الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ۝ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:51-53]، يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوماً، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [سورة الأعراف:142]، قيل: إنها ذو القعدة بكماله، وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون، وإنجائهم من البحر.فقوله - تبارك وتعالى -: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:50] هذا لا شك أنه من مزيد إنعام الله وإفضاله عليهم، وذلك أنه أدْعى للتشفي؛ فإن إهلاك عدوهم وهم ينظرون إليه أشفى لصدورهم مما لو هلك فجاءهم خبره.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ في قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا قراءتان متواترتان، فهذه التي نقرأ بها هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى هي قراءة أبي عمرو، وإذ وعدنا موسى وهذه القراءة الثانية يختارها بعض من تكلم في التفسير وفي معاني القرآن؛ وذلك أنهم استشكلوا قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا وذلك أن المواعدة - المفاعلة - إنما تكون بين اثنين، أو بين طرفين، ويقولون: إن الله لا يتأتى معه هذا، وإنما الوعد يكون من جهته فقط، فاختاروا قراءة وعدنا، وجاؤوا في مثل هذا الموضع بالآيات الأخرى التي فيها ذكر الوعد كقوله مثلاً: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة النور:55] وما أشبه ذلك، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا الذي ذكروه غير متجه، والله أعلم؛ لأن قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا المواعدة بمعنى الموافاة، ولا يمنع ذلك أن يكون بين الله وبين أحد من خلقه، فالله أخبر موسى ﷺ بالميعاد، وموسى - عليه الصلاة والسلام - قبِل ذلك، فذلك مواعدة بينه وبين الله، وليس في ذلك أي محذور في هذا المعنى بالنسبة لما يقال في حق الله - تبارك وتعالى -، وأما الوعد الذي جاؤوا به في الآيات الأخرى فإنه يختلف عما هاهنا، فالوعد هناك هو الوعد بالجزاء وليس من المواعدة التي تكون للتوقيت.
ثم إن بعضهم قال على قراءة الجمهور: وَإِذْ وَاعَدْنَا عند من فسرها أنها من جهة الله فحسب، قالوا: هذا مثال من أمثلة ورود المفاعلة وتكون من طرف واحد، وهذا وإن كان في أصله صحيحاً ولكنه لا محذور هنا أن يقال: وَإِذْ وَاعَدْنَا أن الله أخبر موسى بالميعاد، وأن موسى ﷺ قبِل ذلك، فكانت بمعنى المواعدة على ظاهرها، ولا إشكال في هذا إطلاقاً، وإن كان لا يمتنع أن تأتي المواعدة من طرف واحد كما تقول مثلاً: عالجت الجرح، أو عاقبت المجرم، أو نحو ذلك، فأنت حينما قلت: عاقبته، فالمعاقبة هنا لم تقع بين طرفين، وإنما هي صادرة من طرف واحد، كما أن المعالجة صادرة من طرف واحد، والله تعالى أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً اسم موسى - عليه الصلاة والسلام - اسم أعجمي كما هو معروف، ويقولون: إن اسم موسى مركب من شيئين: (مو) و(سى)، ويقولون إن ذلك لغة قبطية مع أن المعروف أنه اسم عبراني.
ويقولون أصله (مو) (شى) و(مو) بمعنى ماء، و(شى) بمعنى شجر، والمعنى كما يقولون: إنه لما ألقته أمه في نهر النيل حمله الماء حتى أخذه إلى موضع فيه ماء وشجر، فلما وجده أولئك الجواري من قوم فرعون سمي باسم المكان الذي وجد فيه، والله أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني تمام أربعين ليلة، على رأس الأربعين ليلة يكون الميعاد، وهذه الليالي جاءت في سورة الأعراف: ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، ويذكر المفسرون هناك تفصيلات في هذا المقام، وأن أصلها كانت الثلاثين، ثم أتم الله بعد ذلك بعشر لأمور يذكرونها هناك.
وعلى كل حال ذكر الله هنا الليالي، وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك باعتبار أن الليلة تكون سابقة لليوم، والعرب تعبر بالليالي وتقصد معها الأيام، وهذا كثير جداً في كلامهم.

مرات الإستماع: 0

انظروا عبدوا العجل، ومع ذلك: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:52] عَفَوْنَا عَنْكُمْ العفو يعني المحو، محو أثر الذنب، جريمة كبيرة عبادة عجل واستضعاف نبي، وهموا بقتله، ومع ذلك عفا عنهم، هذا الإجرام وقبِل توبتهم بعد عودة موسى : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: من أجل أن تشكروا الله -تبارك وتعالى- ولا تتمادوا في الكفر.

فانظر إلى سعة حلمه -تبارك وتعالى- وانظر إلى عظيم جوده وكرمه وعفوه ومغفرته، فهؤلاء عبدوا العجل، ومعهم الأنبياء، هؤلاء -عليهم السلام- وقد أنجاهم فقابلوا النعمة بالكفران، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- عفا عنهم، فلا يتعاظمه ذنب  فمهما عظمت ذنوب العبد ينبغي أن يتوب، وليس بينه وبين الله واسطة، وليس بينه وبين المغفرة إلا التوبة الصادقة، والله وعد من تاب أن يقبل توبته وأن يتوب، بل يفرح بتوبة عبده، ويكفي في ذلك الوصف الذي ذكره النبي ﷺ: أشد فرحًا من ذاك الذي أضل راحلته ثم بعد ذلك أيس منها فنام تحت شجرة ينتظر الموت، راحلته عليها طعامه وشرابه، فقام وإذا بناقته عند رأسه، فمن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح[1].

هذه حاله توصِّف فرحًا لا يمكن أن يقادر قدره، حياة جديدة، ولد من جديد، أخطأ معه هذا الخطأ، ومع ذلك الله غني عن عباده، يفرح بتوبتهم مع كمال الغنى، وكمال فقرهم، وكثرة ذنوبهم، وتباطؤهم في الإقبال عليه والطاعة، انظروا إلى حالنا وكسلنا وتثاقلنا في طاعتنا وعبادتنا وصلاتنا، هذه الصلاة وصلاة الفرائض، ونحو ذلك، ولربما يستطيل بعضنا الشهر، يرى أنه طويل؛ رمضان، يرى أنه طويل.

نسأل أن يعفو عنا، وأن يلهمنا شكره، وذكره، وأن يعيننا على طاعته وحسن عبادته. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، برقم (2747).