والصاعقة - والله تعالى أعلم - تأتي بمعنى الشيء الهائل العظيم الذي إذا عاينه الإنسان أو رآه فإنه يموت لهوله، أو يحترق، أو يفقد شيئاً من حواسه، أو يفقد عقله، أو يفقد بعض أعضائه، المقصود أنه يلحقه عطب تام، أو يلحقه بعض العطب من شدة هولها، فتارة تكون بنار محرقة، وتارة تكون بصوت هائل، أو غير ذلك مما يمكن أن يقع، والصاعقة في العصر الحديث تطلق على ما يسمونها بالشحنة الكهربائية العالية التي إذا ضربت الإنسان فإنه يحترق وتكون النتيجة التفحم.
المقصود أن هؤلاء أخذتهم هذه الصاعقة بسبب ما قالوا، وكانت نتيجة ذلك الموت الحقيقي - على أرجح القولين في هذا الصعق -، فالصعق تارة يكون بالموت، وتارة يكون بما دونه كالإغماء.
والله أخبر عن موسى ﷺ أنه لما تجلى ربه للجبل قال: جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:134]، فصعْقُ موسى ﷺ لم يكن بالموت، وأما صعق هؤلاء كان بالموت، فأحياهم الله .
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] بمعنى أنهم رأوا مقدم ذلك ثم بعد ذلك ماتوا، وعلى كل حال فإن معنى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ أنهم ماتوا موتاً حقيقياً، ولهذا قال الله بعده: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56]، فهذا دليل على أن ما أصابهم إنما هو موت حقيقي وليس من قبيل الإغماء؛ فظاهر القرآن يدل على هذا، ولا يجوز العدول عن ظاهر القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
كما قال ابن جريج: قال ابن عباس - ا - في هذه الآية: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] قال: علانية، أي: حتى نرى الله.
وقال عروة بن رويم في قوله: الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] قال: فصعق بعضهم، وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء، وصعق هؤلاء.
وقال السدي: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا، فقام موسى يبكي، ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا [سورة الأعراف:155]؟ فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم، فقاموا، وعاش رجلٌ رجلٌ ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].
وقال الربيع بن أنس: "كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم"، وكذا قال قتادة.هذا أحد المواضع في سورة البقرة التي تدل على قدرة الله على البعث، وهي خمسة مواضع.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: "قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به، ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطَّلع الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون.
قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56] فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.
وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين:
أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق، والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح، والله أعلم.