الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّنۢ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:55-56] يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم.قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ أي: لما سمعوا الله يناجي موسى ﷺ طمعوا في رؤيته فقالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، وكثير من المفسرين يقولون: إن هؤلاء الذين طلبوا هذا الطلب هم السبعون الذين اصطفاهم موسى ﷺ كما في قوله: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155] وهم صفوة القوم وخيارهم، أبوا أن يؤمنوا حتى يروا الله جهرة؛ فأصابتهم هذه الصاعقة.
والصاعقة - والله تعالى أعلم - تأتي بمعنى الشيء الهائل العظيم الذي إذا عاينه الإنسان أو رآه فإنه يموت لهوله، أو يحترق، أو يفقد شيئاً من حواسه، أو يفقد عقله، أو يفقد بعض أعضائه، المقصود أنه يلحقه عطب تام، أو يلحقه بعض العطب من شدة هولها، فتارة تكون بنار محرقة، وتارة تكون بصوت هائل، أو غير ذلك مما يمكن أن يقع، والصاعقة في العصر الحديث تطلق على ما يسمونها بالشحنة الكهربائية العالية التي إذا ضربت الإنسان فإنه يحترق وتكون النتيجة التفحم.
المقصود أن هؤلاء أخذتهم هذه الصاعقة بسبب ما قالوا، وكانت نتيجة ذلك الموت الحقيقي - على أرجح القولين في هذا الصعق -، فالصعق تارة يكون بالموت، وتارة يكون بما دونه كالإغماء.
والله أخبر عن موسى ﷺ أنه لما تجلى ربه للجبل قال: جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:134]، فصعْقُ موسى ﷺ لم يكن بالموت، وأما صعق هؤلاء كان بالموت، فأحياهم الله .
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] بمعنى أنهم رأوا مقدم ذلك ثم بعد ذلك ماتوا، وعلى كل حال فإن معنى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ أنهم ماتوا موتاً حقيقياً، ولهذا قال الله بعده: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56]، فهذا دليل على أن ما أصابهم إنما هو موت حقيقي وليس من قبيل الإغماء؛ فظاهر القرآن يدل على هذا، ولا يجوز العدول عن ظاهر القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
كما قال ابن جريج: قال ابن عباس - ا - في هذه الآية: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]  قال: علانية، أي: حتى نرى الله.
وقال عروة بن رويم في قوله: الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] قال: فصعق بعضهم، وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء، وصعق هؤلاء.
وقال السدي: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا، فقام موسى يبكي، ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا [سورة الأعراف:155]؟ فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم، فقاموا، وعاش رجلٌ رجلٌ ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].
وقال الربيع بن أنس: "كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم"، وكذا قال قتادة.
هذا أحد المواضع في سورة البقرة التي تدل على قدرة الله على البعث، وهي خمسة مواضع.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: "قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به، ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطَّلع الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون.
قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56] فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين:
أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق، والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فدل على أن هذه صعقة موت، ولم تكن صعقة خشية، وهذا أحد المواضع في سورة البقرة، وهي خمسة التي ذكرها الله - تبارك وتعالى - دالة على قدرته على إحياء الموتى، وسبق ذكرها، وكانوا سبعين وهم الذين اختارهم موسى وحملهم إلى الطور، لسوء أدبهم وجراءتهم على الله. 

مرات الإستماع: 0

قال الله -تبارك وتعالى- بعد هذا: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56] هذا يدل على أن هذه الصاعقة التي أخذتهم لم تكن غشية، بعض العلماء يقول: كانت غشية، والصحيح أنها ليست بغشية، بدليل أن الله قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فماتوا، وهذا أحد المواضع في سورة البقرة التي هي من دلائل قدرة الله على البعث وإحياء الموتى، هذا موضع.

الموضع الآخر طيور إبراهيم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [سورة البقرة:260].

والثاني: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [سورة البقرة:259].

والثالث: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [سورة البقرة:243].

والرابع: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] فأحيا الله هذا القتيل بضربه بجزء منها.

والخامس هو هذا، خمسة مواضع في سورة البقرة هي من آيات الله ودلائل قدرته على البعث والنشور، دلائل البعث أنواع أحد هذه الأنواع وتحته أدلة متعددة هو أولئك الذين أماتهم الله ثم أحياهم، في سورة البقرة خمسة مواضع من هذا النوع من الأدلة، هو دليل واحد من أدلة القدرة على البعث.

ففي سورة البقرة خمسة أمثلة تدل عليه ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فالله على كل شيء قدير لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون أي: من أجل أن تشكروا نعمة الله عليكم وتستدركوا هذا النقص والتقصير والعتو على الله وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- فهذه نعمة كون الإنسان مات فأحياه الله من جديد حياة جديدة فرصة جديدة في الحياة، يحتاج أن يجدد العمل ويراجع نفسه، وقل مثل ذلك فيمن عاين أسباب الهلاك فأنجاه الله منها، وقع له مرض، أشرف على الهلكة، سلَّم ودع وصى يئس من الدنيا ثم أعاده الله من جديد فبرئ، فأين العمل؟

يعود كثير من الناس إلى ما كان عليه، انقلب في السيارة ثلاث أربع خمس مرات قلبات، شاف الموت أمامه، طلع الحمد لله على السلامة، حفلة، صدقة، انتهينا، انظر إلى السلوك بعدها تغير، تغيرت الحياة، هذه حياة جديدة، الله قد امتن عليك بها، كثير حصل لهم أقل بكثير مما حصل لك وماتوا، وأنت "ما شاء الله ولا مشخ" كما يقال.

هذه حياة جديدة، احمد الله ، فبعض النفوس لا يوفق أصحابها ولا يعتبر ولا يتفكر، وإذا مضى وقت على هذا المرض الذي أصابه ويئس من الحياة وكان الناس يقولون: لا تيأس من روح الله، بعد ذلك يبرأ ثم ينسى تمامًا، ما كأن شيئًا قد وقع، هذه مشكلة.

فالعبد المؤمن العاقل الرشيد هو الذي يتعظ ويعتبر بكل ما يقع له، ويحمد الله ويجعله ذلك يراجع نفسه من جديد، يراجع حساباته، لربما ذهبت نفسه في هذه أو تلك، ولهذا قيل: العاقل من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه.

ومن الناس من لا يتعظ لا بغيره ولا بنفسه، فهذا أشقى من الشقي نفسه، وفي كل ما تراه عبر وعظات اعتبر بكل ما تشاهد، إن رأيت محسنًا أو مسيئًا فهذا كله فيه عبر، الحياة كلها عبر.