الله -تبارك وتعالى- يقول بعد أن ذكر ما أمروا به من الدخول في حال من الخضوع، وكذلك أن يقولوا: حط عنا خطايانا، فماذا حصل من هؤلاء؟
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59] فبدل هؤلاء الجائرون من بني إسرائيل قول الله -تبارك وتعالى- الذي أمرهم أن يقولوه، وحرَّفوا هذا القول على وجه هو غاية في الاستهزاء والسخرية، مما ينبئ عن نفوس متمردة كأنها لم تلق شيئًا من التربية والترويض، مع أنهم يرافقون هؤلاء الأنبياء الكبار -عليهم الصلاة والسلام.
كبير أنبيائهم موسى الله -تبارك وتعالى- يقول في حقه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] ما ظنكم برجل يقول الله فيه ذلك؟ كيف تكون حاله وأوصافه، وأعماله، وأحواله، وأخلاقه وهيئته؟ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] ومع ذلك هؤلاء المردة لم ينتفعوا الانتفاع اللائق بصحبة كليم الله موسى فبدلاً من أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة.
ودخلوا بدلا ًمن أن يكون ذلك في حال من الخضوع والركوع دخلوا يزحفون، فوقع منهم الاستخفاف بالقول والاستهزاء بالفعل، فبدلوا القول وبدلوا الفعل، لم يدخلوا دخولاً هكذا فيقال: إنهم لربما في حال نشوة النصر والفرح حصل لهم شيء من الذهول عن هذا القول الذي أمروا به وعن هذا الفعل، فإن الإنسان في أحوال الفرح الغامر لربما يغفل عما ينبغي عليه أن يفعله، لكن هؤلاء كانوا يستحضرون ذلك جيدًا بدليل أنهم تفوهوا بهذا القول القبيح، حبة في شعرة، وكذلك دخلوا يزحفون، فأنزل الله عليهم رجزًا وهو العذاب من السماء بسبب هذا التمرد والظلم والخروج عن طاعته والفسوق.
يؤخذ من هذه الآية فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ هذا يحتمل أن ذلك يعني الإظهار هنا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل أن التبديل حصل من بعضهم، وهم الموصوفون بالظلم، وأن ذلك لم يقع من جميعهم، هذا احتمال، وذكره بعض المفسرين.
وقالوا: إن علة الإظهار هنا لهذا الوصف فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ليبين عن أن هذا التبديل لم يقع من الجميع، وإنما وقع من طائفة منهم كانت ظالمة.
والمعنى الآخر وهو: أن هذا الظلم صادق على جميعهم، وأن هذا من قبيل الإظهار في موضع الإضمار، يعني: كان المعنى: فبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم، فبدلوا بمجموعهم قولاً غير الذي قيل لهم، فلماذا أظهر هذا الوصف، أظهر الفاعل هنا الذي يحمل هذا الوصف وهو الظلم؟
أظهره باعتبار أنه قصد به الإبانة، إبراز هذه الصفة التي كانوا يتصفون بها، وأن فعلهم هذا ظلم لا وجه له بحال من الأحوال، فإن وضع الشيء في غير موضعه يقال له الظلم، هذا هو تعريف الظلم عند أهل السنة والجماعة، وليس معناه كما يقول بعض المتكلمين: التصرف بملك الغير بغير إذنه. هذا ينبني عليه انحرافات في التصور والاعتقاد.
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئًا في غير موضعه فهو ظالم، هؤلاء وضعوا هذا القول بدلاً من القول الذي أمروا به، ووضعوا هذا الفعل فعلوا غير ما أمروا بفعله، فهم بذلك ظالمون.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ثم قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أيضًا لاحظ أظهر في موضع الإضمار، ما قال: فأنزلنا عليها رجزًا من السماء، لماذا هنا؟ من أجل إبراز هذه الصفة وتعليق الحكم المرتب عليها بها فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ مما يؤذن بأن سبب نزول هذا الرجز وهو العذاب إنما هو الظلم الذي وقع منهم، فهذا الظلم هو سبب العذاب الواقع بهم فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ.
وهذا فيه أيضًا زيادة تقبيح لفعلهم وحالهم ووصفهم، فيذكرهم بهذا ويعلنه ويبرزه، ما قال: فأنزلنا عليهم رجزًا من السماء فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ فهذا فيه تقريع وتوبيخ وتشهير بجرمهم هذا وظلمهم وعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى- وفيه تأكيد أيضًا على هذا الوصف حيث ظلموا في الوقت الذي أنعم الله فيه، أو أنعم به عليهم بهذا الفتح، وهذا الدخول لهذه الأرض، فبدلاً من أن يقابلوا ذلك بالشكران قابلوه بالعتو والاستهزاء والسخرية.
وإذا كان هؤلاء يسخرون في مثل هذه المقامات مع كبير أو مع هؤلاء الأنبياء، على القول بأن موسى لم يدرك ذلك، وأن هذا الفتح حصل لهم بعده، بعد وفاة موسى وهارون -عليهما السلام- فدخلوا مع يوشع بن نون، أيًّا كان، فهذا فتح وبصحبة أنبياء، وقد أمروا بالشكران والخضوع بالقول والفعل، ثم بعد ذلك يصدر عنهم هذا في مقام الإنعام والإفضال، فما ظنكم بهؤلاء إذا كانوا في محنة وشدة؟ ماذا يفعلون إذا كانوا في شدة، وفي حاجة، وفي بلاء، وفي مصيبة ماذا يفعلون؟ وما الذي يصدر عنهم؟
ولم يكن جميع بني إسرائيل بهذه المثابة، فيهم صلحاء، فيهم أخيار، كما قال الله - تبارك وتعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [سورة آل عمران:113، 114].
وقال - تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة:24] هذا في بني إسرائيل، لكن فيهم مردة كثر، فيهم عتاة على الله كثير.
في سورة الأعراف نفس القصة قال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة الأعراف:162] ما قال: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [سورة البقرة:59] يمكن أن يقال لو قال قائل: بأن المذكور في سورة الأعراف هو الخبر عنهم لمجرد العبرة والعظة لهذه الأمة، أما المذكور هنا في سورة البقرة فهذا مقام تقريع وتوبيخ، يوجه الخطاب إليهم اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ [سورة البقرة:47] فهو يوبخهم ويقررهم بجرائمهم وذنوبهم، فناسب ذكر الظلم هنا مظهرًا في موضع الإضمار، وذكره مرتين فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:59].
ولاحظوا هنا تنكير الرجز فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا فهذا التنكير يفيد التهويل والتعظيم، لا تسأل عن قدر هذا الرجز الذي نزل عليهم، وهو العذاب، فهو شيء هائل بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59] فالباء هذه تدل على السببية، ما سبب نزول هذا الرجز؟ هو الفسق بما كانوا والتعبير بالفعل المضارع يَفْسُقُونَ يدل على أن ذلك كان من ديدنهم وعملهم المستمر، لم يكن ذلك مرة وزلة وإنما كان عادة مستمرة وخلقًا راسخًا لهم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وعرفنا أن الفسق هو الخروج عن طاعة الله - تبارك وتعالى.
فمثل هؤلاء حينما أنزل الله عليهم الرجز، وصرح بعلتهم وهو الفسق، يؤخذ منه أن الفسق والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- يكون سببًا للعذاب، يكون سببا للعقوبة، سواء كانت هذه العقوبات معجلة في الدنيا، أو كانت مؤجلة في الآخرة، أو كانت خاصة تقع لهذا العاصي، أو كانت هذه عامة تصيب الناس جميعًا.
الخاصة ما يقع للناس من علل وأوصاب وخسائر في الأموال، وما يقع لهم من الألم والحزن والهم والغم الذي يجدونه في صدورهم، فكل ذلك مما جنت وكسبت أيدي الناس مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء:79] قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165] والعقوبات العامة كما في هذه الآية فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:59] وهكذا ما وقع من العقوبة العامة لأهل الإيمان في يوم أحد أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165] خالفت مجموعة من الرماة أمر رسول الله ﷺ فكان ذلك سببًا لهذه المصيبة والهزيمة والقتل والجراح، وتحول ميزان المعركة بعد أن كانوا منتصرين فصاروا منهزمين، معصية من بعض الرماة، ومعهم أفضل الخلق ﷺ فكيف إذا كانت الأمة غافلة سادرة، لاهية؟
فهذا يكون سببًا لنزول أنواع العقوبات، الله يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [سورة الأنفال:25] فهذا الذي يعلن المعصية ويظهرها هو لا يضر نفسه فقط فيقول: أنا حر أفعل ما أشاء، لا، نحن في مركب واحد في سفينة واحدة، فهذا يخرق السفينة كما صوَّر النبي ﷺ لنا هذا الحال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا.
فهذا الذي يخرق لا يمكن أن يدعي بحال من الأحوال أنه يتصرف تصرفًا بمحض إرادته مما يتصل بحريته دون أن يكون للآخرين تعلق بذلك، الجميع سيغرق، فهكذا المجتمع إذا ظهرت فيه المعاصي، ولم تغير ولم تنكر، ولكن الله -تبارك وتعالى- إذا أنزل العقوبة نجى الذي ينهون عن السوء، كما قال في خبر بني إسرائيل أولئك الذين اعتدوا في السبت.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة:59] فهذا يؤخذ منه ضرورة المباعدة عن المعاصي والذنوب والفسق، الإنسان في خاصة نفسه والمجموع، المجتمع بكاملة، وكذلك أيضًا صلاح الحال بالتوبة والمراجعة والاستغفار دائمًا.