يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً، نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم.قوله: واذكروا دبركم وضجركم: الدبر شبيه بالضجر، ويمكن أن يفسر بمعنى النفور من الشيء والكراهية له، أو البعد عنه أو بأقرب ما يمكن أن يفسر به، وإنما يكون ذلك عادة أو غالباً بسبب الضجر منه، فالمعنى واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم.
قالوا: لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ الذي هو المن والسلوى، ولا يخفى أن المن والسلوى طعام متعدد وليس بطعام واحد، لكن صح أن يعبر عنه بأنه طعام واحد؛ لأن الشيء الذي يتكرر دائماً، ولا يتغير وإن كان متنوعاً يقال له: هذا طعام واحد، وكذلك الشيء الذي يكون على مائدة واحدة يصح أن يقال عنه بأنه طعام واحد، إذ يكون المقصود به مجموع ما على المائدة، أي ما تتكون منه المائدة، يقال له: طعام واحد، بخلاف ما لو فرق فأعطي بعضه في هذا اليوم والبعض الآخر في يوم آخر وهكذا فهذا طعام متعدد.
والمراد في الآية أنهم ملوا المن والسلوى؛ إذ هذا هو المراد الذي لا يخفى، ملوا المن والسلوى لعتوهم وتمردهم، وهذا له ارتباط أيضاً بطبيعة النفس التي من شأنها الظلم والجهل، فكما فعل قوم سبأ لما أنعم الله عليهم بما أنعم عليهم به حيث جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها والتي هي قرى الشام - وقيل غير ذلك - جعل قرى ظاهرة بحيث صارت المسافات متقاربة كما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سورة سبأ:18]، بمعنى أنها مسافات قليلة قصيرة إذا خرج من هذه القرية تتراءى له القرية الثانية فلا يحتاجون إلى حمل الأزواد، ولا يخافون؛ لأنه لا توجد بينهم وبين ما يهدفون الوصول إليه أرض شاسعة مهلكة مخوفة، ومع ذلك قالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [سورة سبأ:19] فأرادوا الأسفار البعيدة، ومثل هذا الظلم يحصل عند بعض الناس حيث تجده لا يحب السفر المريح القريب الهنيء الذي يكون بوسائل مريحة، وإنما يريد السفر البعيد الذي تحصل فيه مشقة، ولذلك ترى بعض الناس يتعمد الذهاب على الأقدام، أو على دراجة، أو على وسائل بدائية، وبعض الناس تجده يترك العيش الرغيد، والأشياء الطيبة، ويبحث عن الأشياء القديمة التي كان الناس لا يتعاطونها إلا بسبب الحاجة والفقر؛ حيث لا يجدون ما يأكلون، أو ما يلبسون، أو ما يجلسون عليه، فبدأ الناس يراجعون هذه الأشياء؛ لأنهم ملوا ألوان النعيم والرغد الذي يتقلبون فيها، وأصبحوا يبحثون عن الأشياء القديمة من المطعومات، ويرجعون إليه، وأصبحوا لربما يتفاخرون بمثل هذه الأشياء، وترى من الألوان ما تزدريه العين أحياناً، كل ذلك تشبثاً بالقديم، ويتركون الصناعات التي هي في غاية الحذق، والإتقان، والجمال كأنهم لا يجدون شيئاً، ولربما رأيت شيئاً من ذلك في اللباس لا سيما عند بعض النساء فلربما لبست المرأة الإزار أو ما يشبه الإزار بحيث إذا رأيتها تظن أن هذه المرأة فقيرة مسكينة ليس عندها شيء، بينما هي ترى أنها بهذا قد جاءت بما لم يأت به أحد، والله المستعان، فهذا الذي حصل عند بني إسرائيل، وعند أهل سبأ؛ قد يكون له تعلق بمثل هذا المعنى، والله المستعان.
قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس، وبصل، وبقول، وفوم فقالوا: يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، فالبقول، والقثاء، والعدس، والبصل كلها معروفة، وأما الفوم فوقع في قراءة ابن مسعود : وثومها - بالثاء -.يقول: فالبقول، والقثاء، والعدس، والبصل؛ كلها معروفة: البقول هي النباتات التي لا ساق لها، وهي الأشياء المعروفة مثل الكراث، والنعناع، والبقدونس، والجرجير وغيرها من الأشياء هذه التي يسمونها (الخضرة) فهذا كله داخل في هذه البقول.
وأما القثاء فهو نوع من الخيار لكنه طويل، وهو موجود إلى الآن، ومعروف، هذا هو القثاء، وبعض الناس لا زالوا يسمونه قثَّاء، وبعضهم يسميه بغير هذا، فالمقصود أنه موجود يعرفه الناس وهو نوع من الخيار.
وأما الفوم فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء.على هذا القول تكون التسمية هنا من قبيل ما تصنعه العرب كثيراً في كلامها حيث تبدل حرفاً مكان حرف، وهذا موجود، وكثير جداً، وله نظائر في أشعارهم، وفي كلامهم المنثور، ولا إشكال فيه، تقول: الفوم، والثوم، وهذا باعتبار أن الفوم هو الثوم المعروف، وهذا قول مشهور قال به كثير من السلف فمن بعدهم.
والقول بأن الفوم بمعنى الحنطة أيضاً هو قول مشهور، وإن كان لا يبلغ ما يبلغه القول الأول من كثرة القائل به، وكونه هو المتبادر إلى الذهن، فبعضهم يقول: هو الحنطة، ومن فسره بأنه الخبز فإن ذلك لا يخرج عن قول من قال بأنه الحنطة، باعتبار أن الخبز إنما يصنع من الحنطة، فهكذا يوجه قول من قال بأن فومها المقصود به ما يخبز، وهذا كما سبق في قوله - تبارك وتعالى -: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58]، فعلى قول من قال: إن المعنى قولوا: لا إله إلا الله، فإنه يمكن أن يوجه باعتبار أن قول لا إله إلا الله تحط به الخطايا، وهذا كله مما يذكر في مقام توجيه الأقوال المنقولة عن السلف في التفسير، فعلى هذا الاعتبار أن الفوم هو الثوم يكون هذا من قبيل ما تستبدل به العرب الحرف مكان الحرف، وهو مشهور معروف.
وهذا القول قول له وجه، ولربما كان هو المتبادر المشهور، ولكن القول الآخر له وجاهته أيضاً، وقد قال به كثيرون، ويوجد ما يدل عليه من كلام العرب إذ إن العرب تعبر بالفوم وتريد به الحنطة، وأما ما قيل من غير هذا في تفسيره فإنها أقوال لا تخلو من بُعد، والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: عن الحسن في قوله: وَفُومِهَا قال: قال ابن عباس - ا -: "الثوم" قال: وفي اللغة القديمة فوموا لنا بمعنى اختبزوا، قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً فإنه من الحروف المبدلة.
قوله: فإن كان ذلك صحيحاً فإنه من الحروف المبدلة: يعني إن كان القول بأن الفوم بمعنى الثوم صحيحاً فهو من باب إبدال الحرف مكان الحرف.
كقولهم: وقعوا في عاثور شر، وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير، وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة وهو البر الذي يعمل منه الخبز، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم.من قال بأن الفوم هنا بمعنى الثوم المعروف احتجوا أولاً بأنه هو المتبادر والمشهور، وأن ذلك أشهر عند إطلاقه في دلالته على أنه ثوم من دلالته على أن المراد به الحنطة، والقرآن يحمل على المشهور المتبادر الظاهر إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وقد يحتج لذلك أيضاً بأن الله ذكره مع البصل وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61] فالله تعالى أعلم.
والحقيقة أن تحديد هذا بعينه أمر لا طائل تحته، ولا نستفيد منه شيئاً، فهذا كما قال عمر حينما تساءل ما معنى الأب الذي في قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [سورة عبس:31] ثم رجع إلى نفسه، وقال: "إن هذا لهو التكلف يا عمر" مع أنه كان يدرك تماماً دون شك أن الأب هو نوع من النبات، وإن شئت أن تقول: هو نوع من النبات تأكله الماشية، لكن ما تحديده بالذات؟ هذا أمر لا طائل تحته، ولا نستفيد من معرفته شيئاً، فالله يمتن على الناس بأنه أخرج لهم من الأرض الفواكه وغيرها مما يأكلون منه، وما تأكل منه دوابهم، لكن تحديد هذا بعينه قد لا يكون مفيداً، فهذا مثل ما ذاك، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] فيه تقريع لهم، وتوبيخ على ما سألوه من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع.
وقوله تعالى: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] قال ابن عباس - ا -: "مصراً من الأمصار".
وروى ابن جرير عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس - ا - وغيره، والمعنى على ذلك؛ لأن موسى يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، ولهذا قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ [سورة البقرة:61] أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر، ولا ضرورة فيه؛ لم يجابوا إليه والله أعلم.على هذا يكون ابن كثير - رحمه الله - قد مشى على أن موسى ﷺ لم يدع لهم، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61]، فيقول: إنه قال لهم: اهبطوا مصراً من الأمصار؛ يعني إن هذا لا يحتاج إلى أن نسأل الله أن ينزله؛ إذ كيف ترغبون عن المن والسلوى، وتطلبون الفوم والبصل؟ فهذا تجدونه ميسوراً مبذولاً لكل أحد في أي مصر من هذه الأمصار إذا دخلتموها، فإن ذلك مما يزرع في القرى، فعلى هذا يكون موسى ﷺ لم يجبهم إلى سؤال الله أن ينزل عليهم شيئاً من ذلك.
وبعض أهل العلم يقولون: إنه سأل ربه أن يرزقهم هذا، ثم وجههم إلى أن يهبطوا أي: يقصدوا ويتوجهوا إلى تلك الجهة، فالهبوط هنا بمعنى القصد والتوجه، تقول: هبط إلى أرض كذا بمعنى أوى إليها، وقصدها، وتوجه إليها.
ويلاحظ أن مصراً هنا منكرة، وجاءت منونة، فلربما ظن من سمعها أن ذلك أدل على أن المقصود بها قرية من القرى بمعنى أنها أي بلد من البلدان باعتبار أنه نكرها، وأما مصر المعروفة فلو قصدت لقال: مصرَ، مصرَ - بدون تنوين - باعتبار المنع من الصرف تكون ممنوعة من الصرف لعلتين هما: العَلَمِيَّة، والعجمة، لكن هذا فيه نظر؛ لأن مصر ثلاثية، ومعلوم أن الثلاثي وإن كان أعجمياً لكنه جاء ساكن الوسط فإنه يُصرف، وهذا له نظائر تجده في أسماء الأنبياء مثل نوح - عليه الصلاة والسلام - تجده يكتب نوحٌ ونوحاً؛ مع أنه أعجمي؛ لأنه ساكن الوسط، وأما هود فصرف باعتبار أنه عربي مع أنه ساكن الوسط، لكن على فرض أنه أعجمي إلا أنه أيضاً ساكن الوسط، ومعنى هذا الكلام أن قول من قال: إن قوله تعالى: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] يقصد به البلد المعروف اليوم - مصر - غير ممتنع من جهة اللغة، يعني لا يحتج في رده باعتبار أنها جاءت مصروفة هكذا اهْبِطُواْ مِصْراً.
لكن القول الآخر لربما كان هو الأقرب - والله تعالى أعلم - وهو أن قوله: اهْبِطُواْ مِصْراً أي مصراً من الأمصار؛ لأن ذلك الذي يدل عليه السياق، فهم لم يطلبوا شيئاً يختص بمصر المعروفة، وإنما طلبوا أشياء متوفر في أي قرية دخلوها.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].
يقول تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي وضعت عليهم، وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم، وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون.ضرب عليهم ذلك أي: ألزموا به فلا فكاك، ولا مخرج، ولا خيار فيه، وهذا كما يقال مثلاً: ضرب الأمير بعثاً فالمعنى أنه ألزم هذا البعث أو الجيش بالخروج إلى ما وجههم إليه، بمعنى صدر قرار بإلزامهم بهذا الأمر، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ أي: ألزموا به، فصار ذلك الشيء ملازماً لهم، وحتماً في حقهم لا فكاك ولا خلاص منه.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي أنها لا تفارقهم، فهم أذلاء وإن ملكوا الأموال الطائلة، وفيهم مسكنة وإن حصلوا ما حصلوه من أسباب القوة فإنك تجد ذلك لا يفارق وجوههم، فهذا هو الأصل فيهم وإن وجد من بعضهم خلاف ذلك فإن القليل والنادر في وقت من الأوقات، أو في بعض الأفراد؛ لا حكم له، ولا يخرج عن صحة الحكم على المجموع بأنه كذا، وكذا، وليس تحصيل العز وما إلى ذلك مما يلحق بمعناه، ليس تحصيله بكثرة المال، والقوة المادية، فإن الذل والصغار، والمهانة والمسكنة؛ أمور تتعلق بالنفس، ولذلك تجد من الناس من يملك الكثير ومع ذلك هو أشبه ما يكون بالفقراء، بل هو فقير؛ لأن الفقر في قلبه، ولذلك لربما لجأ إلى سؤال الناس مع كثرة ما يملك، فإذا كان الفقر في القلب فإن حال هذا الإنسان هي حال الفقراء وإن كان الذي في يده كثيراً.
وإذا كان الذل في القلب فمهما أوتي الإنسان من العرض، ومن أسباب القوة؛ فإن ذلك لا يخرجه عن هذا الوصف، وهذا الذل والمهانة شيء مشاهد فيهم، فمن خلط هؤلاء الناس، وعرف حالهم، ووصفهم؛ وجد ذلك منطبقاً تمام الانطباق عليهم.
وقد ذكر بعض أهل العلم أشياء من هذا كثيرة، وكان ذلك من شأن هؤلاء وعادتهم، وإن كانت عندهم الأموال الطائلة، والذهب؛ فإنه يظهر بخلاف ذلك، لا يظهر عليه ما يظهر على غيره ممن يعطيهم الله الغنى والسعة، فتجده ذليلاً إما خوفاً من الجزية، وإما خوفاً من أن يسطى على ذلك، أو يطالب بشيء من الإتاوات أو الضرائب أو نحو هذا، والحال تشهد بهذا حيث تجد أنه يهاجر مئات الألوف بسبب الهلع، والفزع، والخوف الشديد؛ بسبب صاروخ - لا أدري ما تأثيره - يسقط على مدينة من هذه المدن المستحدثة، ولذلك إذا حصل أدنى ما يحصل من الخوف تهافت هؤلاء بالطوابير يجمعون الكمامات، ويجمعون الأزواد، والأقوات؛ بصورة لا تكاد توصف، وإذا نظرت إلى حال جنودهم الذين إذا رأيتهم ظننت لأول وهلة أنهم بنات لحداثة سنهم، وعنايتهم بأجسادهم، وإذا نظرت إليهم وهم يبكون حينما يجرح أو يقتل واحد من زملائهم ظننت أنك في مجمع من النسوة، وليس في جيش قوي يمكن أن يقاتل، ويصد الأعداء وما أشبه ذلك، لكن الحقائق قد لا تنكشف لأول وهلة، ولكن لو جاءت المواجهة الحقيقة ترى من العوار الذي يخفونه عشرات السنين، ويوهمون الناس بخلافه، تجد ذلك ظاهراً بيِّناً لكل أحد، ومن نظر في أحوال هؤلاء ومن شابههم وجد هذا ظاهراً، فصار قتلهم أهون ما يكون بعد أن كان الناس يظنون أنهم قوة لا يمكن أن تقهر، ولا يمكن أن يقتل هذا الجندي، ولا يمكن أن تسقط طائرة لهم؛ وذلك لأن عندهم من الاحتياطات، والقوة، والمنعة، وكذا ما لا يمكن أن يحصل معه هزيمة، فإذا جرب الناس مرة ثم مرة وجدوا شيئاً آخر، لكنهم زرعوا المهابة في نفوس الناس، وصورا لأنفسهم شيئاً ليس بحقيقي، وعند الجد يذهب ذلك جميعاً، ولا تبقى إلا الحقائق.
وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة.على كل حال الفقر في قلوبهم، ولو قرأتم لعلمتم أن بعض الجنود الإسرائيليين الآن يقومون بالسرقة، وبعضهم يصطفون بالطوابير ليأخذوا القوت، ليس من الجهة التي تعطيهم أقواتهم؛ بل عند الأماكن التي تبذل الصدقات، يصطفون بالطوابير ليأخذوا الصدقة! وهكذا من كان فقره في قلبه فإنه لا يمكن أن يتغير.
وقال عطية العوفي: الخراج.قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ المسكنة الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، يعني ما يؤخذ من أرضهم التي فتحها المسلمون فصارت أرضاً خراجية، لكن لا تفسر الآية إلا أنه هنا يريد أن يربط بينها.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ الذل معروف أنه يعني الصغار، والمسكنة قال عطية العوفي: الخراج، فهو يريد أن يقول: هو شيء آخر فرض عليهم شرعاً وقدراً فقال الخراج أو الجزية.
والله قال: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فهؤلاء ملزمون بالذل سواء كان ذلك بطريق الجزية، أو كان ذلك الوصف الذي أوقعه الله فيهم، فصار وصفاًَ لا يفارقهم.
قوله: "ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية" أقول: هذا هو الأصل في حالهم، وهو الاستذلال، والاستضعاف، والقتل، والتشريد إلى آخره، وكان ذلك على مدى هذه القرون المتطاولة، حيث لم يقم لهم ملك، ولم ترفع لهم راية، وإنما كانوا يستذلون، ويستضعفون، ويقهرون حتى إلى عهد قريب جداً، ففي أوروبا كانوا لربما نودي عليهم في بعض البلدان أن يقتلوا جميعاً، واقرؤوا في التاريخ المعاصر ستجدون ذلك جلياً.
فالمقصود أن الشيء المؤقت الذي يحصل في سنوات أو سنيات لا ينبغي أن يكون خارجاً عن الحكم والوصف العام فهذه قضية مهمة.
المقصود أن من قاس هذه الأمور بعمر الإنسان فإنه قد يستشكل مثل هذه المعاني، ومن قاسها بعمر الأمم فإن ذلك يظهر له واضحاً، فإذا كان هؤلاء اليهود يستذلهم الرومان منذ عهد قسطنطين، وقتلوهم في أنحاء المملكة القسطنطينية أو الرومانية، وفعلوا بهم ما هو معروف في التاريخ، واستمر ذلك، ثم جاء المسلمون وفعلوا بهم ما هو معروف، فلو فرضنا أنهم قامت لهم دولة في القرن الخامس الهجري لمدة خمسين سنة، أو سبعين سنة، أو ثمانين سنة، ثم بعد ذلك انتهت؛ وأحرقوا في داخلها؛ فإن هذا لا يخرجهم عن الحكم والوصف العام في خط التاريخ الطويل، وهذا مثل ما قال النبي ﷺ: لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم[1] فإذا وجدت حالة من الارتفاع خلال فترة قصيرة من فترات الانحدار فإن هذا لا يعد في القياس والحساب أنه ارتفاع وانقلاب للحكم، وتغير فيه؛ بل هو جزء من هذا الانحدار، وإن وجد فيه هذا النتوء اليسير، وهكذا اليهود هم بهذه الطريقة، فلو حصلت لهم قوة في وقت من الأوقات فإن مثل هذا لا يكون ذلك رفعة في حقهم، ولا تغيراً في حكمهم، بل يبقى الحكم العام في حقهم فهو الغالب.
ولذلك لما ذكر للحسن البصري - رحمه الله - في قول النبي ﷺ: لا يأتي على الناس زمان قالوا: فما القول في زمان عمر بن عبد العزيز الذي هو أفضل من زمن الحجاج مع أنه بعده، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
فإذا نظرت إلى حال الأمة من عهد الصحابة إلى يومك هذا وجدت أن القضية في نزول، لذلك فوجود عهد مثل: عهد عمر بن عبد العزيز في فترة من الفترات لا يغير الحكم العام، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ [سورة البقرة:61] قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال ابن جرير: يعني بقوله: وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ انصرفوا، ورجعوا.تقول: باءَ أصله من المباءة، والمباءة هي المكان الذي يرجع إليه الناس بعد تفرقهم، وانتشارهم، ومعنى بَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ أي: رجعوا فيه.
ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير، وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [سورة المائدة:29] يعني تنصرف متحملهما، وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام إذاً رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة، والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم: الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق.وهذا كما يصلح أن يكون مثالاً لما سبق مما ذكرته وهو أن الحكم الخاص قد يعقب بما هو أعم منه، ليدلل بذلك على أن كل من عمل بهذا العمل فإنه قد يناله مثل هذا العقاب، فهم لماذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟ لكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، فذلك لا يختص بهم بل إن من فعل فعلهم فإنه يستحق مثل هذه العقوبة، وهذا كثير في القرآن، وتارة يذكر هذا بإبراز العمل الذي حصل فيه دون التعقيب عليه بمثل هذا.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] هنا سؤال يرد وهو: هل يعتبر مفهوم المخالفة هنا بحيث إن قتل النبيين يمكن أن يكون بحق؟
لا يمكن أن يكون كذلك؛ وإنما قيده هنا هذا التقييد ليسجل عليهم عظم جرمهم، وعلى كل حال هذا أسلوب عربي معروف، فيكون قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ من قبيل الوصف الكاشف للحقيقة الواقعة دون أن يكون مقيداً؛ لأن هذا القيد لا مكان له؛ إذ إن قتل النبيين لا يمكن أن يكون بحق إطلاقاً كما قال الله : وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] هل يمكن أن يدعو الإنسان إلهاً آخر له به برهان؟
لا يمكن ذلك، وإنما تكون هذه من قبيل الصفة الكاشفة لبيان الحقيقة الواقعة، دون أن يكون ذلك قيداً، وإنما يكون هذا الأسلوب قيداً فيما لو كان النوع الآخر، أو المثال الآخر، أو الصورة الأخرى يمكن أن تقع، مثل لو قلت: الذي يقتل الناس بغير الحق فإنه متوعد بكذا وكذا، طبعاً الصورة الأخرى هي أنه يمكن أن يكون قتل الناس بحق، أما هنا لا يمكن أن يقع قتل الأنبياء بحق أبداً، فيكون ذلك من قبيل التسجيل عليهم شناعة جرمهم كأنه ينادي عليهم بذلك، ويكون ذلك من باب التأكيد، ومثل هذا قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] والطائر إنما يطير بجناحيه.
وقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] والكتابة إنما تكون بالأيدي لا بالأرجل.
وقوله أيضاً: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167] والإنسان إنما يتكلم بفمه.
وهذا كما تقول: أمشيت إليه برجلك؟ كل هذا من باب التأكيد، والله تعالى أعلم.
ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله ﷺ قال: الكبر بطر الحق، وغمط الناس[2].
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله يعني ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين[3].الممثلون يقصد بهم أصحاب التصاوير.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون، ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه، والمأمور به، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: الفتن - باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه (6657) (ج 6 / ص 2591).
- أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: تحريم الكبر وبيانه (91) (ج 1 / ص 93).
- أخرجه أحمد (ج 1/ ص 407) والطبراني في الكبير (ج 10 / ص 211) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (281).