قال الله -تبارك وتعالى- معددًا عليهم نعمه: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [سورة البقرة:60] واذكروا نعمتنا عليكم حينما كنتم في حال من العطش في تيهكم، فاستسقى موسى دعا ربه وتضرع إليه طالبًا السقيا فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فضرب فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا بعدد القبائل؛ لأن قبائل بني إسرائيل الأسباط كما عرفنا أنهم ذرية يعقوب من بنيه كانوا بهذا العدد، فهم مع يوسف أعني أولاد يعقوب يكملون اثني عشر ولدًا، فكانت منهم القبائل، فالأسباط هم ذرية يعقوب وليسوا أولاد يعقوب مباشرة، وإنما ما تناسل عنهم، هذا الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وذهب إليه المحققون من المفسرين.
فهنا أمره الله بأن يضرب الحجر بعصاه، هذا العصا التي لما قال الله له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [سورة طه:17، 18] ينتفع بها أنواع المنافع، ومن المنافع التي حصلت فيما بعد أن الله أمره أن يضرب بعصاه الحجر، هذا الحجر بعضهم يقول: هو حجر خاص كانوا ينقلونه معهم فإذا احتاجوا إلى السقيا والماء ضربه موسى بعصاه فتفجرت منه العيون لبني إسرائيل لا يتزاحمون ولا يتضايقون، ولا يتنافسون على الماء ويصطرعون، وإنما لكل قبيلة عين جارية تجري من هذا الحجر.
وبعضهم يقول: هو حجر غير محدد، فإذا احتاجوا إلى السقيا ضرب حجرًا بهذه العصا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ما قال: حجرًا، فيحتمل أن تكون هذه (ال) للعهد، حجر معهود، الحجر المعهود لديكم، ويحتمل أن تكون مُعرِّفة، فيصدق ذلك على أي حجر، فالآية تحتمل والله تعالى أعلم، لكن هنا حينما ضرب بهذه العصا، والعلماء -رحمهم الله- تجدون في كلام بعض المفسرين في قوله -تبارك وتعالى: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى يذكرون فوائد العصا، وبعضهم ألف في ذلك مصنفًا خاصًا، هناك مؤلفات في فوائد العصا وحمل العصا.
على كل حال، ضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بعدد هذه القبائل، مع أعلام كل قبيلة بالعين الخاصة بهم قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ومن أجل ألا يحصل التنازع وقيل لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على سبيل الله التوسعة والإباحة وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ تنشرون الفساد، وتعملون بمعصية الله -تبارك وتعالى.
فيؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ مشروعية الاستسقاء عند الحاجة إلى الماء، فهذا الاستسقاء يشرع بالصلاة المعروفة صلاة الاستسقاء، ويشرع أيضًا بخطبة الجمعة فقد استسقى النبي ﷺ وهو على المنبر، فكل ذلك مشروع، وهذا يدل على أن هذا الاستسقاء كان في شريعتهم.
وكذلك أيضا في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ تكلمنا في مرة سابقة عن الأسباب، وذلك سبب في غير مظنته ضرب القتيل بجزء من بقرة ميتة فأحياه الله -تبارك وتعالى- وهنا حجر ليس فيه ماء ويضرب بعصا ليست بمادة للماء ولا تعلق لها بالماء، فتنفجر منه هذه العيون بعددهم، مما يدل على قدرة الله -تبارك وتعالى- بإخراج الشيء في غير مظنته إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس:82] مياه من حجر.
ويؤخذ منه أيضا: مشروعية فعل السبب، هناك في قتيل بني إسرائيل اضربوه ببعضها، بقرة ميتة لو كانت حية كان قيل سرت له الحياة من حياتها ميتة، أن تذبح ثم يضرب بجزء منها، هنا يضرب حجر، فيخرج منه هذه العيون.
ومريم - رحمها الله - ماذا قال لها؟ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [سورة مريم:25] امرأة نفساء ضعيفة، أضعف ما تكون المرأة في حال النفاس، وجذع النخلة أصلب الأجذاع، أصلب الجذوع هو جذع النخلة، وأغلظ الجذوع؛ ولهذا يقولون: بأن فرعون لما هدد السحرة وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71] ما ذكر شيئا آخر من الأشجار لصلابته وقسوته وشدته، وأيضًا إيلامه، فالذي يصلب يشد بقوة إلى الشيء الذي صلب منه فلو صلب إلى شجرة ملساء، فذلك أسهل لكن إلى جذع النخل فيتألم ظهره، فيكون زيادة في تعذيبه وإيلامه.
وهنا: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فهي تساقط إذا أراد الله من غير هز، لكن كما قال بعضهم:
ألم تر أن الله قال لمريم |
وهزي إليك الجذع يساقط الرطب |
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه |
جنته ولكن كل شيء له سبب |
الإنسان يبذل الأسباب في الدعوة إلى الله والنتائج إلى الله، يبذل الأسباب في التربية، تربية الأولاد، تربية من تحت يده والنتائج إلى الله.
هذه كالبذور التي تلقى هذه تخرج وهذه لا تخرج، فتجد الولدين لربما التوأم في بيت واحد، والتربية واحدة من بطن واحد، وهذا في غاية القبول والانقياد والسلاسة والهدوء والسكينة والطيبة، والثاني في غاية التمرد ترى ذلك في حماليق عينيه وهو يرضع، يعرف توأم ترى في هذا صباحة الوجوه، والدعة، والسكينة، واللطف، والانقياد والاستجابة، والآخر التمرد وهو في مرحلة الرضاع يعرفه المتفرسون.
الهداية من الله تجد الإنسان يسمع الكلام الكثير، ويدرس، وبيئة طيبة وصالحة في بيته، وفي دراسته، ويدرس لربما حتى في دراسة شرعية، ومع ذلك ترى الأثر ضعيفا، وآخر بعيد يعيش في مكان بعيد، ونبتة ما شاء الله.
فالمقصود هو بذل الأسباب في تعليم، في النصح، في التربية، بذل الأسباب في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنتائج إلى الله.
ويؤخذ من هذه الآية في قوله -تبارك وتعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أن الأصل في المأكول والمشروب الإباحة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [سورة البقرة:29] فالأصل في هذه الأشياء أنها مباحة للإنسان، خلقها الله للإنسان إلا ما دل الدليل على منعه وتحريمه، هذا في هذه الأشياء التي يتعاطاها الناس، فالأصل في المعاملات الحل، الأصل في الأطعمة الحل.
لكن الأصل في العبادات المنع، من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد فهذا يتلقى من الوحي، ما يأتي كل إنسان بعبادة كل ما يحلو له، ويقول أين الدليل على المنع؟
وذكر بعض أهل العلم قاعدة أيضًا: أن الأصل في الذبائح المنع وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118]. وهكذا قالوا: الأصل في الفروج المنع.
ويؤخذ أيضا من قوله: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [سورة البقرة:60] هنا ما نزل عليهم مطر من السماء، وإنما نبع الحجر، فالسقيا قد تكون بمطر ينزل، وقد تكون بنبع عين لهم، فهذا كله مما يسقون به، فهنا لم ينزل عليهم مطر من السماء، فالله على كل شيء قدير.
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [سورة البقرة:60] مفسدين هذه حال مؤكدة يعني ساعين في الفساد، فهذا حينما جاء به بهذه الصيغة، فذلك يكسو هذا النهي عن الفساد، يعني: شيئا من القوة، ويكون أبلغ أثرا، فلا ينسى، ولا يغفل عنه، والله تعالى أعلم.