الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوٓا۟ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:54] فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [سورة الأعراف:149] الآية، قال: فذلك حين يقول موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ أي: إلى خالقكم، قلت: وفي قوله هاهنا: إِلَى بَارِئِكُمْ تنبيه على عظم جرمهم أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.لهذا يقال: إن الشرك هو أعظم ذنب؛ لأنه وضع للعبادة في غير من خلق، ولذلك تجد في الآيات التي يقرر الله فيها المشركين، يذكر الخلق، ويلزمهم بذلك بتوحيد الإلهية.
في قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة:53] يقول ابن كثير: "وكان ذلك أيضاً بعد خروجهم من البحر؛ كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة القصص:43]": الذي في سورة التوراة ظاهر أن ذلك كان بعد إنجائهم من فرعون؛ لأن الله لما ذكر انفلاق البحر، وإنجاء هؤلاء من فرعون وقومه؛ ذكر أنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف:138]، ثم بعد ذلك ذكر ما حصل منهم من عبادة العجل، فكان ذلك بعد إنجائهم، والحلي التي آخذوها إنما كانت معهم من قوم فرعون كما ذكر بعضهم بأن نساء بني إسرائيل قد استعرن تلك الحلي، فلما خرجوا هذا الخروج السريع لم يمكنهم إرجاع هذه المصوغات من الحلي، فكان السامريّ هو الذي اقترح عليهم أن يجمعوها، وحصل ما حصل، وكان ذلك بعد خروجهم من البحر، وإنجائهم من فرعون.
وفي قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:54]، هذه توبتهم، والمقصود بهذا ليس أن يقتل الإنسان نفسه، ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم فيما اعلم، وإنما فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي فليقتل بعضكم بعضاً، ولهذا نظائر، فإن الأمة الواحدة المجتمعة على شيء ينزلون منزلة النفس الواحدة، ولهذا أمثلة من القرآن كقوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188].
وكقوله في سورة النور على أحد الوجهين المشهورين في تفسير الآية: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النــور:12] فظنوا بأنفسهم، أي: ظنوا بإخوانهم.
وكقوله أيضاً في سورة البقرة: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85]، تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ يعني تقتلون إخوانكم، فإنه يحرم على الإسرائيلي أن يقتل إسرائيلياً مثله، ثم هم بعد ذلك يقتل بعضهم بعضاً، فكانت توبتهم كما قيل: إنهم ألقيت عليهم ظلمة، وقيل: ألقي عليهم الغمام، فصار الرجل لا يميز من أمامه، فقتل منهم مقتلة عظيمة في ذلك اليوم، فكان الرجل يقتل أقرب الناس إليه، يقتل أباه، وآخاه، حتى تاب الله عليهم، ورفع ذلك البلاء عنهم، ولهذا قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:54] أي رجع عليكم بالتوبة، والمغفرة.
وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: "فقال الله - تعالى -: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من والد، وولد، فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول.
وروى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: قال موسى لقومه: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] قال: "أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم، قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظُلَّمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلَّة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.
بعض أهل العلم من المفسرين ينقلون الإجماع على أن المقصود فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي: فليقتل بعضكم بعضاً.

مرات الإستماع: 0

"فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي: يقتل بعضكم بعضًا، كقوله: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61]."

هذا نقل عليه القرطبي الإجماع[1] أنه لم يؤمر أحد منهم بقتل نفسه، وإنما فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني: فليقتل بعضكم بعضًا، وذلك أن الأمة المجتمعة على ملة، ودين تُنَزل منزلة النفس الواحدة فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وهذا كما في قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188] يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، وهو على أحد القولين في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] يقولون في أنفسهم أحد القولين أنه يقول بعضهم لبعض، وهكذا في قوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29] قيل: لا تقتلوا أنفسكم أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، وهنا فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي: يقتل بعضكم بعضًا.

"وروي أن من لم يعبد العجل قتل من عبده، وروي أن الظلام ألقي عليهم فقتل بعضهم بعضًا، حتى بلغ القتلى سبعون ألفًا فعفى الله عنهم. وإنما خص هنا اسم البارئ لأن فيه توبيخًا للذين عبدوا العجل كأنه يقول: كيف عبدتم غير الذي برأكم؟ ومعنى الباري: الخالق."

جاء في بعض المرويات، وهو مأخوذ من بني إسرائيل ألقي عليهم الغمام، وهو سحاب رقيق أبيض، فصار بعضهم يضرب بعضًا بالسيف، فيلقى أباه، ويلقى أخاه، ونحو ذلك، فيضربه بالسيف، وهو لا يراه يعني لا يميزه عقوبة لهم، حتى قيل: إنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، ثم رُفع ذلك عنهم، فكانت هذه التوبة من عبادة العجل فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ هذه توبتهم، وهذا كان من الآصار التي كانت على بني إسرائيل، فخفف ذلك عن هذه الأمة، فصارت توبة هذه الأمة بالتوبة، والندم، والعزم على عدم الرجوع مع الإقلاع، ورد المظالم فيما يتصل بالناس.

وهذا القول بأن من لم يعبد العجل قتل من عبده، وألقي عليهم الظلام حتى بلغ القتلى هذا العدد قتل سبعون ألفًا، هذا مروي عن ابن عباس - ا -.

"فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فحوى الخطاب، أي: ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم."

يعني قبله مقدر محذوف طوي الكلام طيًا ثقة بفهم السامع، يعني يُختصر الكلام إذا كان مفهومًا لدى السامع فيُختصر، قال: وهو فحوى الخطاب. المشهور عند الأصوليين أن المعنى اللازم من اللفظ المركب موافقًا لمدلول ذلك المركب فهو مفهوم الموافقة، فإن كان أولى بالحكم فهو فحوى الخطاب، وإن كان مساويًا له فهو لحن الخطاب، هذا مشهور عند الأصوليين. اللفظ المركب إن كان موافقًا لمدلوله يعني المسكوت عنه إن كان موافقًا للحكم في المنطوق فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] الضرب من باب أولى، فهذا الضرب محرم، والتأفيف محرم، فهذا مفهوم موافقة، مفهوم المخالفة يكون بالعكس يعني إذا كان هذا مأمور به يكون المسكوت عنه بعكسه، يعني يكون منهيًا عنه، حينما تقول مثلًا: صاحب الأخيار. مفهوم المخالفة لا تصاحب الأشرار، هذا المسكوت عنه، فُهم من المنطوق به من جهة السكوت عنه، فلما كان المنطوق: صاحب الأخيار، فالمفهوم مسكوت عنه: لا تصاحب الأشرار، أما مفهوم الموافقة فيكون الحكم موافقًا للمنطوق، فإن كان أولى منه، أولى منه بالحكم فهذا مفهوم الموافقة الأولوي، تقول: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فالضرب محرم، والتأفيف محرم، الضرب من باب أولى، وهو المسكوت عنه: الضرب، والشتم، هذا مفهوم موافقة، هذا الأعلى: الأولى بالحكم، هذا الذي يسميه الأصوليون بفحوى الخطاب: مفهوم الموافقة الأولوي، أما المساوي فهو لحن الخطاب، مثل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء: 10]، والذي يحرقها؟ لا يأكلها، يلهو بها؟ نفس الحكم كالذي أكلها، لكن عُبر بالأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، فهنا الأكل، والإحراق، وأي نوع من أنواع الإتلاف مساوي للمنطوق به، فهذا الذي يسمونه لحن الخطاب، مفهوم الموافقة المساوي هو لحن الخطاب، هذا هو المشهور.

أما ما ذكره المؤلف هنا فهذا يتأتى على قول بعض الأصوليين: كالقفال، فإن هؤلاء يطلقون فحوى الخطاب، ويقصدون به ما دل المظهر على المسقط، ما دل المظهر يعني فيه حذف دل عليه ما ذُكر فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] ما هو التقدير؟ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لو أنه كان على سفر، ولم يفطر، فهل يقال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ؟ الجواب: لا، فيه مقدر محذوف: فأفطر فعدة من أيام أخر، فالمذكور دل على المحذوف، فأفطر هنا مقدر، ولا بد، قال تعالى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] ما هو التقدير؟ فضرب فانفلق، هذا مقدر دل عليه المذكور في الكلام، فعند هؤلاء فحوى الخطاب هو ما دل المظهر على المسقط، يسمونه فحوى الخطاب.

هذا هو الذي مشى عليه ابن جُزي هنا، يعني على خلاف المشهور في اصطلاح الأصوليين فحوى الخطاب.

  1. تفسير القرطبي (1/401).

مرات الإستماع: 0

ثم قال -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54] واذكروا إذ قال موسى، اذكروا نعمتي عليكم حين قال موسى لقومه: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إلهًا، حيث وضعتم العبادة في غير من خلق، وجعلتم الإله عجلاً مصطنعًا، فهذا من أعظم الظلم.

فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ إلى خالقكم الذي أوجدكم من العدم، وذلك بأن يقتل بعضكم بعضًا: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذلك القتل خير لكم عند خالقكم وربكم وبارئكم من العقوبة التي تنتظركم وهي النار، فامتثلتم ذلك فَتَابَ عَلَيْكُمْ فمنَّ عليكم بقبول توبتكم، وفقكم للتوبة وقبلها منكم.

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب من عباده الرَّحِيمُ بهم، تواب: كثير التوبة على العباد، على كثرة ذنوبهم ومعاصيهم، وعلى كثرة هؤلاء العباد.

فيؤخذ من هذه الآية أنه ينبغي لمن يخاطب الناس في دعوتهم إلى ربهم -تبارك وتعالى- أن يستعمل معهم الأسلوب الذي تقبله نفوسهم وتنقاد إليه أرواحهم، فموسى بعد هذا الجرم الشنيع عبادة العجل، واستضعاف هارون والهم بقتله والشماتة به، يقول لهم موسى : يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ خاطبهم بهذا الكلام الذي هو في غاية اللطف، وهم قد جنوا أعظم جناية، فينبغي أن يراعى هذا في خطاب الناس، فالعبارات الموحشة، العبارات المنفرة، العبارات التي من شأنها أن تصرف الناس عن القبول ينبغي أن تجتنب، يخاطب الناس بالخطاب اللائق إذا كان المراد هو القبول والانقياد، أما إذا كان المراد هو تنفير الناس أو تكسير هؤلاء الناس فذلك شأن آخر.

وقد ذكرت في بعض المناسبات ما ينبغي للخطيب مراعاته من اختيار العبارات المناسبة، ويبتعد في العبارات الموحشة من توجيها بضمير الخطاب فيقول لهم: أنتم تفعلون كذا، أنتم يصدر عنكم كذا، أنتم إذا فعلتم كذا أدخلكم الله النار، وإذا فعلتم كذا أنزل الله بكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وكأنه وقف على المنبر يُجرِّم هؤلاء ويسمعهم العبارات التي تثقل على مسامعهم، فمثل هذا لا يحسُن ولا يليق.

فهذا الخطاب اللطيف بهذا التودد: يَا قَوْمِ يقرركم بذنبكم: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فذكر لهم موجب التوبة، ثم بعد ذلك حثهم عليها: فَتُوبُوا ثم بين لهم لمن يتوبوا: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ وهذا الجرم الذي عملوه هو: بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ شيء لا يُعقل ولا تقبله النفوس السوية، ومع ذلك فعلتموه.

فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ كيف تجعلون أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها نفعًا ولا ضرًا، يخاطبهم بهذا -عليه الصلاة والسلام- يقول: أنتم أشرف من هذا العجل المصنوع الذي صنعتموه بأيديكم، فهذا أسوأ الظلم، وذلك أن الإنسان ينبغي له أن يترفع عن عبادة غير الله -تبارك وتعالى- فالله هو الذي خلقه وأوجده وكرَّمه، وجعله في أحسن تقويم، فالعبادة يصرفها له وحده، ولا يذل لغير الله وتقدست أسماؤه، فمثل هذا تدركه الفطر السليمة والعقول الصحيحة، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم هو ظلم عظيم.

إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ والباء هنا للسببية يعني بسبب اتخاذكم العجل، وحذف المفعول الثاني بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إلهًا أو معبودًا، لكنه حذف في جميع المواضع في القرآن، قال بعض العلم: لأنه لا يُتصور أو لا يليق أن يتفوه بمثل هذا، عجل ويكون إله، وانظروا أثر العجل وعبادة العجل على اليهود كيف صاروا يعبدون الذهب، وهذا مشاهد في أرجاء المعمورة.

والتعبير هنا بلفظ البارئ مرتين: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى من؟ ما قال: إلى إلهكم الحق، وإنما قال: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ثم كررها مرة أخرى فقال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فالبارئ هو الذي أوجدهم من العدم برأهم أوجدهم بعد أن كانوا عدمًا، فكيف تتخذون عجلاً صنعتموه بأيديكم وتتركون وتعرضون عن المستحق للعبادة وهو البارئ الموجد من العدم.

وقد ذكرنا في بعض المناسبات في قوله تعالى مثلاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:21] وقلنا: إن الأمر بعبادة الله كثيرًا ما يقرن في القرآن بهذا الخلق الَّذِي خَلَقَكُمْ فمن خَلق هو المستحق لأن يُعبد وحده دون ما سواه، فهنا ذكر لفظ البارئ الموجد من العدم، هذا الذي يستحق أن يُعبد لا أن يُعبد العجل المصنوع الذي صنعتموه بأيديكم وقلتم فيه ما قلتم من الفرية الكبرى: بأنه إله، ولهذا لاحظوا أنه كرر لفظ البارئ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ للتوكيد، الأصل الإضمار، قال: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] عنده، فالضمائر تختصر، فإذا أعاد ما يصلح في موضعه الضمير فأظهره هذا الذي يسمونه الإظهار في موضع الإضمار، فهذا يكون لملحظ بلاغي، فهنا هذه القضية تتعلق بالعبادة هؤلاء عبدوا عجل، فهو يؤكد عليهم هذا البارئ هو الذي يستحق أن يُعبد، فأعاده مرتين وهذا فيه ما فيه من هذا الملحظ -والله تعالى أعلم- هذا الفعل هذه التوبة هي خير لكم عند الذي أوجدكم وأنشأكم، فالذي أوجدكم من العدم توبتكم هذه خير عنده من بقائكم على هذه الحال من عبادة عجل مصنوع لا ينفع ولا يضر.

ثم يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فتوبوا، بأن الفاء تدل على التعقيب المباشر فَتُوبُوا فيؤخذ من هذا أن التوبة أنها واجبة على الفور، لا يؤجل التوبة، يجب على الإنسان أن يتوب مباشرة ولا يسوِّف ويقول: إذا حجيت أو إذا تزوجت أو إذا بلغت الأربعين، وإنما يبادر، فها نحن نرى أقوامًا قد حجوا ولم يوفقوا للتوبة، ونرى أقوامًا قد شابت مفارقهم ولم يوفقوا للتوبة، فالعبد يجب عليه أن يبادر ولا يدري في أي لحظة يختطف ويموت، ولا يدري الإنسان هل يوفق للتوبة أو لا.

وكما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:24] يحول بين المرء وقلبه، يريد التوبة فلا يتمكن؛ لأنه أعرض عنها، لم يبادر إليها، فهذه أمور مصيرية، يتعلق بها مصير الإنسان، المستقبل الحقيقي، فلا تفريط، يتشبث بها، يحرص عليها، يحرص على الهداية، يقبل بكُليَّته بقلبه بكامله على الهدى والإيمان، ويبادر إلى التوبة ويجددها دائمًا، شيخ الإسلام -رحمه الله- كان يقول: "بأنه يجدد إسلامه في كل يوم"[1].

ويقول: "وما أسلمت بعد إسلاما جيدا"[2] وهذا الكلام قد يظنه الإنسان في بعض الأحيان من باب التواضع، ولكنه عند التأمل يظهر أن هذا الكلام صحيح، النقص الذي يعتور الإنسان والتقصير الكثير في جوانب كثيرة والجهل الذي من شأنه يخفى عليه كثير من الأمور الشرعية والأحكام والراجح في مسائل الخلاف، وما إلى ذلك، يحتاج معه إلى أن يصحح دائمًا، يصحح النية والقصد والإخلاص، يصحح العمل، يراجع نفسه من التقصير من المعصية، ويجدد دائمًا؛ لأنه لأن الإيمان يَخلَق في الجوف كما يَخلَق الثوب، فيحتاج إلى تعاهد وتجديد.

وهذه الجملة فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ المعنى: فليقتل بعضكم بعضًا، وقال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ تنزيلاً للنفوس المتفقة في أمر متحد كالإيمان منزلة النفس الواحدة؛ ولهذا قال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أي: فليقتل بعضكم بعضًا.

وقد قال بعض المفسرين وهي من أخبار بني إسرائيل -فالله أعلم بها- قالوا: إنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفًا، قيل: أُلقي عليهم الغمام، السحاب الأبيض الرقيق، وصار الواحد لا يرى وجه الآخر، فيضرب بالسيف من أمامه، فيقتل الرجل أباه وابنه، أخاه، وهو لا يشعر، حتى حصلت فيهم مقتلة عظيمة، ثم رفع ذلك عنهم وحصلت هذه التوبة من الله -تبارك وتعالى- لهم، فكانت توبتهم هذه.

ويؤخذ من هذه الآية سعة رحمة الله بعباده، سعة رحمة الله بهؤلاء العباد، بتوفيقهم للتوبة، وقبول التوبة منهم، وسعة رحمة الله بهذه الأمة أمة محمد ﷺ انظروا إلى توبة بني إسرائيل كيف كانت: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ توبة عظيمة شاقة صعبة، قتل النفوس، ولكن هذه الأمة المرحومة التوبة ما على الإنسان إلا أن يندم، ويُقلِع، ويعزم ألا يعود، ثم بعد ذلك تبدل سيئاته حسنات، لا يحتاج أنه يقتل نفسه ولا يقتل غيره.

ويؤخذ من قوله: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] إثبات هذا الاسم لله "البارئ" وهو متضمن لصفة البرء الإيجاد من العدم، وقد تكلمنا على هذا المعنى في الكلام على الأسماء الحسنى، والفرق بين البارئ والخالق والمصور، وقلنا: البارئ الموجد من العدم، وتكلمنا على الفرق بين البَرء والبُرء، وأصل هذه المادة، فإن إحداهما تدل على الإيجاد من العدم، والثانية تدل على مزايلة الشيء، حينما يبرأ العليل المريض يكون قد فارق العلة، وهكذا فإن الخالق يأتي بمعنى المقدر، ويأتي بمعنى الموجد والمنشئ من العدم، فيكون بمعنى البارئ بهذا المعنى الثاني.

المصور يكون بمعنى المشكل الذي أعطى هذا المخلوق صورة وهيئة تخصه، لكن إذا ذكر البارئ وحده دخل فيه معنى الخالق، فهنا إثبات هذا الاسم، وكذلك أيضًا التواب والرحيم، التواب الرحيم يبعثان على الأمل، ربنا الذي نعبده تواب، فتوبته على عباده تارة تكون بتوفيقهم للتوبة، وتارة بقبولها منهم، تواب كثير التوبة، وكذلك رحيم صيغة مبالغة فهو كثير الرحمة عظيم الرحمة، يقول الله : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأعراف:156] رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [سورة غافر:7] واستوى على أوسع المخلوقات وأعظمها وهو العرش، بأوسع الصفات الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [سورة طه:5].

ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ لاحظوا هذا يسمونه التفات هناك: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54] فموسى يخاطبهم، ثم جاء بعد ذلك الخطاب للغيبة فَتَابَ عَلَيْكُمْ فهذا يسمونه التفات من التكلم إلى الغيبة، ما قال: فوفقكم أو فوفقتكم إلى التوبة فتبت عليكم فَتَابَ عَلَيْكُمْ.

فقوله: عَلَيْكُمْ جاء بضمير الخطاب، يعني ما قال: فوفقتكم فتبت عليكم، ولم يقل: فتاب عليهم بضمير الغائب، مع أن الضمير للقوم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ هذا غائب، قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ فجاء بالخطاب، فهذه نعمة أراد تذكيرهم بها، فخاطبهم بذلك مباشرة، ما قال: فتاب عليهم.

  1.  انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 143)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 520). 
  2.  المصدر السابق.