الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6]، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: غَطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به." في الآيات الأربع الأولى ذكر تعالى صفات أهل الإيمان الذين هم أهل الفلاح، والآن يذكر صفة الكفار، ثم بعد ذلك سيذكر صفة من أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر ممن أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: غَطوا الحق وستروه، هذا هو التعريف اللغوي للكفر؛ لأن أصل هذه المادة (كَفَرَ) تدل على الستر والتغطية كما قال الشاعر:
يعلو طريقة متنها متواتراً في ليلة كفر النجوم ظلامها
بمعنى غطاها وسترها.
والكفر في المعنى الشرعي لا يختص بالستر والتغطية، وإنما قد يكون هذا الإنسان إنما وقع في الكفر لكونه شاكاً، أو لكونه أصلاً لم يعلم بشيء إطلاقاً، فهو كافر بغض النظر عن كونه يعذر أو لا يعذر، فهو وإن لم يبلغه دين أصلاً فإنه موصوف بالكفر، والكفر أسبابه كثيرة فلا يختص بالجحود، أو بمجرد الستر والتغطية.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: لم يحققوا الإيمان المنجي من عذاب الله، أياً كان السبب.  
"كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96-97]. وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ [سورة البقرة:145] الآية."في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ جواب عن إشكال في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:6-7]، وهو كيف أن الله أخبر عن الكفار بأنهم لا يؤمنون، ويستوي في حقهم الإنذار وعدم الإنذار، حيث إن ظاهر اللفظ العموم؛ لأن الاسم الموصول من صيغ العموم، وعلل ذلك بأن الله ختم على قلوبهم، مع أنه من المعلوم أن من الكفار من خرج من الكفر فآمن بالله بعد الإنذار!
والجواب هو: أن المقصود بالذين لا يؤمنون من الكفار مع حصول الإنذار، وعدم حصوله؛ هم من حقت عليهم كلمة الله، أي من قضى الله عليهم، وسبق في علمه أنهم لن يؤمنوا، فهم لا يفارقون الكفر، ولا يتحولون إلى الإيمان بحال من الأحوال، ولهذا قال ابن كثير في تفسيره: إنهم المعاندون.
ولهذا ذهب ابن جرير - رحمه الله - وطائفة من السلف إلى أن المعنيون بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ "هم طائفة معينة مخصوصة من المشركين، واليهود".
وبعضهم يقول قولاً يشبه هذا وهو "أنهم قادة أهل الأحزاب من المشركين، وكبارهم، ورءوسهم"، وهذا لا ينافي القول الأول.
وبعضهم يقول: "هم الذين قتلوا في بدر".
وعلى كل حال فهذه الآية لا بد أن يقال فيها: إنها خاصة وليست على ظاهرها في العموم، والذي جاءنا بهذا التخصيص هو الواقع، وبالتالي يمكن أن يكون المقصود بها أهل العناد، ومن سبق في علم الله أنه لن يؤمن، فهؤلاء يستوي في حقهم الإنذار وعدم الإنذار، وليس هذا القول بلازم، إلا أنه قول له وجه؛ لأن من كان شاكاً أو غير ذلك كالذي ذهب، وترك النبي ﷺ، ولم يؤمن بعد أن ناقش النبي ﷺ مناقشة فيها تورع؛ فهذا يدخل في الآية مع أنه ليس معانداً، إلا أن القول في هذه الآية إنها في المعاند هو الأقرب، لكن بعض أهل العلم حينما يفسرون الكفر يقولون: هو الستر والتغطية من قولهم للزارع فلاح، يقال له: كافر؛ لأنه يدفن البذر في التربة، فهو يغطيها، ويسترها، لكن ليس هذا فقط هو المعنى الشرعي.
"أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له، ومن أضلَّه فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهِِمنَّك ذلك؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [سورة هود:12]، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال: كان رسول الله ﷺ يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس، ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل."

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] الآية، فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن، كأبي جهل، فإن كان الَّذِينَ للجنس، فلفظها عام، يراد به الخصوص، وإن كان للعهد، فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم، فقيل: المراد من قُتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، اليهوديان".

هذا جواب عن سؤال مُقدر، وهو أن الله - تبارك، وتعالى - حكم على الكافرين بأنه يستوي في حالهم الإنذار، وعدم الإنذار، أنهم لا يؤمنون، ومعلوم أن كثيراً من الكافرين يؤمن، ويدخل في الإسلام، ويهديهم الله كان هذا في زمن النبي ﷺ وما بعده، فكيف قال هنا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] مع أن الواقع أن الكفار منهم من يؤمن، وهم كثير، فهذا هو السؤال الذي يرد في هذا الموضع، ونظائره.

والجواب عن هذا: هنا يقول: "فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن" فيكون هذا من قبيل العام المُراد به الخصوص، وهذا غير العام المخصوص، فالعام المخصوص يعني العام الذي جاء دليل، وأخرج بعض الأفراد منه، أما العام المُراد به الخصوص: أن يكون القالب من قوالب العموم، يعني الصيغة صيغة عموم، ولكنه يُراد به معنى خاص ابتداء، يعني لم يرد دليل آخر يُخصصه.

يقول: "فإن كان الَّذِينَ للجنس، فلفظها عام، يُراد به الخصوص" فالذين هنا من صيغ العموم، فهذا لفظ عام أُريد به خاص، وإن كان للعهد الذين يعني كُفاراً مُعينين، فهنا يقول: "إشارة إلى قوم بأعيانهم، واُختلف فيهم هل هم من قُتل ببدر"... إلى آخره، والأول أقرب - والله أعلم - ؛ ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في مثل هذا الموضع، وما أشبهه: بأن المقصود بذلك من سبق عليه الكتاب أنه لا يؤمن[1]، ومن كان مُصراً على الكفر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6] يعني: ممن قضى الله عليهم بالكفر قدره عليهم، وحرمهم التوفيق، فهؤلاء مهما جاءهم من البراهين، والأدلة، والآيات، فإنهم لا يؤمنون.

"سَوَاءٌ [البقرة:6] خبر (إن)، وأَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6] فاعلٌ به؛ لأنه في تقدير المصدر، أو سواءٌ مُبتدأ، و(أنذرتهم) خبره، أو العكس، وهو أحسن".

يعني إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:6] فيكون الاسم الموصول هو اسم (إن) وسواء خبر، وأأنذرتهم فاعلٌ به؛ لأنه في تقدير المصدر، يعني: سواء إنذارُك لهم، أو سواء مُبتدأ، وأنذرتهم خبر، إن الذين كفروا سواء أنذرتهم، سواء مُبتدأ، وأنذرته خبره، أو أنذرتهم سواء، أو العكس، وهو أحسن، والذي يظهر - والله أعلم - أن (سواء) هو الخبر، سواء إنذارهم، وعدمه، يقول: لا يؤمنون.

لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] على هذه الوجوه: استئناف للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضاً، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة في أَأَنذَرْتَهُمْ لمعنى التسوية، قد انسلخت من معنى الاستفهام".

يعني يستوي إنذارهم، وعدمه.

مداخلة: وعلى القول بأنها خبر؟ 

إذا قلنا: بأنها خبر على الأول يكون (الذين) اسم الموصول هو المُبتدأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:6] هذا هو الخبر، وهذا هو المُتبادر - والله أعلم -.

  1. منهاج السنة النبوية (3/ 103).

 

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- وصف المؤمنين الذين يهتدون بالقرآن، وهم أهل التقوى، قابل هؤلاء بأضدادهم وهم الكفار، فهذه هي الفئة الثانية التي ذكرها الله ووصفها في صدر هذه السورة الكريمة سورة البقرة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] هؤلاء الذين يُصرون على الكفر والضلالة، وقد قضى الله -تبارك وتعالى- بعدم اهتدائهم، يستوي الحال: حال الإنذار وترك الإنذار في حقهم فهم لا يؤمنون.

هؤلاء الكفار ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو وتقدست أسمائه، الذي يعلم الخفايا والخبايا وما تُكنه الصدور وتنطوي عليه القلوب، فذكر أن هؤلاء لا يُجدي معهم دعوة ولا نُصح، ولا يفيد معهم ولا يُجدي الإنذار إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] وفي هذا تسلية للنبي ﷺ من أجل أن لا يبتأس ولا يحزن لعدم إيمانهم، فقد أخبره الله -تبارك وتعالى- سلفًا بأن دعوته لن تُجدي مع هؤلاء الناس، وإنما غاية ما هنالك أن ذلك يكون فيه من إقامة الحجة عليهم وقطع المعاذير، أما القلوب فإنها مُغلقة مُغلفة كما سيأتي قد طبع الله عليها وختم كما ختم على الأسماع وجعل على الأبصار غشاوة.

فإذا علم النبي ﷺ مثل ذلك لم يثقل عليه إعراضهم، وقد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله -تبارك وتعالى- ينهاه ربه عن الحُزن لعدم إيمان هؤلاء الكفار: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [سورة الكهف:6] أي: مُهلك نفسك عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] وإذا عرف المؤمن ذلك فإنه يكون أيضًا مُتسليًا بمثل هذه الآية، فلا يبتأس ولا يحزن حينما يبقى فئام من الكفار لا يستجيبون لدعوة الإسلام، والله -تبارك وتعالى- قد قضى أن أكثر الخلق لا يؤمنون، وقال لنبيه ﷺ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الأنعام:116] فهؤلاء يبقون على كفرهم ولكن المؤمن يؤدي رسالته ودعوته ويبقى أجره وافيًا عند الله -تبارك وتعالى- لا ينقص، النبي ﷺ أخبرنا: "أن النبي يأتي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد"[1].

وأخبرنا عن نوح أنه ما آمن معه إلا قليل، مع طول المدة التي بقيها في قومه بقي ألف سنة إلا خمسين عامًا، قبل الطوفان يدعوهم ومع ذلك لم يستجيبوا، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا ينقصهم نُصح وصدق في الرغبة في هداية قومهم، ولا ينقصهم العلم بمُقتضيات الدعوة ومُتطلباتها، ولا ينقصهم البيان والأساليب الصحيحة التي تُعرض بها الحقائق، ومع ذلك يبقى من أعمى قلبه غير مُستجيب لهذه الدعوة.

وفي قوله -تبارك وتعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:6] يعني: يستوي الحال: الدعوة وترك الدعوة، وذلك أن القلوب لم تعد محلاً قابلاً للدعوة فلا يصل إليها خير؛ لأنها صارت مُغلفة وقد طُبع عليها وخُتم فلا يصل إليها التذكير والوعظ.

وقوله -تبارك وتعالى: أَأَنذَرْتَهُمْ [سورة البقرة:6] لاحظوا هنا أنه عدل عن المصدر لم يقل: سواء عليهم الإنذار وعدم الإنذار، وإنما قال: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [سورة البقرة:6] فعدل إلى الفعل أنذر لما فيه من إيهام التجدد، والفعل يفيد ذلك.

أَأَنذَرْتَهُمْ هذا الإنذار يتكرر ويحصل مرة بعد مرة ومع ذلك لا يُجدي، ثم أيضًا تأمل دخول الهمزة هنا: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [سورة البقرة:6] وكذلك: أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [سورة البقرة:6] لتقرير معنى الاستواء بالحالين وتأكيده، الحال مستوية سيان الإنذار وعدم الإنذار.

لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:6] فهذا التركيب يدل على العموم، لا يؤمنون بحال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات، فهم باقون على هذه الضلالات والكفر لا يُفارقونها بحال من الأحوال.

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (2448)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط البخاري"، وأخرجه البخاري بلفظ مقارب، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، برقم (6541).