الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَٰحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلْأَرْضُ مِنۢ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ ۚ ٱهْبِطُوا۟ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا۟ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۦنَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ [سورة البقرة:61].
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيباً، نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم.
قوله: واذكروا دبركم وضجركم: الدبر شبيه بالضجر، ويمكن أن يفسر بمعنى النفور من الشيء والكراهية له، أو البعد عنه أو بأقرب ما يمكن أن يفسر به، وإنما يكون ذلك عادة أو غالباً بسبب الضجر منه، فالمعنى واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم.
قالوا: لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ الذي هو المن والسلوى، ولا يخفى أن المن والسلوى طعام متعدد وليس بطعام واحد، لكن صح أن يعبر عنه بأنه طعام واحد؛ لأن الشيء الذي يتكرر دائماً، ولا يتغير وإن كان متنوعاً يقال له: هذا طعام واحد، وكذلك الشيء الذي يكون على مائدة واحدة يصح أن يقال عنه بأنه طعام واحد، إذ يكون المقصود به مجموع ما على المائدة، أي ما تتكون منه المائدة، يقال له: طعام واحد، بخلاف ما لو فرق فأعطي بعضه في هذا اليوم والبعض الآخر في يوم آخر وهكذا فهذا طعام متعدد.
والمراد في الآية أنهم ملوا المن والسلوى؛ إذ هذا هو المراد الذي لا يخفى، ملوا المن والسلوى لعتوهم وتمردهم، وهذا له ارتباط أيضاً بطبيعة النفس التي من شأنها الظلم والجهل، فكما فعل قوم سبأ لما أنعم الله عليهم بما أنعم عليهم به حيث جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها والتي هي قرى الشام - وقيل غير ذلك - جعل قرى ظاهرة بحيث صارت المسافات متقاربة كما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سورة سبأ:18]، بمعنى أنها مسافات قليلة قصيرة إذا خرج من هذه القرية تتراءى له القرية الثانية فلا يحتاجون إلى حمل الأزواد، ولا يخافون؛ لأنه لا توجد بينهم وبين ما يهدفون الوصول إليه أرض شاسعة مهلكة مخوفة، ومع ذلك قالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [سورة سبأ:19] فأرادوا الأسفار البعيدة، ومثل هذا الظلم يحصل عند بعض الناس حيث تجده لا يحب السفر المريح القريب الهنيء الذي يكون بوسائل مريحة، وإنما يريد السفر البعيد الذي تحصل فيه مشقة، ولذلك ترى بعض الناس يتعمد الذهاب على الأقدام، أو على دراجة، أو على وسائل بدائية، وبعض الناس تجده يترك العيش الرغيد، والأشياء الطيبة، ويبحث عن الأشياء القديمة التي كان الناس لا يتعاطونها إلا بسبب الحاجة والفقر؛ حيث لا يجدون ما يأكلون، أو ما يلبسون، أو ما يجلسون عليه، فبدأ الناس يراجعون هذه الأشياء؛ لأنهم ملوا ألوان النعيم والرغد الذي يتقلبون فيها، وأصبحوا يبحثون عن الأشياء القديمة من المطعومات، ويرجعون إليه، وأصبحوا لربما يتفاخرون بمثل هذه الأشياء، وترى من الألوان ما تزدريه العين أحياناً، كل ذلك تشبثاً بالقديم، ويتركون الصناعات التي هي في غاية الحذق، والإتقان، والجمال كأنهم لا يجدون شيئاً، ولربما رأيت شيئاً من ذلك في اللباس لا سيما عند بعض النساء فلربما لبست المرأة الإزار أو ما يشبه الإزار بحيث إذا رأيتها تظن أن هذه المرأة فقيرة مسكينة ليس عندها شيء، بينما هي ترى أنها بهذا قد جاءت بما لم يأت به أحد، والله المستعان، فهذا الذي حصل عند بني إسرائيل، وعند أهل سبأ؛ قد يكون له تعلق بمثل هذا المعنى، والله المستعان.
قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس، وبصل، وبقول، وفوم فقالوا: يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، فالبقول، والقثاء، والعدس، والبصل كلها معروفة، وأما الفوم فوقع في قراءة ابن مسعود : وثومها - بالثاء -.يقول: فالبقول، والقثاء، والعدس، والبصل؛ كلها معروفة: البقول هي النباتات التي لا ساق لها، وهي الأشياء المعروفة مثل الكراث، والنعناع، والبقدونس، والجرجير وغيرها من الأشياء هذه التي يسمونها (الخضرة) فهذا كله داخل في هذه البقول.
وأما القثاء فهو نوع من الخيار لكنه طويل، وهو موجود إلى الآن، ومعروف، هذا هو القثاء، وبعض الناس لا زالوا يسمونه قثَّاء، وبعضهم يسميه بغير هذا، فالمقصود أنه موجود يعرفه الناس وهو نوع من الخيار.
وأما الفوم فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء.على هذا القول تكون التسمية هنا من قبيل ما تصنعه العرب كثيراً في كلامها حيث تبدل حرفاً مكان حرف، وهذا موجود، وكثير جداً، وله نظائر في أشعارهم، وفي كلامهم المنثور، ولا إشكال فيه، تقول: الفوم، والثوم، وهذا باعتبار أن الفوم هو الثوم المعروف، وهذا قول مشهور قال به كثير من السلف فمن بعدهم.
والقول بأن الفوم بمعنى الحنطة أيضاً هو قول مشهور، وإن كان لا يبلغ ما يبلغه القول الأول من كثرة القائل به، وكونه هو المتبادر إلى الذهن، فبعضهم يقول: هو الحنطة، ومن فسره بأنه الخبز فإن ذلك لا يخرج عن قول من قال بأنه الحنطة، باعتبار أن الخبز إنما يصنع من الحنطة، فهكذا يوجه قول من قال بأن فومها المقصود به ما يخبز، وهذا كما سبق في قوله - تبارك وتعالى -: وَقُولُواْ حِطَّةٌ [سورة البقرة:58]، فعلى قول من قال: إن المعنى قولوا: لا إله إلا الله، فإنه يمكن أن يوجه باعتبار أن قول لا إله إلا الله تحط به الخطايا، وهذا كله مما يذكر في مقام توجيه الأقوال المنقولة عن السلف في التفسير، فعلى هذا الاعتبار أن الفوم هو الثوم يكون هذا من قبيل ما تستبدل به العرب الحرف مكان الحرف، وهو مشهور معروف.
وهذا القول قول له وجه، ولربما كان هو المتبادر المشهور، ولكن القول الآخر له وجاهته أيضاً، وقد قال به كثيرون، ويوجد ما يدل عليه من كلام العرب إذ إن العرب تعبر بالفوم وتريد به الحنطة، وأما ما قيل من غير هذا في تفسيره فإنها أقوال لا تخلو من بُعد، والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: عن الحسن في قوله: وَفُومِهَا قال: قال ابن عباس - ا -: "الثوم" قال: وفي اللغة القديمة فوموا لنا بمعنى اختبزوا، قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً فإنه من الحروف المبدلة.
قوله: فإن كان ذلك صحيحاً فإنه من الحروف المبدلة: يعني إن كان القول بأن الفوم بمعنى الثوم صحيحاً فهو من باب إبدال الحرف مكان الحرف.
كقولهم: وقعوا في عاثور شر، وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير، وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة وهو البر الذي يعمل منه الخبز، قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم.
من قال بأن الفوم هنا بمعنى الثوم المعروف احتجوا أولاً بأنه هو المتبادر والمشهور، وأن ذلك أشهر عند إطلاقه في دلالته على أنه ثوم من دلالته على أن المراد به الحنطة، والقرآن يحمل على المشهور المتبادر الظاهر إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وقد يحتج لذلك أيضاً بأن الله ذكره مع البصل وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61] فالله تعالى أعلم.
والحقيقة أن تحديد هذا بعينه أمر لا طائل تحته، ولا نستفيد منه شيئاً، فهذا كما قال عمر حينما تساءل ما معنى الأب الذي في قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [سورة عبس:31] ثم رجع إلى نفسه، وقال: "إن هذا لهو التكلف يا عمر" مع أنه كان يدرك تماماً دون شك أن الأب هو نوع من النبات، وإن شئت أن تقول: هو نوع من النبات تأكله الماشية، لكن ما تحديده بالذات؟ هذا أمر لا طائل تحته، ولا نستفيد من معرفته شيئاً، فالله يمتن على الناس بأنه أخرج لهم من الأرض الفواكه وغيرها مما يأكلون منه، وما تأكل منه دوابهم، لكن تحديد هذا بعينه قد لا يكون مفيداً، فهذا مثل ما ذاك، والله أعلم.
وقوله تعالى: قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] فيه تقريع لهم، وتوبيخ على ما سألوه من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع.
وقوله تعالى: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] قال ابن عباس - ا -: "مصراً من الأمصار".
وروى ابن جرير عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس - ا - وغيره، والمعنى على ذلك؛ لأن موسى يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، ولهذا قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ [سورة البقرة:61] أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر، ولا ضرورة فيه؛ لم يجابوا إليه والله أعلم.
على هذا يكون ابن كثير - رحمه الله - قد مشى على أن موسى ﷺ لم يدع لهم، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة:61]، فيقول: إنه قال لهم: اهبطوا مصراً من الأمصار؛ يعني إن هذا لا يحتاج إلى أن نسأل الله أن ينزله؛ إذ كيف ترغبون عن المن والسلوى، وتطلبون الفوم والبصل؟ فهذا تجدونه ميسوراً مبذولاً لكل أحد في أي مصر من هذه الأمصار إذا دخلتموها، فإن ذلك مما يزرع في القرى، فعلى هذا يكون موسى ﷺ لم يجبهم إلى سؤال الله أن ينزل عليهم شيئاً من ذلك.
وبعض أهل العلم يقولون: إنه سأل ربه أن يرزقهم هذا، ثم وجههم إلى أن يهبطوا أي: يقصدوا ويتوجهوا إلى تلك الجهة، فالهبوط هنا بمعنى القصد والتوجه، تقول: هبط إلى أرض كذا بمعنى أوى إليها، وقصدها، وتوجه إليها.
ويلاحظ أن مصراً هنا منكرة، وجاءت منونة، فلربما ظن من سمعها أن ذلك أدل على أن المقصود بها قرية من القرى بمعنى أنها أي بلد من البلدان باعتبار أنه نكرها، وأما مصر المعروفة فلو قصدت لقال: مصرَ، مصرَ - بدون تنوين - باعتبار المنع من الصرف تكون ممنوعة من الصرف لعلتين هما: العَلَمِيَّة، والعجمة، لكن هذا فيه نظر؛ لأن مصر ثلاثية، ومعلوم أن الثلاثي وإن كان أعجمياً لكنه جاء ساكن الوسط فإنه يُصرف، وهذا له نظائر تجده في أسماء الأنبياء مثل نوح - عليه الصلاة والسلام - تجده يكتب نوحٌ ونوحاً؛ مع أنه أعجمي؛ لأنه ساكن الوسط، وأما هود فصرف باعتبار أنه عربي مع أنه ساكن الوسط، لكن على فرض أنه أعجمي إلا أنه أيضاً ساكن الوسط، ومعنى هذا الكلام أن قول من قال: إن قوله تعالى: اهْبِطُواْ مِصْراً [سورة البقرة:61] يقصد به البلد المعروف اليوم - مصر - غير ممتنع من جهة اللغة، يعني لا يحتج في رده باعتبار أنها جاءت مصروفة هكذا اهْبِطُواْ مِصْراً.
لكن القول الآخر لربما كان هو الأقرب - والله تعالى أعلم - وهو أن قوله: اهْبِطُواْ مِصْراً أي مصراً من الأمصار؛ لأن ذلك الذي يدل عليه السياق، فهم لم يطلبوا شيئاً يختص بمصر المعروفة، وإنما طلبوا أشياء متوفر في أي قرية  دخلوها.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].
يقول تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي وضعت عليهم، وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم، وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون.
ضرب عليهم ذلك أي: ألزموا به فلا فكاك، ولا مخرج، ولا خيار فيه، وهذا كما يقال مثلاً: ضرب الأمير بعثاً فالمعنى أنه ألزم هذا البعث أو الجيش بالخروج إلى ما وجههم إليه، بمعنى صدر قرار بإلزامهم بهذا الأمر، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ أي: ألزموا به، فصار ذلك الشيء ملازماً لهم، وحتماً في حقهم لا فكاك ولا خلاص منه.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي أنها لا تفارقهم، فهم أذلاء وإن ملكوا الأموال الطائلة، وفيهم مسكنة وإن حصلوا ما حصلوه من أسباب القوة فإنك تجد ذلك لا يفارق وجوههم، فهذا هو الأصل فيهم وإن وجد من بعضهم خلاف ذلك فإن القليل والنادر في وقت من الأوقات، أو في بعض الأفراد؛ لا حكم له، ولا يخرج عن صحة الحكم على المجموع بأنه كذا، وكذا، وليس تحصيل العز وما إلى ذلك مما يلحق بمعناه، ليس تحصيله بكثرة المال، والقوة المادية، فإن الذل والصغار، والمهانة والمسكنة؛ أمور تتعلق بالنفس، ولذلك تجد من الناس من يملك الكثير ومع ذلك هو أشبه ما يكون بالفقراء، بل هو فقير؛ لأن الفقر في قلبه، ولذلك لربما لجأ إلى سؤال الناس مع كثرة ما يملك، فإذا كان الفقر في القلب فإن حال هذا الإنسان هي حال الفقراء وإن كان الذي في يده كثيراً.
وإذا كان الذل في القلب فمهما أوتي الإنسان من العرض، ومن أسباب القوة؛ فإن ذلك لا يخرجه عن هذا الوصف، وهذا الذل والمهانة شيء مشاهد فيهم، فمن خلط هؤلاء الناس، وعرف حالهم، ووصفهم؛ وجد ذلك منطبقاً تمام الانطباق عليهم.
وقد ذكر بعض أهل العلم أشياء من هذا كثيرة، وكان ذلك من شأن هؤلاء وعادتهم، وإن كانت عندهم الأموال الطائلة، والذهب؛ فإنه يظهر بخلاف ذلك، لا يظهر عليه ما يظهر على غيره ممن يعطيهم الله الغنى والسعة، فتجده ذليلاً إما خوفاً من الجزية، وإما خوفاً من أن يسطى على ذلك، أو يطالب بشيء من الإتاوات أو الضرائب أو نحو هذا، والحال تشهد بهذا حيث تجد أنه يهاجر مئات الألوف بسبب الهلع، والفزع، والخوف الشديد؛ بسبب صاروخ - لا أدري ما تأثيره - يسقط على مدينة من هذه المدن المستحدثة، ولذلك إذا حصل أدنى ما يحصل من الخوف تهافت هؤلاء بالطوابير يجمعون الكمامات، ويجمعون الأزواد، والأقوات؛ بصورة لا تكاد توصف، وإذا نظرت إلى حال جنودهم الذين إذا رأيتهم ظننت لأول وهلة أنهم بنات لحداثة سنهم، وعنايتهم بأجسادهم، وإذا نظرت إليهم وهم يبكون حينما يجرح أو يقتل واحد من زملائهم ظننت أنك في مجمع من النسوة، وليس في جيش قوي يمكن أن يقاتل، ويصد الأعداء وما أشبه ذلك، لكن الحقائق قد لا تنكشف لأول وهلة، ولكن لو جاءت المواجهة الحقيقة ترى من العوار الذي يخفونه عشرات السنين، ويوهمون الناس بخلافه، تجد ذلك ظاهراً بيِّناً لكل أحد، ومن نظر في أحوال هؤلاء ومن شابههم وجد هذا ظاهراً، فصار قتلهم أهون ما يكون بعد أن كان الناس يظنون أنهم قوة لا يمكن أن تقهر، ولا يمكن أن يقتل هذا الجندي، ولا يمكن أن تسقط طائرة لهم؛ وذلك لأن عندهم من الاحتياطات، والقوة، والمنعة، وكذا ما لا يمكن أن يحصل معه هزيمة، فإذا جرب الناس مرة ثم مرة وجدوا شيئاً آخر، لكنهم زرعوا المهابة في نفوس الناس، وصورا لأنفسهم شيئاً ليس بحقيقي، وعند الجد يذهب ذلك جميعاً، ولا تبقى إلا الحقائق.
وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة.على كل حال الفقر في قلوبهم، ولو قرأتم لعلمتم أن بعض الجنود الإسرائيليين الآن يقومون بالسرقة، وبعضهم يصطفون بالطوابير ليأخذوا القوت، ليس من الجهة التي تعطيهم أقواتهم؛ بل عند الأماكن التي تبذل الصدقات، يصطفون بالطوابير ليأخذوا الصدقة! وهكذا من كان فقره في قلبه فإنه لا يمكن أن يتغير.
وقال عطية العوفي: الخراج.قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ المسكنة الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، يعني ما يؤخذ من أرضهم التي فتحها المسلمون فصارت أرضاً خراجية، لكن لا تفسر الآية إلا أنه هنا يريد أن يربط بينها.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ الذل معروف أنه يعني الصغار، والمسكنة قال عطية العوفي: الخراج، فهو يريد أن يقول: هو شيء آخر فرض عليهم شرعاً وقدراً فقال الخراج أو الجزية.
والله قال: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فهؤلاء ملزمون بالذل سواء كان ذلك بطريق الجزية، أو كان ذلك الوصف الذي أوقعه الله فيهم، فصار وصفاًَ لا يفارقهم.
قوله: "ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية" أقول: هذا هو الأصل في حالهم، وهو الاستذلال، والاستضعاف، والقتل، والتشريد إلى آخره، وكان ذلك على مدى هذه القرون المتطاولة، حيث لم يقم لهم ملك، ولم ترفع لهم راية، وإنما كانوا يستذلون، ويستضعفون، ويقهرون حتى إلى عهد قريب جداً، ففي أوروبا كانوا لربما نودي عليهم في بعض البلدان أن يقتلوا جميعاً، واقرؤوا في التاريخ المعاصر ستجدون ذلك جلياً.
فالمقصود أن الشيء المؤقت الذي يحصل في سنوات أو سنيات لا ينبغي أن يكون خارجاً عن الحكم والوصف العام فهذه قضية مهمة.
المقصود أن من قاس هذه الأمور بعمر الإنسان فإنه قد يستشكل مثل هذه المعاني، ومن قاسها بعمر الأمم فإن ذلك يظهر له واضحاً، فإذا كان هؤلاء اليهود يستذلهم الرومان منذ عهد قسطنطين، وقتلوهم في أنحاء المملكة القسطنطينية أو الرومانية، وفعلوا بهم ما هو معروف في التاريخ، واستمر ذلك، ثم جاء المسلمون وفعلوا بهم ما هو معروف، فلو فرضنا أنهم قامت لهم دولة في القرن الخامس الهجري لمدة خمسين سنة، أو سبعين سنة، أو ثمانين سنة، ثم بعد ذلك انتهت؛ وأحرقوا في داخلها؛ فإن هذا لا يخرجهم عن الحكم والوصف العام في خط التاريخ الطويل، وهذا مثل ما قال النبي ﷺ: لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم[1] فإذا وجدت حالة من الارتفاع خلال فترة قصيرة من فترات الانحدار فإن هذا لا يعد في القياس والحساب أنه ارتفاع وانقلاب للحكم، وتغير فيه؛ بل هو جزء من هذا الانحدار، وإن وجد فيه هذا النتوء اليسير، وهكذا اليهود هم بهذه الطريقة، فلو حصلت لهم قوة في وقت من الأوقات فإن مثل هذا لا يكون ذلك رفعة في حقهم، ولا تغيراً في حكمهم، بل يبقى الحكم العام في حقهم فهو الغالب.
ولذلك لما ذكر للحسن البصري - رحمه الله - في قول النبي ﷺ: لا يأتي على الناس زمان قالوا: فما القول في زمان عمر بن عبد العزيز الذي هو أفضل من زمن الحجاج مع أنه بعده، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
فإذا نظرت إلى حال الأمة من عهد الصحابة إلى يومك هذا وجدت أن القضية في نزول، لذلك فوجود عهد مثل: عهد عمر بن عبد العزيز في فترة من الفترات لا يغير الحكم العام، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ [سورة البقرة:61] قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال ابن جرير: يعني بقوله: وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ انصرفوا، ورجعوا.تقول: باءَ أصله من المباءة، والمباءة هي المكان الذي يرجع إليه الناس بعد تفرقهم، وانتشارهم، ومعنى بَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ أي: رجعوا فيه.
ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير، وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [سورة المائدة:29] يعني تنصرف متحملهما، وترجع بهما قد صارا عليك دوني، فمعنى الكلام إذاً رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة، والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم: الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق.
وهذا كما يصلح أن يكون مثالاً لما سبق مما ذكرته وهو أن الحكم الخاص قد يعقب بما هو أعم منه، ليدلل بذلك على أن كل من عمل بهذا العمل فإنه قد يناله مثل هذا العقاب، فهم لماذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟ لكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، فذلك لا يختص بهم بل إن من فعل فعلهم فإنه يستحق مثل هذه العقوبة، وهذا كثير في القرآن، وتارة يذكر هذا بإبراز العمل الذي حصل فيه دون التعقيب عليه بمثل هذا.
وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] هنا سؤال يرد وهو: هل يعتبر مفهوم المخالفة هنا بحيث إن قتل النبيين يمكن أن يكون بحق؟
لا يمكن أن يكون كذلك؛ وإنما قيده هنا هذا التقييد ليسجل عليهم عظم جرمهم، وعلى كل حال هذا أسلوب عربي معروف، فيكون قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ من قبيل الوصف الكاشف للحقيقة الواقعة دون أن يكون مقيداً؛ لأن هذا القيد لا مكان له؛ إذ إن قتل النبيين لا يمكن أن يكون بحق إطلاقاً كما قال الله : وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] هل يمكن أن يدعو الإنسان إلهاً آخر له به برهان؟
لا يمكن ذلك، وإنما تكون هذه من قبيل الصفة الكاشفة لبيان الحقيقة الواقعة، دون أن يكون ذلك قيداً، وإنما يكون هذا الأسلوب قيداً فيما لو كان النوع الآخر، أو المثال الآخر، أو الصورة الأخرى يمكن أن تقع، مثل لو قلت: الذي يقتل الناس بغير الحق فإنه متوعد بكذا وكذا، طبعاً الصورة الأخرى هي أنه يمكن أن يكون قتل الناس بحق، أما هنا لا يمكن أن يقع قتل الأنبياء بحق أبداً، فيكون ذلك من قبيل التسجيل عليهم شناعة جرمهم كأنه ينادي عليهم بذلك، ويكون ذلك من باب التأكيد، ومثل هذا قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] والطائر إنما يطير بجناحيه.
وقوله: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] والكتابة إنما تكون بالأيدي لا بالأرجل.
وقوله أيضاً: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167] والإنسان إنما يتكلم بفمه.
وهذا كما تقول: أمشيت إليه برجلك؟ كل هذا من باب التأكيد، والله تعالى أعلم.
ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله ﷺ قال: الكبر بطر الحق، وغمط الناس[2].
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله يعني ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين[3].
الممثلون يقصد بهم أصحاب التصاوير.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون، ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه، والمأمور به، والله أعلم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الفتن - باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه (6657) (ج 6 / ص 2591).
  2. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: تحريم الكبر وبيانه (91) (ج 1 / ص 93).
  3. أخرجه أحمد (ج 1/ ص 407) والطبراني في الكبير (ج 10 / ص 211) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (281).

مرات الإستماع: 0

"فُومِها هي الثوم، وقيل: الحنطة."

الثوم باعتبار أنها أُبدلت الثاء فالفاء، ثوم، وفوم، كما تقول: جدف، وجدث للقبر.، وجذب، وجبذ فهذا على كل حال في اللغة معروف، وهو نوع من ما يسمى بالاشتقاق، جذب، وجبذ، ونحو ذلك، وبعضهم يقول: بأن الفوم هو الخبز.، وبعضهم يقول: هو الحبوب.

والقول بأن الفوم هنا هو الثوم هذا مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والربيع، والضحاك[1] واختاره من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[2] والطاهر بن عاشور[3] والشيخ محمد الصالح العثيمين[4] - رحم الله الجميع - أن الفوم هو الثوم.

يقول: وقيل: الحنطة. القول بأنه الحنطة نقل عليه الواحدي الإجماع [5] أن الفوم هو الحنطة، لكن هذا الإجماع لا يصح، ابن عطية نسبه إلى أكثر المفسرين[6] وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وأبي مالك، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح، قالوا: الفوم الحنطة[7].

لكن على الأقل حينما يقال: إن هذا إجماع أهل اللغة هذا يعني أنه قول السواد الأعظم منهم. قد يقول قائل: إن القرينة على أن الفوم هو الثوم أنهم ذكروا البصل.

فقد يقول قائل: وما حاجتهم بالثوم في التيه؟ يستبدلون المن، والسلوى بالثوم، والبصل، فهنا لما ذكر البصل دل على أن هممهم متدنية، وأن الفوم هو الثوم، هما شجرتان خبيثتان كما قال النبي ﷺ فزهدوا في المن، والسلوى، ورغبوا بالفوم، والبصل.

"أَدْنى من الدنيء الحقير، وقيل: أصله أدون، ثم قلب بتأخير عينه، وتقديم لامه."

أدنى يعني أكثر دناءة، أو الذي هو أدنى يعني أقل، بالذي هو خير، لكن مقابلة ذلك بالذي هو خير يدل على أنه المقصود الدنيء الحقير، الأقل شأنًا، ومرتبة.

"مِصْرًا قيل البلد المعروف، وصرف لسكون وسطه. وقيل: هو غير معين فهو نكرة لما روي أنهم نزلوا بالشام، والأول أرجح لقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 59] يعني: مصر."

هنا اهْبِطُوا مِصْرًا قيل البلد المعروف بلد مصر، لماذا نوّن؟ ما قال: اهبطوا مصر. يكون ممنوع من الصرف؟ قال: لأنه ساكن الوسط، مِصْر، مثل نوح، فالعلمية، والعجمة علتان يمتنع معهما الصرف، فإذا كان الوسط ساكنًا يعني اسم مصر ليس باسم عربي في أصله، فإذا كان ساكن الوسط فإنه يكون منصرفًا: كما يقوله بعض النحاة، قيل: البلد المعروف. فيرد سؤال هنا لماذا صُرف إذن؟ يعني ليس المقصود التنكير، مصر من الأمصار، قال: لسكون وسطه، وقيل: هو غير معين فهو نكرة. اهْبِطُوا مِصْرًا يعني بلدًا تجدون فيها هذا الفوم، والعدس، والبصل، ... إلخ، مما يُزرع في القرى عادة، غير معين، وهذا الذي قال به السدي، وقتادة، والربيع، وجماعة من السلف، وهو الأقرب -والله أعلم - اهْبِطُوا مِصْرًا يعني من الأمصار، وهنا رجح أنه مصر البلد المعروف؛ لقوله: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 59] يعني مصر.

لكن المعروف في التاريخ أنهم لم يرجعوا إليها، وقد مضى الكلام على هذا في التعليق على المصباح المنير، ما رجعوا إلى مصر ثانية بعد أن خرجوا منها، وهذا لا ينافي قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] والراجح أنها الشام، لكن هنا في قوله: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ يعني: مصر.

فقد تكون تابعة لهم، ولا يلزم أنهم رجعوا إليها، فتكون تابعة لهم يُجبى إليهم خراجها، و نحو ذلك، دون أن يرجعوا، ويستقروا فيها، هذا كأنه الأقرب - والله أعلم - ومعلوم في التاريخ أن من ملك الشام ملك مصر، فالشام هي البوابة إلى مصر، فلما دخلوا الشام كانت مصر أيضًا تابعة لهم بعد هلاك فرعون، فتكون هنا اهْبِطُوا مِصْرًا يعني: من الأمصار، بلدًا من البلدان، وليس البلد المعروف.

"ضُرِبَتْ أي قضى عليهم بها، وألزموها. وجعله الزمخشري استعارة من ضرب القبة؛ لأنها تعلو الإنسان، وتحيط به."

على كل حال الضرب هنا التعبير به يدل على أن ذلك أمر لازم لهم لا انفكاك، ولا خلاص منه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ صارت وصفًا لازمًا، فهذا يدل على شدة العلوق، واللزوم.

"وَالْمَسْكَنَةُ الفاقة، وقيل: الجزية."

تفسير بالفاقة وَالْمَسْكَنَةُ يعني الفاقة يعني الفقر، وبه قال أبو العالية، والسدي، والربيع، قد يقول قائل: اليهود يملكون الذهب، والاقتصاد العالمي كما يقال؟ فالعلماء أجابوا عن هذا بأن الفقر الذي فيهم هو بنوعيه: الفقر بمعنى قلة ذات اليد، والثاني: هو فقر القلوب، يعني مهما كانوا يملكون من الأموال إلا أن الفقر في قلوبهم، وإذا دخل الفقر في قلب الإنسان، فلو كانت الدنيا في يده لرأيته لاهثًا خلفها يبحث عنها، ولو كان ذلك في أحط الأشياء، وأدنى الأشياء فإنه لا يدع سبيلًا إلا طلبه، هذا فقر القلوب، ناس بأيديهم أموال، ومع ذلك يشعرون دائمًا أنهم بحاجة، وأنهم يعانون، ويكابدون، كما هو حال كثير من الناس الآن، مهما كان في أيديهم إلا أنه يشعر أنه مهضوم، وأنه مظلوم، وأنه قليل ذات اليد، وينظر إلى الآخرين، ينظر إلى من فوقه دائمًا فيشعر أنه قد هُضم، وأنه لم يحصل له ما يستحقه، وأنهم في معاناة دائمة، ولا يستطيع أن يتصرف في شؤونه، وحاجاته مع أنهم في عافية الله، وغناه، ولو نظر إلى من دونه عرف نعمة الله عليه.

وعلى كل حال المسكنة أصلها من السكون، فهذه المسكنة تكون مظهرًا من مظاهر حال تقع للإنسان، فقد تكون هذه المسكنة نتيجة للفقر، ولهذا سمي الفقير بالمسكين؛ لأنه قد سكن، تقول: تمسكن. صار إلى حال من السكون؛ وذلك نتيجة لهذا الفقر.

قال: وقيل الجزية. فهذه الجزية حينما تُضرب عليهم يكون ذلك أيضًا سببًا لذل، ومهانة، وسكون، فتفسيره بالفاقة كأنه من قبيل تفسير الشيء بسببه، وإلا فأصل المسكنة ترجع إلى معنى السكون، مسكين؛ لأنه قد سكن لفقره، وحاجته، فهذه المسكنة كما قال الشوكاني - رحمه الله -: بأن ذلك يلوح على وجوههم، ومظاهرهم، ولو كان عندهم من المال الشيء الكثير، لا يفارقهم هذا الوصف[8]. فالشوكاني يعرفهم؛ لأن اليهود كانوا، ولا زالوا يوجدون في اليمن، فإذا رأيتهم رأيت البؤس، والمسكنة في وجوههم، مجمع أوصاف الشر موجودة في اليهود.

"ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب، والباء للتعليل."

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب، والباء للتعليل ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أي: بسبب أنهم، الباء للتعليل، ما الذي أوجب ذلك؟ ما الذي أوقعه بهم من ضرب الذلة، والمسكنة؟ السبب بأنهم يكفرون بآيات الله، ويقتلون أنبياءه بغير حق.

أنا أقول دائمًا: أتفكر في نفسي، وأقول هل اليهود هؤلاء أو من شابههم ممن ينتسب إلى الإسلام من هذه الأمة، لو نظروا فقط إلى المرآة، نظروا إلى وجوههم لعرفوا ما هم عليه من الباطل، بالمسخ الذي عجله الله لهم، فيعرفون حالهم من وجوههم، وأنهم أهل باطل، ومنكر، وشر، ووجوههم مظلمة - نسأل الله العافية - ووجوه أهل ووجوه أهل البدع كل ذلك يظهر.

"بِآياتِ اللَّهِ الآيات المتلوات، أو العلامات."

يعني: الآيات المتلوات مثل الذي نزل عليهم في التوراة، أو العلامات الآيات التي أعطاها الله لموسى، المعجزات، ودلائل نبوته، فكانوا يكفرون بآيات الله، ما أعطاه الله لعيسى - عليه الصلاة، والسلام - من إبراء الأكمة، والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، فهذا كله من آيات الله، وكونه وُجد من غير أب، وتكلم في المهد، فكفروا بذلك جميعًا، فهذه علامات، والأول المتلوات يعني التوراة، والإنجيل، والقرآن، لكن ضرب الذلة، والمسكنة كان سابقًا لنزول القرآن، وسابقًا لنزول الإنجيل، وبعث عيسى - عليه الصلاة، والسلام. -

"بِغَيْرِ الْحَقِّ معلوم أنه لا يقتل نبي إلا بغير حق، وإنما نصح عليه تشنيعًا لقبح فعلهم؛ ولأنهم اجترأوا على قتلهم مع معرفتهم أنه بغير حق، وذلك أقبح."

لاحظ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 21] ما قال: بغير الحق. فغير الأنبياء قد يُقتل بحق، وقد يُقتل بغير حق، حينما يُقيد هذا فيما يتعلق بالأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وكما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117] لا يمكن لأحد أن يدعو مع الله إلهًا آخر له فيه برهان، فهذه التي يسمونها الصفة الكاشفة يعني أنها لا تُقيد الموصوف، وإنما توضحه، وتجليه، فمثل هذا الموضع هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ هذا فيه تشنيع عليهم أنهم يقتلون الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - قتل الأنبياء لا يكون بحق، فيكون ذلك من باب الشناعة، وتعظيم جرم هؤلاء اليهود، كما قال الله : وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38]، ومعلوم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79]، والكتاب يُكتب بالأيدي، فهذا للتشنيع عليهم، وتسجيل الجُرم يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [آل عمران: 167].

"فائدة: قال هنا: بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد؛ لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس، وقال في الموضع الآخر من آل عمران (بِغَيْرِ حَق) بالتنكير لاستغراق النفي؛ لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ."

هذه الجملة التي ذكرها ابن جزي - رحمه الله - في التفريق بين هذا الموضع في سورة البقرة: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ والموضع الذي في آل عمران، بيان مراد المؤلف في قوله: لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ. والتي في آل عمران، قال: بالتنكير لاستغراق النفي.

الأولى في البقرة بالتعريف باللام للعهد؛ لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس. والتي في آل عمران بالتنكير؛ لاستغراق النفي، فالأولى التي في البقرة لكونها نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ.

هذا الكلام لربما يكون بعبارة أوضح في المصادر الأخرى، يتضح لكم المراد، ففي "بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي يقول: قوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ هنا في البقرة، وفي آل عمران وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 31]، وفي النساء وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء: 155] يقول: لأن ما في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن يُقتل النفس فيه، وهو قوله: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151]، وكان الأولى بالذكر؛ لأنه من الله تعالى، وما في آل عمران، والنساء نكرة أي: بغير حق في معتقدهم، ودينهم[9].

يعني: الأولى بغير الحق الذي شرّع فيه قتل النفس، وفي سورة آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ يعني: في معتقدهم، يعني ليس عندهم أدنى شبهة، ولا مبرر، يقول: فكان بالتنكير أولى. يعني في معتقدهم بِغَيْرِ حَقٍّ مطلقًا، هذا معنى قول ابن جزي، بغير حق مطلقًا يعني لا بما قرره الله - تبارك، وتعالى -: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء: 33]، وما جاء عن النبي ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة[10] فهنا بغير الحق يكون (أل) للعهد، الحق المعهود، الذي أباح الله، هذا في آية البقرة، هذا الذي أراده، طبعًا مثل هذه الفروقات، والدقائق لا يُقطع بها، وهكذا ما يذكره البلاغيون من هذه المعاني في المتشابه اللفظي، أو في المُلح التي يذكرونها فهي على كل حال ما لم يكن فيها تكلف فلا بأس، وكذلك هذا تجدونه بنحوه في كتاب (البرهان في توجيه متشابه القرآن) المتشابه اللفظي، للكرماني، وفي كتاب أيضًا (درة التنزيل، وغرة التأويل)، لكنه ذكر غير هذا الوجه - أيضًا - في توجيهه، يقول: بأن الآية الأولى في سورة البقرة خبر عن قوم عُرفوا، وعُرفت أفعالهم، ومضت أزمنتهم، وأحوالهم، فلما شُهروا شهر فعلهم بوقوعه منهم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فلكونهم قد عُرفوا، وعرفت أفعالهم جاء ذلك بالتعريف. هذا ذكره الإسكافي لكن قد لا يكون من الظهور بمكان.

يقول:، وقيل: الحق هو ما قاله الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا [الأنعام: 151] إلخ، الذي مضى من كلام الفيروزآبادي، هذا الوجه الثاني الذي ذكره، يقول: فهذا معلوم مخبر عنه بلفظ المعرفة، والقتل وقع منهم من غير أن يكون على الأوجه الثلاثة المعروفة. بِغَيْرِ الْحَقِّ المعروف.

الموضع الثاني: يقول: الذي نُكّر فيه حق هو خبر عن قوم يرون ذلك، ويعتقدونه، ويدينونه به. ثم ذكر أنه قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] يقول: هؤلاء قوم لم يمضوا، ولم ينقرضوا فلذلك قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. لاحظ كلام ابن جزي، قال: قال هنا: بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد؛ لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس. هذا واضح، وتكون (أل) عهدية، وقال في الموضع الآخر من آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ بالتنكير؛ لاستغراق النفي. استغراق يعني لا بحق من الله، ولا في معتقدهم أيضًا، استغراق النفي؛ لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ.

لاحظ قال: لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ. على هذا فهذه التي نزلت في المعاصرين للنبي ﷺ هي آية آل عمران، لاحظ كلام الإسكافي يقول: في الموضع الثاني الذي نُكّر فيه حَقٍّ هو خبر عن قوم يرون ذلك، ويعتقدونه، ويدينون به. ثم ذكر الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] قال: هؤلاء قوم لم يمضوا، ولم ينقرضوا، فلذلك قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ بينما الذين في البقرة قوم قد ذكر أوصافهم، وحالهم، واشتهروا، فقال: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فهذا في كتاب أيضًا (مِلاك التأويل)، وهو شيخ لابن جزي، وهو ينقل عنه للغرناطي يقول: قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وآية آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ يقول في الجواب عن هذا:، والجواب عن الأول - والله أعلم - بعد العلم بأن المذكورين في الآيات الثلاث من بنى إسرائيل قد اجتمعوا في الكفر، والاعتداء أن هذه الآية الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر النبي ﷺ.

يقصد بالآية الأخيرة آية آل عمران، وذكر الآيات هنا قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ هذه التي في البقرة، والتي في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 21]، وفيها بعد لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران: 111] إلى قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112] بتنكير حق في هذين الموضعين، وتعريفه في البقرة، فهو يقول هنا: اجتمعوا في الكفر، والاعتداء أن هذه الآية الأخيرة لما كانت الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر محمد ﷺ وعاين تلك البراهين، واستوضح أنه الذى أخبر به موسى، وغيره - صلى الله عليهم أجمعين - وتكاثرت الأدلة في أمره ثم لم يجد ذلك عليهم إلا التمادي في الكفر، والعناد من بعد ما تبين لهم الحق كان الأنسب لمرتكبهم في كفرهم أن يعبر عنهم أنهم ارتكبوه بغير شبهة، ولا سبب يمكن التعلق به فقوله تعالى: بِغَيْرِ حَقٍّ كأنه مرادف لأن لو قيل: بغير سبب، ولا شبهة، وذلك أوغل في ذمهم، وسوء حالهم؛ لأنهم لا يمكنهم في مرتكبهم تعلق بشيء البتة، ولا أدنى شبهة، ولما كانت الأولى في سورة البقرة إنما هي في سلفهم ممن لم يشاهد أمر محمد - صلى اله عليه، وسلم - وقد وقع الافصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء، ونعم، وقد ورد فيها أن بعض تلك المرتكبات، أو أكثرها قد عفى عنهم فيها، ولا شك أن بعضهم قد سلم مما وقع فيه الأكثر من كفرهم، وقد أفصحت آي بذلك فيما ذكر عقبها من أن الكفر السابق ... إلى آخر ما ذكر.

فالشاهد يقول: بأن هذه التي في آل عمران هي في المعاصرين للنبي ﷺ شاهدوا ما لم يشاهد أولئك، فحصل منهم هذا القتل. يعني بأدنى شبهة، أو بأدنى سبب، ولو في معتقدهم، إلخ ما ذكر أطال في الكلام على هذا فيراجع.

وهنا أيضًا كلام للرازي يذكر الفرق بينهما يقول: بأن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في الحديث: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق[11]  فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا، وأما الحق المُنَكّر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون، ولا غيره البتة[12]. بِغَيْرِ حَقٍّ مطلقًا يعني.

نرجع إلى عبارة ابن جزي حتى نفهم مراده، يقول: قال هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد؛ لأن قد تقررت الموجبات للقتل. قال هنا يعني في البقرة، وقال في الموضع الآخر من آل عمران: بِغَيْرِ حَقٍّ بالتنكير لاستغراق النفي. يعني لا بحق مما يعرفه المسلمون، ولا بما يعتقدونه هم، يقول: لأن تلك - تلك يعني التي في آل عمران - نزلت في المعاصرين لمحمد ﷺ إلى آخر ما قال.

"ذلِكَ بِما عَصَوْا يحتمل أن يكون تأكيدا للأول، وتكون الإشارة بذلك إلى القتل، والكفر، والباء للتعليل. أي اجترأوا على الكفر، وقتل الأنبياء لما انهمكوا في العصيان، والعدوان."
  1.  تفسير ابن كثير (1/280)
  2. تفسير السعدي (ص: 53).
  3.  التحرير، والتنوير (1/520).
  4.  تفسير العثيمين: الفاتحة، والبقرة (1/211).
  5.  التفسير الوسيط للواحدي (1/146).
  6.  تفسير ابن عطية (1/153).
  7.  تفسير ابن كثير (1/280).
  8. انظر: فتح القدير للشوكاني (1/109).
  9.  بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/144).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف ... رقم: (6878)، ومسلم، كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات، باب ما يباح به دم المسلم، رقم: (1676).
  11.  أخرجه أبو داود،  كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب النبي ﷺ رقم: (4363).
  12.  تفسير الرازي (3/535).

 

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].

يخاطبهم ويذكرهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه- بنعمه، واذكروا حين أنزلنا عليكم المن والسلوى فبطرتم النعمة كما هي عادتكم، وأصابكم السآمة والملل من هذا الطعام الطيب الهنيء الذي يحصل لكم من غير كد ولا تعب، فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام متحد لا يتغير مع الأيام، فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول، والخُضر، والقثاء، وهو معروف، أكثر المفسرين على أنه الخيار الصغار، القثاء، وهكذا أيضًا العدس والبصل، كل ذلك معروف.

فقال موسى منكرًا على هؤلاء العتاة: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا، وتتركون هذا الطعام الهنيء الطيب الذي لا تعب فيه، ولا يحتاج إلى زرع وسقي؟ اهبطوا من هذه البادية، وكان ذلك في تيههم إلى أي مدينة، أو قرية، فإن المدينة والقرية كل ذلك يقال لشيء واحد في لغة القرآن.

اهْبِطُوا مِصْرًا فهنا جاءت مصروفة منونة؛ إذ ليس المقصود بها البلاد المعروفة بلاد مصر، وإنما اهْبِطُوا مِصْرًا من الأمصار، قرية من القرى، فهنالك تجدون هذه المطلوبات من البصل والعدس والقثاء والفوم، وما أشبه ذلك، فذلك يزدرع في القرى، تجدون فيها بغيتكم، وما سألتم، فهؤلاء طلبوا هذا الأدنى، واستعاضوا به عن الأعلى، فكان عاقبة ذلك أن ضربت عليهم الذلة فلزمتهم، وهذا يدل عليه التعبير بالضرب ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فصار ذلك وصفًا لا يفارقهم، الذل يلوح في وجوههم ويملأ نفوسهم البائسة، وقلوبهم الخالية الخاوية.

وهكذا أيضًا المسكنة؛ حيث صار هؤلاء في حال من فقر القلوب، وفقر النفوس، الأمر الذي يحملهم على الهلع والجشع؛ طلبًا للأموال، وتهافتًا عليها.

وكذلك ما مني به كثير من هؤلاء من الفقر، فصار ذلك أيضًا سمة لهم، ورجعوا مع ذلك أيضًا بغضب من الله -تبارك وتعالى؛ لإعراضهم عن دينه، ومحادتهم له ولرسله وأنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- ولكفرهم بنعمه، مع كفرهم بآياته، إضافة إلى قتلهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عدوانًا وظلمًا.

يؤخذ من هذه الآية ما ذكرناه سابقًا من جهة توجه هذا الخطاب إلى أولئك الذين عاصروا نزول القرآن وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ مع أن القائل لذلك هو أجدادهم، وقلنا: بأن النعمة الواصلة إلى الآباء لاحقة للأبناء، كما أن المذمة والعيب الذي يلحق الآباء؛ فإنه يلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، وكان هؤلاء على طريقة آبائهم، فصح أن يوجه إليهم مثل هذا الخطاب، خوطبوا بأفعال الأجداد.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ وهذا يدل أيضًا على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل، وتتعاون وتتعاضد على مصالحها، حتى كأن متقدمهم ومتأخرهم، كل هؤلاء كأنهم شيء واحد، فلذلك يخاطَب المتأخرون بما جرى على يد المتقدمين، فالحادث من بعضهم كأنه قد حدث من جميعهم، إذا كانوا على طريقتهم.

ويؤخذ من هذه الآية: عتو هؤلاء اليهود، عتو بني إسرائيل، وما كانوا عليه من الجفاء، ومن ذلك أنهم خاطبوا نبيهم موسى : يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [سورة الأعراف:134] يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55].

فهنا يقولون له: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ نادوه باسمه، وهذا أمر لا يليق، وكما ذكرنا في قوله -تبارك وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [سورة النور:63] فمثل هذا لا يليق.

ثم أيضًا انظر إلى جفاء هؤلاء: ادع لنا ربك، يعني: كأنه ليس برب لهم، ما قالوا: ادع ربنا، ادع إلهنا، أو ادع لنا الله، وإنما قالوا: ادع لنا ربك، فكأنه ليس برب لهم، فهذا من سوء أدبهم مع الله -تبارك وتعالى- وسوء أدبهم مع أنبيائه ورسله، كما قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24] اذهب أنت وربك، فهذا جفاء مركب، تخلفوا عن إجابته، وقالوا له: اذهب وأنت وربك، كأنه ليس برب لهم.

ولاحظوا هنا أنهم حينما قالوا لموسى : فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا هذا أمر متاح، يستطيعون دخول قرية من القرى، ويجدون فيها بغيتهم، فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يتوجه موسى إلى ربه -تبارك وتعالى- من أجل أن يجد هؤلاء العدس والبصل والفوم، وهذه المطالب المنسفلة بالنسبة لما عندهم من المنّ والسلوى، فيؤخذ منه أنه لا حاجة إلى الوساطة في أمر متاح متهيء لكل طالب له، كأنه يقول: لا حاجة أن أدعو الله أن يخرج لكم ذلك؛ لأنكم تجدونه بمجرد دخول هذه القرى والأمصار، فهو يزرع فيها، بخلاف قول الحواريين لعيسى حينما طلبوا منه أن يدعو ربه قالوا: أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [سورة المائدة:112] من السماء، فهذا لا يجدونه في ناحية أو قرية.

فحينما وعظهم عيسى وأصروا طلبهم قال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [سورة المائدة:114] أما موسى فإن الله لم يذكر أنه سأل ربه ذلك؛ لأن هذا الأمر متوفر موجود لكل طالب له.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن اختيار الأفضل من المآكل والمشارب لا عيب فيه، إذا لم يصل إلى حد المباهاة والإسراف والتبذير وتضييع الأموال، أو التكلف، فلما قالوا: فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا قال موسى : أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعني: الذي هو أفضل، وهو خير لكم، وهو المن والسلوى، كان الأولى بكم أن تبقوا عليه، وليس أن تستعيضوا عنه بالفوم والبصل، وما إلى ذلك.

ولكن هؤلاء يظهر من ذوقهم هذا، واختيارهم أن هؤلاء لم يكن لهم من العقول ما يسعفهم لاختيار الأفضل، ولا من القلوب ما تطمئن به نفوسهم إلى ما ينفعها ويصلحها في عاجل أمرها وآجله.

وفي خبر فتية أصحاب الكهف، قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [سورة الكهف:19] يعني: الفضة الدراهم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:19].

فقوله -تبارك وتعالى- في خبر أصحاب الكهف: فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا هذا فيه قولان مشهوران للمفسرين:

القول الأول: أن المقصود أَزْكَى طَعَامًا يعني: الأطيب، حتى قال بعضهم: إن هؤلاء كانوا من أولاد الكبراء، فطلبوا شيئًا يليق بحالهم أَزْكَى طَعَامًا.

وبعضهم يقول: بأن المراد بقوله: أَزْكَى طَعَامًا يعني: أبعد عن الشبهة والحرام، يعني: الطعام الذي لا شبهة فيه، فهو حلال من غير اشتباه، وهذا هو الأقرب؛ فإن هؤلاء الذين تركوا كل شيء فرارًا بدينهم، لا يظن بهم أنهم يبحثون عن لذائذ الطعام.

وإنما أوردت ذلك لفائدة أن هذا قول مشهور، معتبر، قال به جمع من السلف فمن بعدهم أن قوله: أَزْكَى طَعَامًا يعني: الأطيب، فهو يصلح شاهدًا بهذا الاعتبار لما هاهنا.

فالمقصود أن تناول الطيبات، وأكل الطيبات، أمر لا إشكال فيه، وقد تحرج بعض السلف من ذلك، أو من التوسع فيه، تأولوا قوله -تبارك وتعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [سورة الأحقاف:20] هذا خوطب به أهل النار، فإذا كان ذلك من غير إيمان، ولا شكران، وأعظم الشكر هو توحيد الله، والتوجه إليه وحده بالعبادة، فإذا كان يقابل هذا الإنعام والإفضال والتمتع بالطيبات أن يتوجه بالشكر إلى غير المنعم المتفضل، بأن يعبد غيره، فهذا لا شك أن صاحبه يحاسب، ويعذب على كفره، ويعذب على هذه النعم والطيبات التي تمتع بها، ولم يؤدِ شكرها.

وكان عمر بن الخطاب له مذهب معروف في هذا، وهو ترك التوسع في ملذات الدنيا، وكان يتأول مثل هذه الآية.

ولكن الذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم: أن تعاطي الطيبات، وتناول الطيبات، من المأكول، والمشروب والملبوس، والمركوب أن ذلك لا غضاضة فيه، وأنه لا تنقص به مرتبة العبد، وأجره عند الله .

واحتجوا لهذا بأدلة منها: أن النبي ﷺ قال: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب. .. [1].

وكان يحب ﷺ العسل والحلوى، والحلو، والبارد، وما أشبه ذلك، هذا كله من الطيبات.

ولبس ﷺ حلة جميلة -كما هو معلوم- فلم يمتنع النبي ﷺ من هذا.

والشاطبي -رحمه الله- في كتابه الموافقات تكلم على هذه المسألة، وذكر مذاهب السلف فيها، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك لا يكون نقصًا في مرتبة العبد.

وكان الحافظ ابن القيم -رحمه الله- له مذهب أيضًا في هذه المسألة، وهو: أن التوسع في الطيبات، والملذات، أو فعل بعض المحرمات من الشهوات أن ذلك يكون نقصًا في مرتبة صاحبه.

هو الذي ورد أن الذي يشرب الخمر في الدنيا، ويموت ولم يتب أنه لا يشرب من خمر الجنة إذا صار إلى الجنة، لكن هل يقاس على هذا الأشياء الأخرى المحرمة من الشهوات؟ هذا أمر لا يدخله القياس، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- لم يقصر ذلك على الخمر، وأخبر النبي ﷺ أن الذهب والحرير حرام على الرجال، وأنها لهم في الدنيا يعني الكفار، ولنا في الآخرة، فقال: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة [2].

فابن القيم -رحمه الله- يرى أن من يلبس الذهب والحرير في الدنيا أنه لا يلبس من الحرير والذهب في الجنة إذا دخل الجنة، طبعًا هو لا يقصد بذلك أن الإنسان يبقى في الجنة منغصًا غير منعم لا؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فكل واحد يرى نفسه أنه أكمل الناس نعيمًا، فهو لا يشعر بالحرمان والنقص.

فلا شك أن تناول الطيبات من مأكول، وملبوس، ومشروب، ونحو ذلك، أن هذا لا يكون نقصًا في مرتبة العبد ودرجته في الآخرة، ولكن ينبغي أن يلاحظ في هذا معنىً أشار إليه جمع من أهل العلم، ومن تتبع كلام السلف وجد ذلك أيضًا كثيرًا في عباراتهم وكلامهم، وهو أن كل أحد له ما يصلح لمثله، فالإمام العالم الذي يقتدى به ونحو ذلك لا يصلح له ما يصلح لآحاد الناس.

وهكذا أيضًا الإكثار والتوسع؛ ولهذا كان الشاطبي -رحمه الله- يرى أن التوسع والإكثار من الذهاب إلى المتنزهات، يكون سببًا يوجب سقوط عدالة من فعل ذلك، وترد به شهادته، مع أنه مباح، هذا أمر مباح، لكنه يكثر منه.

فمثل هذه القضايا، حتى ما يبلغ حد الإسراف قد يكون بالنسبة لهذا من قبيل الإسراف، وبالنسبة للآخر ليس من قبيل الإسراف، فالإنسان الذي يكون دخله مثلاً ثلاثة آلاف، ويذهب يشتري جهازًا نقالاً هاتفًا نقالاً بأربعة آلاف، فهذا إسراف، وتبذير، وتضييع، وسوء تدبير في المال، يترك أولاده وأهله لا يجدون شيئًا من حاجاتهم الضرورية من أجل أنه يشتري هذا الجهاز، فمثل هذا لا يليق، وهو من الإسراف، لكن آخر هذه الأربعة آلاف ليست بشيء بالنسبة إليه، فهذا لا يكون إسرافًا.

إنسان دخله سبعة آلاف، ويشتري سيارة بأربعمائة ألف هذا يكون في حقه من الإسراف والتضييع وسوء التدبير، لكن إنسان يملك الملايين فالأربعمائة ألف ليست بشيء بالنسبة إليه، فإذا أشترى مثل هذه السيارة لا يكون في حقه من قبيل الإسراف، فالمسألة نسبية.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا: أن الذي يستبدل الأدنى بالذي هو خير، أنه يستحق التوبيخ، فموسى وبخهم: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61].

وقد ذكرت نماذج من حياتنا المعاصرة، حيث نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير في اللباس، وفي الطعام، وفي المراكب، وفي المساكن، تجد هذا المساكن، البحث الآن عن الأشياء القديمة والطين، وسكنى أشياء تركها الناس منذ عشرات السنين، وتجد هذا في اللباس، انظر إلى بعض ألبسة النساء تلبس لباسًا لربما كانت تلبسه تلك التي تكون ضعيفة محتاجة قبل ثلاثة وسبعين سنة في هجرة من الهجر، والألوان متغيرة، وكأنه قد وقع عليها شيء قد انمحى بعض الألوان، بل لربما كان ذلك على هيئة المشقق، كأنه يظهر فيه آثار تشقيق قد بلي من طول العهد والمكث، تشتريه بأموال طائلة، لربما تتزين به، وتتجمل، وهو في غاية القبح لدى أصحاب الفطر السوية، والأذواق المعتدلة، ألوان غير متناسقة كان الناس يلبسونها لحاجتهم، ومسغبتهم، وشدة ما هم فيه من الفقر.

وتجد البحث عن المأكولات القدمية جدًا، التي كان الناس يأكلونها أيام الفقر من أجل أن تقيمهم، ومن أجل أن يتحمل الواحد منهم في العمل الشاق في أرضه، ومزرعته، أو مع دوابه، أو نحو ذلك سائر النهار، وأصبح اليوم من التفكه بعد أن فاضت علينا نعم الله -تبارك وتعالى- فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكرها.

ويؤخذ من هذه الآية أن علو همة المرء أن ينظر دائمًا إلى الأكمل والأفضل في كل الأمور، فلا يهبط، ولا ينزل، وهذا يؤخذ من ظاهر قوله: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] إذا كان هذا في مطعوم، فكيف يقال إذن في معالي الأمور؟ كما قيل:

قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

إنسان الله أعطاه إمكانات وقدرات، وعنده خيارات في التعليم، التعلم، والعمل، والمهن، والمزاولات، ثم يختار تخصصًا دون، أو مهنة دون، أو نحو ذلك لعناد، أو نزوة في نفسه، أو سوء تدبير، ولا يقبل نصح الناصحين، ووعظ الواعظين من أهله وقرابته، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يستفيق بعد فوات الأوان، ويجد نفسه في موضع لا يحسد عليه أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61].

وهكذا تجد الرجل لربما يدرس العلوم الشرعية، ويتخرج فيها، ثم بعد ذلك يتحول إلى شيء آخر، بدراسة علوم ضارة، تضره في دينه، أو تضره في دنياه أو نحو هذا، فيقال له: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61] بعد العلوم الشرعية أصبحت إلى هذه الحال، فلربما سافر، ودرس علومًا لا تنفعه، ولا ترفعه، ولا أعني العلوم المادية النافعة، وإنما علوم قد تكون محرمة يدرسها، ويشتغل بها.

وكذلك أيضًا قد تجد من يترك صحبة الأخيار الأبرار، ثم بعد ذلك النتيجة يصحب الأشرار، وكما ذكر أهل العلم وتجدون هذا في كتاب (القواعد الحسان) للشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- تكلم بكلام جيد على قاعدة يحسن مراجعتها سماها قاعدة هكذا، ويمكن أن يقال: إنها من القواعد القرآنية؛ لأن ما ذكر في هذا الكتاب (القواعد الحسان) منه ما يصلح على أنه قواعد تفسير، وهذه قد تبلغ لربما العشرين، أو واحدًا وعشرين قاعدة، وهناك أشياء تصلح أن تكون قواعد قرآنية، وهناك أشياء هي عبارة عن فوائد، فالمقصود أنه مما ذكر في هذا الكتاب النافع: أن كل من ترك ما هو بصدده، ما أُمر به، ونحو ذلك؛ فإنه يبتلى بالاشتغال بما يضره أو بضده.

انظروا إلى بني إسرائيل لما أعرضوا عن كتابهم نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:101].

ماذا كانت النتيجة؟ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102].

تركوا الوحي واشتغلوا بالسحر، السحر أحط الأشياء، والساحر كلما أوغل في السوء والنجاسة الحسية والمعنوية فإنه يكون أحذق في السحر، لا يتنزه من النجاسات، يكتب أعز الله كلامه، ومسامعكم يكتب القرآن بدم الحيض، وأشياء لا تصلح أن تقال، كلما أوغل في النجاسة الحسية والمعنوية كان أقدر على السحر، الساحر لا يتنزه من شيء، تركوا الوحي الذي هو أعلى الأشياء، والنتيجة اتباع السحر.

فلذلك ينبغي على العبد أن يقبل على معالي الأمور، أن يقبل على ما دعاه الله إليه، أن يستجيب لداعي الله، وأن يتبع الرسل، أن يكون قدوته هؤلاء الكُمَّل من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وإلا فإنه يضر نفسه، ويؤذي نفسه، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، الشباب الذين لم يقتدوا بالنبي ﷺ بأعمالهم وسلوكهم ومظاهرهم، انظروا كيف تتحول حال الإنسان كلما ابتعد عن هذا النهج والاقتداء، كيف تكون حاله؟ أحيانًا يتحول إلى حالة أشبه ما تكون بحال البهيمة، أو الحيوان، أو الشيطان، يمسخ تمامًا، مثل هذا أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61].

هارون قال لموسى : لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [سورة طه:94].

وهارون من الأنبياء الذين أمر النبي ﷺ بالاقتداء بهم في سورة الأنعام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأنعام:84] إلى أن قال الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [سورة الأنعام:90] الهدى الظاهر وكذلك الهدي الباطن، فمن هذا الهدي الظاهر: إعفاء اللحية لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [سورة طه:94] لو لم يكن له لحية، أو كان يقصها بحيث لا يمكن القبض عليها، كيف يأخذ بها موسى ؟

وعجبًا لأقوام يتركون هدي النبي ﷺ ثم بعد ذلك يقتدون بغيره! أو يحتجون بأقوال من هم دونه، فيقولون: ثبت عن فلان، وثبت عن فلان أنه كان يأخذ، والله جعل الأسوة والقدوة برسول الله ﷺ.

ويؤخذ من الآية أيضًا: أن من اختار الأدنى على الأعلى يكون فيه شبه من هؤلاء الذين وجه إليهم هذا الخطاب أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.

إذا ترك الإنسان قراءة القرآن والإقبال عليه ونحو ذلك، فالبديل الاشتغال بالسماع، إما سماع القصائد الملحنة، أو سماع المعازف والطرب والغناء أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة:61]. 

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61].

فقوله -تبارك وتعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ قلنا: بأن المقصود بذلك أي: ادخلوا بلدًا من البلدان، أو قرية من القرى، تجدون فيها بغيتكم وطلبتكم، من هذا الفوم والعدس والبصل والقثاء، وليس المراد البلاد المعروفة، وإن كانت البلاد المعروفة -بلاد مصر- ذُكرت في كتاب الله -تبارك وتعالى؛ وذلك في قول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [سورة الزخرف:51] وكذلك في قوله -تبارك وتعالى- عن قوله يوسف لأبيه وإخوته: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [سورة يوسف:99].

فهنا قال: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مطالب الدنيا قد تعطى لمن يحبه الله، ومن لا يحبه، وقد تعطى لمن يكون ربه -تبارك وتعالى- غاضبًا عليه، ولعنته تلاحقه، حيثما حل، فذلك ليس هو المعيار في رضا الله -تبارك وتعالى- ومحبته للعبد، فالله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ۝ كُلاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ۝ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:18- 21] إلى غير ذلك من الآيات التي يذكر فيها تفاضل الناس، ويذكر فيها العطاء، ويذكر فيها الطالبين، فهذا كله يصير لهؤلاء وهؤلاء، ويحصل التفاضل بين الناس.

فقد يكون العطاء أيضًا لأعداء الله أكثر مما يُعطى من هذا الحطام لبعض أوليائه، والله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15، 16] فهذه كلها تدل على هذا المعنى، فالعطاء الدنيوي لا يعني رضا الله -تبارك وتعالى- فهنا يقول لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتم لكن وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ كل هذا مع غضبه -تبارك وتعالى- ثم جاء هذا التعبير بالضرب وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فهو وصف لا يفارقهم، ولا ينفك عنهم بحال من الأحوال، وهذا كما ذكرنا من قبل يكون فيما يُوجد في قلوبهم من الفقر، وكذلك ما يلوح ويظهر عليهم من أثر الذل والمسكنة، سواء كان الواحد منهم فقيرًا، أو كان غنيًا.

ويُؤخذ من ذلك أيضًا أن هؤلاء لما كانوا بهذه المثابة من الذل الذي ضرب عليهم، بحيث صار ذلك وصفًا لهم يلازمهم ملازمة تامة، فليسوا مؤهلين لقتال أهل الإيمان إذا قاتلوهم بإيمانهم وعقيدتهم وتوكلهم على الله -تبارك وتعالى- فهم أذلاء، ضربت عليهم المسكنة، وليسوا بأهل للحرب، ولا بأهل للنصر، وإنما هم أهل للخزي والهزيمة؛ ولذلك لما ذكر الله المنافقين واليهود قال: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14].

وهذا كما ذكرنا في بعض المناسبات إن السياق في المنافقين، والقول الآخر أن ذلك في المنافقين مع اليهود، حيث تحالفوا، ووعدهم عبد الله بن أبي بالنصر، وأن يدعو حلفاءه وهم أربعة آلاف ليقفوا معهم في ذلك الحصار الذي حاصرهم به النبي ﷺ أعني بني النضير، فهذا على هذا القول يصدق على اليهود والمنافقين لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ لأنهم ضعفاء جبناء، فالمنافقون ما أوقعهم في النفاق إلا الضعف، ومبنى حال المنافقين على الكذب في أحوالهم وأوصافهم كلها إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف [3].

ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال: بخلف المواعيد[4] فهذا كذب في الميعاد وإذا اؤتمن خان [5] وهذا لون من الكذب في الأمانة، فحال المنافق تلتئم على وصف واحد، وهو الكذب، فإن مخالفة الظاهر للباطن، هي أصل الكذب وأساسه، فمثل هذا الذي يكون بهذه الحال، والكذب -كما هو معلوم- لا يكون إلا من جبان ضعيف، يضعف عن الثبات، وقول الحق، والصدق، ولزوم ذلك، فيلجأ إلى التلون والكذب، وإخفاء ما في نفسه، أو إخفاء الحقيقة؛ ولذلك البيئات التي يكثر فيها المهانة والضعف، والتربية على المهانة والذل يكثر فيها التلون، هذا في البيئات والمجتمعات، وتجد ذلك أيضًا في الأفراد، فالذي يربي أولاده تربية على العسف والقهر والشدة والغلظة، وابتغاء الريبة بهم دائمًا، فالغالب أن هؤلاء الأولاد يصيرون في حال من التلون والكذب، ومخالفة الظاهر للباطن، وألوان النفاق لضعفهم وجبنهم.

وكذلك يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [سورة البقرة:61] أي: رجعوا بغضب من الله، والمباءة هي المكان الذي يرجع إليه الإنسان إذا تقلب في حاجاته، وكذلك الموضع الذي يتخذه الإنسان للإقامة، ونحو ذلك فليتبوأ مقعده من النار [6] وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [سورة الحشر:9] يعني: سكنوا واستوطنوا المدينة النبوية، واستقر الإيمان في قلوبهم، واعتقدوا الإيمان.

وفي هذا أيضًا إثبات صفة الغضب لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته.

وتأمَّل كذلك قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] هذه يسمونها صفة كاشفة، تأتي في كل مقام بحسبه، فهنا في مثل هذا المقام لبيان شناعة هذا الفعل، بمعنى: أن هذه الصفة غير مقيدة، يعني: لو أنه قيل: بأن فلان قد قتل فلانًا، قد يتساءل الناس هل قتله بحق أو بغير حق؟ لكن حينما يقتل نبي، فهذا لا يمكن أن يكون بحق، إذًا حينما يقال عن أحد من الناس بأنه قتل بحق، فهذه صفة مقيدة، أو بغير حق فهذه صفة مقيدة؛ لأنه قد يقتل بحق، وقد يقتل بغير حق، لكن الأنبياء لا يمكن أن يكون قتلهم بحق، فصارت هذه الصفة صفة كاشفة، تبين عن حقيقة ثابتة، ولا تقيد الموصوف.

كما يقول الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] هل يمكن أن يدعو أحد مع الله إلهًا آخر له فيه برهان؟ لا يمكن، فهذه يقال لها: صفة كاشفة، تكشف الحقيقة، ويشبه هذا قوله -تبارك وتعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] فهذه صفة كاشفة؛ لتثبيت الجرم يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة آل عمران:167] والإنسان لا يقول إلا بفيه، لكن هذا ورد لإثبات هذا الجرم عليهم.

وأحيانًا يكون لبيان ملحظ آخر وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [سورة النور:15] فهنا يمكن أن يكون لتسجيل هذا الجرم عليهم، ويمكن أن يكون أيضًا لملحظ آخر، وهو أن هذا القول لا يجاوز الأفواه، فهذا الإفك الذي قالوه عن أم المؤمنين -رضي الله عنها- ليس له حقيقة أو نصيب من الحقيقة في الخارج، وإنما هو شيء لا يجاوز الأفواه، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] والطائر يطير بجناحيه ولا يطير برجليه، فمثل هذا يكون من قبيل الصفة الكاشفة لتحقيق الموصوف، أو لتحقيق الأمر، أو لتحقيق الخبر، أو المخبر عنه، أو نحو ذلك.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] فالله -تبارك وتعالى- أخبر عنهم بأنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله؛ لماذا ذلك؟ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة البقرة:61] هذا السبب الأول، والثاني: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] ثم قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فهذا يسمونه اللف والنشر، اللف: بأن يدمج قضيتين، أو أكثر، ويطوي الكلام طيًا، ثم بعد ذلك يذكر أحكامًا تليق بكل واحد من المذكورات، فإن كانت الأحكام المذكورة، أو القضايا المذكورة المتعلقة به مرتبة بحسب ترتيب الأول، فهذا هو اللف والنشر المرتب، وإن كان ذلك ليس بترتيب الأول، فهذا الذي يسمونه باللف والنشر المشوش.

فهنا قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ وقبلها قال: يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة البقرة:61] فهذا الأول وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] فيكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ثم قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فالعصيان يناسب المذكور أولاً وهو الكفر، وكانوا يعتدون يناسب قتل النبيين بغير الحق، فهذا لف ونشر، أجمل قضيتين، ثم ذكر أحكامًا تتصل بهما، وجاءت هذه الأحكام مرتبة بحسب ترتيب الأول، أليس كذلك؟ فهذا يسمى لف ونشر مرتب فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيد [سورة هود: 105] ذكر الشقي أولاً، ثم السعيد، ثم قال: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود: 106 - 108] فهذا لف ونشر مرتب.

وهنا لما قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ لم يعطف الاعتداء على العصيان، يعني لم يقل: ذلك بما عصوا واعتدوا، وإنما قال: وكانوا يعتدون، فهذا فيه مراعاة للفواصل وأواخر الآيات، وأيضًا فيه أمر آخر، وهو ليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائمًا، فعُبّر عنه بالمضارع، وجيء بالكون الماضي معه، كانوا يعتدون، فالعدوان يتجدد ومستمر، ولا يتوقف، في ذلك الوقت وبعده، يعني حتى بعد ما ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، هم مستمرون على ما كانوا عليه، فمن طبعهم العدوان والعصيان.

كذلك هنا في قوله -تبارك وتعالى- وهي قضية تتعلق بالتعبير وملاحظات العبارات في العقيدة فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا [سورة البقرة:61] أضاف الإنبات إلى الأرض، ومن الذي ينبت على الحقيقة؟ الله، فأضاف ذلك إلى موضعه، وهذا لا إشكال فيه، وبعض الناس يتحرج من هذا، تقول مثلاً: أنبت المطر الزرع، فلا إشكال، لأنك أضفته إلى المطر، باعتبار الإضافة إلى السبب، والله -تبارك وتعالى- هو الذي أنبت النبات على الحقيقة، فيصح أن يضاف الشيء إلى سببه، أو إلى موضعه، وهذا دل عليه القرآن، لكن أن يضاف إلى شيء لا صلة له به مطرنا بنوء كذا فهذا من الألفاظ الشركية، كما في الحديث: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب [7].

كذلك ما قد يقال أحيانًا: بأن مطرنا مثلاً برياح شرقية، أو شمالية، أو برياح غربية جنوبية، فمثل هذا لا يضاف إلى الرياح، ثم أيضًا مثل هذه الأمور التي رتب الله عليها ضرب الذل والمسكنة، ونزول الغضب على هؤلاء، كذلك أيضًا من شابههم بمثل هذه الأفعال، فإنه يناله من هذه العقوبات والأوصاف بقدر ما فيه من مشابهتهم، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في جملة من كتبه، من ذلك اقتضاء الصراط المستقيم في أوله، ثم بعد ذلك في ثناياه ذكر صورًا كثيرة، في البداية ذكر نحو ثمانية عشر لونًا مما شابهت به هذه الأمة أهل الكتاب: الحسد والبغضاء والتفرق، وهو حري بالمراجعة، كلام جيد ومفيد.

فلاحظوا آثار هذه العقوبات: ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فالذي يعصي الله -تبارك وتعالى- لا يكون عزيزًا، فالذل لا شك أنه واقع به بقدر معصيته، فطاعة الله -تبارك وتعالى- هي العز، والرفعة الحقيقية، وأما المعصية فهي تدسي وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [سورة الشمس:10] يعني أفسدها وأتبعها هواها، فيكون ذلك خفضًا للنفس، فقد تجد الرجل عنده المال الكثير، أو عنده ربما الرتبة الاجتماعية، أو عنده منصب ووظيفة مرموقة، ولكنه غير مطيع لله فترى الذل يلوح على وجهه، فالله -تبارك وتعالى- لا يجعل العز لأهل معصيته مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ [سورة فاطر:10] من قال: فإنها لقريش، أو للأوس أو للخزرج مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8] فهذه العزة لأهل الإيمان.

لاحظ الوصف هنا وللمؤمنين، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر ما عنده من الإيمان يكون عنده من العز، وكما قال الله -تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون:8] فأيضًا لاحظ هؤلاء اليهود في عتوهم وتمردهم، وقلة صبرهم، حيث طلبوا هذه الأطعمة التي هي أدنى بدلاً من تلك المطعومات، التي هي أعلى بدلاً من المن والسلوى، يريدون البصل والفوم، وما أشبه ذلك، فهؤلاء أمعنوا في التمرد على الله واحتقار أوامره وشرائعه، فكان الجزاء من جنس العمل، فصاروا بهذه المثابة، ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وهذا كثير في القرآن، وفي سنة رسوله ﷺ والجزاء من جنس العمل، وإبراهيم لما اعتزل قومه، وترك الأهل والوطن والعشيرة لله، وفي الله، عوضه الله من الذرية الصالحة، ما تقر بهم عينه، وكذلك أيضًا في قول النبي ﷺ في أهل الكبر: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان [8] ترفعوا وتعالوا وتعاظموا، فصاروا بهذه المثابة.

وأيضًا: إن هؤلاء اليهود مع ما هم فيه، ولو كان بأيديهم المال الكثير، إلا أنهم أذلاء، ضربت عليهم المسكنة، فهم صاروا في فقر مستمر، يطلبون الكثرة والزيادة بصورة دائمة، فلا يشبع نهمتهم شيء، إنما هم دائمًا في حاجة وطلب لا يتوقف للمال والدنيا وحطامها، فهم أحرص ما يكونون عليها، وهذا الذي يقع في أيديهم سئموه، وصاروا كالعدم، ويبحثون دائمًا عما وراءه، فصار هذا الحرص سجية لهم، وعادة، وبقي ذلك في أعقابهم، كما يقول الطاهر بن عاشور -رحمه الله[9].

وتأمل كذلك قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [سورة البقرة:61] هذه المعاصي أين وصلت بهؤلاء الناس؟ وصلت بهم إلى محادة ربهم -تبارك وتعالى- وقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فالمعصية تجر أختها، ففي البداية غفلة ينشأ عنها صغيرة، ثم تأتي بعد ذلك الكبيرة، ثم بعد ذلك تأتي الأهواء والضلالات والبدع والكفر، يجر بعضها بعضًا.

فهؤلاء كيف كانت البدايات عندهم؟ ثم كيف كانت النهايات؟ الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وهم أولاد يعقوب والأنبياء يسوسونهم، فإدمان المعاصي -أيها الأحبة- يفضي إلى تشرب ذلك في النفوس، حتى يصير ذلك إلى حال يكفر صاحبها بربه -تبارك وتعالى- ويقتل رسله، ويجترئ على أمور عظيمة؛ ولذلك الإنسان لا يتساهل، فقد يتساهل بنظرة، أو بكلمة، ويتساهل بمعصية، ثم بعد ذلك لا يملك قلبه؛ لأن القلب يألف ذلك، فتذهب عنه تلك الشفافية والوحشة التي تحصل للقلوب الحية، ثم بعد ذلك يقع في الكبائر وهو يضحك، ويترك الصلاة وهو يضحك، ولربما كان من أهل الاستقامة، وممن يحفظ كتاب الله وكما قيل:

  ما لجرح بميت إيلام[10]

وقبل ذلك كان لو تأخر عن الصلاة فزع وتأثر، حتى مات القلب، وما صار ذلك يؤثر فيه، وترك الصلاة بالكلية.

ثم أيضًا في قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر [سورة البقرة:61] هذا فساد الذوق ينبئ عن فساد في العقل والفطرة، يعني إذا تحولت الفطرة فسدت العقول، وضعفت البصائر، فصار الإنسان يختار ما يضره، ويختار الأمور القبيحة، ويترك ما يكون فيه صلاحه ونفعه، سواء كان ذلك في المطعوم، أو الملبوس، أو كان ذلك في النكاح، واختيار الزوجة، أو كان ذلك في أموره وشؤونه الأخرى من الرفقاء، وغير ذلك، فتنتكس الفطر، حتى يصير ذلك إلى حال يعجب العقلاء منها، كيف يختار الإنسان لنفسه مثل هذا؟ والله المستعان.

  1.  أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3939). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض، رقم: (5426). 
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59). 
  4.  الفروع وتصحيح الفروع (11/ 92). 
  5.  سبق تخريجه. 
  6.  أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي ﷺ برقم: (108) ومسلم في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله ﷺ برقم: (2). 
  7.  أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم برقم: (846) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء برقم: (71). 
  8.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2492) وحسنه الألباني. 
  9.  التحرير والتنوير (1/ 618).
  10.  البيت للمتنبي وبدايته:
    من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرحٍ بميتٍ إيلام.
    انظر: اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي (ص: 1216).