الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق.

قوله: "ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق؛ هذا جواب على سؤال مقدر هو: لماذا أطال في ذكر صفات المنافقين؟

فأمر المنافقين قد يلتبس، ويخفى؛ بخلاف الكافر الواضح، ثم إن هؤلاء أخطر من الكفار المجاهرين بكفرهم؛ لأن هؤلاء داخل الصف فهم يطلعون على عورات المسلمين، ويهدمون من الداخل، ويطعنونهم من الظهر، فهم يخالطونهم صباح مساء في المساجد، ومعهم في الجهاد، ومعهم  في كل مكان، فيطلعون على كل صغيرة وكبيرة فمثل هؤلاء هم الخطر، كما قال الله هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [سورة المنافقون:4] يعني هم العدو الحقيقي، وكأن المؤمنين ليس لهم عدو آخر.
ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق، كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور، وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:8-9].النفاق: هو إظهار الخير، وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مَغِيبه.

هذه حقيقة النفاق من حيث هو، لكنه في معناه الشرعي ينقسم إلى أكبر وأصغر، فالأكبر هو الذي جاء في مثل هذه الآيات، والمقصود به النفاق المخرج من الملة، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وليس مجرد المنافاة بين الظاهر والباطن بإطلاق، وإنما المقصود أنه يبطن الكفر، ويظهر الإسلام، فهذا نفاقه أكبر، وأما ما يحصل فيه المخالفة بين الظاهر والباطن كإخلاف المواعيد، والخيانة للأمانات فهذا من النفاق؛ لكنه من النفاق العملي، وهو المراد بقول النبي ﷺ: أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً؛ ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها[1] فهذا يمكن أن يجتمع مع الإيمان كما يكون في الإنسان جاهلية مع الإيمان، كما قال النبي ﷺ لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية[2]، ويمكن أن يجتمع مع الإيمان فسق، وبدعة، وفجور، وكذلك يكون فيه نفاق.

هنا يقول: هو إظهار الخير، وإسرار الشر: لكن هذا ليس مطلقاً، والمقصود هنا أنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإلا فمن الناس من يظهر الخير، ويبطن الشر، وهو مسلم، لكنه يظهر الشر في جوانب مما يمكن أن تجتمع مع الإيمان كالذي يظهر للناس الخير ويطلق لحيته - مثلاً - وهو في نفس الوقت يبطن لهم الشر.

ولفظة نفق تشعر بمعنى الرواج، وتدل عليه، يقال: فلان ينفق سلعته بالحلف الكاذب، بمعنى أنه يروج سلعته بالحلف الكاذب.

وقيل: لفظ النفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، فاليربوع في الظاهر ليس له إلا جحر واحد، لكن لا تستطيع مسكه، فهو في الحقيقة له مخارج كثيرة مغطاة بطبقة خفية لا تراها، فبمجرد أن تأتي لتحبسه من هذا المخرج خرج من مخارج أخرى متعددة، وهكذا المنافق، وهذا المعنى - وإن كان ليس محل اتفاق - إلا أن له وجه.

فهذا الإنسان الذي أظهر الكفر، وأبطن الإسلام، وكذلك من وجد فيه خصلة من خصال النفاق، يحصل له بهذه الخصلة تمرير لحال، أو موقف محرج، أو تمرير لطمع في شيء ما، ويكون هذا التمرير بطريقة لا تحل له، كأن يخون من ائتمنه، أو يخلف في المواعيد، أو يكذب في الحديث، فهو ينفِّق نفسه بإظهار الموافقة؛ كما يقال: دارِهم ما دمت في دارهم.

فالمنافق الذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر؛ يريد أن يحقن ماله، ودمه، فهو ينفِّق نفسه عند هؤلاء الناس بإظهار الموافقة لهم أنه منهم ومعهم، وغير مخالف لهم، حتى يحصل مطلوبه، وينجو مما يحذر، حتى إنهم يبعثون يوم القيامة على حال كحالهم التي كانوا عليها في الدنيا كما قال الله عنهم: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18]، فهم لما رأوا ذلك يروج في الدنيا، فحصلوا به مقصودهم من إجراء أحكام الإسلام في الظاهر عليهم، وإحراز الأموال، وحقن الدماء، وظنوا أن ذلك يروج في الآخرة، فمجرد ما قاموا من القبور جلسوا يحلفون، ولذلك عبر الله عنهم بأنهم اتخذوا الأيمان لهم ديدناً للصد عن سبيل الله قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16]، والاتخاذ يدل على أن هذا الإنسان جعل هذا العمل ديدنه، فهم اتخذوا أيمانهم غطاء ووقاية، فتجدهم يقولون: والله ما قلنا هذا، والله ما حصل منا هذا، والله ما تكلمنا فيك، والله ما تلفظنا بهذه العبارات التي نقلت عنا، والله ما وقفنا هذا الموقف، وكل ذلك كذب!.

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أي أنهم استروحوا لصد أنفسهم وصد غيرهم، فكلمة "صدَّ" تأتي متعدية، وتأتي لازمة، والقرآن بالألفاظ القليلة الدالة على المعنى الكبير، فهم صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله بتخذيلهم عن التمسك بالدين، وصدوا المؤمنين عن إقامة حكم الله فيهم بهذه الأيمان الكاذبة، كل هذه المعاني الثلاثة داخلة في هذا اللفظ.

وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن مؤمن.

في مكة من شدة التعذيب والأذى كان بعضهم يظهر الكفر، ويخفي إسلامه، وهو عكس النفاق، ولا حاجة في مكة إلى النفاق؛ لأن من أظهر الإسلام سيضطهد، ويخسر كل شيء من دنياه، ولربما قتل، لكنه وجد بعد غزوة بدر أي بعد ظهور شوكة الإسلام في المدينة كما قال عبد الله بن أبي: "إن هذا أمر قد توجه".

فدخل في الإسلام مجموعة من اليهود، ومجموعة من الأوس والخزرج بعد ظهور شوكة الإسلام، وإلا فإن أول الهجرة أيضاً لم يوجد نفاق، لكن لما صارت للإسلام صولة وجولة بدأ هؤلاء يدخلون في الإسلام؛ وذلك لأنهم يحتاجون إلى مداراته، ويحتاجون إلى مصانعته، وموافقته وهكذا.

وبالنسبة لعصرنا هذا فالنفاق صار أكثر من ذي قبل لأسباب كثيرة منها: الخوف، وهذا الخوف أنواع، فبعضهم يخاف من العامة، بل وحتى من أقاربه، وذويه أن ينقلبوا عليه، ويؤذونه، ويسقطونه، ويتكلمون في حقه، ويعيبونه، ويذمونه، وبعضهم يفعل هذا على سبيل الطمع بشيء يحصله كطمع بمال، أو منصب، أو وظيفة.

وبعضهم يخاف على مصلحة دنيوية، فتجد بعضهم - مثلاً - يقول: أنا مبتلى بتخصصي الشرعي، فقد حفظت القرآن، وبيتي بيت المسجد، وأنا إمام مسجد، فأنا مطوَّق من كل جهة، ولذلك بعضهم ذهب وانتسب في تخصص آخر؛ من أجل أن ينفض الماضي، ويرتاح - على حد زعمه -؛ لأنه لم يحقق شيئاً من تخصصه الشرعي، وهذا - والعياذ بالله - يعتبر نفاق.

وهكذا تعددت الأسباب والنفاق واحد، فالنفاق في هذا الزمان أكثر منه في زمن النبي ﷺ، ويظهر هذا تماماً في أيام الفتن التي تحرك الناس، وتزلزلهم، فيظهر المؤمن الصادق، ويتلوَّن آخرون ممن يتنكرون لدينهم، ولعقيدتهم.فلمَّا هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج، وبنو النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس. فلمَّا قدم رسول الله ﷺ المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلَّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعدُ شوكة تخاف، بل قد كان ﷺ وَادَعَ اليهود، وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر، وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير، وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: "هذا أمر الله قد تَوَجَّه"، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته، ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مُكرَهًا، بل يهاجر فيترك ماله، وولده، وأرضه؛ رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يعني: المنافقين من الأوس، والخزرج، ومن كان على أمرهم، وكذا فسَّرها بالمنافقين أبو العالية والحسن وقتادة والسدي.
ولهذا نبَّه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خَيْر فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين أي: يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [سورة المنافقون:1] أي: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بـ(إن) و(لام) التأكيد في خبرها.

قوله تعالى: قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكََ لَرَسُولُ اللَّهِ في قوله: إنك تدل على أن الشخص يحتاج إلى المؤكدات كلما شعر أنه بحاجة إلى مزيد تأكيد؛ لأنه يشعر أنه متهم، وأن الذي أمامه ليس مقتنعاً بما يقول، وهذه حقيقة المؤكدات في اللغة.

واللام في قوله: لَرَسُولُ اللَّهِ تسمى لام القسم، والتقدير والله إنك لرسول الله، وهذا يدل على كثرة الحلف عند المنافق؛ لأنه يشعر أنه متهم، وأن الذي أمامه غير مصدق له، فهؤلاء حلفهم كثير من غير استحلاف، ومن غير داعٍ أصلاً، بينما تجد المؤمنين لا يحتاجون لمثل هذه الأمور دائماً، فما دام قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" انتهت، لكن هؤلاء كلما دخلوا قالوا: نشهد إنك لرسول الله.

وعبد الله بن أبيّ يجلس عند المنبر في كل جمعة قبل خطبة النبي ﷺ ينادي: "أيها الناس لقد بعث الله لكم هذا النبي، فاسمعوا له، وأطيعوا"، وهكذا يحدثهم عن هذه النعمة المسداة، والرحمة المهداة، حتى وقع منه ما وقع لما قال: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8]، فلما رجع إلى المدينة قام ليقول ذلك في الجمعة التي تليها، فأخرجوه من المسجد إخراجاً، حتى قابله بعض الصحابة عند باب المسجد، فسئل: ما بالك؟ فقال: "هؤلاء إن قلت لهم اسمعوا له، وأطيعوا؛ غضبوا"!!.

أكَّدوا أمرهم قالوا: آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم، وفي خبرهم، هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.

أي أن الرد جاء موافقاً لكلامهم، فهم قالوا: نَشْهَدُ إِنَّكََ لَرَسُولُ اللَّهِ، فقال الله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ هذه قضية، ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ فهم استعملوا لفظ الشهادة، وأكدوها بـ"إنَّ"، فرد الله عليهم بالتوكيد بـ"إنَّ" فقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينََ، وأكدوا بلام القسم لَرَسُولُ اللَّهِ فرد عليهم بالمثل فقال: لَكَاذِبُونَ.

إن الحديث عن المنافقين حديث ذو شجون، ومن عجائبهم أنهم كما قال ابن كثير - رحمه الله -: "المنافق يقدر أن يبكي من عين واحدة فقط، ثم يوقفها، ويبكي من العين الثانية، ثم يبكي من العينين معاً" أي إن له قدرة على التمثيل، ومهارة على اللعب بمشاعر الناس، والضحك عليهم.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان – باب: علامة المنافق (34) (ج 1 / ص 21)، ومسلم في كتاب: الإيمان – باب: بيان خصال المنافق (58) (ج 1 / ص 78).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان – باب: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30) (ج 1 / ص 20)، ومسلم في كتاب: الإيمان – باب:  باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1661) (ج  3 / ص 1282).

مرات الإستماع: 0

"قوله: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] أصل الناس أُناس؛ لأنه مشتق من الإنس، وهو اسم جمع، وحُذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفاً.

مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8] إن كان اللام في الناس للجنس فـ(من) موصوفة، وإن جعلتها للعهد فـ(من) موصولة، وأُفرد الضمير في (يقول) رعياً للفظ (من)".

يقول: "إن كان اللام في الناس في قوله: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8] إذا اعتبرنا أن التعريف في (الناس) بـ(أل) أو اللام؛ لأن بعضهم يقول: إن التعريف باللام، وبعضهم يقول: بأل، كما قال ابن مالك - رحمه الله -:

"أل حرف تعريفٍ، أو اللام فقط"[1].

فهذا اختلاف بين النُحاة معروف، فهنا جرى على أن اللام هي المُعرفة، فيقول: "إن كان اللام في الناس للجنس فـ(من) موصوفة، وإن جعلتها للعهد فـ(من) موصولة" يعني: (أل) عهدية، هي في معهودين في المنافقين، وليس (من الناس) عموم الناس، وإنما من عُهدوا، وعرفوا بالنفاق، فـ(من) موصولة، "فمن الناس من يقول" يعني: الذي يقول، وأفرد الضمير في "يقول" رعياً للفظ "من" (من) لفظها مُفرد، والناس كثير، فالأصل أن يقول: "فمن الناس من يقولون" فقال: "من يقول" فجاء بالمُفرد مراعاة للفظ (من) حيث إنها من جهة اللفظ مفردة، ولكن هي بمعنى الجمع.

"قوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوس، والخزرج، رأسهم عبد الله بن أُبي بن سلول، يُظهرون الإسلام، ويُسرون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك زنديقاً".

يعني هؤلاء ليسوا فقط من الأوس، والخزرج، بعضهم من اليهود، كما دل عليه القرآن، وبعض هؤلاء من الأعراب، كما قال الله أيضاً: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة:97] ثم ذكر الآخرين بعدها وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:99] فطائفة من الأعراب كانوا مُنافقين.

وهنا في قوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] جاء نفي الإيمان عنهم بهذه الصيغة، ودخلت الباء هنا تقوية لهذا النفي، وعُبر بالاسم، ولم يقل: وما آمنوا، كأنه أخرج ذواتهم أصلاً عن جُملة المؤمنين، مُبالغة في النفي.

قال: "هؤلاء هم الذين يُظهرون الإسلام، ويُسرون الكفر، ويُسمى الآن من كان كذلك زنديقاً" يعني: باعتبار أن الزنديق هو بإيزاء المنافق، يعني: أن الزنديق، والمُنافق بمعنى واحد، وهذا يقول به كثير من أهل العلم، وبعضهم يفرقون بينهما، وقد يوجد فرق في الأصل، ثم بعد ذلك يجتمعان في النتيجة، وإلا فإنه في الأصل كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وغيره بأن أصل هذه اللفظة زنديق أنها أعجمية فارسية، عُربت بعد الإسلام، فهي تُطلق عند الفقهاء على المنافق[2].

وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن أبي حاتم السجستاني: أن أصله في الفارسية: زندة كرداي[3] يعني مكون من لفظتين، ثم عُرب، فقيل: زنديق، يعني: يقولون: هذا يقال للدهرية عندهم، الذين يقولون بدوام الدهر؛ لأن زنده عندهم بمعنى الحياة، وكرد بمعنى العمل.

ثم ذكر الحافظ أن التحقيق ما ذكره من صنف في المِلل: أن أصل الزنادقة أتباع ديصان، ثم ماني، ثم مزدك الأول[4] يقولون: بقِدم النور، والظُلمة، فظهر الإسلام، وهذا يُطلق على من يعتقد ذلك، يعني: بقِدم النور، والظُلمة، وأنه ظهر جماعة منهم على كل حال بعد الإسلام لكنهم كانوا يخفون مُعتقدهم خشية القتل، فأُطلق عليهم الزنادقة، يعني: الذين يعتقدون هذه العقيدة، ثم صار ذلك يُطلق على من أظهر الإسلام، وأخفى الكُفر، يقال له: زنديق، يعني مُنافق، فهؤلاء أخفوا كُفراً خاصاً، وهو قِدم النور، والظُلمة، بقوا على أصل دينهم، فقيل لهم: زنادقة، وكان يقال لهم ذلك عند الفُرس، ثم بعد ذلك استمر هذا الإطلاق، وتُوسِّع فيه بعد أن جاء الإسلام، وفُتحت بلاد فارس، فصار يُقال لهؤلاء، ولغيرهم ممن أبطن الكفر، وأظهر الإسلام: زنديق، وهذا الذي اختاره أيضاً ابن قدامة - رحمه الله - [5] وهذا الذي جرى عليه كلام الفقهاء في توبة الزنديق، وحكم توبة الزنديق، وحكم الزنديق، القتل مثلاً، وهل تُقبل توبته أو لا؟ يقصدون به معنى المُنافق.

"وهم في الآخرة مخلدون في النار".

 

هذا باعتبار النفاق الاعتقادي، النفاق الأكبر المُخرج من الملة، وإلا فإنه يوجد نفاق آخر، الذي هو النفاق العملي، والنبي ﷺ ذكر أوصاف المنافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان[6] فهذا في النفاق العملي.

"وأما في الدنيا فإن لم تقم عليهم بينة، فحكمهم كالمسلمين في دمائهم، وأموالهم".

يعني هذه أحكامهم في الظاهر، أنهم يُعاملون معاملة المسلمين، كما كان ذلك في زمن النبي ﷺ وتوكل سرائرهم إلى الله.

"وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك القتل، دون الاستتابة".

لماذا القتل دون الاستتابة؟ يقولون: هذا لا طب فيه؛ لأنه يتلون، هو يُظهر أصلاً الإسلام، ويُبطن الكفر، فما بالك بالتوبة، فهو سيقول: أنه تاب، ولا يُتحقق من توبته؛ لأنه ليس له مبدأ، ولا مذهب، فبهذا الاعتبار قالوا: لا توبة له؛ لأنه لا يوثق بتوبته، فهو يتلون.

"ومذهب الشافعي الاستتابة، وترك القتل، فإن قيل: كيف جاء قولهم: آمَنَّا [البقرة: 8] جملة فعلية وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] جملة اسمية؟ فهلا طابقتها؟

فالجواب: أن قولهم: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أبلغ، وأوكد في نفي الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا".

التعبير بالاسم، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ولم يقل: وما آمنوا، وذلك من قبيل المُبالغة في نفي الإيمان عنهم، كأنه أخرج ذواتهم من جملة المؤمنين، وأكده بالباء كما سبق للمُبالغة في نفي الإيمان عنهم، ولاحظوا هنا تسلط النفي على اسم الفاعل وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ولم يُقيد ذلك بزمان؛ ليشمل النفي جميع الأزمان وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل.

"فإن قيل: لم جاء قولهم: آمَنَّا [البقرة: 8] مُقيداً بالله، واليوم الآخر، وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] مطلقاً؟

فالجواب: أنه يحتمل وجهين: التقييد، فتركه لدلالة الأول عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان".

يعني حذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، لم يقل: وما هم مؤمنين بالله، أو وما هم بمؤمنين بالرسول ﷺ وإنما أطلق ذلك؛ ليشمل كل ما يتصور، أو يدخل تحته، مما يصلح في هذا الموضع، حذف المتعلق يعني المُقدر المحذوف، يفيد العموم النسبي، هذه قاعدة من قواعد التفسير إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ما قال: اجتنبوا شُربه، أو اجتنبوا بيعه، أو اجتنبوا إهداءه، أو اجتنبوا تخليله، أو اجتنبوا ادخاره، أو نحو ذلك، وإنما قال: فَاجْتَنِبُوهُ فيشمل ذلك جميعاً.

وهنا قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فسلب عنهم الإيمان بكل صوره.

  1.  ألفية ابن مالك (ص: 16).
  2.  بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة، والقرامطة، والباطنية (ص: 338).
  3. فتح الباري لابن حجر (12/270).
  4. فتح الباري لابن حجر (12/270).
  5.  المغني لابن قدامة (6/ 370).
  6.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33)، ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في صدر هذه السورة الكريمة سورة البقرة الفريق الأول وهم أهل الإيمان، وذكر أوصافهم، ثم بعد ذلك ثنى بذكر ما يُقابلهم، وهم أهل الكفر وما هم عليه من الضلالة التي لا ينزعون عنها، وأن الإنذار لا يُجدي معهم؛ لأن الله قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة فهم لا يؤمنون.

ثم ثلث بعد ذلك بذكر هذه الطائفة وهم كما شبههم النبي ﷺ بقوله: كالشاة العوراء تعور بين الغنمين[1] وهم أهل النفاق، فهم في الظاهر يُظهرون الإسلام فيُحسبون على المسلمين، وفي بواطنهم ينطوون على الكفر بالله -تبارك وتعالى- فهذه الطوائف الثلاث صُدرت بها هذه السورة الكريمة.

الآيات الأربع في أولها في صفات الفريق الأول من أهل الإيمان، وآيتان في صفة الكافرين، ثم بعد ذلك جاء وصف هؤلاء وأطنب في ذكرهم بأوصاف متعددة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] من الناس فريق يتردد مُتحيرًا بين المؤمنين والكافرين، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، يدعي الإيمان: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:8] وحالهم لا تدل على إيمان بالله ولا باليوم الآخر، ولهذا نفى الإيمان عنهم، فالله -تبارك وتعالى- نبه بهذه الآية على صفات هؤلاء المنافقين؛ لئلا يغتر بهم أحد من أهل الإيمان، لئلا يغتر بظاهرهم ودعواهم التي ادعوها فيقع بسبب ذلك من الفساد ما لا يُقادر قدره.

فهذه الأوصاف لهؤلاء المنافقين التي يُجلي الله بها حالهم، وظواهرهم، وبواطنهم، كل ذلك من أجل أن يُحترز ويُحتاط؛ لأنهم الفئة الأخطر هم الذين يعرفون جوانب القوة وجوانب الضعف عند المسلمين، هم الذين يعرفون أحوال المسلمين من الداخل فيطلعون على ما لا يطلع عليه الكفار فهؤلاء يُلابسونهم صباح مساء، ويُخالطونهم ويحضرون مجامعهم ويعرفون أهل الإيمان الراسخ من ضعفاء الإيمان، ويعرفون الفئة المؤثرة القوية في الصف المؤمن ويعرفون من هم دون ذلك، فإذا جاء العدو من الخارج فهؤلاء هم عينه وأدلائه عبر التاريخ، يدلون على عورات المسلمين، وعلى جوانب الضعف، فيفتك العدو، ويدلون على من لهم شأن وأثر في الأمة يدلون العدو عليهم، وعلى ما لهم من منزلة ومكانة ونحو ذلك، يُعرفونه بهم تعريفًا كاملاً ثم بعد ذلك العدو يجعلهم هدفًا من أجل ضرب الإسلام والمسلمين في مقاتل، كل هذا يكون على يد هؤلاء المنافقين، ولهذا يُحذر الله منهم، بل نزلت سورة باسمهم وهي سورة المنافقون.

وهذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:8] تدل على أن مُجرد الدعوى والقول باللسان لا تنفع صاحبها، فلابد أن يُصدق ذلك القلب، والعمل، فالعبرة بما يكون عليه الإنسان من حال وما ينطوي عليه قلبه من إيمان وخلافه، وما يكون عليه من العمل، أما الدعاوى فلا يعجز عنها أحد.

هؤلاء الذين تكلم الله فيهم وبين فسادهم وشرهم، وكذبهم رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:8] ونفى الله -تبارك وتعالى- عنهم الإيمان: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فدل على أن حقيقة الإيمان ليست بمجرد الإقرار باللسان، وهكذا سائر الدعاوى.

الدعاوى سهلة، قد يقول الإنسان بأنه على حق، على إيمان، على سنة، على استقامة؛ ولكن الواقع قد لا يُسعفه ولا يُصدقه، وهكذا فيما يتصل بمُفردات الأعمال القلبية، أو أعمال الجوارح، وما إلى ذلك مما يتصل بالسلوك وغيره فقد يدعي الإنسان أنه صادق، أو أنه على أمانة، أو أنه على خُلق أو أنه كريم أو نحو ذلك؛ ولكن الواقع قد يُكذبه ويرد دعواه، وهكذا في سائر الأوصاف التي يدعيها الإنسان لنفسه إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [سورة الأحزاب:72] وعامة الناس لا يُنصفون من أنفسهم، الإنصاف عزيز ولو وجه إليه الوصف الذي يليق به لغضب، ولكن الحال هي التي تدل على صدق الإنسان من كذبه.

وفي قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] تأكيد شديد على عدم إيمانهم، لم يقل وما آمنوا، فما جاء بالفعل، وإنما عدل عنه إلى الاسم بمؤمنين مؤمن هذا اسم، ولم يُعبر بالفعل فلم يقل: وما آمنوا، وإنما: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فهذا يُخرج حتى ذوات هؤلاء من عِداد المؤمنين، يعني: لم يكتف بنفي الإيمان عنهم فقط؛ بل نفى عنهم أيضًا كونهم في جملة أهل الإيمان، ليسوا من أهل الصف المؤمن، بل هؤلاء نبت طفيلي يعيش على مصالح الأمة وآلامها ويقتات على جسمها وجسدها، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4] أجسام ما شاء الله، لماذا؟

لأن كل العناية كانت بالأجسام، والذي أوقعهم في النقاق ما هو؟ هو من أجل حفظ المُهج والأموال، فهم مع من غلب كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ يعني: المدينة مِنْ أَقْطَارِهَا من نواحيها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [سورة الأحزاب:14] على هذه القراءة التي نقرأ بها: لَآتَوْهَا يعني: سألوا الكفر على الراجح من أقوال المفسرين بذلوه وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14] يعني: لا يحتاج إلى تفكير وطول نظر وتقليب الأمور مُباشرة هو مع من غلب، على دين من غلب، وفي سورة المنافقون:وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4]. 

أجسام ما شاء الله نامية مُمتدة نظارة، المؤمن لربما يبدوا فيه شيء من التعب من العبادة ومن ألوان البذل والعمل الذي يعمله ابتغاء مرضات الله -تبارك وتعالى- لكن هؤلاء أبدًا، كما قيل: "ترعى وهي رابضة"، جالس هكذا يأخذ من الغنيمة ومن الفيء وما إلى ذلك في عِداد المسلمين في الظاهر، ولكنه لا يُكلف نفسه جُهدًا: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [سورة التوبة:42] إذا كان السفر بعيد، الغزو بعيد مع رسول الله ﷺ أحجموا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [سورة التوبة:81] هم ليس عندهم استعداد أن يُرهقوا هذه الأبدان وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4] كلام جميل، ومُنمق، ومُصفف، ولكنه كملمس الحية أملس ناعم، ولكنه ينطوي على شر فاتك.

وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ [سورة المنافقون:4] خُشب هذا الخشب والبليد البعيد يُقال له: لوح لا يفهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] الخشبة قد تكون هكذا في عمود يُنتفع به، قد تكون في سقف يُنتفع به، لكن هؤلاء نبتة طفيلية هكذا، مُسندة على غيرها، مُتكأة على غيرها، لا تقوم بنفسها، هي فقط تُضيق المكان تحجز مكان ولكن بلا جدوى بلا فائدة -نسأل الله العافية- يدخل ويخرج مجلس رسول الله ﷺ وإذا خرج بكل بلاهة ماذا قال آنفا؟، نزلت آيات: أَیُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِیمَـٰنࣰا يقوله ساخرًا، يقول: ما رأينا شيء، هذه الآيات من منكم زادته إيمانًا يا شُطار، فهؤلاء هم الشر المحض.

قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فعبر بهذا الاسم وعدل عن الفعل وأكده بالباء للمُبالغة، ولم يقل: وما هم أهل إيمان أو نحو ذلك، وإنما قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] مُبالغة في نفي الإيمان عنهم، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مُقيدًا بزمان؛ ليشمل النفي في جميع الأزمان: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] لأنه لو قال: وما آمنوا، فهذا في الماضي، وما يؤمنون يعني في الحاضر أو في المستقبل: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] مؤمن فجاء النفي هنا على الاسم اسم الفاعل؛ ليشمل ذلك جميع الأوقات، جميع الأزمان وما هم، لا آمنوا في الماضي، ولا هم على إيمان الآن، وليسوا أيضًا بمؤمنين في المستقبل.

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (4872)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف". 

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في صدر هذه السورة الكريمة سورة البقرة الفريق الأول وهم أهل الإيمان، وذكر أوصافهم، ثم بعد ذلك ثنى بذكر ما يُقابلهم، وهم أهل الكفر وما هم عليه من الضلالة التي لا ينزعون عنها، وأن الإنذار لا يُجدي معهم؛ لأن الله قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة فهم لا يؤمنون.

ثم ثلث بعد ذلك بذكر هذه الطائفة وهم كما شبههم النبي ﷺ بقوله: كالشاة العوراء تعور بين الغنمين [1]وهم أهل النفاق، فهم في الظاهر يُظهرون الإسلام فيُحسبون على المسلمين، وفي بواطنهم ينطوون على الكفر بالله -تبارك وتعالى- فهذه الطوائف الثلاث صُدرت بها هذه السورة الكريمة.

الآيات الأربع في أولها في صفات الفريق الأول من أهل الإيمان، وآيتان في صفة الكافرين، ثم بعد ذلك جاء وصف هؤلاء وأطنب في ذكرهم بأوصاف متعددة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] من الناس فريق يتردد مُتحيرًا بين المؤمنين والكافرين، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، يدعي الإيمان: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:8] وحالهم لا تدل على إيمان بالله ولا باليوم الآخر، ولهذا نفى الإيمان عنهم، فالله -تبارك وتعالى- نبه بهذه الآية على صفات هؤلاء المنافقين؛ لئلا يغتر بهم أحد من أهل الإيمان، لئلا يغتر بظاهرهم ودعواهم التي ادعوها فيقع بسبب ذلك من الفساد ما لا يُقادر قدره.

فهذه الأوصاف لهؤلاء المنافقين التي يُجلي الله بها حالهم، وظواهرهم، وبواطنهم، كل ذلك من أجل أن يُحترز ويُحتاط؛ لأنهم الفئة الأخطر هم الذين يعرفون جوانب القوة وجوانب الضعف عند المسلمين، هم الذين يعرفون أحوال المسلمين من الداخل فيطلعون على ما لا يطلع عليه الكفار فهؤلاء يُلابسونهم صباح مساء، ويُخالطونهم ويحضرون مجامعهم ويعرفون أهل الإيمان الراسخ من ضعفاء الإيمان، ويعرفون الفئة المؤثرة القوية في الصف المؤمن ويعرفون من هم دون ذلك، فإذا جاء العدو من الخارج فهؤلاء هم عينه وأدلائه عبر التاريخ، يدلون على عورات المسلمين، وعلى جوانب الضعف، فيفتك العدو، ويدلون على من لهم شأن وأثر في الأمة يدلون العدو عليهم، وعلى ما لهم من منزلة ومكانة ونحو ذلك، يُعرفونه بهم تعريفًا كاملاً ثم بعد ذلك العدو يجعلهم هدفًا من أجل ضرب الإسلام والمسلمين في مقاتل، كل هذا يكون على يد هؤلاء المنافقين، ولهذا يُحذر الله منهم، بل نزلت سورة باسمهم وهي سورة المنافقون.

وهذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ [سورة البقرة:8] تدل على أن مُجرد الدعوى والقول باللسان لا تنفع صاحبها، فلابد أن يُصدق ذلك القلب، والعمل، فالعبرة بما يكون عليه الإنسان من حال وما ينطوي عليه قلبه من إيمان وخلافه، وما يكون عليه من العمل، أما الدعاوى فلا يعجز عنها أحد.

هؤلاء الذين تكلم الله فيهم وبين فسادهم وشرهم، وكذبهم رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:8] ونفى الله -تبارك وتعالى- عنهم الإيمان: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فدل على أن حقيقة الإيمان ليست بمجرد الإقرار باللسان، وهكذا سائر الدعاوى.

الدعاوى سهلة، قد يقول الإنسان بأنه على حق، على إيمان، على سنة، على استقامة؛ ولكن الواقع قد لا يُسعفه ولا يُصدقه، وهكذا فيما يتصل بمُفردات الأعمال القلبية، أو أعمال الجوارح، وما إلى ذلك مما يتصل بالسلوك وغيره فقد يدعي الإنسان أنه صادق، أو أنه على أمانة، أو أنه على خُلق أو أنه كريم أو نحو ذلك؛ ولكن الواقع قد يُكذبه ويرد دعواه، وهكذا في سائر الأوصاف التي يدعيها الإنسان لنفسه إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [سورة الأحزاب:72] وعامة الناس لا يُنصفون من أنفسهم، الإنصاف عزيز ولو وجه إليه الوصف الذي يليق به لغضب، ولكن الحال هي التي تدل على صدق الإنسان من كذبه.

وفي قوله -تبارك وتعالى- هنا: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] تأكيد شديد على عدم إيمانهم، لم يقل وما آمنوا، فما جاء بالفعل، وإنما عدل عنه إلى الاسم بمؤمنين مؤمن هذا اسم، ولم يُعبر بالفعل فلم يقل: وما آمنوا، وإنما: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فهذا يُخرج حتى ذوات هؤلاء من عِداد المؤمنين، يعني: لم يكتف بنفي الإيمان عنهم فقط؛ بل نفى عنهم أيضًا كونهم في جملة أهل الإيمان، ليسوا من أهل الصف المؤمن، بل هؤلاء نبت طفيلي يعيش على مصالح الأمة وآلامها ويقتات على جسمها وجسدها، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4] أجسام ما شاء الله، لماذا؟

لأن كل العناية كانت بالأجسام، والذي أوقعهم في النقاق ما هو؟ هو من أجل حفظ المُهج والأموال، فهم مع من غلب كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ يعني: المدينة مِنْ أَقْطَارِهَا من نواحيها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا [سورة الأحزاب:14] على هذه القراءة التي نقرأ بها: لَآتَوْهَا يعني: سألوا الكفر على الراجح من أقوال المفسرين بذلوه وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14] يعني: لا يحتاج إلى تفكير وطول نظر وتقليب الأمور مُباشرة هو مع من غلب، على دين من غلب، وفي سورة المنافقون:وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [سورة المنافقون:4]. 

أجسام ما شاء الله نامية مُمتدة نظارة، المؤمن لربما يبدوا فيه شيء من التعب من العبادة ومن ألوان البذل والعمل الذي يعمله ابتغاء مرضات الله -تبارك وتعالى- لكن هؤلاء أبدًا، كما قيل: "ترعى وهي رابضة"، جالس هكذا يأخذ من الغنيمة ومن الفيء وما إلى ذلك في عِداد المسلمين في الظاهر، ولكنه لا يُكلف نفسه جُهدًا: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [سورة التوبة:42] إذا كان السفر بعيد، الغزو بعيد مع رسول الله ﷺ أحجموا: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [سورة التوبة:81] هم ليس عندهم استعداد أن يُرهقوا هذه الأبدان وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4] كلام جميل، ومُنمق، ومُصفف، ولكنه كملمس الحية أملس ناعم، ولكنه ينطوي على شر فاتك.

وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ [سورة المنافقون:4] خُشب هذا الخشب والبليد البعيد يُقال له: لوح لا يفهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4] الخشبة قد تكون هكذا في عمود يُنتفع به، قد تكون في سقف يُنتفع به، لكن هؤلاء نبتة طفيلية هكذا، مُسندة على غيرها، مُتكأة على غيرها، لا تقوم بنفسها، هي فقط تُضيق المكان تحجز مكان ولكن بلا جدوى بلا فائدة -نسأل الله العافية- يدخل ويخرج مجلس رسول الله ﷺ وإذا خرج بكل بلاهة ماذا قال آنفا؟، نزلت آيات: أَیُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِیمَـٰنࣰا يقوله ساخرًا، يقول: ما رأينا شيء، هذه الآيات من منكم زادته إيمانًا يا شُطار، فهؤلاء هم الشر المحض.

قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] فعبر بهذا الاسم وعدل عن الفعل وأكده بالباء للمُبالغة، ولم يقل: وما هم أهل إيمان أو نحو ذلك، وإنما قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] مُبالغة في نفي الإيمان عنهم، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مُقيدًا بزمان؛ ليشمل النفي في جميع الأزمان: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] لأنه لو قال: وما آمنوا، فهذا في الماضي، وما يؤمنون يعني في الحاضر أو في المستقبل: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:8] مؤمن فجاء النفي هنا على الاسم اسم الفاعل؛ ليشمل ذلك جميع الأوقات، جميع الأزمان وما هم، لا آمنوا في الماضي، ولا هم على إيمان الآن، وليسوا أيضًا بمؤمنين في المستقبل.

وهؤلاء الله -تبارك وتعالى- أخبر عن بواطنهم، وعن هذه المُمارسات والمزاولات التي عليها قِوامهم وهي منشأ تصرفاتهم وأعمالهم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:9] يُخادعون الله يعتقدون بجهلهم أنهم يُخادعون الله والذين آمنوا بإظهار الإيمان وإضمار الكفر، وما يخدعون إلا أنفسهم؛ لأن عاقبة هذا الخِداع تعود عليهم لفرط جهلهم، لكنهم لا يشعرون ولا يُحسون بذلك لفساد قلوبهم وانطماس بصائرهم وانعدام شعورهم - كما سيأتي - ومشاعرهم.

فهذه الآية تذكر هذه الأوصاف التي هي مبعث الأفعال والأقوال التي تصدر عنهم أن ذلك مبناه على الخِداع المُخادعة، لكن المُخادعة لمن؟ يُخادعون الله، ابتدأ بذكره -تبارك وتعالى- ؛ لأن مُخادعته أشد وأعظم، وما ظنكم بأحد من الناس من البشر من المساكين من الضعفاء يُخادع ربه، ما حاله؟ وما مآله؟ لا شك أنه إنما يخدع نفسه، فهذه التصرفات وهذه الأعمال التي يُخادع بها الواقع أنه يحفف بها قبره، ويُهلك بها نفسه، ويبحث فيها عن حتفه، فهو يصول ويجول في هلاك نفسه.

ثم انظروا في ما تُفيدة هذه الآية الكريم: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:9] أن ذلك يُفيد المزيد من الاحتياط والحذر منهم، هؤلاء يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:9] إذا قيل لك فلان مُخادع، فلان صاحب خِداع، فلان ماكر صاحب مكر، مجرد ما تسمع باسمه تحتاط، بمجرد ما تراه تنقبض وتحتاط في كل شؤونك؛ لئلا تقع في حبائله، فهؤلاء ربنا -تبارك وتعالى- يُحذرنا منهم، مهما تجملوا به من الأقوال، إن كان هؤلاء في الجيش فهم يعطون الكفار المعلومات التي يكون بها الضرر على المسلمين، عدد المسلمين، وما معهم من أنواع السلاح، ويُخبرونهم عن قياداتهم، وعن مواقعهم، وما إلى ذلك كل التفاصيل، يُقدمونها بالمجان للعدو؛ لأنهم أعداء فهم يدلون على عورات المسلمين، ولكن كما قال الله : وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9] وهذا يؤخذ منه أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله.

فهؤلاء الذين يُخادعون الله يظنون أنهم قد نجحوا أو غلبوا حينما قُبل ذلك منهم في الظاهر - يعني الإسلام - فحُقنت دمائهم، وأعطوا من الغنيمة أو أعطوا من الفيء أو نحو ذلك الواقع أن هذا الخداع عائد إليهم: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9] فجاء بأقوى صيغة من صيغ الحصر، التي جاءت بها كلمة التوحيد لا إله إلا لله أقوى صيغة النفي والاستثناء، النفي والاستثناء هذه صيغة الحصر، الحصر يكون بإنما تقول: إنما الكريم زيد، يعني: ليس هناك كريم غير زيد، إنما الشجاع زيد، لكن حينما تقول: لا شجاع إلا زيد، ولا كريم إلا زيد، هذه أقوى في الحصر، حصرت الكرم فيه.

فهنا يقول الله : وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ [سورة البقرة:9] فهذا يدل على أن هذه المُخادعة لا يضرون بها إلا أنفسهم، لا يضرون الله، ولا رسوله ﷺ ولا يضرون أهل الإيمان إنما ذلك يعود إليهم، فهؤلاء مثل الذي يلتذ بلعق دمه، القِط الذي يلعق مسن الجزار يتشقق لسانه ويلعق دمه الذي ينزف ثم ما يلبث أن يسقط وكان قبل ذلك يتلذذ بهذا الفعل يظن أنه يلعق دمًا من بقايا لحم في هذا المِسن، وهذا من أعجب الأمور؛ لأن المُخادع عادة كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله [2] إما أنه يحصل له مراده من هذه المُخادعة يحصل على بُغيته ومطلوبه، أو يسلم لا له ولا عليه، أما هؤلاء فلا سلامة، ولا حصول مُبتغى، وإنما عاد هذا الخداع عليهم وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم، وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بذلك، ولا أهل الإيمان، وكذلك النبي ﷺ.

فهؤلاء حينما حقنوا دمائهم وأحرزوا أموالهم بهذه الدعوة دعوى الإيمان لم يكن ذلك بضرر على الله ولا على المؤمنين، ولكن الواقع أنه ضرر عليهم استمرؤوا هذا الفعل، كما قال الله -تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المجادلة:16] يعني: تُرسا، يتقون به ما يوجه إليهم من الاتهامات، تُرس جُنة: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] فالفاء تفيد التعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها، فصدوا، ما الذي جعلهم بهذا الصدود؟

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المجادلة:16] هم لما رأوا هذه الأيمان تروج، ويُقبل منهم هذا الحلف استمروا، صدوا هنا بمعنى صد اللازمة، يعني: صدوا في أنفسهم بقوا على النفاق والكفر وتركوا الإيمان، صدوا في أنفسهم، وتكون مُتعدية صدوا غيرهم، صدوا النبي ﷺ وأهل الإيمان عن إقامة حكم الله فيهم بهذه الأيمان الكاذبة، والله ما قلنا، فلم يُقم عليهم الحدود التي يستحقونها حد الردة مثلاً، حينما يسخرون بالنبي ﷺ أو بالقرآن أو نحو ذلك.

وكذلك أيضًا صدوا المؤمنين عن الجهاد، صدوهم عن الإنفاق في سبيل الله، صدوهم عن اتباع النبي ﷺ صدوا الكفار عن الدخول في الإسلام، كل هذه المعاني التي ذكرها العلماء - رحمهم الله - داخلة في هذا المعنى فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] فلم يذكر نوعًا من الصدود وإنما أطلقه، فيدخل فيه جميع هذه الأنواع، فهنا إذا قاموا يوم القيامة فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18].

الناس يقومون من قبورهم ينفضون التراب عنهم وهؤلاء يقومون ويحلفون الأيمان أنهم على الإيمان، وأنهم لم يقولوا ولم يفعلوا، يظنون أن هذه الأيمان أنها تروج يوم القيامة عند الله، كما قُبلت منهم في الدنيا: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18] يبعثهم الله جميعًا يجمعهم الطيور على أشكالها تقع، الأسراب يُجمع الناس، أهل النفاق مع بعض، وأهل الإيمان وهكذا، اليهود مع بعضهم، والنصارى مع بعضهم. 

فهنا يبعثهم الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [سورة المجادلة:18] يعني: يظنون أن هذا الحلف ينفع، فحتى في يوم القيامة يظنون ذلك، ولذلك حينما يكون الناس على الصراط ينطفأ النور الذي مع المنافقين فيقولون لأهل الإيمان: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [سورة الحديد:13] كنا معكم في الدنيا قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [سورة الحديد:13] انظر إلى أثر الخداع الذي في الدنيا يُخدعون يوم القيامة يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [سورة النساء:142] ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [سورة الحديد:13، 14] كنا معكم في الدنيا نُصلي معكم قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [سورة الحديد:14] فكان ذلك نتيجة.

تصور على الصراط ظلمة شديدة وأحد من السيف وأدق من الشعرة وتحت الصراط جنهم، ويمشي في ظلام، الإنسان يمشي في أرض فسيحة في الظلام ويخشى أن يسقط، فكيف إذا كان يمشي على صراط وتحته جنهم، وإذا سقط سقط، وبهذه الدقة وبهذه الظلمة، فعند ذلك ينطفأ النور ولا ينفعهم الدعوى السابقة القديمة وما إلى ذلك كل ذلك يتلاشى، كله بسبب كفرهم، ونفاقهم وفجورهم، وهم لجهلهم وحماقتهم وما يحملون من النفوس الغليظة الجافة الجافية لا يشعرون، لا يشعرون أنهم يفعلون ذلك بأنفسهم، نفى عنهم الشعور وهو أول مبادئ الإدراك، فبنفي أول مبادئ الإدراك ينتفي كل إدراك، الشعور هذه البداية نُفيت عنهم، إذا الفقه من باب أولى.

فهؤلاء في ضياع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وهؤلاء في حال من الخزي؛ لأن هؤلاء ليسوا بأصحاب مبدأ، هم ليس لهم مبدأ يُدافعون عنه ويموتون عنه، ويحيون من أجله، هم يحيون من أجل البطن، والدين ليس بمُهم عندهم أينما توجه هذا البطن توجهوا معه، والله المستعان.

 

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- الفريق الثالث في صدر سورة البقرة، وهم أهل النفاق وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:8، 9] فهم إنما قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر مُخادعة من غير إيقان، ولا إذعان، ولا إقرار، ولا تصديق حقيقي يقوم في قلوبهم.

ثم ذكر العلة العليلة التي أوقعتهم في هذا كله، فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [سورة البقرة:10] هذا المرض مرض النفاق، الذي مبناه على الكذب الذي يحصل به المُخالفة بين الظاهر والباطن، فهو منشأ هذه العِلل والأوصاب التي مُني بها هؤلاء، فقلوبهم منطوية على الكفر والشك وفساد الباطن.

والمرض غالبًا يُطلق في كتاب الله -تبارك وتعالى- ويُراد به النفاق، وقد يُذكر ويُراد به ضعف الإيمان، وهو أحد القولين في قوله -تبارك وتعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [سورة الأنفال:49] فبعضهم يقول: هذا من باب عطف الأوصاف والموصوف واحد، فالمنافقون هم الذين في قلوبهم مرض، وبعضهم يقول: إن هؤلاء الذين عُطفوا على المنافقين والأصل أن العطف يقتضي المغايرة، أن هؤلاء هم ضعفاء الإيمان، فئة أخرى.

ولكنه في موضع واحد أُطلق المرض وأُريد به الميل المُحرم إلى النساء، مرض الشهوات، وذلك في آية الأحزاب في قوله -تبارك وتعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] مريض القلب بالميل المحرم إلى النساء.

فالقلب يصح بالإيمان إذا كان معمورًا بتقوى الله -تبارك وتعالى- ويمرض بالشهوات والشبهات، وما يتفرع عنهما من العِلل والأدواء، وكذلك القلب أيضًا يموت إذا كان خاليًا من الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فهؤلاء عاقبهم الله -تبارك وتعالى- فزادهم مرضا؛ إذ الجزاء من جنس العمل هذا في الدنيا، وتوعدهم في الآخرة بالعذاب المؤلم الموجع.

فقوله تبارك وتعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [سورة البقرة:10] المريض يجد طعم الطعام على خلاف ما هو عليه، فيرى الحامض حلوًا، والحلو مُرًا، وكذلك هؤلاء يرون الحق باطلاً والباطل حقًا، فكما أن المرض الذي يقع للجسد يكون باختلال مِزاج البدن -كما هو معروف- فتتحول عافية الإنسان، فلا يجد طعوم الأشياء كما يجدها الأصحاء، ولا يجد مذاق الطعام كما يجده الصحيح، وكذلك أيضًا هذا الذي قد أُصيب في دينه وإيمانه وقلبه، فصار قلبه مريضًا هذا المرض المعنوي تتحول عنده الأشياء بحسب هذا المرض، فيرى الباطل حقًا؛ لأن بصيرته قد تحولت.

فهذه البصيرة كالمنظار الذي يكون على العين، فإنه يرى الأشياء بحسب هذه الزجاجة، بحسب لونها، بحسب هذه العدسة، فيرى الأشياء صغيرة أو كبيرة، أو يراها ذات ألوان على غير حقيقتها، والعلة ليست في الأشياء، وإنما العلة في هذا النظر، وهذا مكمن الخطورة أن الإنسان حينما يضعف إيمانه ويقل يقينه بسبب ما يُعافس من الشهوات والأهواء، أو ما يصل إلى قلبه من الشبهات التي تورث الشك وتُزعزع اليقين تتحول بصيرته، فيرى الأشياء على غير حقيقتها، فيتغير المعيار عنده والميزان، فيستحسن ما كان يستقبح، ويستقبح ما كان يستحسن، ثم بعد ذلك يُزين الشر والباطل والمُنكر، بل والكفر والضلال في عين هذا الإنسان -نسأل الله العافية.

فهذا خطير، فإذا رأيته وجدته على خلاف ما عهدته من حُسن النظر في الأمور، ومحبة الخير والحق والهدى والنور، فتحول إلى خُفاش أعشاه النهار بضوئه، فلم يعد يرى الحقائق كما كان يُبصرها، وما يستحسن الحق ويقبله، بل تحول الحق عنده إلى باطل كريه، مُر المذاق، فهذه مُصيبة إذا وقعت في قلب الإنسان تحولت عنده المقاييس والموازين؛ ولذلك ينبغي على الإنسان أن يتعاهد قلبه دائمًا، ولهذا جاء عن بعض السلف في معيار الفتنة إذا فُتن الإنسان: أن يستحسن ما كان يستقبح، وأن يستقبح ما كان يستحسن.

يعني: كيف يعرف الإنسان أنه مفتون؟ بأمور كان يُنكرها، وكان يستقبحها، ثم بعد ذلك صار يستحسنها، هي هي لم تتغير، كان يذم أشياء من الأعمال، والأوصاف، والأشخاص، ثم بعد ذلك صار يستحسن ذلك كله، ولم يتغير من ذلك شيء، يعني: لم يتحول هذه الأعمال، أو الأوصاف، أو الأشخاص إلى شيء آخر إلى خير، أو نحو هذا، فهذا هو الخطير، هذه هي الفتنة، هذا هو المفتون الذي قد نُكس قلبه.

ثم أيضًا هذا الإنسان إذا لم يكن إقبال على الحق، وكان قلبه مريضًا؛ فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الله يُعاقبه نكاية به فيزداد مرض قلبه، ويبقى من انتكاسة لانتكاسة، ومن حفرة إلى هوة، ولهذا يحتاج العبد دائمًا يُجدد التوبة، وأن يسأل ربه أن يلطف به، وأن يغفر له زلـله، وأن يُريه الحق حقًا، وأن يرزقه اتباعه، وأن يُريه الباطل باطلاً، وأن يرزقه اجتنابه، يخاف على نفسه رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8] يخاف الإنسان من أن يزيغ قلبه، فهذا في عالم الانتكاسات التي تسمعون وتشاهدون عبر الأيام والشهور والسنين، هؤلاء ما الذي غيرهم؟ وما الذي حولهم؟ كيف كانوا وإلى أي شيء صاروا؟ ماذا كانوا يقولون؟ ثم بعد ذلك ماذا صاروا يفعلون؟ تغيرت.

قد يبقى للإنسان ظاهر من الصلاح، قِشرة لا زالت تُغلفه، ولكنه منخور من الباطن، يغشى القبائح والكبائر، ويتكلم ويتفوه لسانه بكل مُنكر وقبيح، بعد ما كان يلهج بذكر الله بعد ما كان قلبه رقيقًا شفافًا، بعد ما كان وجهه مشرقًا بالطاعة، تحول إلى وجه مُظلم، فهذا يخاف العبد دائمًا من مثل هذه العاقبة وهذه الحال.

ونحن ندعوا: "ربنا لا تجعل مصيبتنا في ديننا"، هذه المصيبة في الدين، أن يُصاب الإنسان في دينه، إذا أُصيب الإنسان بأدنى علة في بدنه، ذهب وطلب الأطباء، وبدأ الناس يتفقدونه، ويسألون عنه وعن علته ما فعل الله به وبها، ولكنه إذا أُصيب في إيمانه، إذا أُصيب في دينه، لربما لا يسأل لا هو، ولا يسأل غيره عن ذلك، ولربما يكره ويشنأ ويُبغض من تعاهده من أجل ذلك ونصحه بأن يُعالج قلبه وإيمانه.

نأخذ من هذه الآية أن منشأ وسبب ضلال العبد منه، وأن الله -تبارك وتعالى- حكم عدل، فهؤلاء لما كان المرض في قلوبهم زادهم الله مرضا، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115] والله يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143] الصلاة إلى بيت المقدس، وكذلك أيضًا سائر الأعمال، فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، فالله بالناس رؤوف رحيم، ولكن العبد يجني على نفسه.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هذا المرض كما يقول القُرطبي: سكونهم إلى الدنيا، وحبهم لها، وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها [3] لأن الذي أوقع المنافقين في هذا هو هذا الحرص الشديد على استبقاء المُهجة، وإحراز المال، فيبيع دينه ومبادئه من أجل هذا الهدف الحقير، ليس له مبدأ، فالتعلق الشديد بالدنيا أوقعهم في ذلك فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا، فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين، الدين لا يرفعون به رأسًا، ولا يُعنون به.

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقد نقل عن الجُنيد قوله: عِلل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن[4].

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] إذا نُصحوا، إذا وجه إليهم الخطاب من قِبل أهل النُصح والشفقة لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ كفوا عن الفساد والإفساد في الأرض بالكفر والمعاصي، وإفشاء أسرار المؤمنين، وموالاة الكافرين، قالوا كذبًا وزورًا وجدالاً بالباطل: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ بهذه الصيغة التي تفيد الحصر، حصروا أنفسهم في الصلاح، مُصلحون، وهم أهل الفساد حقيقة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أخذًا من هذه الآية: أن كل من عمل بمعصية الله فهو مُفسد، قال: والمحرمات معصية لله، فالشارع ينهى عنه ليمنع الفساد ويدفعه، ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتت فيها الصحة بنص، ولا إجماع[5].

يعني: فيما نهى الله عنه، لا يوجد في شيء نهى الله عنه ما ثبت فيه الصحة لا بنص ولا إجماع، هذا الذي نهى الله عنه هو شر وفساد، فهذه المعاصي هي فساد والوالغون فيها والغون في الفساد، والمُذيعون لها والناشرون لها هم مُذيعون للفساد، هؤلاء دهاقنته، ومروجوه في المجتمع.

ومن أعظم البلوى أن يُزين للإنسان الفساد حتى يرى إنه إصلاح، انظروا إلى هؤلاء يقولون: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ويؤخذ من هذه الآية أنه ليس كل من ادعى شيئًا يصدق في دعواه، هؤلاء ادعوا هذه الدعوة العريضة، وبهذا الأسلوب الذي يُفيد الحصر بـ "إنما" وهي من أقوى صيغ الحصر، فالله كذبهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ رد عليهم وأكذبهم بهذه الصيغة القوية، أيضًا التي تُنادي عليهم بالفساد ألا، وجاء بـ "إن" المؤكدة إنهم، وجاء بـ "هم" ضمير الفصل الذي يفيد تقوية النسبة بين طرفي الجملة، وطرفي الكلام هم، وأدخل "أل" على المُفسدون، كأن هؤلاء قد حصلوا الوصف الكامل من الإفساد، كأنه لا مُفسد إلا هؤلاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ.

فهذا رد من الله -تبارك وتعالى- عليهم ليس بقول أحد من البشر يُخطئ ويُصيب، أو يتحامل، أو نحو ذلك، أو بينه وبينهم سوء في فهم، أو في معاملة، أو في علاقة، أو غير ذلك، فليس كل ما زينته النفس لصاحبها يكون حسنًا والله يقول: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة فاطر:8].

فالقضية لا ترجع إلى الأذواق، كما لا ترجع إلى الدعوى العريضة التي يدعيها المُفسد، ويقول: أنا مُصلح، وإنما المعيار والميزان هو هذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، هذا القرآن وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ فبه توزن الأعمال، والأقوال، والأحوال، ويتبين المُحق من المُبطل، والمُصلح من المُفسد.

ثم تأمل أيضًا هذه الصيغة التي عبروا بها: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ صيغة الحصر والقصر، قصر الموصوف على الصفة، فهذا كأنهم يقولون: إن شأننا ليس إلا الإصلاح، وإن حالنا مُتمحضة عن شوائب الفساد، وهم أكثر الناس فسادًا، وإفسادًا.

وقد أحسن من قال: أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يؤلف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث عن حرام آخر. وهكذا، نسأل الله العافية.

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:12] هذا الذي يفعلونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد والإفساد، لكن بسبب مُكابرتهم، وطمس بصائرهم، لا يشعرون، لا يُحسون، فهنا أكد على هذا الوصف الذي وصفهم به أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ فرد بهذا الرد البليغ على قولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حيث قصروا أنفسهم على هذا الوصف، فجاء الرد، فبدأ بجملة استئنافية اسمية للدلالة على الثبوت، أن هذا الوصف ثابت فيهم الإفساد أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ حيث جاء بهذه الصيغة وافتتحها بألا التي تُفيد التنبيه إلى تحقق ما بعدها، وإن التي للتأكيد وتقرير النسبة، وأتى بضمير الفصل - كما سبق - كل هذا من أجل التأكيد على أن كل هؤلاء هم أهل الشر والفساد والإفساد.

ونأخذ من هذه الآية: أن العمل السيء يُعمي البصيرة، فلا يشعر الإنسان بالأمور الظاهرة، نسأل الله العافية؛ لقوله تعالى: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ يعني: هو مُفسد، ولا يشعر أنه مُفسد، يُكابر في هذه القضية مع أن الإفساد أمر واقع مُتحقق في الخارج، يراه كل أحد، وهؤلاء لا يشعرون لما حصل عندهم من التبلد التام، والعمى الكامل للبصائر؛ فانعدم الشعور عندهم، ولذلك تجد الإنسان أحيانًا يُمعن، وأهل القلوب الحية يعجبون من جُرأته على ربه -تبارك وتعالى- وكيف لا يرعوي، ولا يتوب، ولربما كان في حال من المرض المُشفي على الهلكة، أو كان في حال من الضعف والعجز وتقادم العمر الذي قد انقرض بالفساد والإفساد، والنفاق ومُحادة الله -تبارك وتعالى- وتقول: ألا يتوب هذا، ماذا بقي؟! ألا يرجع إلى الله -تبارك وتعالى- في لحظاته الأخيرة وأيامه الأخيرة؟!، هو يعلم أنه سيموت والأطباء يقولون لم يبق لك شيء، والأعمار بيد الله، وتقول: ألا يتوب؟! ألا يُحاسب نفسه ويُراجع؟!

هو انعدم الشعور عنده، هذا يتحدث عنه أصحاب القلوب الحية، يقولون: ألا يتوب؟ لكن هو لم يعد يشعر، فما لجرح بميت إيلام، إن قد مات عضو من أعضائه، وهذا العضو يُصيبه الجدار، ويُصيبه كل شيء يُدميه، أو يجرحه، أو غير ذلك، ولا يتحرك، تقول: ألا يشعر؟ هو لا يشعر؛ لأن هذا العضو ميت، فكيف إذا كان الموت في القلب؟

فهذا -نسأل الله العافية- يلهم المُنكر والمال الحرام، ويفعل أنواع القبائح والفجور والكبائر والفواحش وهو يضحك بملء فيه، والمؤمن لربما وقعت منه الزلة، أو الكلمة، أو النظرة، أو غير ذلك، ويشعر أنه جبل يكاد يسقط عليه، ولا يدري العقوبة تأتي من أين؟ من أين تقع العقوبة؟ من أين تأتيه؟ من هنا، أو من هناك، ينتظر بس العقوبة متى تصل؟ ومن أي نوع تكون؟

وذاك يعمل الفواحش والكبائر، والمصائب، ويضحك بملء فيه، يشرب الأسطال، ويأكل الأرطال، وقلب ميت يتقلب في نِعم الله ويرعى كالبهيمة، ويتكلم بالكُفر والاستهزاء والسخرية من آيات الله -تبارك وتعالى- وهو يضحك لا يشعر، فهذا حينما يموت القلب ينتفي الشعور، بل ويتعجب ويقول ماذا ترى، ماذا ترى؟! لأنه لا يرى شيئًا، ماذا ترون؟ 

قال الله -تبارك وتعالى- عن أهل النفاق بعد أن بين وصفهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۝ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:8، 12].

هذا كان جوابهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض.

فما جوابهم إذا نُصحوا، ووجه إليهم الخطاب بأن يؤمنوا إيمانًا صحيحًا كما آمن أهل الإيمان من صحابة رسول الله ﷺ ؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] إذا قيل لهؤلاء المنافقين آمنوا كإيمان الصحابة الإيمان الصحيح الذي يكون إقرارًا وتصديقًا وإذعانًا، وإيقانًا بالقلب، مع الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، استنكفوا، وقالوا: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ كما آمن ضعفاء العقول، فنكون نحن وهم في السفه سواء، فرد الله -تبارك وتعالى- عليهم بأن السفه متوجه إليهم، بل هو مقصور عليهم، وهم لا يعلمون أن ما هم فيه هو الضلال والسفه والخُسران.

فهذه الآية يؤخذ منها من الهدايات: أن من الحكمة في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يُذكر للمدعو والمُخاطب والمُطالب بالإيمان، أو التزام شرائع الله -تبارك وتعالى- وحدوده، أن يُذكر له من استجاب؛ ليكون له ذلك أسوة ومُنشطًا، ومقويًا لقلبه ونفسه من أجل الامتثال، فإذا قيل للإنسان افعل كما فعل الآخرون؛ حيث سلكوا هذا الطريق والتزموا شرائع الله -تبارك وتعالى- فيكون ذلك أدعى للقبول والامتثال؛ لأن النفوس قد جُبلت على تشبه بعضها ببعض، كما قالوا: الناس كأسراب القطا، جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فإذا رأى في الخارج من آمن؛ فإن ذلك يكون دعوة صامتة للإيمان، فإذا وجد من يدعوه إليه، فإن ذلك يكون مقويًا لهذا الداعي الذي يراه في الخارج مع ما يوجد في نفس الإنسان من مقتضى الفطرة، وما يوجد من داعي الله -تبارك وتعالى- في نفس المؤمن.

فهؤلاء خوطبوا بمثل هذا آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [سورة البقرة:13] لا داعي للتلون، ولا داعي لمثل هذا الكذب الذي ادعوا معه الإيمان مع أن ذلك لا حقيقة له.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: أن الحكمة كمال النظر، وحُسن النظر في الأمور، إنما يكون ذلك بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- والاستقامة على صراطه المُستقيم، ولزوم شرعه، هذا هو الحصافة، وكمال الرأي، وحُسن النظر، وكمال العقل أن يكون الإنسان بهذه المثابة، أما من تنكب الطريق، وأعرض عن الإيمان، وخالف شرع الله -تبارك وتعالى- فهذا هو السفيه الذي لا يعرف مصلحته، الذي لا يجاوز نظره أنفه، فنظره قصير، ينظر إلى مطامع قريبة، إلى حظوظ عاجلة، إلى شهوات مُتقضية، ولكنه لا ينظر إلى المدى البعيد هناك الدار الآخرة.

ولذلك ذكر العلماء - رحمهم الله - أمثالاً لهذه القضية، من ذلك: ما ذكره ابن حزم الأندلسي -رحمه الله- مثّل هذا بطريقين:

أحدهما: ضيق، ولكنه يُفضي إلى موضع واسع فسيح، يلتذ الإنسان بالوصول إليه والإقامة به.

والآخر: واسع، ومليء بمُشتهيات النفوس ومُتطلباتها، ولكنه يُفضي إلى دار ضيقة كأيبة.

فما هو مُقتضى العقل؟ ما هو حُسن النظر في مثل هذا؟ الذي يختار الطريق الواسعة التي تُفضي به إلى موضع في غاية الضيق، يُقيم فيه أبدًا، هذا لا عقل له، ولا رأي عنده، أما الذي يؤثر سلوك الطريق الضيقة التي فيها ما فيها من العنت والمشقات حتى يُفضي به ذلك إلى قصور واسعة، ونعيم مُقيم ولذات لا تنقضي، يعيش فيها أبدًا، هذا الذي يقتضيه حُسن النظر.

فهذه الحياة الدنيا وما فيها من الشهوات هي سجن المؤمن، يحتاج إلى صبر قليل، ولا يدري متى يُقال له ارحل، فإذا صبر قليلاً أفضى به ذلك إلى روح وريحان، وجنة عرضها السماوات والأرض.

أما إذا توسع في هذه الدنيا، وترهل مع لذاتها وشهواتها، ومطامح النفوس فيها؛ فإن ذلك يُفضي به بعد ذلك إلى ضيق وعذاب، وألم وحسرات لا تنقضي.

هذه هي الحقيقة التي يحتاج المرء أن يُدركها إدراكًا صحيحًا، ويعمل بمُقتضاها، الشهوات التي نحبس النفوس عنها، فِطام النفوس عن هذه اللذات المُحرمة هو هذا الطريق الضيق الذي يُفضي بك بعد ذلك إلى السعة، ومن توسع اليوم بالمحرمات كان ذلك سببًا لضيق يجده في عاقبته ومآله ومصيره.

فالسفيه هو الذي لا يعرف المصلحة الحقيقية، فيؤثر ما يضره على ما ينفعه، فمثل هذا يحتاج إلى حجز عن هذه المقارفات من أجل أن يسلك الطريق الصحيح.

هؤلاء أهل النفاق يستنكفون حينما يُخاطبون بالإيمان أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ هذا استفهام إنكاري يقصدون به الاستنكاف والاستهزاء، فهم يتبرؤون من الإيمان على أبلغ وجه، باعتبار أنهم لا يريدون الاستواء مع هؤلاء الذين وصموهم ووصفوهم بالسفه، وهذا كما هو ظاهر يدل على كِبر وغطرسة، وتعالٍ على الحق وأهله، والنبي ﷺ حينما فسر الكبر قال: هو بطر الحق، وغمط الناس [6] بطر الحق، يعني: رد الحق، وغمط الناس، يعني: احتقار الناس، هو لا يرى الناس إلا أمثال الذر، وهو الذي له شأن وفهم، وعقل ومنزلة، فهذا قد يؤدي به هذا الكِبر إلى رد دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما فعل اليهود، وكما فعل كثير من الكفار، فكانوا يستنكفون من اتباع النبي ﷺ وبحثوا عن اسم لربما تنقبض منه النفوس: ابن أبي كبشة، فقالوا: قد أمِر أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر.

ابن أبي كبشة، لم يقولوا محمد بن عبد الله الاسم المعروف، ابن أبي كبشة، هكذا الإسقاطات؛ لإيجاد ما يكون سببًا لانقباض النفوس عن القبول والاتباع والاقتداء، هؤلاء الكفار الذين قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [سورة الزخرف:31] يعني: هذا اليتيم، لماذا يُختار ليكون هو النبي؟

وفرعون كان يقول لقومه الذين استخفهم: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52] هكذا الاحتقار والتكبر، هذا الاحتقار، وهذا التكبر أوقع الكثيرين قد لا يملكون مُلك فرعون، ولكنهم أُعجبوا بعلوم، أو أُعجبوا بذكاء، أو بعقول لم تُسعفهم؛ ولذلك ينبغي أن نُدرك جيدًا أن العقل قد يكون جناية على صاحبه، وأن الذكاء قد يكون جناية على صاحبه، فهم أوتوا ذكاء، ولم يأتوا زكاء، كما قيل عن الفلاسفة، وكثير من المُتكلمين ممن ضلوا عن الاعتقاد الصحيح، كانوا من أذكياء العالم، لكن هذا الذكاء لم يُسعفهم.

واليوم تجد الكثيرين ممن قد يكون له فضل ذكاء، فيترفع عن أن يكون أسوة غيره، فيكون مُقتديًا، مُتبعًا، مُلتزمًا شرائع الله مُهتديًا بنصوص الوحي من الكتاب والسنة، كما كان عليه طوائف من أهل الكلام الذين كانوا يستنكفون من اتباع النصوص، ويسمون أهل السنة، وأهل الحديث بالحشوية، يعني: هم في حشو الناس، أو أنهم أصحاب حشو، فهؤلاء في نظرهم أنهم لا يفهمون، ولذلك كانوا يقولون عن الصحابة  كما قال عمرو بن عُبيد المُعتزلي، يقول عن عبد الله بن عمر : بأنه حشوي، إلى هذا الحد؟!

وصفوهم بهذا، كأنهم في حشو الناس، كأنهم ليسوا بأهل تحقيق؛ ولذلك إذا تلطف الواحد من أولئك واعتذر لأصحاب رسول الله ﷺ يقول: قد شغلوا بالجهاد، والغزو مع رسول الله ﷺ ولم يتفرغوا لتمحيص هذه المعاني، يعني: حتى جاء هؤلاء فتفرغوا لها؛ ولهذا تجد في عباراتهم أن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، عندهم أن مذهب السلف هو التفويض، كانوا يعتقدون أن السلف مفوضة، ولم يكن السلف كذلك، كانوا يعتقدون أن السلف فوضوا معاني هذه النصوص في الصفات لله -تبارك وتعالى- ثم جاء هؤلاء من أهل الكلام فحققوا المعاني بزعمهم.

مثل هؤلاء لم تنفعهم عقولهم، وقد ذكرت في بعض المناسبات ما هم فيه من الحيرة، وما كانوا يقولون عند موتهم، الواحد منهم يبكي، ويضع الملحفة على وجهه، ويقول: لا أدري ما أعتقد، والآخر يقول:

نهاية إقدام العقول عِقال وغاية سعي العالمين أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال على شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال

هذا الذكاء، وهذا الحِذق، وهذا الفهم بزعمهم أودى بهم إلى هذه الحال.

واليوم تجد لربما كثيرًا من هؤلاء الفتية الذين لربما يتمتعون بشيء من الذكاء، فلا يريد الواحد منهم أن يكون كغيره من الناس من آحاد طلاب العلم، يقرأ النص، ويبحث عن النص الشرعي، والحديث والآية، وما أشبه ذلك، وما عرفوا قدر الآيات والأحاديث، وما فيها من الهدايات والمعاني البديعة العجيبة، والحِكم البالغة، فيظنون أن الهدايات والمعاني هي في قول فلاسفة معاصرين في كتب تُعرب، ثم تُنقل على عِلاتها، فيأتون بهذه العبارات، قال فلان، وقال فلان، من هؤلاء الفلاسفة الغربيين.

ويُرددون كلامًا أحسن حالاته أنه كلام إن كان من قبيل الحق، فهو يحمل قشة من المعنى، تجد ما هو أعمق، وأنفع وأبرك أكثر بركة منها في بعض آية، وهذا يبني كتابًا كاملاً في هذه القضية التي يُدندن حولها، ويدور حولها، وأقول هذا الكلام من واقع معرفة في بعض الكتب، ولست ولله الحمد من المُكثرين، ولكني أحيانًا إذا أردت أن أتحدث عن موضوع، أو نحو ذلك حاولت أن أقرأ كل ما كُتب فيه، فيكون من جملة هذه الكتابات تلك الكتب المُترجمة، التي والله يا إخوان إني أُشفق على مؤلفيها، وإن كانوا من الكفار أرحمهم، معنى قشة، معنى ضحل.

والله يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [سورة المائدة:2] ويقول: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8] ويقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [سورة المائدة:8] فالعدل مطلوب مع العدو، والصديق، والمؤمن والكافر، فنحن لا نغمط الناس حقهم، لكن بالنظر إلى الهدايات والمعاني التي في القرآن، وما في الوحي الذي يشرحه من سنة رسول الله ﷺ هذا لا شيء، الكلام الطويل الذي يُكثرون منه.

فأقول: إذا كان هذا الذكاء لا يُسعف صاحبه فيرد الوحي من أجل أن يكون له مزية على غيره كما فعل أسلافه من أهل الكلام، الذين قال عنهم شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما تحدث عن طريقة الحِوار والرد والمناقشة، والمُناظرة بأنه يُرد من أقرب طريق، وبنصوص الوحي، وما أشبه ذلك، يقول: لكن من النفوس ما يكون مريضًا، مُعتلاً، فلا ينفع معه إلا الدواء المُر لاستخراج علته، فمثل هذا قد لا يقبل أن تورد عليه النصوص، قال الله، قال رسوله ﷺ فيمكن أن يُرد عليه، وأن يُجادل بعبارات ومُصطلحات وألفاظ صعبة وعِرة المسالك، فلربما يقبل مثل هذا؛ لأنه يريد أن يكون له مزية على غيره وأن يُخاطب بخطاب لا يفهمه عامة الناس، أو طلاب العلم، هذا الذكاء يضر صاحبه.

فالذكاء يضر أحيانًا، يضر أحيانًا في هذا، يضر أحيانًا فيما يورثه أحيانًا من فساد العلاقات الاجتماعية، أنه يتعامل مع الآخرين بشيء من الترفع والاستنكاف والاستكبار، قد يضر المرأة أحيانًا، فترد الأكفاء باعتبار أنها ذكية، وأنها تملك ذكاء خارقًا، أو نحو ذلك، كل ما تقدم لها شخص ردته بحاجة أنها تريد من يساويها في الذكاء وتبقى.

والأخطر من هذا كما قلت أن يُرد الحق بسبب هذا الذكاء، فهؤلاء الذين ردوا دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ماذا كانوا يقولون؟ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111] وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [سورة هود:27] فكانوا ينظرون إلى هؤلاء أنهم لا يفهمون.

وهكذا في قول بعض هؤلاء الكفار لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [سورة الأحقاف:11] يعني: هم يعتقدون أنهم لفضلهم في ذكائهم وفهمهم إن كانوا يفهمون أن لو كان في هذا من الخير ما فيه لما سبقهم إليه هؤلاء السُذج البُسطاء، فهؤلاء السُذج البُسطاء هم الذين أفضت بهم سذاجتهم وبساطتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وأحيانًا يكون هذا الاحتقار بسبب الشهادات العالية التي يُحصلها الإنسان، فيحتقر الحق ممن جاء به، ولا يقبل من الناس شيئًا، أحيانًا يكون بحِذق في بعض العلوم، فلا يرى الناس شيئًا؛ ولذلك تجدون في كلام بعض أهل العلم كالإمام أحمد وغيره لربما بعض العبارات التي قد يُفهم منها كراهية التعمق في بعض علوم الآلة كاللغة؛ لأن ذلك قد يورث صاحبه شيئًا من الزهو والترفع، فإذا تكلم مُتكلم عنده رأى أن كلامه ليس بشيء؛ لأن هذا الكلام لم يكن بالقوالب التي تليق بمثله أن يُخاطب بها، هكذا بزعمه، فيُرد الحق بسبب هذا، يقيس الناس بحسب ما يرى من حذقهم في كلامهم وخطابهم وصحة منطقهم من جهة القوالب اللفظية فقط لا من جهة المضامين والمعاني، فهذا خطير.

وانظروا ماذا قال الله -تبارك وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] جاء بهذه الصيغة أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ فجاء بأداة التنبيه هذه (ألا) وجاء بـ "إن" المؤكدة، وضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ ليؤكده هُمُ السُّفَهَاءُ وأدخل على السفهاء "أل" التي تُشعر بالاختصاص، أو الحصر كأنهم حصلوا الوصف الكامل من السفه وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].

لاحظ هنا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13].

فهنا نفى عنهم العلم، وفي الإفساد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:11، 12] لاحظ في الإفساد قال: لا يشعرون، وهنا في السفه قال: لا يعلمون، فما الفرق بينهما؟

يمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم- بأن الفساد لما كان ظاهرًا يراه كل أحد فهو ملموس يُدرك بالحواس أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:12] فالفساد أمر مُدرك بالحواس يشعر به كل أحد، لكن هؤلاء لتبلد إحساسهم صاروا لا يشعرون، مع ظهوره وانكشاف فسادهم فهو ظاهر لكل أحد، ومع ذلك لا يشعرون.

أما السّفه فإنها قد تظهر آثاره سوء التصرف أن يختار الإنسان غير الأنفع له، غير الأصلح أن يبحث عن أشياء تضره فيُقبل عليها، فهذا سفه، فهذا إنما يُدرك بآثاره، فهذا يحتاج إلى علم من أجل أن يُميز به الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] هو لا يعلم أنه سفيه، ولو كان يعلم ما ينفعه مما يضره لأقبل على الإيمان، لكنه لا يعلم، فظن أن هذا الإيمان الذي قبله المؤمنون وسلكوا طريقه أنه هو السفه، وما علم أنه هو السفيه لكنه قد أوغل بجهله فصار في عمى عن ما ينفعه وأقبل واشتغل بما يضره، هذا هو حاله، بينما هم في الإفساد وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ فالإفساد ظاهر، مُدرك بالحواس، فهؤلاء لا يشعرون به، والله المستعان.

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (4872)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف". 
  2.  انظر: تفسير السعدي (ص: 42)، (ص: 210).
  3.  تفسير القرطبي (1/ 197). 
  4.  المصدر السابق. 
  5.  مجموع الفتاوى (29/ 283). 
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم: (91). 

مرات الإستماع: 0

وكما هي عادة القرآن إذا ذكر حال أهل الشقاء ذكر حال أهل السعادة، فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:82] هذا كثير في القرآن، فحكم الله -تبارك وتعالى- في مقابل ذاك بأن الذين آمنوا وصدقوا تصديقًا انقياديًّا، وأقروا بما يجب الإقرار به، وأذعنت قلوبهم بذلك، مع العمل الصالح الذي شرَّعه، فهؤلاء هم أصحاب الجنة، وأهل الخلود فيها، الملازمون لها، الذين يبقون فيها البقاء الأبدي السرمدي، وهو الخلود.

فيُؤخذ من هذه الآية أن الإيمان بمجرده لا يكفي لدخول الجنة، يعني: الإيمان الذي هو مجرد التصديق الانقيادي في القلب، بل لا بد من العمل الصالح، وهذا كثير في القرآن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فلا بد من قدر من العمل الصالح، مع الإيمان، فدعوى الإيمان وحدها لا تكفي، والإيمان مركب من قول وعمل، قول اللسان بالنطق بالشهادتين، وقول القلب بالتصديق الانقيادي والإقرار، وعمل القلب كالخوف والرجاء والتوكل والمحبة والإنابة والتوبة، وما إلى ذلك، وعمل اللسان بالذكر، وقراءة القرآن، ونحو ذلك، وعمل الجوارح بألوان الطاعات، فهو قدر مركب الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[1].

فالصلاة إيمان، والحج إيمان، والحياء شعبة من الإيمان، فالإيمان يمثل شجرة، وهذه الشجرة لها فروع وأغصان، ولها أصل ثابت، فهي مركبة من ذلك كله؛ ولذلك كان اعتقاد أهل السنة والجماعة بأن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان؛ ودلت الدلائل الكثيرة المتنوعة على أن تارك الصلاة يكفر بتركه لها، على خلاف بين أهل العلم في مقدار هذا الترك، هل المقصود به الترك المطلق، أو أنه لو ترك فرضًا حتى خرج وقته، أو يكون بما هو أكثر من ذلك.

فالمقصود: أنه لا بد من قدر من العمل، فلا يكفي مجرد التصديق، ولا يكفي مجرد النطق باللسان، بل لا بد من تصديق الجوارح، ولا بد من قدر من العمل؛ فلذلك ذكر الأعمال الصالحة مع الإيمان، والإيمان إذا ذكر وحده فالمقصود به التصديق الانقيادي، والإقرار والإذعان بالقلب، ويكون العمل الصالح ما زاد على ذلك.

كذلك إذا ذُكر الإيمان مع الإسلام فيكون الإيمان إذعان وإقرار وتصديق الباطن، والإسلام هو إسلام الظاهر بالانقياد والطاعة، فإذا ذكر الإيمان وحده، فإنه يشمل التصديق الباطن، وتسليم الظاهر، كذلك إذا ذُكر الإسلام وحده، فإنه يشمل هذا وهذا، وإذا ذكر الإيمان وحده فإنه يشمل الأمرين كذلك.

وقوله -تبارك وتعالى: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ في أصحاب النار قال: فأولئك فدخلت الفاء على أولئك، فهذه قد تكون دالة على العليّة، أو السببية، ما الذي أوجب لهم دخول النار؟ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ فالحكم الذي يرتب بالفاء يدل هذا على أن ذلك من قبيل العلة لما بعده فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ما الذي أوجب لهم دخول النار؟

هو الكفر كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وهذا الذي يسميه الأصوليون بدلالة الإيماء والتنبيه، وهو أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيبًا عند العقلاء، تقول: سهى فسجد، ما علة السجود؟ السهو، لو قال قائل: لا، هو سجد شكرًا لله، إذن لماذا تقول: سهى وترتب على هذا بالفاء؟ فهذا يعتبر من التلاعب بالكلام، فإن ترتيب هذا على هذا يدل على أنه علة له، تقول: سقط فكُسر، ثم تقول: إن الكسر لم يكن بسبب السقوط، وإنما كان بسبب هشاشة في عظامه كسر بسببها، ولم يكن بسبب السقوط، إذًا لماذا تقول: سقط فكسر؟ وقل مثل ذلك: أكل فبشم، ثم تقول: لا، إنما أصابه البشم بسبب علة في جوفه، ولم يكن بسبب الأكل، إذًا لماذا تقول: أكل فبشم؟ فهذا كله يقال له: دلالة الإيماء والتنبيه.

أما دخول الجنة فلم يذكر ذلك بالفاء، ويمكن أن يقال كما قال النبي ﷺ: لن يدخل أحدا عملُه الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة[2] فلاحظ جاءت الفاء الدالة على السببية في دخول النار بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [سورة البقرة:82] فهم يدخلون الجنة برحمة الله وفضله، ولا يستقل العمل بدخول الجنة، والله أعلم. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم: (9) ومسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها برقم: (35). 
  2. أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت برقم: (5673) ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله برقم: (2816).