الثلاثاء 06 / ذو الحجة / 1446 - 03 / يونيو 2025
ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلْخَٰسِرِينَ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ [سورة البقرة:64] يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه، وانثنيتم، ونقضتموه، فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [سورة البقرة:64] أي: بتوبته عليكم، وإرساله النبيين والمرسلين إليكم لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:64] بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63] أي: من أجل أن تتحقق التقوى لكم، وإنما يكون ذلك بالعمل بالتوراة، والإيمان بها قبل ذلك، وأن تكون أحكام الله ، وأوامره، ونواهيه حاضرة في قلوبهم، وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني ما في الكتاب من أجل أن تحصل التقوى في قلوبكم، و(لعل) للتعليل إلا في موضع واحد.
يقول: ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ [سورة البقرة:64] أي من بعد هذا الميثاق، وأصل التولي أن يكون بالبدن، أي يدير الإنسان ظهره للشيء، ويعرض عنه ببدنه، ولكنه يستعمل في هذا وفي غيره، فكل من ترك شيئاً، وأعرض عنه، ولم يتمسك به؛ فإنه يكون قد تولى عنه.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ أي أعرضتم عن العمل بها، والتزام أحكامها، وضيعتموها، جعلتموها وراءكم ظهرياً من بعد لك، والله تعالى أعلم.
فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [سورة البقرة:64] أي رحمة الله واقعة موجودة بأن لم يعجل لكم العقوبة، وكانت رحمته واسعة، وأصل الفضل هو الإفضال، ولا شك أن رحمة الله بعباده هي من فضله، وفضل الله واسع، فهو لا يعاجل الناس بالعقاب، وإنما يرسل إليهم الرسل، وينزل إليهم الكتب، فكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتتابعون على بني إسرائيل يسوسونهم.

مرات الإستماع: 0

لكن ما الذي كان من هؤلاء اليهود مع رفع الجبل عليهم وأخذ الميثاق؟ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:64] خالفتم وعصيتم مرة أخرى رجعتم إلى ما كنتم عليه بعد أخذ الميثاق ورفع الطور كشأنكم دائمًا فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوبة والتجاوز عن هذه المعاصي والمساخط التي ترتكبونها لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ في الدنيا والآخرة، فيؤخذ من هذا لؤم بني إسرائيل، بعدما رجع الجبل إلى مكانه واطمأنوا -رفع وزال من فوق رؤوسهم- رجعوا إلى عادتهم وما كانوا عليه من النكث والتولي والإعراض والتمرد: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:64] أن الإنسان لا يستقل بالتوفيق والهداية والتوبة، وإنما يحتاج إلى ألطاف الله، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويوفق من شاء، بعض الناس يقول: أحاول أن أتوب ولا أستطيع -أسأل الله العافية- يبتلى بذنب، بنظر محرم أو بعمل من الأعمال المحرمة، ويقول: أحاول أن أتوب ولا أستطيع، فالموفق هو الله، والهادي هو الله، فعلى العبد أن يقبل عليه، وأن يتضرع إليه، ولا ينظر إلى نفسه أنه يملك التقوى والإيمان والوازع الديني ما يستطيع مع أن يحجز نفسه عن كل ما لا يليق، لا، وإنما كما قال الإمام أحمد -رحمه الله: "لولا ستر الله لافتضحنا"[1]

هكذا يكون المؤمن، لا ينظر إلى أنه عنده قدرات وإمكانيات وعنده قوة إرادة وقوة عزيمة قوية وثبات، وأنه لا تزعزعه العواصف والفتن والشرور، لاسيما في مثل هذه الأوقات التي كثرت فيها وقربت فتن الشبهات والشهوات على حد سواء، فأصبح الحال يشبه إلى حد كبير ما قال الله -تبارك وتعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهذه الأجهزة التي بيد الآن الطفل الصغير قبل الكبير هذه تنالها أيديهم، تنالها أناملهم متى شاءوا نظروا إلى أقبح المشاهد التي لا تنفعهم وإنما تضرهم في أبدانهم وفي قلوبهم وفي أديانهم وفي أخلاقهم، مشهد واحد من شأنه أن يدمر الفضائل التي تعلمها الإنسان وتربى عليها -نسأل الله العافية.

وكم سمعت من شكاية في هذا وما يشبهه، فأقول: الموفق هو الله، الشبهات الخطافة، ترى الرجل أحيانًا وتعجب، لا ينقصه علم، لا ينقصه عقل، كيف يَضل، كيف يقبل مثل هذه الضلالات، كيف يقتنع، كيف يحسن الظن بهؤلاء المنحرفين الضالين؟

لا تملك إلا أن تقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يعني أحيانًا تجد من لا يُتهم، يعني لا يُتهم أنه يقصد اتباع الهوى، من له اشتغال بالعلم وعبادة ومع ذلك قد تعلق في قلبه شبهة -نسأل الله العافية- فيضل ويزيغ، وانظروا عبر التاريخ الضلالات والأهواء، وقد ذكرت في الكلام على الاختلاف[2] أمثلة ونماذج من هذا.

عمران بن حطان من زعماء الخوارج كان من أهل السنة، يقال: إنه كانت له بنت عم أراد أن يردها إلى الحق كانت على رأي الخوارج فتزوجها ففتن[3] وتحول إلى زعيم من زعماء الخوارج، وكبير من كبار قادتهم، ويقال: إنه قدم غلام أو فتى من عمان فقلبه في قعدة[4] -نسأل الله العافية- كلمه وناظره، والشبه خطافة.

وكان السلف الواحد يضع أصبعيه في أذنيه قتادة وغير قتادة، يقول: أكلمك بكلمة. يقول: ولا نصف كلمة[5] اجلس في هذا الدكان أكلمك قال: لا، قال: لم؟ القلب ضعيف[6].

وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التحول"[7] كل يوم على مذهب، فهذا لاسيما شاب صغير قليل العلم قليل الخبرة قليل المعرفة بتاريخ أشياء يجب أن تعرف، ويتابع حسابات -الله أعلم- لمن تكون هذه الحسابات، فيها أنواع الشبهات والضلالات التي هي أكبر منه بكثير، أمور لا يحيط بها علمًا، ولا يعرف ما وراءها، ثم بعد ذلك يكون حطبًا في فتنة يتسارع إليها فيخسر دنياه، وقد يخسر آخرته، هذا دين، حينما يثق الإنسان بنفسه ويقول: أنا أعرف، أنا أميز، أنا عندي عقل أنا أفهم، "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التحول".

الإمام مالك إمام دار الهجرة، جبل في العلم، يأتيه رجل ويقول: "أناظرك يا إمام، قال: ثم ماذا إذا، فإذا غلبتك؟ قال: أتبعك، قال: فإذا غلبتني؟ قال: تتبعني، قال: فإذا جاء رجل ثالث فغلبنا؟ قال: نتبعه، قال: أهكذا الدين"[8] كل يوم على دين وكل يوم على مذهب.

ولذلك انظروا إلى أصحاب الأهواء كيف يتحولون وكيف يتقلبون، وخذوها إذا رأيت الرجل كل يوم على طريقة وعلى مذهب، ونظرت إلى تاريخه كان هكذا ثم صار هكذا ثم صار هكذا ثم، فهذا لا يوثق به من جهة الاقتداء، لا يصلح أن يكون قدوة، أما دينه فبينه وبين الله لكن للاقتداء لا يصلح للاقتداء، لا يصلح أبدًا للاقتداء.

والمشكلة أن هؤلاء الشباب أحيانًا لا يعلمون عن هذا كله الخلفيات لهذه الضلالات، وهؤلاء الذين يتحولون ويتقلبون في الفتن ظهرًا لبطن لربما كان بعض هؤلاء في يوم من الأيام على الطرف الآخر، أقصى اليسار، ثم صار أقصى اليمين، هذا لا يوثق فيه.

هناك أشياء تدل على ضعف في العقل، وضعف في القدرات التي عند الإنسان ابتداءً، فمثل هذا هل يصلح أن يُوجِه وأن يُرشِد وأن يُعلِّم وأن يُرجَع إليه في الملمات والمهمات والأمور الخطيرة الكبار؟

أبدًا، ولذلك أقول: انظروا إلى العلماء الراسخين تجدهم على جادة واحدة، خذ أمثلة الإمام أحمد، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الحافظ ابن القيم، ابن رجب، وإلى عصرنا هذا، يصح أن أقول إن شاء الله ولست مبالغًا: شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في هذا العصر، من مثله في العلم والورع نحسبه والله حسيبه، على جادة واحدة من أيام شبابه إلى أن توفي، نفس واحد لا تجد تحول ولا تقلب ولا يمين ولا شمال في العلم والعمل والتعليم والدعوة وإنكار المنكر، وما أشبه ذلك.

فنقول للشباب كما قال ابن مسعود : "من كان مقتديًا فليقتدِ بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[9].

فهؤلاء الذين ماتوا على جادة، هؤلاء هم القدوات هم الأعلام، لكن المشكلة حينما يُسقَط هؤلاء من نفوس الناس، ويفتح باب المذمة والوقيعة فيهم، فعندئذ تبقى الشياطين هي التي توجه، ويبقى الأصاغر هم الذين يقودون ويعلمون، ويذهب الكبار ولو كانوا من الأحياء، إذا أُسقط في أعين الناس فإنه نسأل الله العافية والهداية للجميع، وأن يحفظنا وإياكم من مضلات الفتن.

  1.  لم أقف عليه. 
  2. سلسلة بعنوان: (الاختلاف وموقفنا منه)، على الرابط التالي: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ slasel/ tid/ 370. 
  3.  انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 214). 
  4.  أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 471)، برقم (477). 
  5.  أخرجه الدارمي في سننه (1/ 390)، برقم (412)، وقال محققه سليم أسد: "إسناده صحيح"، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 447)، برقم (402).
  6.  أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 152)، برقم (249)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 446)، برقم (400)، وبرقم (1778)، الإبانة (4/ 215). 
  7.  انظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 503)، برقم (566)، بلفظ: "من أكثر الخصومات أكثر التنقل".
  8.  أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 507)، برقم (583). 
  9.  أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 104)، برقم (130).