يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد، وعن دخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم، وضعفوا، واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والرّبيع بن أنس، وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا [سورة المائدة:21] الآيات، وقال آخرون: "هي أريحا"، ويحكى عن ابن عباس - ا - وعبد الرحمن بن زيد.والأول هو المشهور، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وهذا من المبهمات في القرآن، ولا فائدة من معرفة هذه المدينة التي أمرهم الله بدخولها، ولكن قوله وصفها بأنها مقدسة يدل بظاهره أو يُشعِر أن المراد بها بيت المقدس، وأريحيا أو أريحا ليست كبيت المقدس وإن كانت من أطرافه، وفي أكنافه؛ إذ لا تبعد عن بيت المقدس كثيراً، وهي الآن في غور الأردن تقريباً، فالحاصل أن الظاهر هنا - والله أعلم - أنها بيت المقدس، لكن لا حاجة للاشتغال بمثل هذا؛ لأنه لا يترتب عليه فائدة.
وقوله: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] لا يعني أن لهم حقاً في هذا بعد أن بدلوا، وغيروا، ولعنهم الله، وشتتهم في أصقاع الأرض كما قال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [سورة الأعراف:168]، والذي يريد أن يتمسك بمثل هذا سيقول: هذا أيضاً في أريحيا.
فالمهم أن ذلك كان في زمان ونكلوا، فعاقبهم الله بالتيه، وأخبرهم أنها محرمة عليهم، أو أنها محرمة عليهم أربعين سنة - على أحد الاحتمالين -، والمقصود أن الله ليس بينه وبين أحد نسب، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأورثها الله عباده المؤمنين، وصارت من بلاد الإسلام، فإذا تخلى المسلمون عن دينهم فهم لا يستحقونها، ولا يستحقون غيرها، وإنما بلادهم هي بلاد العرب، فالعرب إنما كانوا في الجزيرة وأطرافها لم يكونوا لا في بيت المقدس، ولا في غيره، فإذا تخلوا ورجعوا إلى جاهليتهم، وتعلقوا بالتراب؛ فإنهم لا يستحقون لا هذا، ولا هذا، وليس لهم شيء إلا التراب.
وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، وفتح الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أُمِروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - سُجَّداً أي: شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح، والنصر، وردّ بلدهم عليهم، وإنقاذهم من التيه، والضلال.
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس - ا - أنه كان يقول في قوله: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58]: أي ركعاً.
وروى ابن جرير: عن ابن عباس - ا - في قوله: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً أي: ركعاً من باب صغير، ورواه الحاكم وزاد ابن أبي حاتم: فدخلوا من قبل أستاههم.
وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده الرازي.استبعده الرازي؛ لأنه - على كلام الحسن - لا يتصور أنهم يسجدون على وجوههم حال دخولهم؛ إذ لا يستطيع أن يدخل الإنسان ووجهه على الأرض، فهذا هو وجه الاستبعاد، وذلك أن السجود يطلق على الانحناء في اللغة، فالراكع يقال له: ساجد، والساجد الذي يضع وجهه على الأرض يقال له: ساجد، فهؤلاء قوم أُمِروا بالدخول في حال السجود، فقال بعضهم: أمروا بالسجود المعروف الذي هو أبلغ صور السجود وهو وضع الجبهة على الأرض، هذه أوضح صورة للسجود، وأبلغ صورة فيه.
وقال بعضهم: بأن المراد بقوله: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [سورة البقرة:58] أي: أمروا أن يسجدوا، وليس معنى ذلك أن يكون داخلاً وهو يزحف ووجهه على الأرض، لكن هذا أيضاً اعترضه من اعترضه، وقال: إن الله أمرهم أن يدخلوا وهم في حال السجود، وليس الأمر لهم أن يسجدوا سجدة إذا كانوا بالباب، أو إذا دخلوه، وجاوزوه؛ سجدوا شكراً لله على هذا الدخول من باب المدينة أو باب بيت المقدس؛ لأنه إذا كان كذلك لم يكن الواحد منهم قد دخل في حال السجود.
والتفسير الأقرب - والله أعلم - هو أن المراد بالسجود الانحناء أو الركوع، فأمرهم أن يدخلوا وهم في هذا الحال من التذلل، والخضوع، والتواضع، والشكر لله ، ولكنهم عكسوا القضية، وأداروا ظهورهم مكابرة وعناداً بعكس ما أمروا به تماماً، فبدلوا الفعل الذي أمروا به بفعل آخر قبيح، وبدلوا القول بقول آخر قبيح، حيث قال لهم: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58]، فقالوا: حبة في شعرة أو في شعيرة أو غير ذلك مما روي في هذا المعنى، المقصود أنهم غيروا القول والفعل مقابل نعمة الفتح مع نبيهم الذي حبست له الشمس.
لقد رأوا كل نلك الأشياء ثم يقولون ويفعلون هذا القول وهذا الفعل، فما ظنك بفعلهم مع غير الله - تعالى -، ما ظنك بفعلهم مع عدوهم؟!
إن هؤلاء ليس لهم شبه إلا الفأرة بل وتكرم الفأرة أيضاً عنهم، ذلك أنك كلما تأملت في أحوالهم لا تجد أقرب ما يشبههم إلا الفأرة، والفأرة ليس لها شفاء، ولا علاج؛ إلا أن تباد، فلا يصلح الحال، ولا يستريح الناس من شرهم؛ إلا بقتل كل من يدب منهم على الأرض إذا بلغ، وهذا هو الحل الوحيد.
إذا نظرت إلى قضية باكستان مع الهند تجد أن الفأرة موجودة في القضية، وإذا ذهبت إلى المياه وما المياه في تركيا؛ ستجد الفأرة تظهر لك فيها، وإن ذهبت إلى مشكلة الجزر في البحر، والإحاطة بجزيرة العرب وما أشبه ذلك؛ تجد الفأرة ومشاكلها موجودة هناك، وهكذا ففي كل قضية حرب على الإسلام والمسلمين تجد هذه الفأرة موجودة فيها.
وحكى عن بعضهم أن المراد ها هنا بالسجود الخضوع؛ لتعذر حمله على حقيقته.
وقال خصيف: قال عكرمة قال ابن عباس - ا -: "كان الباب قبل القبلة".
وقال ابن عباس - ا -، ومجاهد والسدي، وقتادة والضحاك: هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة.هؤلاء أرادوا أن يقولوا: إن السجود الذي أمروا به كان إلى جهة القبلة، وهذا الكلام لا حاجة إليه وهو تكلف، فالمقصود أنهم أمروا أن يدخلوا في حال يكون الواحد منهم خاضعاً فيها بالقول وبالفعل، ولا يشترط أن يكون ذلك إلى جهة القبلة.
وقال خَصِيف: قال عكرمة: قال ابن عباس - ا -: "فدخلوا على شق".قوله: "فدخلوا على شق": يعني على جنب، والحديث صريح، وواضح؛ أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم[1] وليس على شق.
وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنُود عن عبد الله بن مسعود : "قيل لهم: وادخلوا الباب سجداً؛ فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي: رافعي رؤوسهم؛ خلاف ما أمروا".
وقوله تعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58] عن ابن عباس - ا -: "وَقُولُواْ حِطَّةٌ قال: مغفرة، استغفروا"، وقال الحسن وقتادة: "أي احطط عنا خطايانا".وَقُولُواْ حِطَّةٌ: فِعْلة، يعني أمروا أن يسألوا الله أن يحط عنهم خطاياهم، ويمكن أن يكون ذلك بتقدير مسألتنا حطة، فمسألتهم ودعاؤهم أن تُحط عنهم خطاياهم، ومثل هذا قد يفسر بموضع آخر من القرآن - وإن كان لا يمت له بصلة -، لكنه يشبهه في السياق - وهو أوضح منه في المعنى -وذلك قوله تعالى: قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [سورة الأعراف:164]، أي قالوا: نُصحُنا معذرة، وهنا وَقُولُواْ حِطَّةٌ أي: قولوا مسألتنا حطة.
والحطة مثل ما تقول: ارتد يرتد فهو مرتد وهي ردة، فهذه حطة، حط يحط عنه الخطايا حطاً فهي حطة، ويستفاد من قوله تعالى: وَقُولُواْ حِطَّةٌ أنهم عُلِّموا كيف يسألون الله أن يحط عنهم خطاياهم أي يسألوا ربهم حط الخطايا أي: المغفرة.
وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم؛ غفرنا لكم الخطيئات، وضاعفنا لكم الحسنات.
وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم، ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:1-3].
- سيأتي تخريجه.