الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:55-56] يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم.قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ أي: لما سمعوا الله يناجي موسى ﷺ طمعوا في رؤيته فقالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، وكثير من المفسرين يقولون: إن هؤلاء الذين طلبوا هذا الطلب هم السبعون الذين اصطفاهم موسى ﷺ كما في قوله: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155] وهم صفوة القوم وخيارهم، أبوا أن يؤمنوا حتى يروا الله جهرة؛ فأصابتهم هذه الصاعقة.
والصاعقة - والله تعالى أعلم - تأتي بمعنى الشيء الهائل العظيم الذي إذا عاينه الإنسان أو رآه فإنه يموت لهوله، أو يحترق، أو يفقد شيئاً من حواسه، أو يفقد عقله، أو يفقد بعض أعضائه، المقصود أنه يلحقه عطب تام، أو يلحقه بعض العطب من شدة هولها، فتارة تكون بنار محرقة، وتارة تكون بصوت هائل، أو غير ذلك مما يمكن أن يقع، والصاعقة في العصر الحديث تطلق على ما يسمونها بالشحنة الكهربائية العالية التي إذا ضربت الإنسان فإنه يحترق وتكون النتيجة التفحم.
المقصود أن هؤلاء أخذتهم هذه الصاعقة بسبب ما قالوا، وكانت نتيجة ذلك الموت الحقيقي - على أرجح القولين في هذا الصعق -، فالصعق تارة يكون بالموت، وتارة يكون بما دونه كالإغماء.
والله أخبر عن موسى ﷺ أنه لما تجلى ربه للجبل قال: جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:134]، فصعْقُ موسى ﷺ لم يكن بالموت، وأما صعق هؤلاء كان بالموت، فأحياهم الله .
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] بمعنى أنهم رأوا مقدم ذلك ثم بعد ذلك ماتوا، وعلى كل حال فإن معنى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ أنهم ماتوا موتاً حقيقياً، ولهذا قال الله بعده: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56]، فهذا دليل على أن ما أصابهم إنما هو موت حقيقي وليس من قبيل الإغماء؛ فظاهر القرآن يدل على هذا، ولا يجوز العدول عن ظاهر القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
كما قال ابن جريج: قال ابن عباس - ا - في هذه الآية: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]  قال: علانية، أي: حتى نرى الله.
وقال عروة بن رويم في قوله: الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] قال: فصعق بعضهم، وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء، وصعق هؤلاء.
وقال السدي: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا، فقام موسى يبكي، ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا [سورة الأعراف:155]؟ فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم، فقاموا، وعاش رجلٌ رجلٌ ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].
وقال الربيع بن أنس: "كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم"، وكذا قال قتادة.
هذا أحد المواضع في سورة البقرة التي تدل على قدرة الله على البعث، وهي خمسة مواضع.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: "قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به، ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطَّلع الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون.
قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56] فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين:
أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق، والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ تعدى باللام، لأنه تضمن معنى الانقياد.

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] قل: آمن به. فآمن له، يقول: مضمن الفعل معنى فعل آخر يُعدى باللام، ما هو الذي يُعدى باللام؟ الانقياد، انقاد له، فيكون آمن مضمن معنى انقاد ليصح تعديته باللام، انقاد له، فصار ذلك دالًا على الإيمان، والانقياد، فالإيمان تصديق انقيادي، وليس مطلق التصديق فَآمَنَ لَهُ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ يعني: لن نؤمن الإيمان بمعنى التصديق، والانقياد، تصديق انقيادي.

"جَهْرَةً عيانًا."

الجهر العيان، أو إعلان الشيء، وكشفه جهرة.

"الصَّاعِقَةُ الموت، وكانوا سبعين، وهم الذين اختارهم موسى، وحملهم إلى الطور، فسمعوا كلام الله، ثم طلبوا الرؤية فعوقبوا لسوء أدبهم، وجراءتهم على الله."

الصاعقة مضى الكلام عليها في الغريب، وكثير من الألفاظ يتركها ابن جزي لا يتكلم عنها، لا يوردها أصلًا؛ لأنه مضى الكلام عليها في الغريب، ولهذا قلت لكم: اعتنوا بالغريب، وأكثروا من ترداده، وقراءته، أو سماعه، فهذا مهم؛ لأنه يترك كثيرًا من الألفاظ.

الصاعقة قال: الموت. وكما سبق في أقوال المفسرين فيها: ابن جرير يقول: بأن الصاعقة كل أمر هائل رآه المرء، أو عاينه، أو أصابه حتى يصير من هوله، وعظيم شأنه إلى هلاك، وعطب[1].

يعني: الصاعقة هي أمر مهلك، يقول: وإلى ذهاب عقل، وغمور فهم، أو فقد بعض آلات الجسم صوتًا كان ذلك، أو زلزلة، أو نارًا، أو رجفًا. عمم في المعنى، يعني ما يصيبه من أمر مهلك، أو ما يقع به من فقد عضو، أو حاسة، سواء كان أرضيًا، أو سماويًا فهو صاعقة عند ابن جرير - رحمه الله - وكثير منهم يقول: بأن الصاعقة هي نار محرقة من السماء.

وكما ذكرت أن هذا تفسير لها ببعض آثارها، والمعاصرون يقولون: بأنه شحنة كهربائية هائلة تقع مع الرعد فما وقعت عليه يحترق. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال: الموت. كأنه فسرها بأثرها، أو لازمها. 

  1. تفسير الطبري (2/83).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:55، 56] واذكروا حين قلتم: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَك لن نصدق، ولن يكون لنا انقياد وإذعان لك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً لما كلَّم الله موسى طمعوا في رؤيته وتقدست أسماؤه، وجعلوا إيمانهم موقوفًا على هذه الرؤية: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً نراه عيانًا، فماذا كانت النتيجة؟

فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ نزلت عليهم الصاعقة من السماء، والصاعقة يقول فيها المفسرون: بأنها نار محرقة تنزل من السماء.

وبعضهم يقول: صوت شديد مزعج مهلك، إلى غير ذلك من عباراتهم، وهذا في الواقع تفسير لها إما بمظهرها أو ببعض مظاهرها، وإما تفسير لها بأثرها، يعني من مظاهرها الصوت المزعج؛ لأنها تكون مع الرعد، ومن آثارها الحرق، أن ما نزلت عليه يحترق، فهذا تفسير لها بالأثر، وإلا فالواقع أنها في حقيقتها ليست كذلك، والمعاصرون يقولون: بأنها شحنة كهربائية هائلة تنزل فيكون أثرها الإحراق والتدمير والإهلاك على ما وقعت عليه كما هو معلوم مشاهد.

فنزلت عليهم هذه الصاعقة فأخذتهم وهم ينظرون، وهم يشاهدون وينظرون إليها وتنزل، أو أنهم يشاهد بعضهم بعضًا حيث يتساقطون صرعى بسبب هذه الصاعقة.

ويؤخذ من هذه الآية في هذا الخطاب الذي خوطب به المعاصرون للنبي ﷺ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى والذي قال ذلك هو أجدادهم، وهنا قاعدة في هذا وهي: أن المذمة التي تلحق الآباء تكون لاحقة للذرية إذا كانوا على طريقتهم، بهذا القيد، كما أن النعمة الواصلة إلى الآباء تلحق الأبناء، ولهذا تجدون في هذه الخطابات لبني إسرائيل يخاطبهم يخاطب الذين كانوا في زمن النبي ﷺ بنعم أنعمها على أسلافهم، وكما سيأتي في قوله: وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] ليس لهم أن يقولوا: ما نزل علينا هذا ولا رأيناه، هذا نزل على أجدادنا، فالنعمة الواصلة للآباء لاحقة للذرية والأبناء، فصح الامتنان عليهم بهذا وتوجيه الخطاب إلى المعاصرين لرسول الله ﷺ كذلك في المذمة والمثالب، فهنا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] فوبخهم على فعل أسلافهم؛ لأنهم على طريقتهم، على نفس السبيل، وهم لا ينكرون ذلك، ولا يتنصلون مما صدر من أسلافهم.

وقوله -تبارك وتعالى- لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فالخطاب: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى ما قالوا: يا رسول الله، والله يقول في الآية الأخرى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [سورة النور:63] أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [سورة الحجرات:2] لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ يعني حينما تدعونه قولوا: يا رسول الله، لا تقل: يا محمد، كما يدعو بعضكم بعضًا يدعوه باسمه أو يناديه يا فلان لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لا، وقروه، وعظموه، وأجلوه، قولوا: يا رسول الله.

وتحتمل من المعاني لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ يعني: إذا دعاك فأجبه، قال: يا زيد، ولو كنت في صلاة، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ فقد أنكر النبي ﷺ على من دعاه فلم يجبه، احتج عليه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24][1].

اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ دعاك هنا يحتمل دعاك بمعنى ناداك: يا زيد، ودعاك يعني دعاك إلى الإيمان وهذا هو السياق، لكن يؤخذ من عموم اللفظ المعنى الآخر الذي ذكره النبي ﷺ والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

ويحتمل قوله -تبارك وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [سورة النور:63] يعني: حينما يدعو على أحدكم، فليس ذلك كدعاء آحادكم على بعض، لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعا على أحد بالهلاك أو العذاب فهذا ليس كدعاء آحاد الناس لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [سورة النور:63] فهذا نهي.

وهذه المعاني جميعًا صحيحة، والآية -والله أعلم- تشمل ذلك، فصار من المعاني الصحيحة الداخلة فيه: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يعني: إذا دعوتموه قولوا: يا رسول الله، تأدبوا معه في هذا الخطاب، وهنا هؤلاء اليهود ينادون نبيهم يا موسى فعل أهل الجفاء والجفوة، وهذا لا يليق بل لا يليق مع الوالد أو الكبير من الناس أن يدعى باسمه هكذا، والنبي حقه أعظم من حق الوالد، فهو بمنزلة الوالد وزيادة، والله -تبارك وتعالى- يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب:6] وفي الأخرى في قراءتين لأبي بن كعب ولابن عباس -رضي الله عنهما- لكنها غير متواترة: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه أمهاتهم"[2] "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم"[3].

فالأبوة أبوتان: أبوة ولادة، فهو سبب وجودك في هذه الحياة، فله حق، فحقه يأتي بعد حق الله والأبوة الثانية: أبوة التربية فهو الذي يرفعك ويسمو بك بهذه التربية والتعليم، وهذا شأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وورثة الأنبياء من العلماء الربانيين وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [سورة آل عمران:79] فأبوَّة يحصل بها الوجود والخروج إلى الحياة وأبوَّة يحصل بها الصعود والعلو، ولهذا في قوله -تبارك وتعالى- عن قول لوط للملائكة وما عرفهم حينما خاطب قومه قال: يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [سورة هود:78] هؤلاء بناتي، ماذا يقصد؟ أقوال للمفسرين، ومن الأقوال المشهورة في هذا وهو قول له وجه قوي من النظر أنه قصد: هَؤُلاءِ بَنَاتِي بنات القبيلة تزوجوهن تتعففون بذلك عن الحرام والشذوذ بإتيان الذكران من العالمين هَؤُلاءِ بَنَاتِي باعتبار أن النبي بمنزلة الوالد لقومه.

فانظروا إلى هذا الجفاء، ثم انظروا أيضًا هذه العبارة التي عُبر بها: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] جهرة هنا منصوب باعتبار أنه مصدر مؤكد لقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [سورة النساء:153] لو قالوا: أرنا الله لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً يحتمل أنه نرى الله رؤية علمية، رؤية منامية، هذا يتصور من أناس أن يعلقوا الإيمان حتى يروا الله، الكفار في زمن النبي ﷺ وهم أهل شرك ووثنية قالوا: أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [سورة الفرقان:21] فهذا قد لا يستغرب من المشركين في وثنيتهم، لكن هؤلاء أهل كتاب، وهؤلاء هم النخبة الذين اصطفاهم موسى : وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155] هؤلاء نقاوة الناس السبعون يقولون مثل هذا الكلام.

وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] ما قالوا: عيانًا، جهرة أفصح وأخف في النطق وعلى السمع حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً يعني: كفاحًا رؤية لا لبس فيها ولا غموض، وهذا من بلاغة القرآن، يقولون: لا يوجد لفظة تقوم مقام لفظة، يعني لو فتشت القواميس من أجل أن تستبدل لفظة بلفظة تظن أنها ترادفها فلن تجد، يعني لو قالوا مثلاً: لو وضعت مكانها لن نؤمن لك حتى نرى الله عيانًا، يقال: عِيانًا وعَيانًا بالفتح والكسر لن يكون وقعها كلفظة: جَهْرَةً ولذلك الأعرابي الذي سمع قارئ يقرأ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [سورة الحجر:94] سجد، قيل: لم سجدت؟ قال: لفصاحته[4] كانوا يدركون يتذوقون هذه الفصاحة ووقع هذه الألفاظ وأثرها على السمع أو السامع.

ثم انظروا أيضًا هذه العقوبة: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ طلبوا أمرًا لا يسوغ لهم طلبه، ومن طلب ما لا يسوغ له فإنه حري بالعقوبة في مثل هذا.

ثم أيضًا لاحظ أنه قال: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ هذا أبلغ وأشد في النكاية كما أنهم رأوا فرعون وهو يسقط في البحر ويغرق ويصارع الموت وهم ينظرون، كذلك أيضًا أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ولذلك الذي يعاين أسباب الهلاك ويراها غير الذي يأتيه الشيء من ترقب ولا نظر، ولهذا ذكرت لكم في بعض المناسبات القتل صبرًا، قلنا: أن يحبس الإنسان للقتل يقاد للقتل فيقتل وهو ينظر، تجد كلام الأدباء والشعراء ونحو ذلك في توصيف نظر هذا للسيف، كيف ينظر إليه من طرف خفي يرمقه بطرف عينه، فهذا وقعه أشد.

عقبة بن أبي معيط قتل بعد غزوة بدر، كان قد أسر وأخذ، فأمر النبي ﷺ بضرب عنقه في الصفراء في طريق مقفله ﷺ من بدر إلى المدينة، ناحية منطقة أرض يقال لها: الصفراء في الطريق، فقال: أأقتل بين قريش صبرًا[5] يعني كيف يقع مثل هذا.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، برقم (4474)، وبرقم (4703)، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنَ العَظِيمَ [سورة الحجر:87]. 
  2.  انظر: تفسير الألوسي (روح المعاني) (6/ 303)، و(11/ 150). 
  3.  انظر: تفسير الطبري (12/ 503)، وتفسير ابن كثير (6/ 381)، وتفسير الألوسي (11/ 150). 
  4.  إعراب القرآن وبيانه (3/ 463). 
  5. الروض الأنف ت السلامي (5/ 115، 116).