الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62].
لما بيَّن تعالى حال من خالف أوامره، وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم، وما أحل بهم من النكال؛ نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة، وأطاع؛ فإن له جزاءً الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يتركونه، ويخلفونه؛ كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت:30].
قوله: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا هذا باعتبار أن الخوف والغم من أمر مستقبل متوقع، والحزن هو الغم من أمر فائت، فنفى عنهم هذا وهذا.
وهذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] هي قطعاً في الأمم التي كانت قبل مبعث النبي ﷺ، نعم فإن الله قد أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ فمن تبع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقبل دعوتهم، واستجاب له؛ فإن الله وعده بالرحمة، والجنة، وأما بعد مبعث النبي ﷺ فإنه لا يقبل من أحد سوى الإسلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران:85] والنبي ﷺ قال: والذي نفسي محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني؛ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار[1].
وكذلك أيضاً النصوص الكثيرة الواردة في مثل هذا المعنى، وبالتالي فإنه لا يجوز لأحد أن يفتري على الله ، ويقول بأن هؤلاء اليهود، أو النصارى، أو أمم الكفر من البوذيين وغيرهم أنهم على شيء، وأنهم تحصل لهم النجاة، أو أنهم أهل إيمان، أو أنه يتوقف في أمرهم أو نحو ذلك فهذا محادة لله ، وتكذيب للنبي ﷺ، وللقرآن، وهو كفر مخرج من الملة؛ إذ لا يجوز لأحد أن يتوقف في أمر هؤلاء، فالنصوص واضحة، ومتضافرة على أنهم كفار، وأنهم مخلدون في النار، النصوص في ذلك كثيرة جداً، وهذه الآية تحمل على من حصل لهم الإيمان في الوقت الذي جاءهم فيه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يعني إبان بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لهم، ففي زمن موسى ﷺ مثلاً من آمن به دخل الجنة، ومن كذبه وكفر به دخل النار، وكذلك لما جاء عيسى - عليه الصلاة والسلام - لبني إسرائيل، فالذين آمنوا به، واتبعوه؛ هم أهل النجاة، والذين كذبوا به لا ينفعهم البقاء على ما كانوا عليه قبل بعث عيسى ﷺ، ولما بعث النبي ﷺ فإنه لا يقبل من أحد سوى دين الإسلام، والقرآن واضح وصريح في هذا.
روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:62] الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران:85] فإن هذا الذي قاله ابن عباس - ا - إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة، ولا عملاً؛ إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد ﷺ بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى، وسبيل نجاة، فاليهود أتباع موسى  الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة.هذه الآية نظير الآية التي في سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى [سورة المائدة:69]، وقد جاء في سورة الحج ذكر المجوس، ولكنه في ذلك المقام ذكر الفصل بينهم والحكم، وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحج:17]، فالحاصل أن تلك الآية ليست في هذا الموضوع الذي تحدثت عنه آية البقرة، وآية المائدة، بل تلك في الفصل بين الأمم، أي بين الطوائف، وهذا في وعد المستجيبين لله بالجنة، والرحمة.
يقول: واليهود من الهوادة وهي المودة، بمعنى أنه يود بعضهم بعضاً، فهذه المودة موجودة بينهم، والله قد فرض ذلك عليهم كما هي الموالاة بين أهل الإيمان، وقد حرم الله  على اليهودي أن يقتل اليهودي، أو أن يأسره، كما دل على ذلك قوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] أي أنه يحرم على اليهودي أن يخرج اليهودي من بلده، أو أن يقتله، أو يعين على قتله، فالله فرض عليهم هذا، وألزمهم بهذه المودة.
فبعضهم يقول: الهوادة هي من المودة، وبعضهم يقول: هي من النسب، نسبة إلى جد لهم وهو ابن يعقوب - عليه الصلاة والسلام -، فأحد أولاد يعقوب اسمه يهوذا، والعرب أبدلت الذال دالاً كما يجري ذلك في لغاتها من إبدال الحرف مكان الحرف لا سيما الأعجمي، فإن القاعدة في ذلك كما قيل: أعجمي فالعب به، فالعرب لا تبالي حينما تنقل، وتغير، وتبدل الأسماء الأعجمية، أو الأوصاف أو غير ذلك مما هو في كلام الأعاجم بما يتناسب مع ألسنتها وفطرتها اللغوية دون أن تلوي اللسان بمثل هذه الكلمات كما يلوي الأعجمي لسانه، وكما يفعل بعض الناس اليوم، ويظن أن ذلك لوناً من المهارة والحذق، وما علم أن ذلك من ألوان القططية - إن صح التعبير -.
المقصود أن قوله: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] يمكن أن يحمل على معنى ثالث مشهور ولربما كان هو المتبادر، ولربما كان هو أشهر هذه الأقوال أنه من هاد يهود أي رجع، هُدْنَا إِلَيْكَ بمعنى تبنا إليك، ورجعنا إليك، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ أي رجعوا إلى الله ، وتابوا إليه، أي: قيل لهم يهود بهذا الاعتبار، وهذا مثل قولك: يا صاحب الذنب هد هد، يعني ارجع ارجع، والله أعلم.
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى : إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] أي تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم، ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب.قوله: وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب: مع أن من ناحية النسب ليس كل اليهود ينتسبون إلى يهوذا، وإنما أحد الأسباط هو الذين ينتسبون إليه فقط.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة.هذا معنى رابع وهو بمعنى يتحركون، ويهتزون عند قراءة التوراة، وهذا التحرك والاهتزاز يفعله بعض الناس عند قراءة القرآن، لذلك يقول بعضهم: هذه عادة يهودية لا يجوز للمسلم أن يفعلها؛ لأنها من قبيل التشبه باليهود عند قراءة التوراة، وجاء في هذا بعض الإسرائيليات، وبعض الأخبار، وبعض الآثار أيضاً؛ فالله تعالى أعلم.
فلما بعث عيسى ﷺ وجب على بني إسرائيل اتباعه، والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ [سورة آل عمران:52] وقيل: إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، قاله: قتادة وابن جريج وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم.إما أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، أو أن هذه البلدة التي يقال لها: الناصرة في الشام هي قرية المسيح - عليه الصلاة والسلام - فنسبوا إليها، وكل ذلك لا يوجد ما يدل عليه لا في تسمية اليهود، ولا في تسمية النصارى، لكن لربما كان المتبادر أن النصارى قيل لهم ذلك؛ لأن الحواريون منهم قالوا: نحن أنصار الله، والله تعالى أعلم.
والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان.أي يقال: نصارى، ويقال: نصراني، فالياء تكون للنسبة، وقد تأتي للمبالغة، وإلا فهو نصران، والنصارى جمع نصران، ومثله: نشوان وسكران، فتقول: نصارى، ونشاوى، وسكارى، وما أشبه ذلك.
وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانة، فلما بعث الله محمداً ﷺ خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق؛ وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً.كل ما سبق ذكره يريد أن يصل به إلى هذه النتيجة وهي أن هؤلاء الذين وعدهم الله  بنفي الحزن والخوف عنهم أن هذا إنما كان لمن استجاب للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - حينما دعوهم إلى دين الله، فلما جاء النبي ﷺ لا يقبل من أحد سوى الإسلام، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: والذي نفسي بيده لو أن موسى ﷺ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني[2] فلا يقبل من أحد ديناً سوى الإسلام.
وهذه القضية نحتاج إلى تقريرها وتوضيحها للناس الآن مع أنها من البدهيات، فنحن في زمان تعقد فيه المؤتمرات للتقريب بين الأديان، مما يدل على أن القضية أخطر مما يتصوره الكثيرون.
وهناك جهود أيضاً تبذل في هذا السبيل قد أعد لها من المنشئات، والخطط؛ ما الله به عليم، وإذا نظرت إلى التوصيات أو الخطط التي كتبت في هذا تجد أشياء عجيبة جداً، حيث تجد مَن أول من دعا إليها، ومتى دعي إليها، من الذي قام بهذه الدعوة، وماذا يريدون من ورائها، وأمور كثيرة ينبغي أن يعرف الناس بها في مثل هذه الأيام؛ لأن الدعوة تزداد، مع ما يحصل وما ترون تحت مسمى التقريب بين الأديان لتذويب المسلمين، وصدهم عن دينهم تحت هذه الخدعة الكبيرة، ومن أكبر الدعاة لهذا الآن في هذا العصر "رجاء جارودي" الفيلسوف الفرنسي المعروف الذي قالوا عنه: إنه دخل في الإسلام، والواقع أنه لم يدخل في الإسلام وإنما دخل في لون من الزندقة، فهو زنديق على طريقة الفلاسفة، وعنده من قضايا عقائد أهل وحدة الوجود، وأمور مخزية كثيرة، نعم فمثل هذا لا يفرح به، ولا يفتخر به، ولا يذكر في مقام، فهو له منظمة تتبنى هذه القضية، وعقد عدداً من المؤتمرات، وشارك في كثير منها، وهو من أكبر الدعاة لهذا في هذا العصر.
إننا بحاجة إلى أن نطالبهم بما كتبه بابا الفاتيكان في فترة مضت - ليست بعيدة - حينما أقروا أن ما يقال عن المسيح إنما يعرف بما يقوله المسلمون، حيث أصدروا بياناً في هذا تبنى أن قضية المسيح إنما يسأل عنها المسلمون، وذلك بعد أن وجدوا بعض الأشياء في البحر الميت، حيث وجد بعض الرعاة قطعاً من التوراة، أو الكتب القديمة، فلما قرئت وجد فيها التصريح ببعث النبي ﷺ، وذكر فيها ما يحصل من تبديل اليهود، وأن المسيح - عليه الصلاة والسلام - سيأتي، ويغلون فيه النصارى، ويجاوزون الحد فيه، ثم يأتي النبي الذي يصحح لهم هذا المسار، وينفي هذا الغلو، ويدعوهم إلى الإسلام وما أشبه ذلك...الخ.
لما وجدوا هذا الكلام دعا بابا الفاتيكان إلى الاجتماع بالمسلمين، وبعد أن وجه هذه الدعوة وجد مقتولاً، ثم جاء الذي بعده فجمع النصارى ولم يجمع إليهم المسلمين، ثم تشاوروا، وتحدثوا عن مثل هذه الموجودات، وما يقال عن المسيح.
الحاصل أنهم أقروا وأصدروا وثيقة بهذا المعنى، وأرسلوا صورة منها إلى الأزهر، وصورة منها إلى رابطة العالم الإسلامي، وفيها  إدانة كبيرة لليهود والنصارى في العالم، وكان من ضمن التوصيات والقرارات التي ذكروها وصرحوا بها إيقاف التنصير في العالم الإسلامي باعتبار أن دين الإسلام دين حق وصحيح، وأن حقيقة المسيح إنما تعرف بما يقوله المسلمون.
هذا الذي نحتاج أن نظهره، وأن تكتب عنه الصحف، وتأتي التعليقات عليه من قبل أهل الفكر، فهذه القضية هي قضية العصر، فهي قضية كبيرة، ولكن للأسف الشديد أن الواقع الذي يعلن عنه، ويدعى إليه؛ خلاف ذلك، فالدعوة المعاصرة هي دعوة إلى التقريب بين الأديان، فهذا الأمر وللأسف هو الذي يسمع عنه الناس اليوم.
والأعجب من ذلك أنك تجد بعضهم يتفلسف فيقول: ذهبنا لدعوتهم! مع أنه يعلم بل هو أول من يعلم أن المقام ليس مقام دعوة، وإنما المقام أن تجلس معهم، وفي أحسن أحوالك أن تجلس جلوس الند على طاولة مستديرة ليس فيها أحد في مجلس الرئيس، أو في آخر الطاولة، فهي مستديرة يستوي فيها جميع الأطراف، فيحصل التحاور في التقارب بين هذه الأديان، والتعايش!.
وقد بنيت بعض المجمَّعات في بعض البلاد الشرقية، وفي أوروبا؛ حتى أدخلوا فيها بعد ذلك البوذية، وما اقتصرت على اليهودية، والنصرانية، فتجد معبداً يهودياً، أو كنيسة، أو مسجداً، وترى فيه بعض الصور والرسومات بحيث تشير إلى وحدة الأديان، بل صارت تقام أحياناً مشاركة في صلوات في مناسبة من المناسبات وغير ذلك، وهذا كله داخل في هذا المعنى، فالمقصود أن مثل هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ قد يلبس فيها بعض الناس، ويقولون: إن القرآن دل على هذا، والله المستعان.
ومن الآيات التي يخطئ بعض الناس في فهمها، أو يلبس فيها أهل التلبيس قوله - تبارك وتعالى -: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82]، فهم يقرؤونها دون أن يكملونها ليلبسون فيها على الناس، وإنما الآية تعرف بما بعدها ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [سورة المائدة:82-84]، فهل هؤلاء يقولون مثل هذا الكلام؟
هذه نزلت في مثل النجاشي، وعبد الله بن سلام ، نعم ولم تنزل في هؤلاء الذين يحاربون في الإسلام صباح مساء، فهؤلاء يلبسون بمثل هذه الآيات على الناس، وإلا فإن النصارى هؤلاء ليسوا أقرب مودة إلينا من اليهود بل هم مثل اليهود، وأشد من اليهود، ولا فرق بينهم وبين اليهود، وهم من المغضوب عليهم؛ فإن من عرف الحق وتركه فإنه يكون من أهل الغضب، فهؤلاء جمعوا بين الغضب والضلال.
وسميت أمة محمد ﷺ مؤمنين؛ لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية، والغيوب الآتية.تأمل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى [سورة البقرة:62]، فمع أن الذين هادوا والنصارى حينما بعث إليهم موسى ﷺ آمن منهم من آمن، ومع ذلك خص الذين اتبعوا محمداً ﷺ بالإيمان، والسبب في ذلك أنهم تميزوا بكمال إيمانهم سواءً من جهة الثبوت، أو من جهة متعلقه بكثرة شرائع الإسلام، فالشريعة الإسلامية أوسع من غيرها، فيكون ذلك أكمل في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، فالتميز بصفة من الصفات يكون سبباً للتسمية أحياناً، ولهذا لما ذكر الله المؤمنين فقال الله : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة آل عمران:110] قدم الأمر بالمعروف، وأخر الإيمان، ولما ذكر أهل الكتاب قال: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:113-114] فأخر الأمر بالمعروف، وقدم الإيمان في حقهم، فيمكن أن يقال في هذا، والله أعلم: إنه لما كانت هذه الأمة متميزة بهذا الأمر - الذي هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - وإن كان موجوداً عند من قبلهم لكنه عند هذه الأمة أظهر قدم، وأخر في حق غيرهم، لربما يكون السبب هو ذلك، والعلم عند الله .
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري: عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: الصابئون قوم بين المجوس، واليهود، والنصارى، وليس لهم دين، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.قوله: "قوم بين المجوس، واليهود، والنصارى" يعني ليسوا من المجوس، ولا من اليهود، ولا من النصارى، فليس دينهم مشترك يعني ليسوا على دين المجوس، ولا على دين النصارى، ولا على دين اليهود.
وأصل الصابئ يقال لمن خرج من دين إلى دين، فمن خرج أو مال من دين يقال له: صابئ، والنبي ﷺ قالوا عنه صابئ، ويقولون عن من أسلم إنه صبأ فهو صابئ، بمعنى خرج عن دينه.
وبعضهم يقول: إنهم كانوا يقولون ذلك نسبة ينسبونهم فيها إلى الصابئة؛ لأنهم كانوا على غير دين من الأديان التي كانت موجودة آنذاك، أي: ليسوا على الإشراك، ولا على اليهودية، ولا على النصرانية، وإنما هم قوم على الفطرة.
والأقوال في معنى الصابئة كثيرة، والناس مختلفون في هذا، ولربما كان ذلك - والله تعالى أعلم - بسبب تعدد من يطلق عليهم بأنهم صابئة، فالصابئة تطلق على طائفة من طوائف النصارى، وتطلق على قوم من عبدة الكواكب حتى قيل: هم الذين مر بهم إبراهيم ﷺ، وناظرهم المناظرة المعروفة في سورة الأنعام فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا.. [سورة الأنعام:76] الآيات، وتطلق أيضاً الصابئة على قوم هم على الفطرة، ليسوا على شيء من الأديان التي كانت موجودة من اليهودية، أو النصرانية، أو الإشراك، وإنما بقوا على الفطرة؛ فهذه الإطلاقات موجودة ومعروفة.
إذا أردنا هنا أن نفسر الصابئة فلا يصح أن تفسرها بعبدة الكواكب،ً وهم لا زالوا يوجدون في العراق إلى اليوم، وتسمى طائفة الصابئة، وهذا موجود في بعض الإحصاءات عن الديانات الموجودة في العراق حيث يذكرون نسبة قليلة جداً، وعلى كل حال فهؤلاء لا يمكن أن تحمل عليهم الآية.
وما بقي إلا أن تحمل الآية على هذه الطائفة من النصارى، أو من أهل الكتاب عموماً حيث يقولون: هم يقرؤون الزبور، فإن كانوا على التوحيد يمكن أن يفسر به، أو يقال - وهو الأشهر والأقرب والله تعالى أعلم - أنهم قوم على الفطرة ليسوا على دين من الأديان الموجودة - في ذلك الوقت -، وأما الآن فلا يقبل من أحد سوى الإسلام، فهؤلاء الذين كانوا على الفطرة، ولم يقعوا في شيء من الإشراك، وإنما يعبدون الله بحسب ما يتوصلون إليه، فمثل هؤلاء وعدهم الله  بالمغفرة، أو بنفي الخوف والحزن عنهم، بمعنى أنهم يدخلون الجنة، وينجون من النار.
وقيل: فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، وقيل: قوم يعبدون الملائكة، وقيل: قوم يعبدون الكواكب.على كل حال كتبت كتابات خاصة في الصابئة، وكذلك في الكلام على الملل والنحل، ولما تقرأ ما كتبه الشهرستاني تجده تكلم كثيراً عن الصابئة، وما يراد بهم، وغيرها من الطوائف، حيث تكلم بكلام طويل مفصل عن الصابئة، وتوجد أيضاً رسائل خاصة للصابئة مطبوعة، وتوجد كتابات هنا وهناك تختص بهم، ونشرت في بعض المجلات، كما كتب بعض الكتاب المصريين من طبقة أحمد تيمور باشا - رحمه الله - وأمثاله، حيث كتب رسالة صغيرة في الصابئة طبعت قديماً، والله أعلم.
وأظهر الأقوال - والله أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود، ولا النصارى، ولا المجوس، ولا المشركين، وإنما هم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه، ويقتنونه، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ أي إنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك، وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.قوله: الذين لم تبلغهم دعوة نبي: يمكن أن يقال: هؤلاء أهل الفترة، والله تعالى أعلم.
  1. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).
  2. أخرجه  أحمد (ج 3 / ص 387) وابن أبي شيبة (ج 5 / ص 312) والبيهقي في لشعب الإيمان (ج 1 / ص 199) وحسنه الألباني في المشكاة (177).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية."

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: من هذه الأمة، مع أن الإيمان يصدق على من آمن بالأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - لكن يمكن أن يكون ذلك ما خُصت به هذه الأمة هنا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا؛ لشدة إيقانهم، وكثرة إيمانهم كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يعني تميزوا بهذا؛ ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء السابقين، والكتب، وكذلك الغيوب الآتية، فصار إيمانهم أكمل من إيمان غيرهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا يعني: اليهود، قيل: من الهوادة، وهي المودة، أو التهود، وهي التوبة إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف: 156].

وقيل: نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب - - وأبو عمرو بن العلاء، وهو من أئمة اللغة، والقراءة يقول: سموا بهذا لأنهم يتهودون. يعني يتحركون عند القراءة، يحصل لهم حركة، تمايل إلى الأمام، أو إلى جانبهم، قال: هذا من عادة اليهود. هذا التمايل عند القراءة.

"قال ابن عباس: نسختها: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 8][1]."

هذا ليس بنسخ، وإنما بمعنى أنها يمكن أن يقال: خصصتها. فإن النسخ رَفع، وهذا خبر، والأخبار لا تُنسخ كما هو معلوم، إنما الذي يُنسخ هو الإنشاء: الأمر، والنهي، أو الخبر الذي يكون بمعنى الأمر، والنهي. والسلف يطلقون النسخ، ويقصدون به كل ما يطرأ على العام: من تقييد المطلق، وتخصيص العام، وبيان المجمل، فهذه الآية بينتها الآية الأخرى، وهي قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] وذلك أن قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية، هذا فيمن كان على ذلك قبل الإسلام، يعني الذين آمنوا بموسى - عليه الصلاة، والسلام - إيمانًا صحيحًا فهم موعودون بالجنة وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وكذلك أيضًا الذين آمنوا بعيسى ﷺ إيمانًا صحيحًا، لكن بعد بعث النبي ﷺ فإنه يجب الإيمان به.

وقد قال ﷺ: ما من يهودي، ولا نصراني يسمع بي من هذه الأمة، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[2].

"وقيل معناها: أن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانًا صحيحًا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت، وفي حق غيرهم الدخول في الإسلام، فلا نسخ، وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي ﷺ فلا نسخ."

وفي حق غيرهم يعني اليهود، والنصارى، والصابئين، وهذا المعنى الأخير أنها كانت قبل بعث النبي ﷺ هو الذي اختاره ابن كثير، وحمل عليه قول ابن عباس السابق، قال: إنه يقصد هذا المعنى[3].

"مَنْ آمَنَ مبتدأ، خبره: فلهم أجرهم، والجملة خبر إن، أو من آمن بدل فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خبر إن."

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا إلى أن قال: مَنْ آمَنَ مبتدأ خبره فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني، والجملة خبر إن إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ما بهم؟ مَنْ آمَنَ فهذا يكون هو خبر (إن)، أو يكون بدلًا يعني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا إلى أن قال: مَنْ آمَنَ فهذا بدل من قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا إلى آخر من ذكر، يعني يكون سياق الكلام هكذا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يكون إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الاسم الموصول هو اسم إن، والخبر؟

يعني: ما بهم هؤلاء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ والخبر من آمن منهم، من آمن من هؤلاء وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ويحتمل أن يكون مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا بدل مما ذُكر بعد (إن) يعني كأنه يقول: إن من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم. بدل من قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

  1. تفسير الطبري (2/155).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، رقم: (153)
  3. تفسير ابن كثير (1/284).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة -سورة البقرة- بعدما ذكر وقص خبر بني إسرائيل في جملة من الآيات التي ذكر فيها عتوهم وتمردهم على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- قال الله بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] فذكر أهل الإيمان أول من ذكر، وحمل ذلك على المؤمنين من هذه الأمة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من هذه الأمة اعتقدوا، وأقروا، وأذعنت قلوبهم وانقادت بما يجب الإيقان والإذعان والإقرار به من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وما يتبع ذلك من قضايا الإيمان.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وهم اليهود، وقيل لهم ذلك، قيل: باعتبار أنهم قالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] يعني: رجعنا إليك، وأصل الهود هو الرجوع، يقال: هاد، أي رجع، وكما قيل:

يا أيها المذنب هُد هُد واثبت كأنك هدهد

على كل حال، وبعضهم يقول غير هذا في سبب التسمية وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وهم أهل الملة المعروفة، قيل: سموا بذلك باعتبار أنهم قالوا: إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] أو نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [سورة الصف:14] لما قال عيسى للحواريين: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [سورة الصف:14] وبعضهم يقول غير هذا في بسبب التسمية، بعضهم يضيفهم إلى بلدة يقال لها: الناصرة، وهي كما يقال: بلد المسيح عيسى التي ولد فيها، والله أعلم.

وَالصَّابِئِينَ هذا الاسم يقال لطوائف متعددة، وبعض هذه الطوائف كانت على الإيمان، وبعض هذه الطوائف كانت على الإشراك، فهو يقال لقوم من الحنفاء ما كانوا على دين من أديان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بعينه، يعني ما كانوا على شريعة موسى وما كانوا من أتباع المسيح ولكن كانوا حنفاء على الفطرة، وهو الأقرب هنا -والله أعلم بهذا السياق.

كما أن ذلك يقال لطائفة من النصارى، كما يقال ذلك لعبدة الكواكب الذين كانوا في زمن إبراهيم وحصلت معهم المناظرة في طريقه في مهاجره إلى بلاد الشام رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] الآيات، هذا في سياق المناظرة، كان مناظرًا ولم يكن ناظرًا، يعني ما قاله معتقدًا بربوبية الكوكب، ثم توصل إلى التوحيد بعد ذلك، وإنما قاله على سبيل التنزل مع المخالف، هذا هو الأرجح من أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم، أنه قاله مناظرًا لا ناظرًا، وفرق بين المقامين.

ويقال ذلك أيضًا لطائفة من المشركين أولئك الذين كانوا في زمن إبراهيم كانوا يعبدون الكواكب ويتقربون إليها، ويعتقدون فيها عقائد من تدبير أمر العالم، وما إلى ذلك، يضيفون الحوادث الأرضية إلى هذه الكواكب وحركاتها ومنازلها.

ويقال ذلك لغيرهم كما يقال لطائفة موجودة إلى اليوم في العراق، فهذا يطلق على طوائف، وقد ألف بعض أهل العلم مصنفًا خاصًا في الصابئة، وإطلاقات الصابئة، هذا فضلاً عما يوجد في كتب الفرق والأديان والمذاهب.

على كل حال، فهؤلاء الذي يظهر -والله أعلم- من هذا السياق الذي في سورة البقرة أنهم قوم كانوا على الفطرة، على التوحيد، وليس لهم دين محدد مقرر من شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

هذه الطوائف الأربع الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ هؤلاء من كان منهم على الإيمان والتوحيد مع العمل الصالح والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء ثوابهم وأجرهم لا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- ولا خوف عليهم، والخوف كما ذكرنا في بعض المناسبات: هو قلق من أمر مستقبل وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والحزن: هو غم يلحق الإنسان بسبب أمر فائت، هذا هو المشهور في الإطلاق، وقد يطلق الحزن مرادًا به الخوف، لكنه إطلاق واستعمال قليل -والله تعالى أعلم- وأهل الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34].

هؤلاء حينما كانوا في زمان هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبعده قبل بعث النبي ﷺ كلما كان على الإيمان والتوحيد من هؤلاء فهم موعودون بالأجر عند الله والثواب ودخول الجنة، وينتفي عنهم الخوف والحزن.

فهذه الأمة كما أخبر النبي ﷺ أنهم شطر أهل الجنة، نصف أهل الجنة، لكن يوجد في الجنة من اليهود والنصارى والصابئين أهل الفطرة والتوحيد والإيمان، وكذلك من قوم نوح ممن آمن به وهم قلة، وكذلك من آمن بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كالذين آمنوا بصالح وهم قلة، وهكذا.

لكن بعد بعث النبي ﷺ فإن شرعه قد نسخ الشرائع السابقة، وقد قال النبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[1].

فبعد بعث النبي ﷺ لا يمكن أن يقال: بأن أحدًا من اليهود أو النصارى أو أهل الأديان أيًّا كان من الصابئة أو من غيرهم لم يتبع النبي ﷺ ولم يؤمن، لا يمكن أن يكون من أهل النجاة، وهذا أمر معلوم، وهو بالإجماع، ولا يجوز لأحد أن ينازع، أو يجادل، أو يشكك في هذه الحقيقة الثابتة، لا يمكن أن يُصحَح دين أحد بعد بعث النبي ﷺ ولو كان على الدين الأصل الذي جاء به ذلك النبي من غير تحريف، ولو كان ذلك موحدًا، فإنه لا يصح إيمانه بنبيه حتى يؤمن برسول الله ﷺ ولهذا قال الله عن قوم نوح، أضاف إليهم تكذيب المرسلين مع أنهم كذبوا بنوح وهو أول رسول إلى أهل الأرض، ولكن من كذب نبيًا كأنما كذب جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فهنا يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد: أن ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية من هذه الأصول الكبار مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا هذه الثلاث فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] فهذه كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله : هي موجبة السعادة[2]، السعادة الكاملة في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه إذا انتفى الخوف وهو القلق من أمر مستقبل وانتفى الحزن الغم بسبب أمر فائت، فإن ذلك يساوي السعادة؛ لأن السعادة ترحل إذا وجد الخوف، العالم اليوم يعيش في قلق، سواء كان هؤلاء في بلاد حروب أو كان هؤلاء في بلاد أخرى.

القلق من ماذا؟ القلق من المستقبل، إلا من هدى الله قلبه بالإيمان وكمال الإيقان، مثل هذا لا يحصل له مثل هذا القلق؛ لأنه يؤمن بالقضاء والقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن لصيبه، فالقلق على ماذا؟ الرزق بيد الله فالذي رزقه وهو في بطن أمه لا تستطيع أمه أن توصل إليه الطعام والشراب لم يكن ليضيعه بعدما خرج من بطن أمه، وضع الله -تبارك وتعالى- له وهو في بطن أمه يدين ورجلين، وهو ليس بحاجة لهما، وشق فاه وهو ليس بحاجة إلى فيه وهو في بطن أمه، ولكن لأنه سيخرج إلى عالم يحتاج فيه إلى يدين ورجلين، وإلى فيه، فهذا لا يضيعه.

أيها الأحبة، انظروا إلى أسراب الطيور والدواب في قعر البحر، وفي جو السماء، وفي الغابة والصحراء من الذي يطعمها، ومن الذي يتعاهدها صباح مساء، وأنتم قارون في دوركم ومحالكم؟

الله -تبارك وتعالى- هو الذي يسوق إليها الأرزاق، فالقلق لماذا؟ المؤمن يعلم ذلك ويتيقنه.

تجد الناس لربما يقلقون يتخوفون من حصول أمراض تنزل بهم أو بذويهم أو نحو ذلك، وإذا سمعوا عن وباء، أو نحو ذلك، فإنهم لا تسأل عن حالهم وكثرة تتبعهم، بل لربما يجبنون عن كثير من الأعمال التي كانوا يزاولونها، والمناسك والعبادات التي كانوا يتقربون بها؛ خشية من هذه العلل والأوصاب، قلق، مع أنه ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هذه حقيقة مقررة ثابتة، ثم المؤمن على أي شيء يأسف، إن كان محبوسًا بمرضه فهذا يساوي زيادة في الأجور والعطاء والرفعة؛ لأن الصحيح أن المرض والبلاء يكون تكفيرًا للسيئات، ويكون رفعة في الدرجات، وسبيلاً إلى الحسنات، وقد صح عن رسول الله ﷺ ما يدل على ذلك، خلافًا للمشهور أنه يكون تكفيرًا للسيئات، وقد ذكرت دلائل هذا في الكلام على الأعمال القلبية تفصيلاً في الكلام على الصبر.

ثم أيضًا هو مع هذه الأجور الزيادة بسبب المرض والوصب هو في زيادة، لو علم بها لتمنى الزيادة في العلة والمرض، هو في زيادة لم ينقص شيء، يعطى عطاء أكثر، يزاد، وكذلك أيضًا الأعمال التي كان يعملها قد يتحسر على رمضان، ويقول: لم يتيسر لي كما كان القيام والصيام، يقال: ما كان يجري لك كما كان، لا ينقص من أجرك شيء.

ومن حبس معه ممن يرافقه ويقوم على شؤونه فكذلك أيضًا، ما يصيبهم من هم وغم وحزن بسبب هذا العليل، هم يؤجرون على هذا، وقيامهم عليه وما يفوتهم من قراءة وصلاة وقيام ونحو ذلك يجرى عليهم ما كان من العمل.

فلماذا القلق؟ ولماذا الحزن؟ ولا يأتيه إلا ما قُدِّر له، وهذا المرض لن يقرب أجله إطلاقًا لحظة، كما أن العافية لن تؤخر الأجل لحظة، الأجل هو هو بالمرض وبغير المرض.

فهذا القلق الذي في العالم -أيها الأحبة- إنما هو لضعف اليقين، فهنا ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الأعمال: الإيمان بالله واليوم الآخر، والأعمال الصالحة، من كان متحققًا بذلك وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62].

ولاحظوا أنه هنا حكم بنفي الخوف عنهم، ونفي الحزن، وكما قلنا: بأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر إيمانهم بالله واليوم الآخر، وما هم عليه من الأعمال الصالحة ينتفي عنهم ما ذكر من المخاوف والأحزان وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهذا الأمن وانتفاء الخوف يكون في الدور الثلاثة في الدنيا، ويكون في البرزخ، ويكون في القيامة.

وهكذا تستقبلهم الملائكة، وتتنزل عليهم، وعند موتهم أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت:30- 32].

هذا تبشير الملائكة لهؤلاء فهذا لمن تحقق بهذه الأوصاف، فينبغي للمؤمن أن يراجع نفسه، وأن يعرض نفسه على هذه الصفات الثلاث: الإيمان بالله، واليوم الآخر، فإذا آمن بالله حصل له الانشراح، وعلم أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُدبِّره، وهو ربه ومليكه، وأنه أرحم به من الوالدة بولدها، وأن ما يختاره له فهو خير له من اختياره لنفسه، فيحصل له الطمأنينة، فيسعد بذلك بمعرفته بالله لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له.

وهكذا أيضًا إذا آمن باليوم الآخر، فإنه يعلم أن هذه الحياة قصيرة ومتقضية، وأن الحياة الحقيقية هناك، فإذا حصلت له هنا خسائر، أو ظلم، أو بُخس حقه وضيع، أو نحو ذلك، الحياة هناك، والجزاء الحقيقي هناك، والرفعة الحقيقية هناك، أما هذه الحياة فإنها لا تستحق، لا تساوي هذه الدنيا عند الله جناح بعوضة، ليست بعوضة، جناح، ولم يقل: لا تساوي جناحي بعوضة، لا، جناح واحد للبعوضة، وما قيمة البعوضة، وما قيمة جناح البعوضة؟! هذا الغم وهذا الحزن، وهذا القلق على هذه الدنيا، والصراع عليها وعلى حطامها، وقطيعة الأرحام، وما إلى ذلك، كل هذا الذي ترون على شيء لا يساوي عند الله جناح بعوضة، هذا المقادر الحقيقي لهذه الدنيا عند الله -تبارك وتعالى- فإذا أُعطي منها الكفار والفجار فلا تذهب نفس المؤمن حسرات على ذلك؛ لأنه يعلم حقيقة هذه الدنيا، وأنها ليست بشيء، فإذا فقد شيئًا منها فإنه يتعزى بما عند الله -تبارك وتعالى- فالذي أعطاه يعوضه.

ثم أيضًا لاحظوا أن الصابئين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة البقرة:62] فالصابئون تارة يجعلهم الله قسمًا من المشركين مع أهل الكتاب، وتارة يجعلهم قسيمًا لهم، فإذا كان اليهود والنصارى قد يكونون مشركين يوجد فيهم إشراك فالصابئون أولى، وذلك بعد تبديلهم، يعني بقي لهم الاسم، ولكن فارقهم الإيمان الصحيح والتوحيد فوقعوا في الإشراك، فحيث جعلوا غير مشركين، وذلك أن أصل دينهم على الفطرة -كما ذكرنا- ليس فيه إشراك، والشرك حصل بعد ذلك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[3].

فهذه الأصناف الأربعة: الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ هذه الطوائف الأربع التي وصفها في هذه الآية من سورة البقرة بالإيمان، أو من قال مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:62] بمعنى إذا كانوا على استقامة وتوحيد مع العمل الصالح.

وفي سورة الحج ذكر ست ملل، هذه الأربع وزاد عليها أهل الإشراك والمجوس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى [سورة الحج:17] ولاحظ قدم الصابئين على النصارى في آية الحج، وفي آية البقرة قدم النصارى على الصابئين وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة الحج:17] هنا في آية الحج ذكر ذلك في مقام الحكم بين هذه الطوائف، ذكرهم بهذا الترتيب بحسب حالهم، فذكر الذين هادوا والصابئين باعتبار أنهم قبل النصارى، يعني من الناحية التاريخية، ثم ذكر وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا أما في سورة البقرة في هذه الآية فذكرهم بحسب مراتبهم فيما هم عليه من الدين والإيمان ونحو ذلك، فذكر اليهود، ثم ذكر النصارى؛ لأن النصارى في الأصل كانوا على شريعة التوراة فلم تنسخ، وهم متعبدون بها، وإنما جاء عيسى مكملاً لها، ناسخًا لبعض الآصار والأغلال، الشرائع الثقال التي كانت على اليهود، ولم تنسخ التوراة ببعث عيسى وهم من جملة أنبياء بني إسرائيل، وإذا ذكر أهل الكتاب في القرآن فهم اليهود والنصارى.

فهنا ذكر اليهود، ثم ذكر النصارى في آية البقرة، ثم ذكر الصابئين بعدهم، باعتبار أن الصابئين دون اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى أهل كتاب، لكن إذا كان هؤلاء جميعًا على الإيمان فهم أهل نجاة، قبل بعث محمد ﷺ وشريعة موسى وشريعة عيسى لم تكن عامة لجميع الخلق، والنبي ﷺ يقول: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة[4] هذا في جملة خصائصه -عليه الصلاة والسلام .

واليهود لا يدعون إلى دينهم، ولا يبشرون به، والنصارى جاء عن المسيح  -إن صح عنه فيما يوجد في كتبهم الآن أنه قال: بعثت لهداية خراف بني إسرائيل الضالة.

فهذا يحتج به عليهم في الإرساليات التنصيرية التي يرسلونها في بلاد المسلمين، وفي غير بلاد المسلمين من البلاد الوثنية ونحوها، فيقال: ما شأنكم وهؤلاء، فإنما جاء عيسى إلى قوم معينين، ولم يرسل إلى العالمين، ولذلك وجد من وجد من الصابئة في زمن هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فاعتبر ذلك لهم يعني الإيمان والتوحيد؛ لأن أولئك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما كانت بعثتهم عامة لجميع الخلق، وأقرب مثال على ذلك الخضر فلم يكن على شريعة موسى وكان ذلك يسعه، أما بعد بعث النبي ﷺ فلا يسع الخروج عن اتباعه وشريعته، بل قال ﷺ: لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي[5].

وأنا أؤكد على هذا المعنى من أجل ألا يتشكك أحد فيه، فهذا من القضايا الأصول المجمع عليها، ويوجد من يغضب إذا قيل: إن اليهود والنصارى في هذا العصر كفار، وأنهم من أهل النار إن ماتوا على ذلك، يصحح إيمانهم، ولربما يلبسون بمثل هذه الآيات.

ثم أيضًا لاحظوا في هذه الآية: أن الله لما ذكر مساوئ بني إسرائيل، وعتو بني إسرائيل، وكما ذكرنا أن ذلك لم يكن عامًا لجميعهم، فقد وجد فيهم أخيار وصلحاء، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة:24] فهي في أهل الكتاب كما سبق، فلما ذكر مساوئ هؤلاء اليهود وكان منهم أخيار فذكر الله -تبارك وتعالى- من يكون من أهل النجاة والوعد بألطاف الله ورحمته، وينتفي عنه الخوف والحزن.

ويؤخذ من هذه الآية: أن من ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة حصول الأجر، الثواب عند الله -تبارك وتعالى- وزيادة على ذلك انتفاء الخوف، وانتفاء الحزن، ولذلك إذا ضعف إيمان الإنسان كثرت مخاوفه، وكثرت الأمور المزعجة والمقلقة له، فهو يترقب كل شيء، يترقب المكروه دائمًا، وإذا فاته شيء من هذه الدنيا من فقد محبوب أو فقد مال، أو نحو ذلك فإن نفسه تذهب حسرات على ما فقد، وأهل الإيمان تجدهم في حال من الطمأنينة، وقد ذكرت شواهد لهذا قديمًا وحديثًا في مناسبات سابقة.

ويؤخذ من هذه الآية: أن الله -تبارك وتعالى- يجمع بين الترغيب والترهيب، يعني: حينما يذكر ما فعله بهؤلاء اليهود، ويذكر مساوئهم ونحو ذلك يذكر الوعد بعد ذلك لمن كان على الإيمان والعمل الصالح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا فـ "إن" تفيد الاهتمام بالخبر، وتوكيد الخبر، فهي بمنزلة إعادة الجمل مرتين، فهذا يدفع به ما قد يتوهم من أن الذم السابق يشمل جميع اليهود، وقد يتوهم سلف هؤلاء الذين لحقهم الذم أنهم كانوا جميعًا على هذه الحال الموصوفة.

أيضًا الابتداء بأهل الإيمان، لا شك أن من ذكر معهم أنهم كانوا على الإيمان، ولكن هذه الأمة لما كانت أكمل الأمم وأعظم في تحقيق الإيمان وشرائع الإيمان في هذه الشريعة والملة أعظم مما هو في غيرها، وهي كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بمنزلة الشرائع المتعددة لسعتها وشمولها، وكما قال النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[6].

فشرائع الإيمان كثيرة في هذه الملة والشريعة، وهذه الأمة أشرف وأكمل، فابتدأ بذكرهم، وجاء هذا الوصف المطلق لهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مع أن أولئك كانوا على الإيمان، أعني من كان منهم ناجيًا، كما قال الله عنهم: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران:114] فقد أهل الإيمان مع أنهم آخر هذه الأمم من ناحية الزمان.

فكما قال النبي ﷺ: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[7] وهذا من فضل الله على هذه الأمة، ولاحظوا أنه حينما ذكر هذه الطوائف والكلام فيهم ذكر أهل الإيمان فلم يفوت ذكرهم.

يؤخذ من هذه الآية: سعة رحمة الله -تبارك وتعالى- ولطفه بعباده، فإن الله -تبارك وتعالى- حينما ذكر قبائح بني إسرائيل لم يترك ذكر الجزاء والوعد الحسن لمن كان على إيمان واستقامة، وإن كان آباؤه وأجداده على انحراف وضلالة، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

وكذلك أيضًا لاحظوا نفي الخوف والحزن، التعبير بنفي الخوف وَلا خَوْفٌ جاء بالخبر الاسمي وَلا خَوْفٌ وهذا أيضًا في سياق النفي يفيد العموم، يعني لا يوجد خوف بوجه من الوجوه، وهذا يشمل كما قلت: الدور الثلاثة، فينفي جنس الخوف عنهم، والجملة الاسمية كما نعرف تدل على الثبوت والدوام.

والحزن جاء بالخبر الفعلي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فهذا الحزن يقع ويتجدد بسبب ما يقع من موجباته وأسبابه، فهذا لا يقع لهم حزن بحال من الأحوال، وقدَّم الضمير المتعلق بهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ للعناية بهم، كما تقول: أنت لا خوف عليك، الأصل: ولا يحزنون هم، فقال: وَلا هُمْ اعتناءً بهم، فيكون لهم كما الاطمئنان، قد يقال: لا يحزنون باعتبار العموم، لكن أفرادًا منهم يقع لهم ذلك، قال: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فدل ذلك على عناية بهؤلاء وما يتصل بهم.

وإذا نفي الخوف والحزن عن هؤلاء الموصوفين بهذه الأوصاف، فإن مفهوم المخالفة أن غيرهم هو موضع المخاوف والأحزان، فمن فارق الإيمان والعمل الصالح فلا تسأل عن حاله، لا تسأل عن مخاوفه وقلقه، ولا تسأل عن أحزانه في الدنيا وفي البرزخ وفي القيامة وفي النار، والقرآن مليء بدلائل ذلك وشواهده.

تصور لو أنك أتيت إلى مكان فيه حريق أو نحو ذلك، وتسمع الصراخ الذي يقطع نياط القلوب، الله يقول عن أهل النار: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [سورة فاطر:37] يصطرخون صراخ مستمر لا ينقطع، تصور لو أن أحدًا يحترق ويصرخ، الناس لا يتمالكون يحصل لهم فزع شديد، الذي لا علاقة له لربما يفزع ويبكي ويخاف، فهذه النار مليئة بالصراخ، الرجال والنساء على حد سواء؛ لأن عذابها لا يطاق، ولا يحتمل، ولا يوجد فيها بطل، يقول: أنا أتحمل ويكظم ويظهر شيئًا من التجلد، ولا يحصل فيها مؤانسة بسبب كثرة الداخلين فيها.

ثم أيضًا لاحظ في ختم هذه الآية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:62] باعتبار أن من استقر أجره عند ربه -تبارك وتعالى- وارتاضت نفسه بالإيمان فكانت هذه عاقبته ومصيره، ومعنى ذلك أنهم آمنون في الجنة والنعيم، وفي الدنيا -كما قال شيخ الإسلام رحمه الله- جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة[8]

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، رقم: (153). 
  2.  مجموع الفتاوى (17/ 116). 
  3.  مجموع الفتاوى (28/ 608). 
  4. أخرجه البخاري، كتاب التيمم، رقم: (335). 
  5.  شعب الإيمان، رقم: (174). 
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: (35). 
  7.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، رقم: (876)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم: (855). 
  8.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 452).