الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰٓ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ۝ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:51-53]، يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوماً، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [سورة الأعراف:142]، قيل: إنها ذو القعدة بكماله، وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون، وإنجائهم من البحر.فقوله - تبارك وتعالى -: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] هذا لا شك أنه من مزيد إنعام الله وإفضاله عليهم، وذلك أنه أدْعى للتشفي؛ فإن إهلاك عدوهم وهم ينظرون إليه أشفى لصدورهم مما لو هلك فجاءهم خبره.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ في قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا قراءتان متواترتان، فهذه التي نقرأ بها هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى هي قراءة أبي عمرو، وإذ وعدنا موسى وهذه القراءة الثانية يختارها بعض من تكلم في التفسير وفي معاني القرآن؛ وذلك أنهم استشكلوا قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا وذلك أن المواعدة - المفاعلة - إنما تكون بين اثنين، أو بين طرفين، ويقولون: إن الله لا يتأتى معه هذا، وإنما الوعد يكون من جهته فقط، فاختاروا قراءة وعدنا، وجاؤوا في مثل هذا الموضع بالآيات الأخرى التي فيها ذكر الوعد كقوله مثلاً: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة النور:55] وما أشبه ذلك، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا الذي ذكروه غير متجه، والله أعلم؛ لأن قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا المواعدة بمعنى الموافاة، ولا يمنع ذلك أن يكون بين الله وبين أحد من خلقه، فالله أخبر موسى ﷺ بالميعاد، وموسى - عليه الصلاة والسلام - قبِل ذلك، فذلك مواعدة بينه وبين الله، وليس في ذلك أي محذور في هذا المعنى بالنسبة لما يقال في حق الله - تبارك وتعالى -، وأما الوعد الذي جاؤوا به في الآيات الأخرى فإنه يختلف عما هاهنا، فالوعد هناك هو الوعد بالجزاء وليس من المواعدة التي تكون للتوقيت.
ثم إن بعضهم قال على قراءة الجمهور: وَإِذْ وَاعَدْنَا عند من فسرها أنها من جهة الله فحسب، قالوا: هذا مثال من أمثلة ورود المفاعلة وتكون من طرف واحد، وهذا وإن كان في أصله صحيحاً ولكنه لا محذور هنا أن يقال: وَإِذْ وَاعَدْنَا أن الله أخبر موسى بالميعاد، وأن موسى ﷺ قبِل ذلك، فكانت بمعنى المواعدة على ظاهرها، ولا إشكال في هذا إطلاقاً، وإن كان لا يمتنع أن تأتي المواعدة من طرف واحد كما تقول مثلاً: عالجت الجرح، أو عاقبت المجرم، أو نحو ذلك، فأنت حينما قلت: عاقبته، فالمعاقبة هنا لم تقع بين طرفين، وإنما هي صادرة من طرف واحد، كما أن المعالجة صادرة من طرف واحد، والله تعالى أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً اسم موسى - عليه الصلاة والسلام - اسم أعجمي كما هو معروف، ويقولون: إن اسم موسى مركب من شيئين: (مو) و(سى)، ويقولون إن ذلك لغة قبطية مع أن المعروف أنه اسم عبراني.
ويقولون أصله (مو) (شى) و(مو) بمعنى ماء، و(شى) بمعنى شجر، والمعنى كما يقولون: إنه لما ألقته أمه في نهر النيل حمله الماء حتى أخذه إلى موضع فيه ماء وشجر، فلما وجده أولئك الجواري من قوم فرعون سمي باسم المكان الذي وجد فيه، والله أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني تمام أربعين ليلة، على رأس الأربعين ليلة يكون الميعاد، وهذه الليالي جاءت في سورة الأعراف: ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، ويذكر المفسرون هناك تفصيلات في هذا المقام، وأن أصلها كانت الثلاثين، ثم أتم الله بعد ذلك بعشر لأمور يذكرونها هناك.
وعلى كل حال ذكر الله هنا الليالي، وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك باعتبار أن الليلة تكون سابقة لليوم، والعرب تعبر بالليالي وتقصد معها الأيام، وهذا كثير جداً في كلامهم.

مرات الإستماع: 0

"وَإِذْ وَاعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً هي شهر ذي القعدة، وعشر ذي الحجة، وإنما خصّ الليالي بالذكر؛ لأن العام بها، والأيام تابعة لها، والمراد أربعين ليلة بأيامها."

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى هذا على قراءة الجمهور بمعنى الموافاة: كقولك: موعدك كذا، أو يوم كذا، وعلى قراءة أبي عمرو (وعدنا موسى) فيكون الوعد من الله، أما المواعدة فهي في الأصل مفاعلة بين طرفين فأكثر، فبعضهم فسره بالموافاة، باعتبار أن ذلك حينما يكون بين الله، وبين مخلوق مواعدة كأنهم رأوا أن هذا لا يتأتى، أو أن ذلك لا يليق بالله، أو نحو ذلك، مع أن المفاعلة كما ذكرت في مناسبة سابقة لا يلزم أن تكون بين طرفين فأكثر، وذكرت أمثلة لذلك، فهنا المواعدة وَاعَدْنَا مُوسَى ذلك صدر عن الله حدد لموسى موعدًا، ولا يمكن أن يكون ذلك باعتبار أن المفاعلة لا تقتضي أن تكون بين طرفين في كل المواضع. فالمفاعلة لا يلزم أن تكون بين طرفين، قد تكون من طرف واحد: كالمعالجة، يعالج هذا الأمر، يعالج الجراح، وأيضًا المبادرة، مفاجئة، مبادرة، وأيضًا مقاساة، معاناة، ذكرت أمثلة كثيرة متنوعة لهذا، فلا يلزم أن تكون المفاعلة بين طرفين، وإن كان هذا هو الغالب، وقوله هنا: بأنها شهر ذي القعدة، وعشر ذي الحجة. هذا قول الجمهور.

قال: وإنما خصّ الليالي بالذكر؛ لأن العام بها، والأيام تابعة لها. هذه طريقة العرب، فالليلة سابقة لليوم، والعرب تطلق الليالي، وتقصد بها ما يتبعها أيضًا من الأيام، كما أنها قد تطلق الأيام، وتقصد مع الليالي، والله يقول: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2] عشر ذي الحجة، والأيام فاضلة معها أيضًا، وهكذا حينما نقول: العشر الأواخر من رمضان. فهي فاضلة، ولكن أيضًا الأيام كذلك.  

"اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ اتخذتموه إلهًا، فحذف لدلالة المعنى."

وكما يقول بعض أهل العلم، ومن المتأخرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: بأنه لم يذكر في موضع واحد في كتاب الله هنا المتعلق اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلهًا المفعول يُحذف في جميع المواضع، قالوا: وذلك - والله أعلم - أنه لا يُعقل، ولا يُتصور بحال من الأحول بأن يُتخذ العجل أن يكون إلهًا، فحُذف لشناعة ذلك. هكذا قال الشيخ محمد الأمين - رحمه الله -[1] وهو مسبوق لهذا، ذكره قبله أبو السعود في كتابه في التفسير[2] فهذا يحتمل - والله أعلم -.

"مِنْ بَعْدِهِ أي: بعد غيبته في الطور."

يعني من بعد موسى - عليه الصلاة، والسلام - ليس من بعد حياته، وعهد موسى ﷺ وإنما في حياته حينما ذهب إلى ميقات ربه، فعبدوا العجل كما هو معلوم، ثم رجع إليهم، وحصل ما قصه الله - تبارك، وتعالى - في سورة الأعراف. 

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/38).
  2. تفسير أبي السعود (1/101).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر منته عليهم بإنجائهم من آل فرعون وإغراق آل فرعون، حيث فرق الله البحر لما ضربه موسى بعصاه، فلما نجوا ذكر الله -تبارك وتعالى- خبرهم بعد هذا الإنجاء، هذه النعمة العظيمة التي تستوجب الخضوع والشكر للمنعم المتفضل وتقدست أسماؤه.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:51] بعد أن أنجيناكم من آل فرعون اذكروا حين واعدنا موسى أربعين ليلة وذلك للميقات الذي وقَّته له ربه -تبارك وتعالى- وأنزل عليه فيه التوراة، هذا الكتاب الذي هو هدىً ونور، فإذا بهم ينتهزون الفرصة في غياب موسى في هذه المدة القصيرة، ثم يتخذون هذا العجل معبودًا وإلهًا من دون الله.

فالعجل الذي صنعه لهم السامري من ذلك الحلي الذي كان مع نساء بني إسرائيل، يقولون: كان النساء من بني إسرائيل يستعرن الحلي من نساء بني فرعون، من نساء الفراعنة في مناسباتهن ونحو ذلك، فجاء هذا الخروج وما حصل معه من غرق آل فرعون فكان هذا الحلي معهم فنظروا كيف يصنعون به، فجاء السامري وفعل به ما فعل، صنع منه عجلاً، وأخذ قبضة من أثر الرسول أثر الملَك، يقال: إنه أخذ قبضة من حافر فرس الملَك فألقاها على هذا العجل فصار له خوار، ففتن به هؤلاء، عجل من ذهب فعبدوه، وهذا أعظم الظلم: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ بعبادته واتخاذه إلهًا، كيف يكون العجل الذي لا حياة فيه ولا نفع ولا ضر ولا يسمع ولا يبصر كيف يكون إلهًا؟

ولهذا في جميع المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- إذا ذكر العجل: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ فإنه يحذف المتعلق بعده، يحذف المعمول، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهًا، وقد ذكر بعض أهل العلم قديمًا وحديثًا كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله[1] وقبله قال ذلك أبو السعود في تفسيره المعروف "إرشاد العقل السليم"[2] قالوا: إن علة هذا الحذف أنه لا يُعقل ولا يُتصور أن يكون العجل إلهًا، كيف يكون العجل إله؟ فيحذف في جميع المواضع ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ يعني: إلهًا، لكنه حذف هذا في هذا المفعول الثاني، يعني المفعول الأول ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ هذا المفعول الأول، الثاني: تقدير إلهًا، فحذفه؛ لأن ذلك لا ينبغي أن يُذكر، كيف يكون العجل المصطنع بهذه المثابة؟! كيف يكون إلهًا يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى؟!

والله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى في سورة طه لما ذكر فعل السامري قال: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ۝ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [سورة طه:87، 88] كثير من المفسرين يقولون: إن قوله: فَنَسِيَ يعني: أن موسى نسي إلهه هذا، فذهب يطلبه عند الطور، إلى هذا الحد من صفاقة الوجه والبجاحة والكفر والعتو، وهارون كان معهم بين أظهرهم لم يذهب مع موسى، موسى قال له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142] هذا يدل على أنه يوجد في بني إسرائيل الذين أنجاهم الله وأرجلهم لم تجف من البحر يوجد فيهم مفسدون وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فلما عبدوا ورجع موسى إلى قومه بعد ذلك في حال من الغضب: غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [سورة الأعراف:150] ألواح التوراة وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [سورة الأعراف:150] وفي الآية الأخرى ما يدل على أنه أخذ برأسه ولحيته؛ لأنه قال: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [سورة طه:94] لكن انظروا إلى التعليل، قال: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [سورة طه:94] أصلح.

وفي الآية الأخرى: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ [سورة الأعراف: 150] فهذه الأمور الثلاثة: اسْتَضْعَفُونِي هؤلاء أنجاهم الله قبل قليل من البحر وأغرق آل فرعون، المفروض أن يكون هؤلاء في غاية الخضوع والإخبات والشكر والاستسلام والانقياد: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي استضعفوا نبيهم هارون وَكَادُوا يعني قاربوا قتله، أنجاهم الله من هنا وعبدوا العجل من هنا؛ ولا اكتفوا بذلك استضعفوا نبيهم، وكادوا أن يقتلوه.

ثم انظر إلى قوله: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ له أعداء ممن؟ من أتباعه من قومه من الإسرائيليين، أعداء ليسوا من الفراعنة، الفراعنة هلكوا، هؤلاء من بني إسرائيل أعداء، وهذه من أعجب الأشياء، حدثاء عهد بالنجاة، الخلاص الأكبر يوم عيد، الإنجاء من آل فرعون، يوم نجى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء يُصام، ويفعلون بعده مباشرة هذه الشنائع الكبار: يعبدون العجل، ثم يستضعفون نبيهم، وأوشكوا أن يقتلوه، وله أعداء منهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ يعني إن رأوه يجره موسى برأسه ولحيته يتهكمون ويضحكون ويقولون: انظروا، ما رأيكم المشهد إذا كان بهذه المثابة، وفي حال كهذه من قرب العهد بالنجاة، ومعهم هؤلاء الأنبياء، وليسوا علماء ولا دعاة، ومع ذلك يفعلون هذا الفعل وأعداء وشماتة وأذى واستضعاف وهموا بقتله.

إذًا ماذا يقول بعد ذلك أهل العلم والدعاة إلى الله حينما يصل إليهم الأذى من السفهاء، هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في مقام كهذا ومع ذلك هذا الصبر وهذا الاحتمال، فغيرهم من باب أولى أن يلحقهم الأذى والشماتة وما إلى ذلك مما يكون لهم من الأعداء والخصوم، هذه سنة الله في هذا الخلق.

أنا أقف كثيرًا عند هذه الآية: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ أي أعداء؟! حدثاء عهد بنجاة ووجد فيهم هذا؟! هذا له دلالات عميقة في سنة الله في الخلق، وفي عتو بني إسرائيل إذا كانوا مع هؤلاء الأنبياء كبير أنبياء بني إسرائيل بالاتفاق وهو موسى وكتابهم الأساس الأصل الذي تعبدهم الله بالعمل به وبشريعته هو التوراة، فإذا كان هذا في عهد موسى وهارون ماذا إذن يكون حال اليهود بعدهم؟! ماذا يقول اليهود في هذا العصر وفي الأعصار التي قبله بعد مبعث النبي ﷺ حيث لا نبي بعد رسول الله ﷺ؟! يعني قبل النبي ﷺ كانت تسوسهم الأنبياء، بعد النبي ﷺ لا يوجد نبي فهم مطالبون بالدخول في هذا الدين، واتباع الرسول ﷺ ولا يوجد عندهم إلا أحبار السوء، كما وصفهم الله -تبارك وتعالى: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة التوبة:34].

فإذا كان الأمر بهذه المثابة في وقت الأنبياء الكبار يفعلون هذه الأفاعيل يعبدون العجل، يعني ما بعد هذا شيء، وهموا بقتل نبيهم واستضعفوه ماذا يفعل هؤلاء وهم ليس بين أظهرهم أنبياء ولا علماء على استقامة.

ثم تأمل هذه الآية ونظائرها في موضع آخر يقول: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [سورة البقرة:93] أشربوا يعني: صارت هذه العبادة ليست مجرد تمثيلية، أو مشهد عابر أو نزوة لا أُشْرِبُوا فإذا كان معبود بهذه المثابة عجل تُشرب القلوب محبته فكيف بالله إله الحق المنعم المتفضل أُشْرِبُوا.

فالأهواء تكون مسيطرة على قلوب أصحابها إلى حد الإشراب، يعني ليست المسألة مجرد عناد أو مماحكة أو نحو ذلك لا وَأُشْرِبُوا إشراب، إذن الضلالة قد تُشربها القلوب إشرابًا فتتخلل جميع هذه القلوب فلا تترك فيها موضعًا إلا خالطته، وإذا كان الأمر إلى هذا الحد فإنه كما قيل: الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، هذا السر كيف تسيطر العقائد والأفكار على قلوب أصحابها، وتقودهم وينقادون وراءها مرخصين الأنفس والأموال في سبيلها وسبيل نصرتها، وهنا تأتي خطورة الضلالات والأهواء والبدع أُشْرِبُوا.

وانظر إلى هؤلاء الذين يموتون ميتة السوء -نسأل الله العافية- في هذه الجرائم القبيحة التي نسمع عنها بين حين وآخر، وآخر ذلك قبل يومين، هؤلاء كيف يلقون بأنفسهم في هذه الأعمال والجرائم ويموت هذه الميتة التي هي أسوأ الميتات، ويظن أنه على شيء، هو يعتقد أنه بهذا الفعل يصل، وأن ذلك من أعمال البر التي يتقرب بها إلى الله في رمضان أو في غير رمضان، هكذا تفعل الضلالة والهوى في قلب الإنسان فيموت في سبيل ضلالته -نسأل الله العافية.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة:51] كان الميعاد كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في سورة الأعراف ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف:142] فهنا ذكر المنتهى، وهناك ذكرها مفصلة، والمفسرون يذكرون أشياء في سبب زيادة عشرة أيام لا حاجة لذكرها هنا، فالله أعلم بذلك.

وهنا أنه عبر بالليالي: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك لأن الليالي سابقة للأيام، والعرب تعبر بالليالي وتريد بها الأيام، فهنا أربعين ليلة يعني بأيامها، والليلة تتعلق باليوم الذي بعدها، وهذا يترتب عليه أحكام شرعية في قضايا تتعلق بالعِدد، عدة الوفاة، عِدد الطلاق، يتعلق به آجال والديون وما إلى ذلك، الشهور دخول الشهر وخروج الشهر يكون من هذه، ولذلك فإن العرب يؤخرون بالليالي؛ لأنها قبل الأيام، وقد تكلمت على هذا المعنى في الكلام على الاعتكاف[3] متى يبدأ الاعتكاف، وما أقل وقت للاعتكاف؟

قال: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [سورة البقرة:51] وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة:51] بعض أهل العلم يقولون: إنه خص الليالي ذكر الليالي باعتبار المناجاة، هي وقت المناجاة، فذهب إلى ميقات ربه، فذكر الليالي مع أن معها أيام إلا أن المناجاة فيها ألذ، المناجاة في الصلاة والعبادة ألذ.

  1.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 82). 
  2.  تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) (1/ 131).
  3.  على الرابط التالي: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ lecture/ 2219