الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰٓ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - تعالى في قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [سورة البقرة:7]. قال السّدي: "خَتَمَ اللّهُ أي: طبع الله"، وقال قتادة في هذه الآية: "استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون، ولا يفقهون، ولا يعقلون"، وقال ابن جُرَيْج: "قال مجاهد: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ قال: الطبع، ثبتت الذنوب على القلوب فحثت به من كل نواحيه، حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم، قال ابن جريج: "الختم على القلب، والسمع"، قال ابن جُرَيْج: "وحدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله".

أؤكد على أن عبارات السلف عند تفسيرهم للألفاظ أو الجمل أنهم يقصدون بتفسيرهم تقريب المعنى بعبارة يفهم منها المراد من غير تكلف، وهذا ما نجده في هذه التفسيرات.
يقول في قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ قال السدي: "طبع الله،" ففسر الختم بالطبع، مع أن الختم ليس معناه الطبع في لغة العرب، وحتى في أصل معناه المقصود بالآية عند طائفة من أهل العلم، فبعضهم يرى أن الختم بمعنى الاستيثاق من الشيء بحيث لا يدخل فيه ما كان خارجاً منه، ولا يخرج منه ما كان بداخله.
فلو أن عندك جرة أو قربة - مثلاً - مختوم عليها فمعنى ذلك أنه قد أحكم إغلاقها، فلا يدخل فيها شيء من خارج، ولا يخرج منها شيء مما في داخلها، هذا هو الختم.
والمعنى هنا أن هذه القلوب صارت لا تستقبل، ولا تتأثر، ولا تنتفع فهو قلب أقفل، هذا هو المراد، وبعض أهل العلم يرون أن هذا الختم درجة من درجات إغلاق القلب عن الهدى، والدرجة التي فوقها وهي أعظم منها هي درجة الطبع، وإذا أردت أن تجعل الدرجات أكثر من هذا فيمكن أن تدخل درجة الرَّان كذلك، لكن الرَّان أيسر من الطبع على القلب، فيرون أن الران بمعنى طبقة تغطي القلب، وتغلفه بحيث لا ينفذ إليه ما يؤثر فيه ويحركه، فلا ينتفع، وهذه الطبقة التي هي الران يمكن أن تزول، ثم يعود بالقلب إليه حياته، وعافيته، لكن من طبع على قلبه فقد استحكم الغواية، والضلال، فلا ينفع معه موعظة، ولا تأثير، كما قالوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [سورة فصلت:5] نسأل الله العافية.
وقتادة فسر الختم بما لا يفسر به عند المتأخرين؛ إذ إنه في تفسيره أعاد اللفظ ثانية فقال: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على قلوبهم: ومعنى استحوذ عليهم أي غلبهم، وتمكن منهم، فهو لم يفسر معنى الختم، لكن عند المتأخرين لشدة تنقيرهم، وتكلفهم؛ يعدون أي إعادة للفظة المراد تعريفها من عيوب التعريف، ويقولون: يلزم منه الدور، ومعنى الدور مثل ما لو قلت لي: ما هي الساعة؟ فقلت لك: الساعة هي الساعة التي يعرف بها الوقت، فهنا سأعيد عليك السؤال مرة أخرى، وأقول لك: وما هي الساعة؟
لذلك ينبغي أن تقول - مثلاً: الساعة هي آلة يعرف بها الوقت، أما أن تعيد لفظة الساعة في التعريف فهذا عند المتأخرين يعتبر خطأً.
وقل مثل ذلك فيما لو قلنا: ما هو الباب؟ فينبغي أن تقول: الباب في المحسوسات هو المنفذ الذي يكون منه المدخل والمخرج، وفي المعنويات هو طائفة من العلم مخصوصة مندرجة تحت كتاب، أي: مسائل من العلم مخصوصة تندرج تحت كتاب، أما أن تقول: الباب هو الباب الذي يكون منه المدخل والمخرج، فهذا خطأ في التعريف.
المقصود أن السلف كانوا يبتعدون عن التكلف، أما المتأخرون فقتادة عندهم لم يفسر الختم بل لا يزال بحاجة إلى تفسير، ومعاذ الله أن نقول مثل هذا الكلام.
وبالنسبة لابن جريج فقد فسر الختم بالطبع أيضاً، ثم فسره بما يصدق على الران، وعلى هذا الاعتبار فالطبع، والختم، والران في تفسير السلف كلها بمعنىً واحد.
فالذنوب تجتمع على القلب فتغلفه وتكسوه طبقة، وهذه الطبقة إذا استحكمت فإنه لا ينفع فيه موعظة، ولا ينفذ إليه ما يؤثر فيه، فعبارات السلف قربوا بها هذا المعنى، ومن فرق جعل ذلك على مراتب.
والمقصود على كل حال أن القلب يحصل له مثل هذه العوارض بسبب الذنوب، ولذلك اختار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - أن أحسن ما تفسر به هذه الآية هو الحديث الثابت عن النبي ﷺ في مقارفة الذنوب، حيث يقول ﷺ يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عـوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً؛ إلا ما أشرب من هواه[1].
الكوز معروف إذا قُلِب أي نُكس فلا يمكن أن يجتمع المائع بداخله، وكذلك القلب ينكس إذا كثرت عليه الذنوب بعد أن تغطيه الطبقة التي يقال لها: الران، فلا يتأثر، ولا ينتفع بعد ذلك، والعياذ بالله.
قال ابن جريج: "الختم على القلب والسمع" قول ابن جريج - رحمه الله - هذا لم يرد ابن جريج أن يبين المعنى، وإنما قصد شيئاً آخر، وهو أن يبين أن قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ مرتبط بعضه ببعض، فكما أنه يختم على القلب فكذلك يختم على السمع فلا يسمع ما ينتفع به، وأما البصر فلا يختم عليه، وإنما يحصل له ما يغشيه أي: يغطيه؛ فلا يرى الأشياء على حقيقتها، فيزين له المنكر والباطل، ويرى الحق باطلاً، ويرى الباطل حقاً، فتنعكس الموازين والمقاييس عند هذا الإنسان، وليس المقصود بالبصر هنا النظر بالعين، لكن المقصود أنه لا يبصر إبصاراً ينتفع به، ويتعظ به.
الحاصل أن ابن جريج بهذه العبارة ما أراد أن يفسر المعنى، وإنما يريد بيان وجه الارتباط، أو ما الذي يرتبط بعضه ببعض من هذا الكلام، فيكون الوقف في الآية على هذا الاعتبار، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْثم وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، وفي قراءة بنصب غشاوة، وعلى هذه القراءة يمكن أن تكون على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويمكن أن تكون على سبيل الإتباع فقط، فتكون جاءت منصوبة إتباعاً لما سبق على محل ختم على قلوبهم، فالقلوب مفعول به في الواقع من ناحية المحل، والأسماع كذلك تكون من باب الإتباع فقط، لكن الختم في الواقع لا يتعلق بها.
يقول مجاهد: الرّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله: الران هو الطبقة التي تغطي القلب، ثم يطبع عليه، ثم بعد ذلك يحصل إقفال للقلب.وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضَمّ، وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضُمّ، وقال بأصبع أخرى هكذا حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال: يطبع عليه بطابع. أي إلى أن يصير القلب مغلقاً بعد أن كان مفتوحاً يتلقى ما ينفعه.
"وقال مجاهد: "كانوا يرون أن ذلك: الرين"، قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين؛ مجازاة لكفرهم كما قال: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:155]، وذكر حديث تقليب القلوب: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك[2] وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله ﷺ قال: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادَّاًً كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا .. ​​​​​​​الحديث[3].يعني تعرض الفتن على القلوب كالحصير الذي أعواده متتابعة، فالإنسان تعرض عليه فتن الشبهات، وفتن الشهوات شيئاً بعد شيء، فإذا نجا من هذه عرضت الأخرى، وإذا نجا من هذه عرضت الأخرى، وهكذا في سيره إلى الله حتى يحصل له التمحيص، فمن أشربها فإن ذلك يكون نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب انجلت، فإن أمعن واسترسل جاءته الفتنة الأخرى والثالثة والرابعة، وعند ذلك يطمس على قلبه فما ينتفع بعد ذلك بشيء.
لذلك ترون الجماعة من الناس يسمعون الموعظة الواحدة في مكان واحد فمنهم من يبكي ويتأثر، وينيب ويستجيب، ويعمل، ومنهم من لا يحرك لذلك فيه ساكناً، وكل ذلك مع أن التوجيه واحد من بيان الأحكام، والحلال والحرام وغير ذلك، يسمعها اثنان فهذا يقبل غاية الإقبال ويطبِّق، والآخر كأنك لا تحدثه، أو كأنك تحدث جماداً، بل قد تجده يستنكف ويستهزئ، وسبب هذا كله أن كل شخص عنده من القبول بقدر ما عنده من سلامة القلب، وصحة التقوى في نفسه، فهو يستجيب ويتأثر بقدر ذلك.
قوله: أسود مرباداً: الأسود المرباد هو السواد المشوب بحمرة، فهذا لون قلبه أسود معه لون آخر كالحمرة، وهذا الختم، والطبع، واللون كله أشياء معنوية وليست حسية؛ فقلوب الناس لو فتحناها لوجدناها كلها سواء من الناحية الحسية.وقال ابن جرير: "والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله ﷺ وهو ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه، فإن تاب، ونزعَ، واستعتب؛ صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين:14] [رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح].

هذا الحديث جيد الإسناد، وثبت عن النبي ﷺ في الذي يترك ثلاث جمع.
وفي قول القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله قد وصف نفسه بالختم، والطبع على قلوب الكافرين؛ مجازاة لكفرهم؛ المقصود إجماع من يعتد به، وإلا فإن بعض طوائف الضلال يؤولون مثل هذه الأشياء تأويلات بعيدة وفاسدة كالمعتزلة الذين لا عبرة بقولهم في الإجماع، لكن أهل السنة يقررون ما أثبته الله ، فهنا أخبر الله - جل وعلا - عن نفسه أنه يختم على بعض القلوب، وذلك جزاءً وفاقاً؛ وذلك أن الخلق خلقه، والملك ملكه، والهداية ملكه المحض، فإن أعطاك ففضل، وإن حرمك فعدل، ثم إن الله عليم خبير، يعلم أحوال الخلق، وما تنطوي عليه نفوسهم، وسرائرهم، فيوفق أقواماً، ويخذل آخرين.
والله يقول: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10]، فليس لأحد أن يحتج بالقدر على غوايته، فعلى العبد أن يصدق مع الله ، والله يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة التوبة:115]، ويقول تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143]، فلا يترك الإنسان العمل الصالح، والاستقامة، والهدى، فالنبي ﷺ قال كما في حديث سراقة يقول: اعملوا فكل لما ميسر لما خلق له[4].واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِملو جيء بالعبارة التي قالها ابن جريج هنا لكان ذلك أليق بمحلها، وهي قوله: "الختم على القلب، والسمع".وقوله وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب، وعلى السمع، والغشاوة - وهي الغطاء - يكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن ابن عباس وعن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم في قوله: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ يقول: فلا يعقلون، ولا يسمعون، يقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.

ابن كثير - رحمه الله - يتكلم هنا عن موضع الوقف التام، هل هو على قلوبهم فتكون الآية: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ثم وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فيكون الختم فقط على القلب، والغشاوة على السمع، والبصر، أم الختم يكون للقلب مع السمع، وتكون الغشاوة خاصة للبصر، فيكون الوقف التام في الآية هكذا: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ثم وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ.
والقول الثاني هو الراجح، ويدل لذلك قوله تعالى: فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [سورة الشورى:24]، ويوضح ذلك أكثر الآية الأخرى في سورة الجاثية، وهي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [سورة الجاثية:23].

  1. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً وإنه يأرز بين المسجدين (144) (ج 1 / ص 128).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: القدر - باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (2140) (ج 4 / ص 448)، وأحمد (17667) (ج 4 / ص 182)، والحاكم (3140) (ج 2 / ص 317)، وصححه الألباني برقم (7988) في صحيح الجامع
  3. سبق تخريجه
  4. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: قول الله تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى سورة الليل:10 (7112) (ج 6 / ص 2745)، ومسلم في كتاب: القدر - باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (2647) (ج 4 / ص 2039).

مرات الإستماع: 0

"خَتَمَ [البقرة: 7] الآية تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز، وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف، ينقبض مع زيادة الضلال إصبعاً إصبعاً، حتى يختم عليه، والأول أبرع".

يقصد أن القول بأنه مجاز أبرع، يعني: باعتبار أنه تصوير لحال هذه القلوب، حيث صارت غير قبالة للإيمان كالشيء المختوم عليه، فهنا يكون مجازاً، وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض، وهذا جاء عن مُجاهد - رحمه الله - بألفاظ مُتقاربة: أن القلب كالكف، كما قال الأعمش: بأن مجاهداً قبض البُنصر، ثم قبض التي تليها، ثم قبض التي تليها، يقول: كلما أذنب العبد ذنباً، انقبض القلب، هكذا، حتى ينقبض، فلا يصير قابلاً للهدى[1] كما جاء في الحديث: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات، والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً يعني: الكوز إذا قُلب فإنه لا يقبل المائع لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر مُنكراً، إلا ما أُشرب من هواه[2] فهو كالكف يُقبض منه بكل ذنب أُصبع، ثم يُطبع، كما قال مُجاهد - رحمه الله - وأصل الختم يقال للتغطية للشيء، والاستيثاق منه، حتى لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء.

وفسره بعض السلف كالسُدي بالطبع[3] وبهذا قال جماعة: كمُجاهد[4] وقال مُجاهد: بأن الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك جميعاً[5] وتكلم ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "شفاء العليل" على هذه الأنواع: الختم، والطبع، والإقفال، والران، وما أشبه ذلك، وبيّن المُراد بكل واحد منها، فيُراجع هناك[6] .

فهذا الختم كما أخبر الله ولا الحاجة للقول بأنه مجاز، وأن ذلك بمعنى الإضلال، بل ختم على قلوبهم، وإذا خُتم على القلب لم يعُد محلاً قابلاً للُهدى، فلا يصل إليه شيء من الموعظة، والتذكير، ونحو ذلك.

"قوله: وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] معطوف على قلوبهم، فيُوقف عليه، وقيل: الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأول: أرجح؛ لقوله: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23]".

هنا يقول: وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه" وهذا هو الراجح الذي عليه عامة أهل العلم خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ فنقف هنا؛ لأن الختم يكون على القلوب، والأسماع، يقول: "وقيل: الوقف على قلوبهم" خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] يقول: "والسمع راجع إلى ما بعده" وما الذي بعده؟ الغشاوة على الأبصار، فعلى الوقف على قوله: قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] يكون السمع خبراً مقدماً، يعني: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] فغشاوة تكون مُبتدأ، والجار، والمجرور وَعَلَى سَمْعِهِمْ في محل رفع خبر، وقوله: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ [البقرة:7] يكون معطوفاً على الخبر.

فصارت الغشاوة بهذا الاعتبار على السمع، والبصر، وهذا لا يخلو من إشكال، وهو ضعيف - والله تعالى أعلم -.

وإنما الغشاوة هي التي تكون على الأبصار، كما يدل عليه قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية:23] فالختم يكون على السمع، والقلب، قال: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23] فجاء ذلك مُصرحاً به، فيكون الوقف هكذا خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] فالختم يكون عليهما، أما البصر فيكون عليه الغشاوة وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] وبهذا المعنى يتضح تماماً.

"غِشَاوَةٌ [البقرة:7] مجاز باتفاق".

ليس باتفاق، إنما باتفاق عند من يثبتون المجاز، والمقصود بالغشاوة هي الغطاء الذي يكون على البصر، بمعنى أنه لا يُبصر الإبصار الذي ينفعه، وكذلك في السمع، فالحاسة موجودة يسمع، لكنه لا يسمع سماع انتفاع، فهو لا ينتفع بما يسمع، أو بسمعه كذلك هو أيضاً لا ينتفع بما يُبصر، أو ببصره.

"وفيه دليل على، وقوع المجاز في القرآن خلافاً لمن منعه".

 

والذي يُنازعه في هذا، يقول على ظاهره: على بصره غشاوة تمنعه من رؤية الأمور على ما هي به، يعني: ليس له بصيرة نافذة، فهو لا ينتفع بما يرى، يرى الآيات الكونية، ونحو ذلك، ولا ينتفع بشيء من ذلك؛ لأنه على بصره غشاوة.

"ووحد السمع؛ لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع".

 

هكذا أجاب عن هذا السؤال الذي يرد، وهو: لماذا يرد السمع مُفرداً، والبصر يكون مجموعاً؟ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ [الملك:23] فهنا جاء السمع في هذه الآية موحداً مفرداً، يقول: لأنه مصدر، والمصادر لا تُجمع، يقال: رجل صوم، فهذا مصدر، ورجال صوم، ورجلان صوم، فجاء الوصف مفرداً؛ لأنه مصدر، والمصادر يقولون: لا تُجمع.

وبعض أهل العلم يقول غير هذا في الجواب فيما يتصل بالمواضع التي ذُكر السمع فيها مُفرداً، وذُكرت الأبصار مجموعة، فبعضهم يقول: بأن ذلك باعتبار أن لكل واحد منهم سمعاً واحداً، كما يقال: أتني برأس الكبشين، بالإفراد، يعني رأس كل واحد منهما، وبعضهم يقول: هذا على تقدير مُضاف محذوف فيكون (على سمعهم) يعني على حواس سمعهم، لكن هذا لا يخلو من تكلُف، وبعضهم يقول: بأن ما قبل لفظ السمع، وما بعده ذُكر بلفظ الجمع، مما يدل على أن المُراد به الجمع خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] جمع، وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ [البقرة:7] جمع، فذُكر بين جمعين، فهذه قرينة تدل على أن المراد به الجمع، يعني، وعلى أسماعهم - والله أعلم -.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/ 258).
  2.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، وأنه يأرز بين المسجدين برقم: (144).                                                                                  
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/174).
  4.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (1/41).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/259).
  6.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (1/85).

مرات الإستماع: 0

ثم ذكر العلة في ذلك -عدم الاستجابة- فقال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة:7] ختم عليها بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- قد طبع على هذه القلوب فلا يصل إليها التذكير، وغطى ختم أيضًا على الأسماع فلا ينفذ منها شيء، وجعل على هذه الأبصار أغطية وغِشاوة فلا ترى الحق، فهذه الثلاث -نسأل الله العافية- حصل لها حجب كامل، الثلاث هذه هي المصادر التي يحصل بها العلم، والمعرفة، والفهم، والاعتبار، والاتعاظ وما أشبه ذلك، هي هذه الثلاث.

فالسمع والبصر ميزابان يصبان في القلب وهو موضوع الفكر والعقل، فهذه الأشياء التي يسمعها الإنسان من آيات الله المتلوة والمواعظ والتذكير حينما تصل إلى القلب فتجد محلاً قابلاً فإنه يستجيب ويتأثر ويحصل له الاهتداء والإيمان إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد قضى له ذلك، وأما إذا كان هذا القلب قد طُبع عليه وخُتم وصار في أغلفة وران على هذا القلب ما يكسبه صاحبه من الآفات والذنوب والجرائر والجرائم فإن هذا القلب -نسأل الله العافية- لا يصل إليه الهدى أصلاً، ولا يتأثر بل يكون قاسيًا كما قال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] أشد قسوة.

وقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة البقرة:74] حِجارة، وكما سيأتي في الكلام على هذا الموضع إن شاء الله، لم يقل كالحديد، الحديد إذا وضع في النار والمعادن تذوب، أما الحجارة فإنها لا تذوب في النار فشبهها بالحجارة، كالحجارة، والعرب لا زالت تُشبه القسوة بالحجارة، يُقال: قلبه حجر، فهؤلاء قد تحجرت قلوبهم، وقد ختم الله -تبارك وتعالى- على القلوب والأسماع، فهذه الآية: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [سورة البقرة:7] والوقف هنا، فالختم على القلوب والأسماع، وأما الأبصار: وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] يعني: جعل على أبصارهم غشاوة، فالغشاوة تكون على الأبصار بخلاف الختم والطبع، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [سورة الجاثية:23] فتلك الآية توضح هذه.

فهؤلاء حينما تعطلت هذه الأسماع وهم لهم آذان لا يسمعون بها، يعني: السماع الذي ينفعهم، ولهم أيضًا أبصار لكنهم لا ينتفعون بهذه الأبصار أي لا يُبصرون بها، لهم أعين لكنها لا تُبصر ما ينفعها لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179] فهذه الأعين والآذان التي لا تسمع ما ينفع ولا تُبصر ما ينفع، كذلك أيضًا تلك القلوب لا يعقلون بها، لهم قلوب لكن لا يعقلون بها ما ينفعهم، هي مثل: قلوب البهائم لا تُقبل على ما ينفعها ويرفعها، فإذا كان الإنسان نسأل الله العافية يحمل سمعًا كهذا، وبصرًا كهذا، وقلبًا كهذا، فأنى له أن يؤمن، لا يمكن بحال من الأحوال.

ونحن نُشاهد كثيرًا من الكفار يُسلمون لله -تبارك وتعالى- هنا يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [سورة البقرة:6] بعض الكفار مثل جُبير بن مُطعم سمع النبي ﷺ يقرأ آية واحدة كان النبي ﷺ في سورة الطور في صلاة المغرب، وقد جاء جُبير بن مُطعم في المدة التي كانت بعد بدر يُطالب بفكاك الأسرى أسرى المشركين، فسمع النبي ﷺ يقرأ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [سورة الطور:35] يقول: "فكاد قلبي أن يطير"[1] فلما رجع إلى مكة أعلن إسلامه وهاجر إلى النبي ﷺ سمع آية، وهذا ما زال يحدث إلى يومنا هذا.

إذن من هؤلاء الكفار الذين ذكر الله -تبارك وتعالى- حالهم هذه وهي أسوء حال؟

هؤلاء كما قلت في مضامين الكلام السابق الذين يُصرون على الكفر ممن قضى الله عليهم الضلالة فلم يوفقهم للهدى، فهؤلاء لا ينفع ولا يُجدي معهم النُصح والموعظة، ومن هنا نأخذ ما ينبغي للمؤمن من أن يُلاحظ قلبه وسمعه وبصره، هذا السمع هل يسمع ما ينفعه، وهذا البصر هل يوجه إلى ما ينفعه، ثم إذا وصل ذلك المسموع أو المُشاهد المُبصر إلى القلب هل ينتفع به، هذه الآيات التي نسمعها والمواعظ التي تطرق آذاننا هل يحصل استجابة وتحريك لهذه القلوب وانتفاع فيكون حال المؤمن بعدها أفضل من حاله قبلها؟

فإذا وجد الإنسان أنه لا تتغير حاله عند سماع الموعظة، أو الآيات، أو في مجالس الذكر فعليه أن يخاف، وأن يُراجع قلبه، يحضر خُطب الجُمع ومجالس الذكر ويسمع الآيات تُتلى في الصلاة وفي خارج الصلاة ومع ذلك لا ينتفع، يرى الآيات ويمر بالعِبر والعِظات ولكنه لا يعتبر ولا يتعظ، فهذا يدل على خلل في القلب يُخشى معه أن يُطبع على هذا القلب فلا ينتفع، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] فإذا ترك الإنسان الاستجابة والمُبادرة إلى أمر الله -تبارك وتعالى- والانقياد التام لأوامره، واجتناب مساخطه فإنه قد يُطبع على القلب.

النبي ﷺ أخبرنا عن الفتن: تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأيما ما قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين: أسود مِرباد كالكوز مُجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنكر مُنكرًا إلا ما أُشرب من هواه، وأبيض كالصفاة لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض[2].

فهذه الفتن التي تُعرض على القلوب كعرض الحصير هي ما نُشاهده ما نمر به من أطماع، وما يحصل فيه من فتن للنفوس بشيء من عرض الدنيا محرم، أو كان ذلك عبر شهوات، أو عبر مشاهدات يراها الإنسان، فإذا تحركت دواعي النفس لطلب المعصية سواء كان ذلك صورة محرمة يُشاهدها، أو مالاً يأخذه أو غير ذلك فليتذكر قبل أن يُطلق بصره أو أن يمد يده هذا الحديث: تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، فإذا فتحت هذا المشهد فهذه نُكتة سوداء، المشهد الآخر نُكتة سوداء، المشهد الثالث نُكتة سوداء، حتى يسود القلب، فيصير بحال لا يعرف المعروف ولا يُنكر المُنكر، وبهذا نعرف من أين يؤتى الإنسان، وأن هذه الجِنايات والمُقارفات هي التي تؤدي به إلى حال كهذه، فالمؤمن يخاف ويحذر ويحتاط.

وهنا أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر الختم جمع القلوب: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة البقرة:7] وأفرد السمع: وَعَلَى سَمْعِهِمْ وجمع الأبصار: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] فما وجه إفراد السمع وجمع القلوب والأبصار؟

يمكن أن يُجاب عن هذا فيُقال: إن السمع هنا جنس فيصدق على الواحد والكثير، ويمكن أن يُقال: إن السمع مُفرد مُضاف إلى معرفة وهو الضمير وذلك للعموم فيؤول المعنى إلى شيء مُتحد، والعلماء - رحمهم الله - يُجيبون عن هذا بأجوبة كقول بعضهم: بأنه وحد السمع؛ لأن لكل واحد منهم سمعًا واحدًا، كما يُقال: أتاني برأس الكبشين، يعني: رأس كل واحد منهما، يُقال ذلك إذا أُمن اللبس، ختم الله على سمعهم يعني: باعتبار كل فرد، فأفرده، بهذا الاعتبار.

وبعضهم يُجيب عن هذا بأن السمع مصدر في أصله، وأن المصادر لا تُجمع فيُقال: رجلان صوم، ورجال كذلك فروعي الأصل، لكن لما ذكر الآذان في موضع آخر قال: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [سورة فصلت:5].

وبعضهم يُجيب بجواب آخر يقولون: هناك مُقدر محذوف مُضاف يعني: وعلى حواس سمعهم، فالجمع هو المحذوف المضاف والسمع مُضاف إليه، لكن الأصل عدم التقدير.

وبعضهم يُجيب بجواب آخر: أن ما قبل لفظ السمع وما بعده ذُكر بلفظ الجمع وذلك يدل على أن المُراد كذلك من السمع الجمع لكن من باب التفنن في العبارة، أُفرد فحصلت هذه المُغايرة.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا أيها الأحبة أن هذه الموانع التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- تمنع من الإيمان والاهتداء فلا يصل إلى هذه القلوب ما ينفعها، ولا تنتفع الأسماع والأبصار، فيكون الإنسان في حال لا يُرجى معه الخير له، وذلك بسبب كفرهم وفساد بواطنهم، والله عليم حكيم.

وفي تقديم السمع على البصر وهذا كثير في القرآن: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [سورة الإسراء:36] رتبها بهذا الترتيب، ما وجه هذا التقديم تقديم السمع كثيرًا في القرآن على البصر؟

يمكن أن يُذكر في هذا جملة من الأمور فمن ذلك مثلاً: أن يُقال: بأن السمع أنفع من البصر، الإنسان حينما يولد وهو لا يسمع النتيجة التي ستكون حتمية إلا أن يشاء الله أنه لن ينطق، ولذلك فإن الصغير إذا كان في سمعه شيء ضعف ستجد التعثر في لسانه؛ لأنه لا يسمع الكلمات كما ينبغي، وقد لا يُكتشف هذا إلا في وقت متأخر، ومنشأ ذلك السمع، الصُم البُكم، ما سبب علة النُطق عندهم، هل هي اللسان؟

الجواب: أن ذلك كان في السمع فلم يسمعوا كلام المُتكلمين وقول القائلين، ومن ثَم لم يُترجم في نفوسهم فما عادوا يستطيعون الكلام؛ لأنهم لم يسمعوه، واللغات إنما تُتلقى بالسماع، يتلقاها الصغير من أبويه وهكذا، فهذا يدل على شرف السمع على البصر، وأيضًا الإنسان حينما يُقارن بين السمع والبصر، السمع من جميع الجهات، والبصر لا يكون إلى من جهة واحدة الأمام، ثم أيضًا حينما تُقارن تجد أن السمع يُدرك غير المرئيات فهو يسمع أصوات أشياء بعيدة لا يصل إليها بصره، يسمع صوت الطائرة ولا يراها، ولكن البصر له مدى قريب، وأيضًا البصر لا يرى إلا المُتشخصات أما السمع فإنه يسمع صوت الرياح ونحو ذلك مما لا يُشاهد ويُرى، فهذا كله يدل على أهمية السمع وعلى فضله.

إضافة إلى أن الإنسان إذا ذهب بصره ولم يُولد هكذا لكنه كُف بصره بعد ذلك فالعلماء يقولون: إن ذلك يكون سببًا لاستجماع بصر القلب يقوى فيه البصر، فيكون عند الإنسان من التوقد والذكاء والفِطنة ما لا يكون عند المُبصرين؛ لأن القلب يتبع البصر وكما يتبع السمع أيضًا، فهذه المُشاهدات التي يراها ويُبصرها تشوش قلبه وتُفرقه، هذه المشاهد، ولذلك العلماء يقولون: إذا أراد الإنسان أن يحفظ أو يفهم لا يجلس في أماكن خرير المياه والمروج ونحو ذلك؛ لأن قلبه يتفرق في هذه المشاهد، ولذلك بعض الناس إذا أراد أن يحفظ أو يتذكر أغمض عينيه، وبعضهم لربما جلس في زاوية لا يوجد فيها شيء يشوش عليه قلبه، بحيث لا يرى شيئًا سوى هذا الجدار وهذه الزاوية يقترب منها قُربًا شديدًا، ولذلك ترى فيمن فقدوا أبصارهم من الوعي للعلم والإدراك الشديد والحفظ والضبط ما لا يكون عند كثير من المُبصرين.

ولذلك انظروا إلى العلماء الذين فقدوا أبصارهم، والقُراء الذين فقدوا أبصارهم من الحُذاق تجد هؤلاء كثير لا يُحصيهم إلا الله، وفي عصرنا شاهد من هذا، فسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كُف بصره في مُقتبل عمره، ومع ذلك هو بهذه المنزلة من العلم، وشيخه الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- سماحة المُفتي الأسبق كان قد كُف بصره أيضًا، وقرينه الشيخ عبد الله بن حميد أعني قرين الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- هو ممن كُف بصره أيضًا وهو من هو في الفقه والقضاء، هؤلاء لم يكونوا من المُبصرين، وقل مثل ذلك في كِبار القُراء الشيخ الزيات -رحمه الله- وهو الأعلى إسنادًا في هذا العصر توفي قبل سنين كان ممن كُف بصره، فذهاب البصر لا يعني أن الإنسان يتعطل بل ينعكس ذلك على القلب، بل بعض أهل العلم يقولون لو أنه ذهبت عين واحدة فإن ذلك البصر الذي كان فيها يرجع إلى العين الأخرى فيقوى بصرها -والله أعلم.

فهذا السمع والبصر قُدم السمع يمكن أن يُقال أيضًا أنه الوسيلة لتلقي كلام الله وبلوغ دعوة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وما أشبه ذلك.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [سورة ق:39] برقم (4854). 
  2.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين، برقم (144).