يقول تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله، وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، والقيام بأمره؛ إذ كان مشروعاً لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص، والحبائل، والبرك قبل يوم السبت.الشصوص هي تلك السُّنَّارات الحديدية المنثنية المدببة الرأس التي يصطاد فيها السمك.
والحبائل يعني الشباك.
والبرك بأن يحفر حفرة قريبة من الشاطئ يصل إليها الماء فتتساقط فيها الأسماك، فإذا سقط السمك بفعل الأمواج لا يستطيع أن يرجع مرة أخرى، وهذه البرك معروفة إلى اليوم إذ تجعل بطريقة معينة بحيث يسقط السمك، ولا يستطيع الخروج منها، فيأتون وقد اجتمع في هذه الحفرة فيكون قريب المأخذ.
فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص، والحبائل، والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل، والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر، ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم، وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163] القصة بكمالها.وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] هؤلاء احتالوا بهذه الحيلة، حيث كان يحرم عليهم العمل في يوم السبت أياً كان، فابتلاهم الله بهذا الطمع، حيث صارت الحيتان في سائر أيام الأسبوع تغور في البحر وتبعد فيه فلا يصلون إليها، فإذا كان يوم السبت جاءت شُرَّعاً قريبةً منهم تتراءى لهم، سهلة الأخذ، فذلك جعلهم يحتالون بهذه الحيلة، فوضعوا الشباك في يوم الجمعة؛ فوقعت فيها الحيتان في يوم السبت، فهذه حيلة وهم يقولون: يوم السبت نحن وضعنا يداً على يد، ورجلاً على رجل، ولم نحرك ساكناً، ولم نصطد حوتاً، ولم نفعل شيئاً، أخذناها يوم الأحد، فكان ذلك من الحيلة، فالله يعلم ولا يخفى عليه شيء، فعاقبهم بهذه العقوبة الشديدة بأن مسخهم قردة فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فكانوا قردة، وهو مسخ حقيقي أي صاروا قردة حقيقيين.
وقوله: قِرَدَةً خَاسِئِينَ أي: صاغرين، فالخاسئ هو الصاغر المبعد، فالإبعاد والصغار يقال لصاحبه: خاسئ.
فهذا أصل في ذم الحيل، والرد على أصحابها أياً كانت هذه الحيل، وللأسف صار هذا كثيراً في زماننا هذا لا سيما في ما يسمى بالمعاملات المالية التي يسمون كثيرا ًمنها إسلامية، وهي لا تعدو أن تكون كما فعل هؤلاء أصحاب السبت حيث احتالوا على الله بهذه الحيلة، وسموا هذه المعاملات القرض الحسن، أو القرض المبارك، والتمويل المبارك، ومن صور ذلك أن يأتي إنسان يحتاج إلى مليون، فيقولون له: نحن نبيع لك حديد، ويسجلون عليه حديد، ثم يقولون: بعناه لك بثمانمائة ألف وهو عليك أقساط بمليون، كل هذه اللفة الطويلة وهو لا يريد حديداً، ولا يفكر بالحديد، ولم يخطر في حياته أن يشتري حديداً، ولم ير الحديد...الخ.
وعلى كل حال فمثل هذا من الحيل.
ومن صور الحيل أن يقول له: أؤجر لك هذه السيارة تأجيراً منتهياً بالتمليك، فيحتالون على الناس بهذه الطريقة، وهذا كله من هذا الباب.
قوله تعالى: الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] السبت المقصود به يوم السبت المعروف، وقيل له ذلك؛ لأن السبت يأتي بمعنى القطع، وبعضهم يقول: الراحة، ولا فرق بينهما؛ لأنه يوم ينقطعون فيه عن أعمالهم يستريحون فيه، فلا يجوز لهم العمل بشيء من أعمالهم الدنيوية في يوم السبت، يوم القطع، ويوم الراحة.
ومن معاني يوم السبت أنه الفرس الذي لا يسبق، وعلى كل حال هو يوم انقطاعهم عن أعمالهم فهم يستريحون فيه قال تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163]، فقوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ يعني يوم لا يتوقفون، ولا ينقطعون عن عملهم يوم إجازتهم.
وقال العوفي في تفسيره: عن ابن عباس - ا -: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] فجعل الله منهم القردة، والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة، وأن المشيخة صاروا خنازير.الله قال: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ لماذا يقال: إن البعض صاروا خنازير، والبعض صاروا قردة؟ فما دام ظاهر القرآن أنهم صاروا قردة فمثل هذا الكلام لا يلتفت إليه، فالذي دل عليه القرآن أنهم صاروا قردة فلا يؤتى بمثل هذه الأشياء، ولا تقبل ما دامت لا دليل عليها..
كذلك قول من قال - وهو منقول عن أحد السلف وهو قول معروف مشهور لمجاهد - أن المسخ كان معنوياً ولم يكن حقيقياً، وهذا أبعد ما يكون، فالله قال لهم: كُونُواْ قِرَدَةً فكانوا قردة.
وأخبار بني إسرائيل في هذا كثيرة منها أن هذه القرية انقسمت إلى ثلاثة أقسام: منهم الذين لم يخرجوا في صبيحة ذلك اليوم من مدينتهم، فبقيت أبوابها مقفلة، فتسوروا عليهم الذين أنكروا فنظروا فإذا هم قردة، ويزعمون أن الواحد منهم كان يعرف ابن عمه وقريبه، فيأتي إليه، ويشمه، ويبكي، إلى غير ذلك مما ذكر من أخبار بني إسرائيل التي لا يعول عليها، فالمقصود أنهم كانوا قردة، وأخبر الله عن مصير الذين أنكروا، وسكت عن الذين لم ينكروا هل نجوا أم لم ينجوا كما سيأتي في سورة الأعراف إن شاء الله.
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساء.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً ثم هلكوا.معنى فواقاً أي المدة اليسيرة، كما تقول: فواق ناقة يعني مقدار مدة حلب الناقة أي مدة قصيرة، ولذلك يقولون: إنهم لم يعيشوا مدة طويلة، ويقولون: إن الذي يمسخ لا يعيش مدة طويلة، وفي بعض الآثار أنه لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وأنه لا يأكل، ولا يشرب، ثم يموت، هكذا يقولون، وهذا الكلام لا دليل عليه لا في الكتاب، ولا في السنة.
الذي ثبت عن النبي ﷺ أنه في أول الأمر - فيما يظهر والله أعلم - لم يطلعه الله على حقيقة تتعلق بالمسخ، وأن الذين مسخوا لا نسل لهم، فلما رأى ﷺ الضب جعل يعد أصابعه بعود معه ولم يأكل منه، وذكر النبي ﷺ أنه يخشى أنه مما مسخ فهذا بالنسبة للضب، وكذلك الفأرة لما ذكر النبي ﷺ أن أمة من بني إسرائيل فقدت لا يُعرف أين هي، قال: لا أراها إلا الفأرة[1] وذكر أنها تقع على السمن ولا تقرب الحليب، لكن النبي ﷺ أطلعه الله بعد ذلك أنه لم يجعل لمسخ نسلاً أي أنهم ينقرضون، لكن هل يبقون ثلاثة أيام فقط، وهل لا يأكلون، ولا يشربون، أم أنهم يعيشون حتى تنتهي أعمارهم التي جعلها الله لهم ثم يموتون بعد ذلك، وينتهون؟
الله أعلم بهذا، لكن لا يتناسلون، ونحن نعرف أن الفأرة الآن ليست من ذرية أولئك اليهود الذين فقدوا، ونعرف أن هذا الضب ليس أجداده بشر، وأن القردة الموجودة الآن والخنازير ليست هذه أحفاد لليهود، إنما هي قردة حقيقية، فالقردة كانت موجودة قبل مسخ بني إسرائيل، وكذلك الخنازير.
إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً، ثم هلكوا، ما كان للمسخ نسل، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم ينسلوا، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء.
- أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: خبير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال (3129) (ج 3 / ص 1203) ومسلم في كتاب: الزهد والرقائق - باب: في الفأر وأنه مسخ (2997) (ج 4 / ص 2294).