وقد ردَّ شيخ الإسلام على من فرق بين هذه الآيات الأربع ممن جعل الآيتين الأوليين في من آمن من غير أهل الكتاب، والثالثة، والرابعة فيمن آمن منهم.
مسألة:
هل يصح إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ وإيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين؟
لا يصح أبداً إيمان من لم يؤمن بمحمد ﷺ، ولا يصح إيمان من لم يؤمن بالأنبياء السابقين.
يقول الله تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:1-4].
ويقول تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285].
ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136].
فالله - جل وعلا - أمرهم بالإيمان به، وأمرهم بالإيمان بملائكته، ورسله، وكتبه وما أشبه ذلك، سواء يذكر ذلك على سبيل الثناء عليهم، أو على سبيل التعليم، أو على سبيل الأمر أو غير ذلك، فهذه الأمور كلها مطلوبة، ولا يحصل الفلاح إلا باجتماعها جميعاً، فكل هذه الآيات الأربع في طائفة واحدة هي طائفة أهل الإيمان.
وأما قوله - تبارك وتعالى -: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة:2-3] فقد سبق الكلام عليها أيضاً، وهو أن هؤلاء إما أن يكونوا على حال صدق النية في طلب الحق، والتمحض لذلك، ومفارقة الهوى، فهم متهيئون للهداية، فالقرآن هداية لأمثالهم، أو يكون هؤلاء ممن أسلم فالله يهديهم بهذا القرآن إلى التفاصيل، فلا إشكال في الآية.
"كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] الآية. وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [سورة العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم [سورة النساء:47]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة المائدة:68]. وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ [سورة النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله، ورسله، وكتبه."المقصود أن الإيمان بالكتب السابقة ليس مختصاً بأهل الكتاب حتى يقال: إن قوله تعالى: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ المقصود بهم أهل الكتاب؛ لأنهم خوطبوا به، وإنما الصواب أن ذلك يشمل الجميع.
وكذلك لا يشكل قوله: بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ بأن يقال: كيف يؤمنون مع ما يوجد ويقع فيها من التناقضات؟ لأنها حرفت بما يتعارض مع القرآن، ولأنها منسوخة أصلاً، إذ إن حقائق الإيمان واحدة عند جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فما دخله التحريف فلا يؤمنون به، وإنما يؤمنون بأصل المنزل، وما نسخ فهم مطالبون باتباع الناسخ وهو القرآن، لكن يؤمنون بأن هذه الكتب في أصلها نزلت من عند الله .
وهنا فيما ذكره ابن جرير - رحمه الله - لاحَظوا التفريق في التعبير في ذكر هذه الأوصاف، حيث قال: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ثم لما ذكر هؤلاء قال: والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ، حيث جاء بالواو العاطفة مع الاسم الموصول "الذين" فأشعر ذلك أنهم طائفة أخرى، وهذا هو السبب الذي حدا بهؤلاء أن يقولوا: إن هذه طائفة، وهذه طائفة، وعلى كل حال هذا كله من عطف الصفات، كقوله - تبارك وتعالى -: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [سورة الأعلى:1-3] فتارة يذكر الواو وتارة مع حذف الواو العاطفة وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:3-4]، فهذا كله لموصوف واحد، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
"أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5]، يقول الله تعالى: أُوْلَئِكَ أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل - عليهم السلام -، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة، وترك المحرمات."يقول تعالى: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ معنى اليقين الثبوت، والرسوخ، والاستقرار، والسكون، يقال: يقن الماء إذا استقر وسكن، وهو يدل هنا على سكون العلم، وثبوته، ورسوخه، والعلم هو المبدأ، واليقين هو المنتهى، فإذا زاد العلم، واستقر، ورسخ، وثبت؛ بحيث لا يقبل التشكيك؛ صار ذلك من قبيل اليقين، فأنت تعرف مثلاً أن هذه المسألة حكمها كذا، فإذا ترددت في هذا فهذا شك، وإذا غلب صار ظناً، فإذا قطعت وجزمت به فهو علم، وإذا صار ذلك العلم ثابتاً لا يقبل التشكيك فهو اليقين.
واليقين ثلاث مراتب هي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فحقائق ما أخبر الله عنه إذا صدقته، وثبت هذا عندك؛ فهذا علم اليقين، فإذا شاهدته في الآخرة فهذا عين اليقين، فإذا دخلت في بحبوحة الجنة فهذا حق اليقين.
وكما يقول شيخ الإسلام وابن القيم: "إذا رأيت العسل، ووصف لك، وعرفت حلاوته بوصف الثقة فهذا علم اليقين، فإذا رأيته فهذا عين اليقين، فإذا ذقته فهذا حق اليقين"[3].
"عَلَى هُدًى أي: نور، وبيان، وبصيرة من الله تعالى."كثيراً ما يأتي في الهدى استعمال "على"، وفي الضلال استعمال "في" كما قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة سبأ:24]، وكأن المراد أن من كان مهتدياً فهو مُستَعلٍ بهداه، وأما من ضل فهو منغمس في ضلالته، لذلك كان الأنسب في الضلال أن يستعمل "في"، وفي الهدى أن تستعمل "على".
"وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] أي: في الدنيا والآخرة، بأن أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا، ففازوا بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب." وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح خلاصته تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، وقد يطلق الفلاح على بعض معانيه مثل البقاء في الدنيا، أو البقاء في الآخرة، والبقاء يعني الخلود كما قال القائل:
لو أن حياً يدرك الفلاح | لناله ملاعب الرماح |
المقصود أن قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الذين يحصل مقصودهم ومطلوبهم بنيل المنى، والفوز العظيم في الدنيا، وفي الآخرة، ويحصل لهم النجاة من المرهوب الذي هو عذاب الله .
وعلى كل حال فالآيات فيها معان كثيرة، وملاحظ دقيقة، وفوائد جليلة، وجوانب بلاغية يمكن استنباطها.
- أخرجه أبو داود في كتاب: العلم - باب: رواية حديث أهل الكتاب (3644) (ج 2 / ص 342)، وأحمد (17264) (ج 4 / ص 136)، والحاكم (5538) (ج 3 / ص 404)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5052).
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة عبس (4653) (ج 4 / ص 1882)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (798) (ج 1 / ص 549).
- مجموع الفتاوى (ج 1 / ص 645)، ومدارج السالكين (ج 2 / ص 403).