وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ في قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا قراءتان متواترتان، فهذه التي نقرأ بها هي قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى هي قراءة أبي عمرو، وإذ وعدنا موسى وهذه القراءة الثانية يختارها بعض من تكلم في التفسير وفي معاني القرآن؛ وذلك أنهم استشكلوا قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا وذلك أن المواعدة - المفاعلة - إنما تكون بين اثنين، أو بين طرفين، ويقولون: إن الله لا يتأتى معه هذا، وإنما الوعد يكون من جهته فقط، فاختاروا قراءة وعدنا، وجاؤوا في مثل هذا الموضع بالآيات الأخرى التي فيها ذكر الوعد كقوله مثلاً: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة النور:55] وما أشبه ذلك، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا الذي ذكروه غير متجه، والله أعلم؛ لأن قوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا المواعدة بمعنى الموافاة، ولا يمنع ذلك أن يكون بين الله وبين أحد من خلقه، فالله أخبر موسى ﷺ بالميعاد، وموسى - عليه الصلاة والسلام - قبِل ذلك، فذلك مواعدة بينه وبين الله، وليس في ذلك أي محذور في هذا المعنى بالنسبة لما يقال في حق الله - تبارك وتعالى -، وأما الوعد الذي جاؤوا به في الآيات الأخرى فإنه يختلف عما هاهنا، فالوعد هناك هو الوعد بالجزاء وليس من المواعدة التي تكون للتوقيت.
ثم إن بعضهم قال على قراءة الجمهور: وَإِذْ وَاعَدْنَا عند من فسرها أنها من جهة الله فحسب، قالوا: هذا مثال من أمثلة ورود المفاعلة وتكون من طرف واحد، وهذا وإن كان في أصله صحيحاً ولكنه لا محذور هنا أن يقال: وَإِذْ وَاعَدْنَا أن الله أخبر موسى بالميعاد، وأن موسى ﷺ قبِل ذلك، فكانت بمعنى المواعدة على ظاهرها، ولا إشكال في هذا إطلاقاً، وإن كان لا يمتنع أن تأتي المواعدة من طرف واحد كما تقول مثلاً: عالجت الجرح، أو عاقبت المجرم، أو نحو ذلك، فأنت حينما قلت: عاقبته، فالمعاقبة هنا لم تقع بين طرفين، وإنما هي صادرة من طرف واحد، كما أن المعالجة صادرة من طرف واحد، والله تعالى أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً اسم موسى - عليه الصلاة والسلام - اسم أعجمي كما هو معروف، ويقولون: إن اسم موسى مركب من شيئين: (مو) و(سى)، ويقولون إن ذلك لغة قبطية مع أن المعروف أنه اسم عبراني.
ويقولون أصله (مو) (شى) و(مو) بمعنى ماء، و(شى) بمعنى شجر، والمعنى كما يقولون: إنه لما ألقته أمه في نهر النيل حمله الماء حتى أخذه إلى موضع فيه ماء وشجر، فلما وجده أولئك الجواري من قوم فرعون سمي باسم المكان الذي وجد فيه، والله أعلم.
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني تمام أربعين ليلة، على رأس الأربعين ليلة يكون الميعاد، وهذه الليالي جاءت في سورة الأعراف: ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، ويذكر المفسرون هناك تفصيلات في هذا المقام، وأن أصلها كانت الثلاثين، ثم أتم الله بعد ذلك بعشر لأمور يذكرونها هناك.
وعلى كل حال ذكر الله هنا الليالي، وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك باعتبار أن الليلة تكون سابقة لليوم، والعرب تعبر بالليالي وتقصد معها الأيام، وهذا كثير جداً في كلامهم.