الأربعاء 07 / ذو الحجة / 1446 - 04 / يونيو 2025
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُوا۟ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُوا۟ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:63-64].
يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة، وجزم، وهمَّة، وامتثال.
فقوله تبارك تعالى هنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ يعني واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم، والميثاق سبق الكلام عليه، وأنه العهد الموثق، فالعهد الموثق يقال له: ميثاق.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ هذا الميثاق إما أن يكون للعمل بالتوراة، قال تعالى: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:63]، وذلك أن يأخذها آخذاً جاداً من غير تشهٍ ولا تذوق، ومن غير إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعض قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] فمن لم يلتزم أحكام شرع الله ، وكان مضيعاً مفرطاً، أو آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعضه؛ لا يكون ممن أخذ به بقوة، وقد قال تعالى آمراً بأخذ الدين بقوة: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم:12] يعني بعزم وجد، والمراد الأمر بالاستقامة على أمر الله ، والتلقي عنه تلقياً كاملاً، والعمل بمرضاته من غير تضييع شيء من ذلك، فهذا هون الميثاق، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: قد يكون هذا الميثاق الذي أخذ عنهم كان على أمر معين لم يذكر هنا، وعلى كل حال فالله أخذ عليهم الميثاق، وأمرهم أن يأخذوا ما آتاهم بقوة، ومما يذكر من الأخبار في هذا ما يذكره المفسرون من أنهم أبوا أن يأخذوا التوراة، وأن يعملوا بها، وطلبوا من موسى ﷺ أن يكلموا الله  وأن يكلمهم مباشرة كما كلم موسى، يخاطبهم بالتوراة مباشرة وإلا فإنهم لا يؤمنون، فأخذتهم الصاعقة، ثم لما بعثوا تأبَّوا، فرفع فوقهم الطور الجبل من أجل أخذها.
كما قال تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأعراف:171].يعني أنهم تأبَّوا عن أخذها فرفع فوقهم جبل الطور من أجل أن يتلقوها، ويقبلوها، ويأخذوها، فهم لم يؤمنوا إلا بهذه الطريقة، وعلى كل حال فالطور هو الجبل، وبعضهم يقول: هو بالسريانية الجبل مطلقاً، وبعضهم يقول: الطور هو الجبل الذي فيه شجر، وبعضهم يقول: الطور المقصود به جبل معين، وهو الجبل الذي كلم الله عنده موسى، فتكون (أل) عهدية أي الطور المعهود، وإن كان الطور يطلق على الجبل مطلقاً، لكن (أل) تكون للعهد لجبل معين، وبعضهم يقول: (أل) هنا ليست للعهد وإنما هي المعرفة، و(أل) المعرفة هي التي تكون دالة على الجنس فحسب دون أن تعود إلى جبل دون جبل، وهذا أمر لا طائل تحته، فالمقصود أنهم لم يؤمنوا إلا برفع جبل فوق رؤوسهم، وما هو هذا الجبل؟ هذا أمر ليس تحته طائل، ولا يفيد، ولا يترتب عليه عمل، والعلم به لا ينفع، وبالتالي فالخوض في مثل هذه القضايا ينبغي الإعراض عنها، والله أعلم.
فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس - ا - ومجاهد، وعطاء وعكرمة، والحسن والضحاك، والربيع بن أنس وغير واحد، وهذا ظاهر.
وفي رواية عن ابن عباس - ا - الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور، وقال الحسن في قوله: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:63]: يعني التوراة، وقال مجاهد: بِقُوَّةٍ بعمل ما فيه، وقال أبو العالية والربيع: وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.
قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ يعني أن يكون ذلك مذكوراً عندكم بقلوبكم فلا تحصل الغفلة، وبألسنتكم بتلاوتها وما أشبه ذلك، ويكون أيضاً مذكوراً لكم بأعمالكم، وجوارحكم، فاذكر هنا يشمل هذه الأمور الثلاثة، يعني أن يقوموا بما ألزمهم الله به، وبما ينبغي أن يقوموا به من هذه الجهة، فكل ذلك يطالبون به بطرد الغفلة، والعمل، والتلاوة، اذكروا ما فيه، ولا تضيعوه، وتعرضوا عنه، وتكونوا من الغافلين.

مرات الإستماع: 0

"وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم، وقيل لهم: إن لم تأخذوها وقع عليكم."

مضى الكلام على الطور في الغريب، وهو الجبل في قول أكثر السلف، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف: 171] فهذا يفسره، وجاء عن بعض السلف: كابن عباس - ا - أنه الجبل الذي أنبت. الجبل الذي فيه شجر يقال له: الطور.، وفسره ابن جرير بقوله - تعالى -: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة: 83] أن هذا هو الميثاق الذي أخذه عليهم.

يعني: هنا يقول: لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها، فرفع الجبل فوقهم. وابن جرير يفسره بالآية الأخرى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة: 83] الآية.

"بِقُوَّةٍ جدّ في العلم بالتوراة، أو العمل بها."

الآية: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ خذوا ما آتيناكم يعني قلنا: خذوا ما آتيناكم، فهذا الميثاق الذي أخذه عليهم، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة: 83] خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ يعني: مما أخذنا عليكم بهذا الميثاق بِقُوَّةٍ والقوة المقصود بها الجد في العمل بالكتاب المنزل، وذلك قوله - تبارك، وتعالى -: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12].

وكذلك في قوله: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص: 45] يعني: أصحاب القوة في العمل بطاعة الله  والجهاد في سبيله. 

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63] وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ واذكروا حين أخذنا منكم العهد المؤكد، هذا هو الميثاق، وذلك بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده، ورفع فوقهم جبل الطور؛ من أجل أن يناقدوا وأن يذعنوا، وأمرهم الله -تبارك وتعالى- أن يأخذوا ما آتاهم بقوة، ما آتاهم عن طريق نبيه وهو موسى الكليم بِقُوَّةٍ يعني: بجد واجتهاد وإلا أطبق عليهم الجبل الذي صار فوق رؤوسهم.

وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اذكروا ما في هذا الكتاب قولاً وعملاً، ذكرًا بالقلب، وذكرًا باللسان، وذكرًا بالجوارح، لعله يحصل لكم بسبب ذلك التقوى.

ومما يذكره بعض المفسرين وبعض أهل العلم ممن يتكلم على تاريخ اليهود وعلى أهل تلك الملة يقولون: إن اليهود إذا سجدوا يسجدون على حاجب واحد، يعني سجودًا مائلاً على أحد الحاجبين ويرفعون الآخر، يقال: إن أصل ذلك هو هذا الموقف أنه لما رفع فوقهم الطور وهددهم الله بإلقائه عليهم كانوا في غاية الخوف فسجدوا خضعانًا، كانوا قد رفعوا طرفًا إلى الأعلى ينظرون إلى الطور خشية أن يقع عليهم، فصار ذلك هو أصل سجودهم، هكذا قال بعض أهل العلم.

وهكذا ما ذكر من استقبال الصخرة صخرة بيت المقدس، يقال: إن سبب ذلك أنه لما كانوا يحملون التابوت معهم في أسفارهم ومغازيهم كانوا يستقبلون التابوت ويصلون إليه حيثما حلوا، فإذا رجعوا إلى بيت المقدس وضعوه على الصخرة، إذا كانوا في حال الإقامة جعلوه على الصخرة، فكانوا يستقبلون الصخرة يصلون إليها، ولذلك لما تسلط عليهم النصارى بعد دخول قسطنطين في النصرانية والواقع أنه جرها إلى وثنيته، صار اليهود في حال من الذل والاستضعاف، فكان ذلك الموضع الذي يقدسه اليهود موضعًا للنفايات، موضع الصخرة، فلما جاء الفتح الإسلامي على يد عمر وهذا الدين هو دين العدل والرحمة فأمر بإزالة تلك الأوساخ والأقذار التي وضعت في ذلك المكان.

فالإسلام ما جاء بمثل هذا، فكان النصارى يفعلونه عدوانًا وظلمًا ونكاية باليهود، فرفع الإسلام عنهم ذلك، وهم يعرفون هذا جيدًا، ويدركون أنهم حينما كانوا يعيشون في ظل حكم المسلمين أنهم كانوا في رغد وعافية لا يجدونها في ظل حكم النصارى، فهكذا قالوا، ولذلك فإن هذه الصخرة ليس لها قداسة عند المسلمين، وإنما بنيت عليها هذه القبة في عهد بني أمية، فليس لها مزية ومعنى، وما يذكر حولها من الأساطير وأنها معلقة بالهواء، كل هذا كذب، لا صحة له، ولا يصح أن توضع هذه القبة قبة الصخرة لتمثل بيت المقدس، أو لتمثل المسجد الأقصى، فإن المسجد الأقصى يختلف عنها، وإنما هي في فنائه، وللأسف لا يكاد يُذكر المسجد الأقصى إلا وتوضع صورة قبة الصخرة، وأكثر الجيل الذي جاء بعد احتلال اليهود للمسجد الأقصى لا يعرفون المسجد الأقصى الذي هو المسجد الأقصى، ولا يعرفون إلا قبة الصخرة، حتى المؤتمرات التي تقام في كثير من الأحيان عن القدس وتتحدث عن القدس يوضع خلفهم صورة قبة الصخرة وهو شيء محير لا تدري لماذا يُفعل ذلك؟!

ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ فهنا الله -تبارك وتعالى- يُذكِّرهم بأخذ الميثاق من أجل العمل بمقتضاه لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:81] المواثيق التي أخذت على بني إسرائيل مواثيق متعددة، منها الإيمان بالرسل الذين يبعثهم الله ويدركهم هؤلاء، ومن ذلك أيضًا، هذا من المواثيق التي أخذت على النبيين.

ومن المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187] هذا الكتاب الذي أنزله الله عليهم أن يبينوه، والواقع أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً.

فهنا قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ فجاء الميثاق مفردًا، وهو في الحقيقة وإن كان بمعنى الجمع؛ لأن الميثاق هنا مفرد مضاف إلى المعرفة كاف الخطاب، وذلك يكسبه العموم، فهو بمعنى الجمع.

ومن أهل العلم من يعلل مجيئه بصيغة الإفراد أنه ما قال: وإذ أخذنا مواثيقكم، قالوا: للدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ عليه ذلك، يتنزل على كل واحد من هؤلاء اليهود وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ميثاق كل واحد، لو قال: مواثيقكم، أيضًا لربما يفهم أنها مواثيق متعددة، وهو ميثاق هنا واحد فأفرده.

ويؤخذ من هذه الآية تلك الحال التي وصل إليها هؤلاء اليهود من العتو والتمرد، فما يحصل منهم الإذعان والإقرار والله هو الذي يأمرهم والكليم بين أظهرهم إلا برفع جبل الطور، جبل الطور جبل هائل ضخم يرفع فوق رؤوسهم ويقال لهم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ فهم لا يأخذونه طواعية وانقيادًا لوعورة نفوسهم وسوء طواياهم ولشدة تمردهم وعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- فيُرفع فوقهم الطور، فهذه صورة بالغة الوضوح تُبيِن عن حال هؤلاء اليهود، أنهم أبعد ما يكونون عن القبول والانقياد والإذعان لربهم وخالقهم وإذا كان هذا حالهم حينما يأمرهم الله ونبيهم كبير أنبياء بني إسرائيل وهو موسى بين أظهرهم ومع ذلك يحتاجون إلى رفع الجبل فوق رؤوسهم من أجل أن يقبلوا فكيف بحالهم بعده، كيف بحالهم بعده؟!

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [سورة الأعراف:171] يعني: رُفع، فهذا صار بمثابة الظلة كما قال الله في سورة الأعراف.

ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ هذا أمر وهو للوجوب و "ما" تفيد العموم، كل ما آتيناكم خذوه بقوة يعني بجد واجتهاد من غير توانٍ ولا تأخير ولا تغافل أو تكاسل، وهكذا ينبغي أن يتعامل مع وحي الله -تبارك وتعالى- وشرعه وهداه، فإذا كان ذلك مما قيل لبني إسرائيل فإن هذه الأمة أيضًا مأمورة بأن تأخذ ما آتاها الله بقوة، والله يقول لداود وهو من كبار أنبياء بني إسرائيل وهو ملك من ملوكهم: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص:26].

وهنا ينبغي لهذه الأمة أن ترجع إلى نفسها وأن تتعامل مع شرع الله وهداه بجد وبرغبة أكيدة وبعمل على الوجه المشروع، فإذا أمر الله بشيء فلا يصح بحال من الأحوال التواني والتباطؤ ابتداءً من هذه الصلاة إذا نادي المنادي فقال: الله أكبر، حي على الفلاح، فالبدار البدار، وهكذا التعامل مع أحكام هذه الشريعة الحلال والحرام وسائر ما أمر الله -تبارك وتعالى- به أو نهى عنه، في القضايا العلمية والقضايا العملية، أخذ ذلك بجد من غير تفريق بحسب ما تهواه الأنفس، فلا يكون حال أهل الإيمان ممن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.

كذلك أيضًا لا يصح بحال من الأحوال أن يتجارى مع هذه الشريعة بالنسبة للعالمين بها بحسب أهواء الناس، فذلك يكون بالنسبة لعامة الأمة وبالنسبة لخاصتها، أخذ الكتاب بقوة بجد، تتبع رخص الفقهاء أمر يخرج المكلَّف من رِبقة التكليف ومن ضبط الشرع له ولسلوكه وعمله وحاله وهواه إلى ما يقابل ذلك، حتى تصير الشريعة تبعًا لأهواء الناس.

هذا يقال بالنسبة للمكلف نفسه، بمعنى أنه يجب عليه أن يبحث عن الحق والحق عند الله واحد لا يتعدد، فلا يطلب ما يوافق مراده وما يهوى فيبحث عن فتوى مفتىٍ ليرخص له بهذا الفعل، أو أنه قد رأى أحد المفتين في قناة فضائية يفتي بالجواز والترخيص بهذا الأمر ثم يقول: وجدت من يبيح هذا الفعل، وهو حينما يتتبع ذلك فإنه سيجد في كل شيء له فيه هوى من يرخص له فيه، فتكون النتيجة كما قال جمع من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين: بأنك إن أخذت برخصة كل فقيه اجتمع فيك الشر كله، يجتمع الشر، ولهذا لما جمع بعضهم كتابًا في رخص الفقهاء ودفعه إلى أحد الخلفاء، فنظر فيه وعرضه على بعض من حضره من أهل العلم، فحكموا على أن هذا الكتاب كتاب زندقة؛ لأنه يُخرج من شرع الله فهذا فيما يتعلق برخص الفقهاء.

خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ بجد، فالكسل والتأخر والتباطؤ والتسويف لا يجدي، سواء كان ذلك في الدعوة إلى الله أو في العمل بشرعه وطاعته، وترك مساخطه أو كان ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الولاء والبراء، أو غير ذلك من أبواب هذه الشريعة، أن يؤخذ ذلك على مراد الله -تبارك وتعالى- من غير تبديل ولا تضييع ولا تفريط ولا تأجيل ولا تسويف، يكون دافعه الكسل والتثاقل، هناك أشياء قد تؤخر ونحو ذلك لاقتضاء المصلحة الشرعية المعتبرة التي يقررها العلماء الربانيون، لكن إذا كان الداعي لهذا التسويف والتأخير هو التثاقل والكسل فهنا يكون ذلك من قبيل التفريط والتضييع.

إذن الكسل في الطاعة، القعود عن الدعوة إلى الله وقد تكلمنا في مجلس خاص على قوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] وقلنا: إن الأيدي يعني القوة[1] القوة في العمل لطاعة الله، والقوة بالدعوة إليه، والقوة في البلاغ وجهاد أعدائه، كل هذا مما يُطلب فيه القوة أُوْلِي الأَيْدِي لكن هذه القوة تحتاج إلى الجانب الآخر وهو وَالأَبْصَارِ البصائر أن يكون هذه القوة على بصيرة على هدى من الله -تبارك وتعالى- وإلا فإنها قد تتحول إلى جفاء وغلظة وفساد وإفساد لا يكون فيه صلاح دين ولا صلاح دنيا، فهذا كله يُدخل فيه، تتبع الرخص، الكسل والتباطؤ، وكذلك الحيل، الحيل التي يخرج بها المكلف من الأبواب الخلفية، فالشريعة جاءت لضبط عمله وسلوكه ونحو ذلك، فهذه الحيل مخارج، كيف تتخرج من الزكاة؟ بأن يمكن أن تعقد عقدًا صوريًا مع أحد وتبيع هذه العقارات أو نحو ذلك أو تتصرف بهذا المال أو تغير الحلال كما يقال، وذلك من أجل الخروج من عهدتها؛ لئلا يُلزم بالزكاة، هو لا تبرأ ذمته.

وقل مثل ذلك فيمن يريد الفطر في رمضان، فإنه لربما يضرب طريقًا يسلكها يخادع ربه كأنه مسافر، وهو يريد الفطر، ليس عنده سفر، فيمشي تلك المسافة التي يذكرها، يحددها بعض الفقهاء أو فيما يكون في العرف من قبيل السفر ثم يفطر ويرجع، هو لو أفطر في وسط بيته لخفف على نفسه عناء الانتقال والبعد، فالحكم واحد، فليس له من ذهابه ذاك ومسيره هذا إلا العناء والتعب، ما تغير الحكم حيلة، كما سيأتي في حيلة بني إسرائيل في الصيد يوم السبت.

فهذه الحيل التي يخرج بها الإنسان من رِبقة التكليف هي لا تغني عنه شيئًا، ولا تبرأ ذمته بذلك، وسيجد أشياء عجيبة في كلام بعض الفقهاء من هذه الحيل، ولو نظرت في مثل كتاب: "إعلام الموقعين" للحافظ ابن القيم -رحمه الله- حينما تحدث عن الحيل بفصول طويلة جدًا، وذكر أمثلة كثيرة للحيل المحرمة وذكر أيضًا حيلاً صحيحة مباحة، فهذا يذكرون فيه أشياء عجيبة تصل إلى قتل الزوجة من غير تبعة، وتصل إلى فعل كل ما يحلو له من غير تبعة، والتنصل من الحقوق المالية لذوي الحقوق، والتنصل من الكفارات، والحدود، وما إلى ذلك.

فالجد والعمل بطاعة الله -تبارك وتعالى- هذا هو الطريق، لكن على وفق ما شرَّع الله -تبارك وتعالى- ليس بغلو يبلغ به العبد إلى تحريم ما أحله الله -تبارك وتعالى- أو إيجاب ما لم يوجبه، أو حمل النفس على لون من المشقة كما يقول الشاطبي -رحمه الله[2] غير معهودة تفضي بالمكلف إلى التثاقل والانقباض، وعدم الإقبال على العبادة برغبة، فإن من مقاصد الشارع التكليف بهذه الشريعة الدوام والاستمرار، فيُقبل على المكلف على الطاعة والعبادة بطواعية ورغبة، فإذا كان يحمل نفسه على ألوان من الأعمال الشاقة جدًا التي لم يوجبها الله عليه فتهدم عافيته وبدنه، كأن لا ينام الليل، يقوم، ويصوم الدهر ونحو ذلك، وينفق كل ما بيده، فإن ذلك يفضي به إلى مشقات غير محتملة، فيضر بنفسه ببدنه ونحو ذلك، ويستثقل الطاعة والعبادة، فلربما يكرهها ويتبرم بها، ولربما يكره ذلك الموسم الذي يقبل عليه وهو موسم الطاعة؛ لأنه يحمل نفسه فيه على أمور لا تكاد تحتمل، فهذا خطأ وإن كان هذا العمل من قبيل الطاعة.

يعني مثلاً لو قلنا: إن أحدًا من الناس يريد أن يختم في كل يوم في رمضان ختمتين، أو أن يختم في كل ليلة من ليالي هذا الصيف الطويل في صلاة إلى قبيل الفجر يختم ختمة كل يوم، فهذا قد يشق عليه جدًا، ويثقل عليه، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يثقل عليه الشهر، فإذا أقبل رمضان لربما صار ذلك بالنسبة إليه شيئًا غير مرغوب فيه، وهذا غير مراد، التعامل مع الله لا يكون بهذه الطريقة.

ثم أيضًا يؤخذ من قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63] أن الأخذ بالكتاب المنزل يوجب التقوى، التقوى تتحقق بالعمل بأمر الله واجتناب مساخطه. 

  1.  على الرابط التالي: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ lecture/ 3021. 
  2.  انظر: الموافقات (2/ 148).