الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ يعني: التوراة وَالْفُرْقَانَ وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:53]، وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر؛ كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة القصص:43].
في قوله هنا: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ذكر الله الكتاب، ولا شك أنه التوراة، ونقل بعض أهل العلم الإجماع أن الكتاب هنا هو التوراة، ثم عطف عليه بعد ذلك الفرقان، وظاهره أن العطف يقتضي المغايرة، ولهذا فهم بعض أهل العلم أن الفرقان ليس المراد به التوراة؛ بل هو شيء آخر، واختلفوا في تفسيره، وفي بيان المراد به، فبعضهم قال: آتينا موسى الكتاب، وآتينا محمداً الفرقان، وهؤلاء التبس عليهم هذا، وذلك أن الله سمى هذا القرآن بالفرقان كما في سورة الفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [سورة الفرقان:1]، ولا يمتنع أن يسمي الله القرآن بالفرقان، وأن يصف التوراة بأنها فرقان، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [سورة الأنبياء:48]، والمراد بذلك التوراة قطعاً.
وبعضهم يقول: الفرقان المراد به ما حصل من الفرق بينهم أي: الفصل والحكم بينهم وبين فرعون وقومه، وبعضهم يقول: المراد به انفراق البحر، وهذا بعيد جداً عن ظاهر القرآن، بل هو في غاية البعد، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول المراد بالفرقان: الحجة والبرهان الذي أعطاه الله لموسى من الآيات كالعصا ، واليد وما أشبه ذلك، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الفرقان المراد به التوراة وهو الكتاب الذي سبق ذكره قبله، آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ويكون ذلك من قبيل عطف الأوصاف والموصوف واحد، كما في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4]، فالأوصاف تأتي تارة متتابعة، وتارة تأتي بالعطف بالواو مع أن الموصوف واحد، ومن ذلك قول الشاعر يمدح ملكاً:
هو الملك القرم وابن الهُمام وليث الكتيبة في المزدحم
الموصوف هنا واحد، فوصفه تارة بالتتابع فقال: هو الملك القرم، وتارة بالواو فقال: وابن الهمام، وليث الكتيبة... إلى آخره.
وقوله: إن هذه الأربعين ليلة هي شهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة فهذا عليه عامة المفسرين، والله تعالى أعلم.

مرات الإستماع: 0

"الْكِتابَ هنا التوراة وَالْفُرْقانَ أي: المفرق بين الحق، والباطل، وهو صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ."

قوله: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الكتاب هنا قال: التوراة. هذا بالإجماع، والفرقان الذي يدل عليه السياق حيث عطفه على الكتاب أن ذلك جميعًا مما أوتيه موسى - عليه الصلاة، والسلام - فهو المفرق بين الحق، والباطل فهو إذاً صفة للتوراة، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -: أنه صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ لا سيما أن هذا اللفظ الفرقان يتضمن صفة، وهو أنه يَفْرُق بين الحق، والباطل[1].

"وقيل: الفرقان هنا فرق البحر، وقيل: آتينا موسى التوراة، وآتينا محمدًا الفرقان. وهذا بعيد لما فيه من الحذف من غير دليل عليه."

 أما قول من قال: بأنه فرق البحر. فهذا بعيد، وقول من قال: بأنه القرآن هذا أبعد؛ لأن الله قال: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ وأما أن يقال بأن ذلك باعتبار تقدير: وآتينا محمدًا الفرقان. فهذا لا دليل عليه، والأصل عدم التقدير، وأيضًا يرده قوله - تبارك، وتعالى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] فهنا هذه الآية صريحة واضحة لا تحتمل، فسماه فرقانًا.

وبعضهم يقول: الواو زائدة، ولا حاجة لمثل هذا، وبعضهم يقول: المقصود بالفرقان الفرق بينهم، وبين قومهم من آل فرعون، فرق الله بينهم، فصل بينهم.

لكن هذا أيضًا بعيد، وبعضهم يقول: الفرقان الفرج من الشدائد، والكرب. وهذا أبعد، وبعضهم يقول: الحجة، والبيان بالآيات كالعصى، ونحو ذلك. لكن الأقرب أن ذلك من صفة الكتاب الذي هو التوراة.  

  1. تفسير الطبري (2/70).

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- ما وقع لبني إسرائيل حينما جاء موسى لميقات ربه، وذلك أنهم عبدوا العجل، ثم تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم بعد هذا الجرم الشنيع، قال الله بعد ذلك: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:53] يعدد عليهم نعمه وآلاءه.

ففي هذا الميقات الذي كلَّم الله موسى به وأنزل عليه التوراة: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب واذكروا نعمتنا عليكم إذ أتينا موسى الكتاب، أعطينا موسى الكتاب وَالْفُرْقَانَ فهذا الكتاب وصفه الله -تبارك وتعالى- بهذا الوصف أنه فرقان، يفرُق الله به بين الحق والباطل، والمقصود بذلك التوراة، وذلك من أجل أن يهتدوا لَعَلَّكُمْ أي: من أجل هدايتكم.

وبعض أهل العلم يقول: كل "لعل" في القرآن فهي للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون.

ومن أهل العلم من حمل "لعل" على بابها وهي أنها للترجي، والله -تبارك وتعالى- لا يقع منه الترجي؛ لأن الترجي إنما يكون ممن لا يعلم عواقب الأمور، والله بكل شيء عليم، وخرَّجوا ذلك باعتبار أن الخطاب روعي فيه حال المخاطبين: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

وهذه الآية يؤخذ منها أن إنزال الكتب نعمة من الله وتقدست أسماؤه، بل هي من أعظم النعم وأجلها؛ لأن الناس لا يمكن أن يعرفوا حقائق الأمور، لا يمكن أن يعرفوا كثيرًا من الغيوب إلا عن طريق الوحي، الأمور الغائبة عنهم في الزمن الماضي، والأمور الغائبة عنهم في المستقبل، ما يتعلق بالله والدار الآخرة، كيف تصل العقول إلى مثل هذه الأمور مهما كانت هذه العقول، ومهما أوتيت من القُدَر والإمكانات والذكاء، فإن الأمور الغيبية غائبة عنها، فالوحي هو الطريق إلى معرفتها، قد يدرك العقل جملاً من صفات الله -تبارك وتعالى- ودلائل ربوبيته ووحدانيته ونحو ذلك، ولكنه لا يدرك ذلك على التفصيل إلا عن طريق الوحي، وهكذا في محاب الله ومساخطه، وشرائع الإيمان فإن ذلك إنما يعرف عن طريق الوحي، وقل مثل ذلك ما يتعلق بالدار التي يصير الناس إليها، وأوصاف هذه الدار، فإن هذا إنما يعرف بطريق الوحي، فهذا الوحي وهذه الكتب يتوصلون بها إلى المعارف الكبرى، التي تتوقف عليها سعادتهم وفلاحهم ونجاتهم، فبها يعرفون المعبود، وبها يعرفون الطريق التي رسمها لعباده، وبها يعرفون الدار التي يصيرون إليها.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن إنزال هذه الكتب إنما هو لغاية عظمى، لغاية كبرى وهي: بيان الحق وهداية الخلق، فالله -تبارك وتعالى- هنا يذكر أنه آتى موسى الكتاب والفرقان قال: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

إذًا هذه الكتب نزلت من أجل الاهتداء، ولم تنزل هذه الكتب من أجل أن تتلى فحسب، أن يتلوها المسلم من أجل أن يحصل الحسنات والأجر والثواب، فهذا مطلوب بلا شك، ولكن المقصود الأساس هو الاهتداء بها، وإنما طريق الاهتداء التدبر، أن يتدبرها ليعقل عن الله -تبارك وتعالى- مراده، فمن أراد الهداية فعليه بتدبر القرآن فهو أصل الهداية وينبوعها، ولا بد من ذلك وإلا فالضلال سيكون حليفه.