لما بيَّن تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم، وما أحل بهم من النكال؛ نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة، وأطاع؛ فإن له جزاءً الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يتركونه، ويخلفونه؛ كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت:30].
وهذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] هي قطعاً في الأمم التي كانت قبل مبعث النبي ﷺ، نعم فإن الله قد أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ فمن تبع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقبل دعوتهم، واستجاب له؛ فإن الله وعده بالرحمة، والجنة، وأما بعد مبعث النبي ﷺ فإنه لا يقبل من أحد سوى الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85] والنبي ﷺ قال: والذي نفسي محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني؛ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار[1].
وكذلك أيضاً النصوص الكثيرة الواردة في مثل هذا المعنى، وبالتالي فإنه لا يجوز لأحد أن يفتري على الله ، ويقول بأن هؤلاء اليهود، أو النصارى، أو أمم الكفر من البوذيين وغيرهم أنهم على شيء، وأنهم تحصل لهم النجاة، أو أنهم أهل إيمان، أو أنه يتوقف في أمرهم أو نحو ذلك فهذا محادة لله ، وتكذيب للنبي ﷺ، وللقرآن، وهو كفر مخرج من الملة؛ إذ لا يجوز لأحد أن يتوقف في أمر هؤلاء، فالنصوص واضحة، ومتضافرة على أنهم كفار، وأنهم مخلدون في النار، النصوص في ذلك كثيرة جداً، وهذه الآية تحمل على من حصل لهم الإيمان في الوقت الذي جاءهم فيه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يعني إبان بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لهم، ففي زمن موسى ﷺ مثلاً من آمن به دخل الجنة، ومن كذبه وكفر به دخل النار، وكذلك لما جاء عيسى - عليه الصلاة والسلام - لبني إسرائيل، فالذين آمنوا به، واتبعوه؛ هم أهل النجاة، والذين كذبوا به لا ينفعهم البقاء على ما كانوا عليه قبل بعث عيسى ﷺ، ولما بعث النبي ﷺ فإنه لا يقبل من أحد سوى دين الإسلام، والقرآن واضح وصريح في هذا.
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:62] الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران:85] فإن هذا الذي قاله ابن عباس - ا - إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة، ولا عملاً؛ إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد ﷺ بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى، وسبيل نجاة، فاليهود أتباع موسى الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة.هذه الآية نظير الآية التي في سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى [سورة المائدة:69]، وقد جاء في سورة الحج ذكر المجوس، ولكنه في ذلك المقام ذكر الفصل بينهم والحكم، وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحج:17]، فالحاصل أن تلك الآية ليست في هذا الموضوع الذي تحدثت عنه آية البقرة، وآية المائدة، بل تلك في الفصل بين الأمم، أي بين الطوائف، وهذا في وعد المستجيبين لله بالجنة، والرحمة.
يقول: واليهود من الهوادة وهي المودة، بمعنى أنه يود بعضهم بعضاً، فهذه المودة موجودة بينهم، والله قد فرض ذلك عليهم كما هي الموالاة بين أهل الإيمان، وقد حرم الله على اليهودي أن يقتل اليهودي، أو أن يأسره، كما دل على ذلك قوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] أي أنه يحرم على اليهودي أن يخرج اليهودي من بلده، أو أن يقتله، أو يعين على قتله، فالله فرض عليهم هذا، وألزمهم بهذه المودة.
فبعضهم يقول: الهوادة هي من المودة، وبعضهم يقول: هي من النسب، نسبة إلى جد لهم وهو ابن يعقوب - عليه الصلاة والسلام -، فأحد أولاد يعقوب اسمه يهوذا، والعرب أبدلت الذال دالاً كما يجري ذلك في لغاتها من إبدال الحرف مكان الحرف لا سيما الأعجمي، فإن القاعدة في ذلك كما قيل: أعجمي فالعب به، فالعرب لا تبالي حينما تنقل، وتغير، وتبدل الأسماء الأعجمية، أو الأوصاف أو غير ذلك مما هو في كلام الأعاجم بما يتناسب مع ألسنتها وفطرتها اللغوية دون أن تلوي اللسان بمثل هذه الكلمات كما يلوي الأعجمي لسانه، وكما يفعل بعض الناس اليوم، ويظن أن ذلك لوناً من المهارة والحذق، وما علم أن ذلك من ألوان القططية - إن صح التعبير -.
المقصود أن قوله: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] يمكن أن يحمل على معنى ثالث مشهور ولربما كان هو المتبادر، ولربما كان هو أشهر هذه الأقوال أنه من هاد يهود أي رجع، هُدْنَا إِلَيْكَ بمعنى تبنا إليك، ورجعنا إليك، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ أي رجعوا إلى الله ، وتابوا إليه، أي: قيل لهم يهود بهذا الاعتبار، وهذا مثل قولك: يا صاحب الذنب هد هد، يعني ارجع ارجع، والله أعلم.
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى : إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] أي تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم، ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب.قوله: وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب: مع أن من ناحية النسب ليس كل اليهود ينتسبون إلى يهوذا، وإنما أحد الأسباط هو الذين ينتسبون إليه فقط.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة.هذا معنى رابع وهو بمعنى يتحركون، ويهتزون عند قراءة التوراة، وهذا التحرك والاهتزاز يفعله بعض الناس عند قراءة القرآن، لذلك يقول بعضهم: هذه عادة يهودية لا يجوز للمسلم أن يفعلها؛ لأنها من قبيل التشبه باليهود عند قراءة التوراة، وجاء في هذا بعض الإسرائيليات، وبعض الأخبار، وبعض الآثار أيضاً؛ فالله تعالى أعلم.
فلما بعث عيسى ﷺ وجب على بني إسرائيل اتباعه، والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى : مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ [سورة آل عمران:52] وقيل: إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، قاله: قتادة وابن جريج وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم.إما أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، أو أن هذه البلدة التي يقال لها: الناصرة في الشام هي قرية المسيح - عليه الصلاة والسلام - فنسبوا إليها، وكل ذلك لا يوجد ما يدل عليه لا في تسمية اليهود، ولا في تسمية النصارى، لكن لربما كان المتبادر أن النصارى قيل لهم ذلك؛ لأن الحواريون منهم قالوا: نحن أنصار الله، والله تعالى أعلم.
والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان.أي يقال: نصارى، ويقال: نصراني، فالياء تكون للنسبة، وقد تأتي للمبالغة، وإلا فهو نصران، والنصارى جمع نصران، ومثله: نشوان وسكران، فتقول: نصارى، ونشاوى، وسكارى، وما أشبه ذلك.
وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانة، فلما بعث الله محمداً ﷺ خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق؛ وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً.كل ما سبق ذكره يريد أن يصل به إلى هذه النتيجة وهي أن هؤلاء الذين وعدهم الله بنفي الحزن والخوف عنهم أن هذا إنما كان لمن استجاب للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - حينما دعوهم إلى دين الله، فلما جاء النبي ﷺ لا يقبل من أحد سوى الإسلام، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: والذي نفسي بيده لو أن موسى ﷺ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني[2] فلا يقبل من أحد ديناً سوى الإسلام.
وهذه القضية نحتاج إلى تقريرها وتوضيحها للناس الآن مع أنها من البدهيات، فنحن في زمان تعقد فيه المؤتمرات للتقريب بين الأديان، مما يدل على أن القضية أخطر مما يتصوره الكثيرون.
وهناك جهود أيضاً تبذل في هذا السبيل قد أعد لها من المنشئات، والخطط؛ ما الله به عليم، وإذا نظرت إلى التوصيات أو الخطط التي كتبت في هذا تجد أشياء عجيبة جداً، حيث تجد مَن أول من دعا إليها، ومتى دعي إليها، من الذي قام بهذه الدعوة، وماذا يريدون من ورائها، وأمور كثيرة ينبغي أن يعرف الناس بها في مثل هذه الأيام؛ لأن الدعوة تزداد، مع ما يحصل وما ترون تحت مسمى التقريب بين الأديان لتذويب المسلمين، وصدهم عن دينهم تحت هذه الخدعة الكبيرة، ومن أكبر الدعاة لهذا الآن في هذا العصر "رجاء جارودي" الفيلسوف الفرنسي المعروف الذي قالوا عنه: إنه دخل في الإسلام، والواقع أنه لم يدخل في الإسلام وإنما دخل في لون من الزندقة، فهو زنديق على طريقة الفلاسفة، وعنده من قضايا عقائد أهل وحدة الوجود، وأمور مخزية كثيرة، نعم فمثل هذا لا يفرح به، ولا يفتخر به، ولا يذكر في مقام، فهو له منظمة تتبنى هذه القضية، وعقد عدداً من المؤتمرات، وشارك في كثير منها، وهو من أكبر الدعاة لهذا في هذا العصر.
إننا بحاجة إلى أن نطالبهم بما كتبه بابا الفاتيكان في فترة مضت - ليست بعيدة - حينما أقروا أن ما يقال عن المسيح إنما يعرف بما يقوله المسلمون، حيث أصدروا بياناً في هذا تبنى أن قضية المسيح إنما يسأل عنها المسلمون، وذلك بعد أن وجدوا بعض الأشياء في البحر الميت، حيث وجد بعض الرعاة قطعاً من التوراة، أو الكتب القديمة، فلما قرئت وجد فيها التصريح ببعث النبي ﷺ، وذكر فيها ما يحصل من تبديل اليهود، وأن المسيح - عليه الصلاة والسلام - سيأتي، ويغلون فيه النصارى، ويجاوزون الحد فيه، ثم يأتي النبي الذي يصحح لهم هذا المسار، وينفي هذا الغلو، ويدعوهم إلى الإسلام وما أشبه ذلك...الخ.
لما وجدوا هذا الكلام دعا بابا الفاتيكان إلى الاجتماع بالمسلمين، وبعد أن وجه هذه الدعوة وجد مقتولاً، ثم جاء الذي بعده فجمع النصارى ولم يجمع إليهم المسلمين، ثم تشاوروا، وتحدثوا عن مثل هذه الموجودات، وما يقال عن المسيح.
الحاصل أنهم أقروا وأصدروا وثيقة بهذا المعنى، وأرسلوا صورة منها إلى الأزهر، وصورة منها إلى رابطة العالم الإسلامي، وفيها إدانة كبيرة لليهود والنصارى في العالم، وكان من ضمن التوصيات والقرارات التي ذكروها وصرحوا بها إيقاف التنصير في العالم الإسلامي باعتبار أن دين الإسلام دين حق وصحيح، وأن حقيقة المسيح إنما تعرف بما يقوله المسلمون.
هذا الذي نحتاج أن نظهره، وأن تكتب عنه الصحف، وتأتي التعليقات عليه من قبل أهل الفكر، فهذه القضية هي قضية العصر، فهي قضية كبيرة، ولكن للأسف الشديد أن الواقع الذي يعلن عنه، ويدعى إليه؛ خلاف ذلك، فالدعوة المعاصرة هي دعوة إلى التقريب بين الأديان، فهذا الأمر وللأسف هو الذي يسمع عنه الناس اليوم.
والأعجب من ذلك أنك تجد بعضهم يتفلسف فيقول: ذهبنا لدعوتهم! مع أنه يعلم بل هو أول من يعلم أن المقام ليس مقام دعوة، وإنما المقام أن تجلس معهم، وفي أحسن أحوالك أن تجلس جلوس الند على طاولة مستديرة ليس فيها أحد في مجلس الرئيس، أو في آخر الطاولة، فهي مستديرة يستوي فيها جميع الأطراف، فيحصل التحاور في التقارب بين هذه الأديان، والتعايش!.
وقد بنيت بعض المجمَّعات في بعض البلاد الشرقية، وفي أوروبا؛ حتى أدخلوا فيها بعد ذلك البوذية، وما اقتصرت على اليهودية، والنصرانية، فتجد معبداً يهودياً، أو كنيسة، أو مسجداً، وترى فيه بعض الصور والرسومات بحيث تشير إلى وحدة الأديان، بل صارت تقام أحياناً مشاركة في صلوات في مناسبة من المناسبات وغير ذلك، وهذا كله داخل في هذا المعنى، فالمقصود أن مثل هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ قد يلبس فيها بعض الناس، ويقولون: إن القرآن دل على هذا، والله المستعان.
ومن الآيات التي يخطئ بعض الناس في فهمها، أو يلبس فيها أهل التلبيس قوله - تبارك وتعالى -: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82]، فهم يقرؤونها دون أن يكملونها ليلبسون فيها على الناس، وإنما الآية تعرف بما بعدها ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [سورة المائدة:82-84]، فهل هؤلاء يقولون مثل هذا الكلام؟
هذه نزلت في مثل النجاشي، وعبد الله بن سلام ، نعم ولم تنزل في هؤلاء الذين يحاربون في الإسلام صباح مساء، فهؤلاء يلبسون بمثل هذه الآيات على الناس، وإلا فإن النصارى هؤلاء ليسوا أقرب مودة إلينا من اليهود بل هم مثل اليهود، وأشد من اليهود، ولا فرق بينهم وبين اليهود، وهم من المغضوب عليهم؛ فإن من عرف الحق وتركه فإنه يكون من أهل الغضب، فهؤلاء جمعوا بين الغضب والضلال.
وسميت أمة محمد ﷺ مؤمنين؛ لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية، والغيوب الآتية.تأمل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى [سورة البقرة:62]، فمع أن الذين هادوا والنصارى حينما بعث إليهم موسى ﷺ آمن منهم من آمن، ومع ذلك خص الذين اتبعوا محمداً ﷺ بالإيمان، والسبب في ذلك أنهم تميزوا بكمال إيمانهم سواءً من جهة الثبوت، أو من جهة متعلقه بكثرة شرائع الإسلام، فالشريعة الإسلامية أوسع من غيرها، فيكون ذلك أكمل في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، فالتميز بصفة من الصفات يكون سبباً للتسمية أحياناً، ولهذا لما ذكر الله المؤمنين فقال الله : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110] قدم الأمر بالمعروف، وأخر الإيمان، ولما ذكر أهل الكتاب قال: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:113-114] فأخر الأمر بالمعروف، وقدم الإيمان في حقهم، فيمكن أن يقال في هذا، والله أعلم: إنه لما كانت هذه الأمة متميزة بهذا الأمر - الذي هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - وإن كان موجوداً عند من قبلهم لكنه عند هذه الأمة أظهر قدم، وأخر في حق غيرهم، لربما يكون السبب هو ذلك، والعلم عند الله .
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري: عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: الصابئون قوم بين المجوس، واليهود، والنصارى، وليس لهم دين، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.قوله: "قوم بين المجوس، واليهود، والنصارى" يعني ليسوا من المجوس، ولا من اليهود، ولا من النصارى، فليس دينهم مشترك يعني ليسوا على دين المجوس، ولا على دين النصارى، ولا على دين اليهود.
وأصل الصابئ يقال لمن خرج من دين إلى دين، فمن خرج أو مال من دين يقال له: صابئ، والنبي ﷺ قالوا عنه صابئ، ويقولون عن من أسلم إنه صبأ فهو صابئ، بمعنى خرج عن دينه.
وبعضهم يقول: إنهم كانوا يقولون ذلك نسبة ينسبونهم فيها إلى الصابئة؛ لأنهم كانوا على غير دين من الأديان التي كانت موجودة آنذاك، أي: ليسوا على الإشراك، ولا على اليهودية، ولا على النصرانية، وإنما هم قوم على الفطرة.
والأقوال في معنى الصابئة كثيرة، والناس مختلفون في هذا، ولربما كان ذلك - والله تعالى أعلم - بسبب تعدد من يطلق عليهم بأنهم صابئة، فالصابئة تطلق على طائفة من طوائف النصارى، وتطلق على قوم من عبدة الكواكب حتى قيل: هم الذين مر بهم إبراهيم ﷺ، وناظرهم المناظرة المعروفة في سورة الأنعام فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا.. [سورة الأنعام:76] الآيات، وتطلق أيضاً الصابئة على قوم هم على الفطرة، ليسوا على شيء من الأديان التي كانت موجودة من اليهودية، أو النصرانية، أو الإشراك، وإنما بقوا على الفطرة؛ فهذه الإطلاقات موجودة ومعروفة.
إذا أردنا هنا أن نفسر الصابئة فلا يصح أن تفسرها بعبدة الكواكب،ً وهم لا زالوا يوجدون في العراق إلى اليوم، وتسمى طائفة الصابئة، وهذا موجود في بعض الإحصاءات عن الديانات الموجودة في العراق حيث يذكرون نسبة قليلة جداً، وعلى كل حال فهؤلاء لا يمكن أن تحمل عليهم الآية.
وما بقي إلا أن تحمل الآية على هذه الطائفة من النصارى، أو من أهل الكتاب عموماً حيث يقولون: هم يقرؤون الزبور، فإن كانوا على التوحيد يمكن أن يفسر به، أو يقال - وهو الأشهر والأقرب والله تعالى أعلم - أنهم قوم على الفطرة ليسوا على دين من الأديان الموجودة - في ذلك الوقت -، وأما الآن فلا يقبل من أحد سوى الإسلام، فهؤلاء الذين كانوا على الفطرة، ولم يقعوا في شيء من الإشراك، وإنما يعبدون الله بحسب ما يتوصلون إليه، فمثل هؤلاء وعدهم الله بالمغفرة، أو بنفي الخوف والحزن عنهم، بمعنى أنهم يدخلون الجنة، وينجون من النار.
وقيل: فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، وقيل: قوم يعبدون الملائكة، وقيل: قوم يعبدون الكواكب.على كل حال كتبت كتابات خاصة في الصابئة، وكذلك في الكلام على الملل والنحل، ولما تقرأ ما كتبه الشهرستاني تجده تكلم كثيراً عن الصابئة، وما يراد بهم، وغيرها من الطوائف، حيث تكلم بكلام طويل مفصل عن الصابئة، وتوجد أيضاً رسائل خاصة للصابئة مطبوعة، وتوجد كتابات هنا وهناك تختص بهم، ونشرت في بعض المجلات، كما كتب بعض الكتاب المصريين من طبقة أحمد تيمور باشا - رحمه الله - وأمثاله، حيث كتب رسالة صغيرة في الصابئة طبعت قديماً، والله أعلم.
وأظهر الأقوال - والله أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود، ولا النصارى، ولا المجوس، ولا المشركين، وإنما هم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه، ويقتنونه، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ أي إنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك، وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.قوله: الذين لم تبلغهم دعوة نبي: يمكن أن يقال: هؤلاء أهل الفترة، والله تعالى أعلم.
- أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).
- أخرجه أحمد (ج 3 / ص 387) وابن أبي شيبة (ج 5 / ص 312) والبيهقي في لشعب الإيمان (ج 1 / ص 199) وحسنه الألباني في المشكاة (177).