه الأوصاف، حيث قال:  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ثم لما ذكر هؤلاء قال: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ، حيث جاء بالواو العاطفة مع الاسم الموصول "الذين"  فأشعر ذلك أنهم طائفة أخرى، وهذا هو السبب الذي حدا بهؤلاء أن يقولوا: إن هذه طائفة، وهذه طائفة، وعلى كل حال هذا كله من عطف الصفات، كقوله - تبارك وتعالى -: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3] فتارة يذكر الواو وتارة مع حذف الواو العاطفة وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3-4]، فهذا كله لموصوف واحد، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
"لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم مفصلاً، فإذا دخلوا في الإسلام، وآمنوا به مفصلاً؛ كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملاً كما جاء في الصحيح: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم، ولا تصدقوهم، ولكن قولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم[1]، ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد ﷺ أتم، وأكمل، وأعم، وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام؛ فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم".هذا يخرَّج على قاعدة ذكرتها سابقاً وهي أن: المزية لا تقتضي الأفضلية، فهؤلاء يؤتون أجرهم مرتين، ولكن لا يقتضي أنهم أفضل من غيرهم، فأبو بكر لم يكن على دين أهل الكتاب، ومع ذلك فإن منزلته وأجره عند الله أعظم من الكتابي الذي دخل في الإسلام، وكما ذكر النبي ﷺ في الذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، قال: فله أجران[2]، والآخر الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، فالماهر أفضل أجراً، ومنزلة، وحالاً، ووصفاً، فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
"أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5]، يقول الله تعالى: أُوْلَئِكَ أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل - عليهم السلام -، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة، وترك المحرمات."يقول تعالى: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ معنى اليقين الثبوت، والرسوخ، والاستقرار، والسكون، يقال: يقن الماء إذا استقر وسكن، وهو يدل هنا على سكون العلم، وثبوته، ورسوخه، والعلم هو المبدأ، واليقين هو المنتهى، فإذا زاد العلم، واستقر، ورسخ، وثبت؛ بحيث لا يقبل التشكيك؛ صار ذلك من قبيل اليقين، فأنت تعرف مثلاً أن هذه المسألة حكمها كذا، فإذا ترددت في هذا فهذا شك، وإذا غلب صار ظناً، فإذا قطعت وجزمت به فهو علم، وإذا صار ذلك العلم ثابتاً لا يقبل التشكيك فهو اليقين.
واليقين ثلاث مراتب هي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فحقائق ما أخبر الله عنه إذا صدقته، وثبت هذا عندك؛ فهذا علم اليقين، فإذا شاهدته في الآخرة فهذا عين اليقين، فإذا دخلت في بحبوحة الجنة فهذا حق اليقين.
وكما يقول شيخ الإسلام وابن القيم: "إذا رأيت العسل، ووصف لك، وعرفت حلاوته بوصف الثقة فهذا علم اليقين، فإذا رأيته فهذا عين اليقين، فإذا ذقته فهذا حق اليقين"[3].
"عَلَى هُدًى أي: نور، وبيان، وبصيرة من الله تعالى."كثيراً ما يأتي في الهدى استعمال "على"، وفي الضلال استعمال "في" كما قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، وكأن المراد أن من كان مهتدياً فهو مُستَعلٍ بهداه، وأما من ضل فهو منغمس في ضلالته، لذلك كان الأنسب في الضلال أن يستعمل "في"، وفي الهدى أن تستعمل "على".
"وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] أي: في الدنيا والآخرة، بأن أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا، ففازوا بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب."  وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح خلاصته تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، وقد يطلق الفلاح على بعض معانيه مثل البقاء في الدنيا، أو البقاء في الآخرة، والبقاء يعني الخلود كما قال القائل:
لو أن حياً يدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح
فالفلاح في البيت يعني البقاء، وهذا كثير في كلام العرب.
المقصود أن قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الذين يحصل مقصودهم ومطلوبهم بنيل المنى، والفوز العظيم في الدنيا، وفي الآخرة، ويحصل لهم النجاة من المرهوب الذي هو عذاب الله .
وعلى كل حال فالآيات فيها معان كثيرة، وملاحظ دقيقة، وفوائد جليلة، وجوانب بلاغية يمكن استنباطها.
  1. أخرجه أبو داود في كتاب: العلم - باب: رواية حديث أهل الكتاب (3644) (ج 2 / ص 342)، وأحمد (17264) (ج 4 / ص 136)، والحاكم (5538) (ج 3 / ص 404)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5052).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة عبس (4653) (ج 4 / ص 1882)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (798) (ج 1 / ص 549).
  3. مجموع الفتاوى (ج 1 / ص 645)، ومدارج السالكين (ج 2 / ص 403).

هل يصح إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ وإيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين؟
لا يصح أبداً إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ، ولا يصح إيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين. يقول الله تعالى: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:1-4]، ويقول تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136]، فالله - جل وعلا - أمرهم بالإيمان به، وأمرهم بالإيمان بملائكته، ورسله، وكتبه وما أشبه ذلك، سواء يذكر ذلك على سبيل الثناء عليهم، أو على سبيل التعليم، أو على سبيل الأمر أو غير ذلك، فهذه الأمور كلها مطلوبة، ولا يحصل الفلاح إلا باجتماعها جميعاً، فكل هذه الآيات الأربع في طائفة واحدة هي طائفة أهل الإيمان.
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:4] اخُتلف هل هم المذكورون قبل، فيكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:4] من عطف الصفات، أو غيرهم، وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفاً للمغايرة، أو مبتدأ، وخبره الجملة بعده".

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] هذا من جُملة الغيب، يعني الآخرة، وكذلك ما أُنزل من قبل النبي ﷺ لذلك فإن بعضهم حمل قوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] على طائفة أخرى، وهو من أسلم من أهل الكتاب، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك من قبيل عطف الصفات، فنزل ذلك منزلة تغاير الذوات، فيكون من جُملة أوصافهم مع الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] فخص هذا باعتبار أنه من المطالب المُهمة في الإيمان: الإيمان بجميع الرُسل، والكتب، ولا سيما هذا الكتاب آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285] فهذا ذكره في صفة النبي ﷺ وأهل الإيمان من أتباعه، فيكون قوله: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة:4] يعني: القرآن وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4] الكتب السابقة.

وهنا لم يذكر الوصف الآخر وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، والمقصود: البعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، وما إلى ذلك، وسُميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، فهذه آيات أربع في صدر هذه السورة، في صفة المؤمنين، ثم تأتي آيتان في صفة الكافرين، وثلاثة عشر آية بعدها في صفة المنافقين.

أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] لم يتعرض لهذا أُوْلَئِكَ أشار إليهم بإشارة البعيد؛ لعلو مرتبتهم عَلَى هُدًى ودخول (على) هنا يدل على الاستعلاء، وتنكير (الهدى) يدل على كماله، هدى عظيم كامل مِنْ رَبِّهِمْ كائن من ربهم وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فأشار إليهم - أيضاً - بالبعيد، وإشارة البعيد لعلو مرتبتهم، ودخل ضمير الفصل (هم) بين طرفي الكلام (أولئك المفلحون)، فجاء بـ(هم) فقال: هُمُ الْمُفْلِحُونَ فهذا فيه تقوية النسبة، فتقول: فلان كريم، فلان الكريم، لكن تقول: فلان هو الكريم، فهذا فيه تقوية نسبة الكرم إليه وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، ودخول (أل) على المُفلحين يدل أيضاً على أنهم قد استحقوا الوصف الكامل من الفلاح، تقول: فلان هو الرجل، فلان هو الجواد، فلان هو الشُجاع، غير لما تقول: فلان شُجاع، فلان جواد، وهكذا، والفلاح: تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، كما هو معلوم.

"بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْك [البقرة: 4] القرآن وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4] التوراة، والإنجيل، وغيرهما من كتب الله."

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- صفة المتقين الذين يهتدون بالقرآن في قوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:2- 4] حكم لهم بعد ذلك بالهداية: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] وحكم لهم بالفلاح: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فأصحاب هذه الصفات يسيرون على نور من الله -تبارك وتعالى- وتوفيق وهداية، وهم الفائزون الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا مما منه فروا وهربوا، وهذه حقيقة الفلاح إدراك المطلوب والنجاة من المرهوب، فحكم لهم بهذا وهذا، أنهم على هدى، وأنهم أهل الفلاح.

فتبين هنا أن الهدى مرتب على هذه الأوصاف، فقد جعل الله -تبارك وتعالى- ذلك هذه الأوصاف بين الهدى الأول هدى للمتقين، ثم ذكر أوصاف هؤلاء المتقين فأعاد ثانية وقال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] فمن أراد الهدى فعليه أن يتحقق بهذه الصفات، الإيمان بالغيب وما يدخله فيه، وإقام الصلاة، والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- الإنفاق الواجب والنفقات المُستحبة، فهذا يكون صاحبه مع الإيمان وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4] فمن كان مُستجمعًا لهذه الأمور جميعًا فهو صاحب الهدى، وبقدر ما يتحقق له من هذه الأوصاف يكون له من الهدى والحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، بقدر ما يكون من استجماع هذه الصفات يكون لصاحبها من الهدى، الذين يكونون بهذه المثابة يكونون على هدى، فإن حققوها على وجه من الكمال والتمام كانوا على هدى كمال؛ ولهذا نكَّره -تبارك وتعالى- هنا قال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] الهدى التمام، الهدى الكمال، الهدى العظيم، لأن التنكير أحيانًا يُفيد التعظيم وذلك بحسب السياق، على هدى، هدى تمام، وهكذا إذا اختل شيء من هذه الأوصاف نقص من هذا الهدى بحسب ذلك النقص الواقع.

وهذه الآية أيضًا يؤخذ منها أن الإيمان يزيد وينقص، فإن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر هذه الأمور جميعًا قال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] هدى عظيم، فإذا نقص شيء من هذه الأوصاف نقص من هذا الاهتداء، فيكون نقصًا في إيمان العبد، وهذه قضية معلومة مُقررة بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة، وعليها إجماع أهل السنة والجماعة، أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

ثم تأمل أيضًا الإشارة إليهم بالبعيد أُوْلَئِكَ الذين حققوا هذه الأوصاف فهذا يدل على علو مرتبتهم ورفيع منزلتهم أشار إليهم بإشارة البعيد؛ لأن القريب يُشار إليه بهذا، والمتوسط يُقال له: ذاك، والبعيد يُقال له: ذلك، وهكذا يُقال أيضًا: أولئك للبعيد.

ثم تأمل أيضًا الإتيان بحرف على: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] فحرف "على" يفيد الاستعلاء فهم مستعلون بهذا الهدى، مُتمكنون أيضًا من هذا الهدى فقلوبهم ونفوسهم مستقرة بذلك ثابتة عليه ليس عندهم أدنى تردد وشك وريب فهم على هدى يتيقنونه وهم ثابتون عليه غاية الثبات، فمن أراد الثبات على الهدى فعليه أن يُثبت إيمانه بمثل هذه الأمور المذكورة.

فهذا وما ذُكر بعده يدل على القدر الذي وصل إليه هؤلاء الناس، هذا الإبهام بالهدى، الذي لا يُبلغ كُنهه ولا يُقادر قدره، كما تقول: لو رأيت فلانًا لرأيت رجلاً، يعني رجلاً عظيمًا مستجمعًا لأوصاف الرجولية، وهكذا هؤلاء فهم على هدى، يعني: في غاية الكمال والتمام.

وأتى بتكرار الإشارة في قوله: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] لم يقل: وهم المفلحون، وإنما قال وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذا يفيد التوكيد؛ توكيد هذه الأوصاف: الهداية والفلاح، وأنهم قد حققوا المرتبة العليا من الهداية وما يترتب عليها من الفلاح ويُبنى عليها، وهذا يدل على عناية أيضًا بشأن هؤلاء المتقين الذين يذكر أوصافهم في هذه الآيات أو الُجمل، وكذلك أيضًا هذا التكرار يدل على أن الهدى الذي هم عليه وكذلك الفلاح كل واحد كأنه مُستقل قد تميزوا به، ونالوا منه ما نالوا من الكمال والتمام، تميزوا بذلك عن غيرهم بكل واحد من هذين الوصفين العظيمين بحيث لو انفرد أحدهما لكفى في التميز بمفرده: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] حصلوا هذه الأوصاف العظيمة التي كأنهم انفردوا بها واستجمعوها.

وكذلك أتى بواو العطف أيضًا في قوله: وَأُوْلَئِكَ لم يقل: أولئك على هدى من ربهم، ثم قال: هم مفلحون، مثلاً، أو قال: أولئك مفلحون، ليحكم لهم بالفلاح وإنما جاء بالواو وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذان خبران أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] على هدى هذا الأول وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذان أمران مُتميزان مقصودان، فهذا كله يرجع إلى ما ذُكر باعتبار أن كل وصف كأنه يقوم بنفسه يتميزون به، ومعلوم أن الشيء لا يُعطف على نفسه أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] في هذه الآية لم يأت بالعاطف وإنما قال الله تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] فلو كان الخبر الثاني في معنى الأول في هذه الآية من سورة البقرة: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] لم يأت بحرف العطف أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] فهذا كله يرجع إلى أولئك: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] يعني: أولئك أضل من الأنعام، فكلاهما -كِلا المذكورين- يرجعان إلى الأول الذي هو أولئك، لكن أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى [سورة البقرة:5] هذا مُستقل وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] هذا أيضًا مُستقل.

ثم أيضًا الإتيان بضمير الفصل في قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذا فيه تقوية النسبة بين طرفي الكلام، يعني: أولئك "هم"، يعني: إضافة الهدى إلى هؤلاء ودخول أل على قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] يُشعر بالحصر، وكأنهم قد حققوا الوصف الكامل من الفلاح، كأنه لا مُفلح إلا هم، كما تقول زيد هو الشجاع، وزيد هو الشهم، وزيد هو الرجل، يعني: الذي قد استجمع صفات الرجولية أو الشجاعة أو غير ذلك من الأوصاف الكاملة بحسب ما يُذكر.

ثم انظر في هذه الآيات وهذه الصفات وما فيها من حُسن التقسيم فقد استجمعت جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات البدنية والمالية التي يعكف عليها أهل الإيمان: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] بعد ما ذكر تلك الأوصاف الكاملة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5].