الأحد 04 / ذو الحجة / 1446 - 01 / يونيو 2025
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَوْا۟ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ* فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:65-66].
يقول تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله، وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، والقيام بأمره؛ إذ كان مشروعاً لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص، والحبائل، والبرك قبل يوم السبت.
الشصوص هي تلك السُّنَّارات الحديدية المنثنية المدببة الرأس التي يصطاد فيها السمك.
والحبائل يعني الشباك.
والبرك بأن يحفر حفرة قريبة من الشاطئ يصل إليها الماء فتتساقط فيها الأسماك، فإذا سقط السمك بفعل الأمواج لا يستطيع أن يرجع مرة أخرى، وهذه البرك معروفة إلى اليوم إذ تجعل بطريقة معينة بحيث يسقط السمك، ولا يستطيع الخروج منها، فيأتون وقد اجتمع في هذه الحفرة فيكون قريب المأخذ.
فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص، والحبائل، والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل، والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر، ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم، وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163] القصة بكمالها.وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] هؤلاء احتالوا بهذه الحيلة، حيث كان يحرم عليهم العمل في يوم السبت أياً كان، فابتلاهم الله  بهذا الطمع، حيث صارت الحيتان في سائر أيام الأسبوع تغور في البحر وتبعد فيه فلا يصلون إليها، فإذا كان يوم السبت جاءت شُرَّعاً قريبةً منهم تتراءى لهم، سهلة الأخذ، فذلك جعلهم يحتالون بهذه الحيلة، فوضعوا الشباك في يوم الجمعة؛ فوقعت فيها الحيتان في يوم السبت، فهذه حيلة وهم يقولون: يوم السبت نحن وضعنا يداً على يد، ورجلاً على رجل، ولم نحرك ساكناً، ولم نصطد حوتاً، ولم نفعل شيئاً، أخذناها يوم الأحد، فكان ذلك من الحيلة، فالله يعلم ولا يخفى عليه شيء، فعاقبهم بهذه العقوبة الشديدة بأن مسخهم قردة فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فكانوا قردة، وهو مسخ حقيقي أي صاروا قردة حقيقيين.
وقوله: قِرَدَةً خَاسِئِينَ أي: صاغرين، فالخاسئ هو الصاغر المبعد، فالإبعاد والصغار يقال لصاحبه: خاسئ.
فهذا أصل في ذم الحيل، والرد على أصحابها أياً كانت هذه الحيل، وللأسف صار هذا كثيراً في زماننا هذا لا سيما في ما يسمى بالمعاملات المالية التي يسمون كثيرا ًمنها إسلامية، وهي لا تعدو أن تكون كما فعل هؤلاء أصحاب السبت حيث احتالوا على الله بهذه الحيلة، وسموا هذه المعاملات القرض الحسن، أو القرض المبارك، والتمويل المبارك، ومن صور ذلك أن يأتي إنسان يحتاج إلى مليون، فيقولون له: نحن نبيع لك حديد، ويسجلون عليه حديد، ثم يقولون: بعناه لك بثمانمائة ألف وهو عليك أقساط بمليون، كل هذه اللفة الطويلة وهو لا يريد حديداً، ولا يفكر بالحديد، ولم يخطر في حياته أن يشتري حديداً، ولم ير الحديد...الخ.
وعلى كل حال فمثل هذا من الحيل.
ومن صور الحيل أن يقول له: أؤجر لك هذه السيارة تأجيراً منتهياً بالتمليك، فيحتالون على الناس بهذه الطريقة، وهذا كله من هذا الباب.
 قوله تعالى: الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] السبت المقصود به يوم السبت المعروف، وقيل له ذلك؛ لأن السبت يأتي بمعنى القطع، وبعضهم يقول: الراحة، ولا فرق بينهما؛ لأنه يوم ينقطعون فيه عن أعمالهم يستريحون فيه، فلا يجوز لهم العمل بشيء من أعمالهم الدنيوية في يوم السبت، يوم القطع، ويوم الراحة.
ومن معاني يوم السبت أنه الفرس الذي لا يسبق، وعلى كل حال هو يوم انقطاعهم عن أعمالهم فهم يستريحون فيه قال تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163]، فقوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ يعني يوم لا يتوقفون، ولا ينقطعون عن عملهم يوم إجازتهم.
وقال العوفي في تفسيره: عن ابن عباس - ا -: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] فجعل الله منهم القردة، والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة، وأن المشيخة صاروا خنازير.الله قال: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ لماذا يقال: إن البعض صاروا خنازير، والبعض صاروا قردة؟ فما دام ظاهر القرآن أنهم صاروا قردة فمثل هذا الكلام لا يلتفت إليه، فالذي دل عليه القرآن أنهم صاروا قردة فلا يؤتى بمثل هذه الأشياء، ولا تقبل ما دامت لا دليل عليها..
كذلك قول من قال - وهو منقول عن أحد السلف وهو قول معروف مشهور لمجاهد - أن المسخ كان معنوياً ولم يكن حقيقياً، وهذا أبعد ما يكون، فالله قال لهم: كُونُواْ قِرَدَةً فكانوا قردة.
وأخبار بني إسرائيل في هذا كثيرة منها أن هذه القرية انقسمت إلى ثلاثة أقسام: منهم الذين لم يخرجوا في صبيحة ذلك اليوم من مدينتهم، فبقيت أبوابها مقفلة، فتسوروا عليهم الذين أنكروا فنظروا فإذا هم قردة، ويزعمون أن الواحد منهم كان يعرف ابن عمه وقريبه، فيأتي إليه، ويشمه، ويبكي، إلى غير ذلك مما ذكر من أخبار بني إسرائيل التي لا يعول عليها، فالمقصود أنهم كانوا قردة، وأخبر الله عن مصير الذين أنكروا، وسكت عن الذين لم ينكروا هل نجوا أم لم ينجوا كما سيأتي في سورة الأعراف إن شاء الله.
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالاً ونساء.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً ثم هلكوا.
معنى فواقاً أي المدة اليسيرة، كما تقول: فواق ناقة يعني مقدار مدة حلب الناقة أي مدة قصيرة، ولذلك يقولون: إنهم لم يعيشوا مدة طويلة، ويقولون: إن الذي يمسخ لا يعيش مدة طويلة، وفي بعض الآثار أنه لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وأنه لا يأكل، ولا يشرب، ثم يموت، هكذا يقولون، وهذا الكلام لا دليل عليه لا في الكتاب، ولا في السنة.
الذي ثبت عن النبي ﷺ أنه في أول الأمر - فيما يظهر والله أعلم - لم يطلعه الله على حقيقة تتعلق بالمسخ، وأن الذين مسخوا لا نسل لهم، فلما رأى ﷺ الضب جعل يعد أصابعه بعود معه ولم يأكل منه، وذكر النبي ﷺ أنه يخشى أنه مما مسخ فهذا بالنسبة للضب، وكذلك الفأرة لما ذكر النبي ﷺ أن أمة من بني إسرائيل فقدت لا يُعرف أين هي، قال: لا أراها إلا الفأرة[1] وذكر أنها تقع على السمن ولا تقرب الحليب، لكن النبي ﷺ أطلعه الله بعد ذلك أنه لم يجعل لمسخ نسلاً أي أنهم ينقرضون، لكن هل يبقون ثلاثة أيام فقط، وهل لا يأكلون، ولا يشربون، أم أنهم يعيشون حتى تنتهي أعمارهم التي جعلها الله لهم ثم يموتون بعد ذلك، وينتهون؟
الله أعلم بهذا، لكن لا يتناسلون، ونحن نعرف أن الفأرة الآن ليست من ذرية أولئك اليهود الذين فقدوا، ونعرف أن هذا الضب ليس أجداده بشر، وأن القردة الموجودة الآن والخنازير ليست هذه أحفاد لليهود، إنما هي قردة حقيقية، فالقردة كانت موجودة قبل مسخ بني إسرائيل، وكذلك الخنازير.
إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقاً، ثم هلكوا، ما كان للمسخ نسل، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم ينسلوا، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: خبير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال (3129) (ج 3 / ص 1203) ومسلم في  كتاب: الزهد والرقائق - باب: في الفأر وأنه مسخ (2997) (ج 4 / ص 2294).

مرات الإستماع: 0

"اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اصطادوا فيه الحوت وكان محرمًا عليهم.

كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم، وخاسئين صفة أو خبر ثان، ومعناه مبعدين كما يخسأ الكلب."

هذا مسخ حقيقي على ظاهره، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم سلفًا، وخلفًا، اللهم إلا ما روي عن مجاهد: أن المسخ كان معنويًا. وهذا غير صحيح، ولا دليل عليه، وهو خلاف ظاهر القرآن، فهنا كُونُوا قِرَدَةً حقيقة، فهنا يقول: عبارة عن مسخهم. لكن قوله هنا: عبارة عن مسخهم. هل يقصد بأن ذلك لم يكن بلفظ كن فيكون، يعني بمعنى أن الله قضى بمسخه، وحكم به دون أن يقول: كن. بأن الله ليس له كلام يتعلق بمشيئته، وإرادته؟ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً إن كان يقصد هذا المعنى، يعني الآن عندنا قضيتان: 

القضية الأولى: المسخ هل هو حقيقي، أو لا؟ عبارته أن المسخ لم يقيده بأنه مسخ معنوي، فلا إشكال في كلامه.

القضية الثانية: في صفة كلام الله : فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً فظاهره أن الله - تبارك وتعالى - تكلم بذلك، فالله إذا أراد شيئًا فإنه يقول له: كن.

فيكون، والقول في كلام العرب هو الذي جاء في الكتاب، والسنة، وليس له معنى آخر، القول: مجموع اللفظ، والمعنى.

يعني لا يكون المعنى قولًا، الشيء الذي في النفس، وإنما يكون باللفظ، وما يتضمنه من المعنى خلافًا للمتكلمين من الأشاعرة مثلًا، الذين يقولون: بأن القول والكلام بالنسبة لله هو النفسي. ويحتجون على هذا بمثل فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي[1] وتقول: قال في نفسه.

قلتي في نفسي، زورت في نفسي حديثًا كما جاء عن عمر  ولكن الواقع أن هذا ليس فيه دليل، فالقول، والكلام، والحديث، ونحو ذلك كالإنسان، الإنسان لا يكون إلا مجموع الروح، والجسد، فإذا فارقته الروح كان جثة، والروح وحدها لا يقال لها إنسان، فكذلك القول لا يكون مجردًا بلا معنى، لا يقال له قول، وكذلك الكلام، كما قال ابن مالك - رحمه الله -:

"كلامنا لفظ مفيد كاستقم."

يعني مفيد فائدة يحسن السكوت عليها، فلا بد من الإفادة، وهذا لا يكون إلا بتمام المعنى، كلامنا لفظ. ولا بد من اللفظ، فهذا في لغة العرب، ولا يُعرف غير هذا، ولكنه قد يقال: حدث نفسه بكذا. إذا قُيد الحديث بأنه في النفس، حدثت نفسي بكذا، حديث نفس إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم، أو تعمل[2] ففرق بين هذا وهذا، فالمقيد قد يُراد به حديث النفس، ولكنه عند الإطلاق لا يكون إلا بمجموع الأمرين: أن يكون اللفظ، والمعنى، فإذا كان هنا يقصد كُونُوا قِرَدَةً أن المقصود بذلك هو نفس المسخ من غير قول. فهذا تأويل، وإن لم يقصد هذا المعنى، وإنما يريد هنا بيان المراد بتحويلهم إلى قردة أن المقصود به المسخ، فهذا العبارة تحتمل، تحتاج إلى تتبع كلامه في مسألة كلام الله وعلى كل حال كان المؤلف - رحمه الله - يوافق المتكلمين في بعض عباراتهم، وأحيانًا يذكر كلام المتكلمين وكلام أهل السنة، ونحن ننبه - إن شاء الله - في كل موضع على ذلك.

"فَجَعَلْناها الضمير للفعلة، وهي المسخ. نَكالًا أي: عقوبة لما تقدم من ذنوبهم، وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدم، ومن تأخر."

النكال مضى في الغريب وهو بمعنى الرجس والعقاب، وأصل ذلك يرجع إلى معنى القيد في أصله فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا يقول: عقوبة لما تقد من ذنوبهم، وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدم، ومن تأخر. لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا بعضهم يقول: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا من القرى، بلاد يعتبرون بها، الذين كانوا في زمانهم. نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا يعني نكالًا لمن حولهم من القرى في ذلك الزمان، وموعظة للذين من بعدهم، كما جاء عن ابن عباس، وهو اختيار الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أن النكال لما بين يديها، وما خلفها يعني من القرى المعاصرة لها، والموعظة لمن جاء بعدهم ممن بلغه خبرهم.

واختار أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: أن المراد أنه جعل العقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة، ولما خلفها من أمثال ذنوبهم إذا عُمِل بها فيمسخ نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا جرائرهم التي مضت فاستوجبوا بها هذه العقوبة وَمَا خَلْفَهَا لمن يعمل - يعني وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83] - عملهم فيصيبه ذلك.

ابن جزي يقول: أي عقوبة لما تقدم من ذنوبهم، وما تأخر. وقيل: عبرة لمن تقدم، ومن تأخر. كلام ابن جرير يوافق الشق الأول من القول الأول: أي عقوبة لما تقدم من ذنوبهم، وما تأخر؟ ليس من ذنوبهم هم؛ لأنهم مُسخوا، وإنما لمن يعمل عملهم، فإطلاق القول هنا: وما تأخر. لا يتضح به المراد، لكن عبارة ابن جرير أوضح، وما تأخر: يعني مما يُعمل من بعدهم. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 28]، رقم: (7405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، رقم: (2675).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق، والشرك وغيره، رقم: (5269)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم: (127).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] ولقد علمتم يا معشر اليهود ما حلَّ من العقوبة والبأس والنكال بأسلافكم من أهل القرية التي عصت الله -تبارك وتعالى- فيما كان عليهم من تعظيم يوم السبت بترك الاشتغال وألوان المزاولات والأعمال من التجارات والمهن والصنائع وغيرها، فاحتالوا لقلة صبرهم وشدة طمعهم احتالوا في الاصطياد في ذلك اليوم الذي ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- فيه، فصارت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، في يوم السبت تكون هذه الحيتان قريبة الأخذ سهلة الاصطياد، ظاهرة يرونها عيانًا، وفي غير يوم السبت تذهب في لجة البحر لا يرون منها شيئًا، ولا يتمكنون من صيدها، فاحتالوا بهذه الحيلة بوضع الشِّباك، وحفر البرك قبل يوم السبت، نصبوا ذلك في يوم الجمعة ثم بعد ذلك أخذوه في يوم الأحد، هكذا احتالوا على هذا المنع، وتوصلوا إلى مطلوبهم بهذه الحيلة، ولكن الذي يتعامل مع ربه -تبارك وتعالى- ينبغي أن يكون فطنًا حذرًا تقيًّا لا يتعامل معه بالغش والاحتيال؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية.

يؤخذ من هذه الآية من الفوائد والهدايات من قوله : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ فهنا دخلت اللام وقد، هذه تفيد التوكيد بلا شك، ويحتمل أن يكون ذلك أيضًا جوابًا لقسم محذوف، والله لقد علمتم الذين اعتدوا في السبت، وما جرى لهم من العقوبة والنكال، وذلك أن مثل هذا الخبر يحتاج إلى توكيد؛ لأن عاقبتهم فيه كانت في غاية القبح، حيث مسخوا إلى قردة، وذلك مظنة أن ينكروا ذلك، وأن يكابروا فيه، كيف مُسخ بعض أوائلهم إلى قردة.

فهذه -نسأل الله العافية- لا شك أنها عقوبة ليست كالعقوبات، قد يعاقب الإنسان بالهلاك بالموت ولكن حينما يمسخ إلى قرد فهذا في غاية النكال، فربما ينكرون ذلك فجاء بهذا التوكيد: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ لا مجال للإنكار، فالله -تبارك وتعالى- الذي مسخهم هو الذي يؤكد هذا الخبر بهذا الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ثم قال: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ السبت يكون بمعنى القطع فهم ينقطعون عن أشغالهم وأعمالهم ومزاولاتهم، فصار ذلك سواء قيل: بأنهم هم الذين جعلوا ذلك على أنفسهم فأقرهم الله عليه وألزمهم بمقتضاه، أو قيل غير ذلك، المقصود أن الله -تبارك وتعالى- حاسبهم على عدوانهم في يوم سبتهم، فهذا السبت يحرُم عليهم فيه البيع والشراء والعمل والكسب فيتوقفون عن ذلك كله، هو بالنسبة إليهم يوم معظم.

فالمسلمون كما أخبر النبي ﷺ قد هداهم الله ليوم الجمعة[1] أضل عنه اليهود فصار يومهم السبت، وأضل النصارى وهم أضل من اليهود فصار المساكين لهم يوم الأحد، يوم السبت قد يقال: له وجه بالنسبة لليهود، قد يقولون، قد يبررون، قد يحتجون مع أنه لا مجال لهذا الاحتجاج؛ لأن الوحي بيّن أنهم قد ضلوا، ولكن ضلال اليهود دون ضلال النصارى، فيوم السبت هو اليوم الذي لم يكن فيه الخلق، فالله -تبارك وتعالى- خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فكان منتهى الخلق هو يوم الجمعة، وفي آخر ساعة منه خلق الله آدم واكتمل الخلق، ويوم السبت لم يكن فيه خلق، فقد يقول اليهود باعتبار أن هذا اليوم لم يكن فيه خلق يكون بالنسبة إليهم يتفرغون فيه للعبادة ونحو ذلك، ولا يزاولون أعمالهم ونحو هذا، مع أن هذا باطل.

وأما النصارى فجعل اليوم الذي يعظمونه هو يوم الأحد، فهذا لا وجه له إطلاقًا، ولكن هذا يتفق مع قوم إذا ذكر الضلال ذكروا، والعجيب أن يوجد في هذه الأمة الكاملة من يتشبه بهم ويحاكيهم، ولله في خلقه شؤون.

فالذي يتشبه بهؤلاء الضالين يكون أضل من الضالين؛ لأنه جعلهم قدوة، ومن جعل الغراب له دليلاً فإنه يطوِّف به على الجيف، مع أن المسلمين وما هداهم الله إليه في هذا اليوم يوم الجمعة لا يجوز لهم أن يتوقفوا عن أعمالهم، وفرق بين أن يكون يوم الجمعة يوم إجازة لا يذهب الناس فيه إلى وظائفهم أو مدارسهم فهذا لا إشكال فيه أن يحدد يوم يناسب الناس؛ ليتفرغوا لشؤونهم الخاصة مثلاً، ولا شك أن يوم الجمعة هو أنسب الأيام من أجل أن يتفرغ الناس للصلاة، وأن يبكروا لها، لكن فرق بين هذا وبين ما كان عليه اليهود، اليهود لا يزاولون عملاً ديانة، الأمة لا يجوز لها أن تفعل هذا، بمعنى أن الإنسان يقفل متجرة، الناس يقفلون المتاجر، تقفل الأسواق لا بيع لا شراء ولا مهن ولا أعمال ولا صيد ولا غير ذلك، هذا لا يوجد في هذه الأمة، ولا يجوز لأحد أن يترك الأعمال تدينًا في يوم الجمعة.

ففرق بين أن يكون يوم إجازة من الأعمال أو الدراسة الرسمية، وبين أن يكون الترك المطلق لكل مزاولة ومهنة وعمل وتجارة تقربًا إلى الله -تبارك وتعالى- وتعظيمًا لهذا اليوم، فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [سورة الجمعة:10] يعني: صلاة الجمعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] بعدما قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] بعد ذلك فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10].

فهذا الانتشار على الأرجح الانتشار كما قال بعض السلف كابن عباس وغيره  لصلة الرحم وطلب العلم[2] ويدخل فيه أيضًا الانتشار لطلب الرزق والبيع والتجارة الذي منعهم في أول الأمر منه إذا نودي النداء الثاني، الذي يكون بين يدي الخطبة: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذكر الله هنا يشمل الأمرين على الراجح الخطبة والصلاة؛ لأنهم حينما يذهبون بعد هذا النداء سيستمعون الخطبة، فهي داخلة فيه: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وهذا أمر للإباحة بعد المنع، والراجح أن الحكم يرجع فيه إلى ما كان عليه قبل ذلك.

الأمر بعد الحظر يرجع فيه الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، فكان حكم البيع والشراء ونحو ذلك قبل النداء الثاني للجمعة مباحًا، وبعد النداء صار محرمًا، ثم قال: فَانتَشِرُوا فهذا يرجع الحكم فيه إلى مكان قبل الحظر، هذه القاعدة في هذا الباب.

إذن هذه الآية في سورة الجمعة تدل على أن الأعمال والتجارات وطلب الرزق والكسب وما إلى ذلك أنه لا إشكال فيه في يوم الجمعة، وهذا أمر معلوم مقطوع به من هدي النبي ﷺ وهدي أصحابه وعملهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وهكذا بقي الحال في هذه الأمة إلى يومنا هذا.

ثم أيضًا هذه العقوبة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] ذكرنا في بعض المناسبات أن العقوبات في القرآن في كثير من المواضع تأتي موافقة ومجانسة ومناسبة للذنب والجرم الذي اجترحه الناس، فهنا هؤلاء فعلوا شيئًا في صورة المباح وحقيقته المنع والتحريم، فوضعوا الشباك يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد، قالوا: نحن يوم السبت وضعنا رجلاً على رجل ولم نحرك ساكنًا، وما صِدنا شيئًا، وعظّمنا يوم السبت ولم نقارف فيه ما يخل بتحريمه وتعظيمه.

الصورة ككثير من المعاملات التي يقال عنها: بأنها معاملات إسلامية، قروض وما إلى ذلك، وهي في واقعها حيل على الربا، الصورة بيع وشراء نبيع لك سلعة من السلع، ماذا تريد؟ أنا أريد قرضًا، أريد مائة ألف، لا بأس، نحن نبيع لك سلعة ثم نبيعها بالنيابة عنك في السوق العالمية السوق الدولية السوق الكذا، نقسطها عليك بمائة وعشرين ألف، ثم نبيعها لك وتفضل هذه المائة ألف، تريد مائة ألف ورجعها مائة وعشرين، أنا لا أريد سلعة أنا لا أريد حديد، ولا أريد خشب، أنا أريد مائة ألف، تريد قرضًا حسنًا، هذا لا يتأتى، إذن ما العمل؟ العمل نبيعك سلعة ولو كنت لا تريدها، نحن نبيعها بالنيابة عنك نقسطها عليك ثم ادفع أقساط مائة وعشرين ألف، ما الفرق بين هذا وبين الربا؟

تطويل القضية وحديد وبيع وأنا لا أريد الحديد وهم يعرفون هذا جيدًا، وأنا أعرف هذا جيدًا، مباشرة هات مائة ألف وخذ مائة وعشرين مقسطة، وأرح نفسك من هذا العناء الطويل، فما الفرق بين الربا الصريح والحيلة على الربا، توصل إلى مطلوبه بهذه الزيادة المحرمة بهذه الطريقة، سماه بيعًا، وقل مثل ذلك في أنواع الحيل كالعينة بيع العينة ونحو هذا.

الشاهد: أن هؤلاء جاءت عقوبتهم مناسبة لجرمهم وفعلهم، فهم جاؤوا بشيء صورته الإباحة وفي حقيقته المنع والحظر والتحريم، الصورة لا غبار عليها في الشكل الظاهر إذا أخذنا بالظواهر، لكن في الباطن ليس كذلك، فمسخوا، فالقرد في صورته فيه شبه من الآدمي وإن كان أصل الآدمي ليس بقرد قطعًا، الله يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4] وأحسن تقويم هذا يشمل الصورة الظاهرة والصورة الباطنة على الفطرة.

ولا يمكن أن يقال: بأن أصل الإنسان يرجع إلى أنه قرد، ونظرية دارون هذه نظرية كاذبة كافرة مكذبة للقرآن، والله أخبرنا عن خلق آدم حينما خلقه في أحسن صورة، يوسف الذي قطَّع النساء أيديهن حينما رأينه ذهلن وبدلاً من أن يقطعن الفاكهة قطَّعن الأيدي، دون أن يشعرن من الذهول من حسنه: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ۝ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [سورة يوسف:31، 32] رأيت ما لا صبر لي عنه.

لاحظ هذا الجمال الذي أعطي شطر الحسن ليوسف آدم أجمل من يوسف بقدر الضعف، وهؤلاء يقولون: إن أصل المخلوقين يرجع إلى قرد، ونظرية التطور هذه لا تقف عند هذا أن أصل الإنسان قرد، هي نظرية شاملة في جوانب مختلفة في الحياة، ومراحل الحياة، وأطوار الحياة، فيقولون: العصر البدائي والعصر البرونزي والعصر الحجري، والعصر الكذا، هذا كله كذب، الله يقول عن الأمم المهلكة حينما خاطب قريشًا يقول: وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سورة سبأ:45] يعني الذي عند قريش ليس بشيء، بالنسبة لما أوتيته تلك الأمم الممكنة القوية، وكان الناس على التوحيد عشرة قرون حتى وقع الشرك في عهد نوح فكيف يقال هؤلاء، ونظريتهم لا تقف عند هذا.

هم يقولون: إن العالم لجأوا إلى أشياء من الوهم والخرافة والخيال، وثم بعد ذلك السحر، ثم بعد جاءت فكرة -قبحهم الله- يقولون: جاءت فكرة عبادة الله  لأن الإنسان ضعيف ويخشى من الطبيعة فيبحث عن شيء يحتمي به، يقولون: الآن الإنسان قهر الطبيعة وساد في هذا الكون، فهذا آخر ما توصل إليه الإنسان من القوة والتمكين والحضارة والرقي، والإلحاد.

ورأيتم عاقبة الملحدين ودولة الملحدين كيف تهافتت في مدة لم تتجاوز الثمانين سنة، وهذا من أعجب الأشياء، دولة ضخمة كانت تحتل مساحة هائلة في الخريطة، من نظر إلى الخرائط التي لربما لم تجاوز الخمس وعشرين سنة يجد أن العالم في صورته وهيئته يختلف، ثم بعد ذلك تهافتت في أقل من ثمانين سنة، وهذا عمر في غاية القصر بالنسبة لأعمار الدول، ثم كيف كانت نهايتهم؟ والناس يرجعون حتى في تلك النواحي التي حملوا فيها الناس على الإلحاد، ومنعوا كل مظاهر الدين إلا فئة واحدة وهم اليهود تركوهم؛ لأن أصل هؤلاء أصحاب النظريات الإلحادية كانوا من اليهود، فتركوا اليهود بحجة أنهم وقع عليهم من الاستضعاف عبر القرون ما يكفي، فتركوهم يتعبدون كما شاءوا، والباقي ساموهم الخسف والذل، وقتل عشرات الملايين من البشر، وإذا رأيت بعض الصور القديمة ترى أكوامًا من البشر هائلة جثث فوق بعضها كالأهرام الضخمة تجرفهم الجرافات، هكذا فعلوا بهم، ثم ماذا كانت نهايتهم؟

كانت نهايتهم الزوال، ورجع أهل الأديان إلى أديانهم، رجع النصارى إلى دينهم، ورجع المسلمون إلى دينهم، ولما سقط الاتحاد السوفيتي سنة ألف وأربعمائة واثنا عشر للهجرة جاء وفد من بعض تلك الجمهوريات؛ لأنه تقسم إلى جمهوريات، جاء وفد من المسلمين من إحدى الجمهوريات رأيتهم في المدينة النبوية، جاءوا على الأقدام، على أقدامهم جاءوا من هناك إلى المدينة، فسألت رئيس الوفد: هل تفعلون ذلك تقربًا إلى الله؟ كنت أريد أن أبين لهم أن هذا لا يشرع، قصد المشقة والعناء، أنكم تتقصدون المجيء إلى الحج على الأقدام، قال: لا نحن لا نتقرب إلى الله بهذا.

قلت: إذن ما الذي حملكم على هذا المشي لهذه المسافات الشاسعة؟

قال: غُيِّبنا عن مكة ثمانين سنة فأردنا أن نعلن للعالم أجمع أننا ما نسيناها، وأن آباءكم الذين جاءوا على الجمال حتى نقلوا إلينا الإسلام نحن نأتيكم ولو حبوًا، فأتيناكم على أقدامنا، فلما سمعت هذا الرد سكتُّ، وهذا لا أنقله رواية عن أحد سمعته منه مباشرة.

فالمقصود: أن الناس رجعوا إلى أديانهم، ولهم في هذا أحوال وأخبار كثيرة في رجوعهم وحرصهم وفرحهم وشدة تشوقهم لمعرفة أحكام الشرع، كان بعض طلاب العلم الذين زاروهم في تلك السنة إذا هموا بزيارة ناحية أو قرية أو مدينة أو نحو ذلك خرج كثير من الناس إلى ظاهرها ينتظرونهم، ولربما بقوا يومًا وليلة ينتظرون خارج البلد ينتظرون هؤلاء يقدمون عليهم، إلى هذا الحد.

وكان بعضهم قد أخذ معه أوراق ووضع عليها أوراق ووضع عليها خرق وربَّطها بخيوط ثم عرضها يظن أنها من القرآن وإذا هي صحيفة روسية تكتب بالحروف العربية، وجدها ظن أنها قرآن، وباقية محفوظة عنده سنين طويلة وهو لا يدري ما بها.

فأقول: انظروا كيف كانت عقوبة هؤلاء الذين احتالوا على هذا الحظر، ويؤخذ من هذا تحريم الحيل، وأن المتحيل على الشرع لا يخرج عن وصف العدوان لقوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] فهذا عدوان على حدود الله -تبارك وتعالى- وشرعه، وهذا التوبيخ المتوجه لليهود الذين كانوا في زمن النبي ﷺ وقد علموا ما حل بأسلافهم بسبب هذا العدوان، فذلك من أجل أن يرتدعوا ويتعظوا؛ لئلا يحل بهم ما حل بأولئك، والسعيد من وعظ بغيرة، والشقي من وعظ بنفسه -نسأل الله العافية.

ويذكر في الأخبار الإسرائيلية أشياء، نحن نقول: الله أعلم بها، يقال: إن هذه القرية لما جاء أهل النواحي الأخرى قد مسخوا جميعًا، أعني أهل تلك القرية، أن الواحد منهم كان يأتي إلى قريبة ممن لم يمسخ إذا رآه عرفه، ثم بعد ذلك يحتضنه ويبكي وهو قرد، لكن لا يقال: بأن هؤلاء اليهود أنهم أحفاد القردة؛ لأن النبي ﷺ أخبر: إن الله لم يجعل لمسخ نسلا[3] يعني إذا مُسخ شيء، إذا مُسخ أحد من الناس بصورة شيء من هذه الدواب والبهائم والحيوانات ونحو ذلك لا يكون له نسل، يعني ينقرض مباشرة، أولئك الذين مسخوا لا يتناسلون.

وقد كان النبي ﷺ قال حينما ذكر الفأرة، كان يشك النبي ﷺ أنها أمة من بني إسرائيل مسخت، وأنها ذهبت أمة من بني إسرائيل لا يدرى أين هي؟!، فكان النبي ﷺ ينظر إلى حال وصف هذه الفأرة من ناحية اللبن، ونحو ذلك، يعني النبي ﷺ رأى فيها بعض أوصاف اليهود[4] لكن هذا قبل أن يوحى إليه: أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً.

كذلك لما وضع الضب على مائدته ﷺ لم يأكل منه[5] والنبي ﷺ نظر إلى أصابعه وعدها خمسة أصابع، فكأن النبي ﷺ خشي أن يكون مما مُسخ، لكن هذا قبل أن يُوحي إليه ربه -تبارك وتعالى- بما سبق أنه لم يجعل لمسخ نسلاً.

إذن أولئك الذين مسخوا إلى قردة لم يكن لهم نسل، فهذه القردة التي نشاهدها الآن ليست من نسلهم، فالقردة كانت معروفة قبل هؤلاء، قبل المسخ، ومعروفة أيضًا في ذلك الحين الذي مسخوا فيه، والتي وجدت بعدهم لم تكن من نسلهم بحال من الأحوال، وإنما هذه خَلْق مستقل خَلَقه الله هكذا. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (876)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (856). 
  2.  انظر: تفسير البغوي (8/ 123). 
  3.  أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر، برقم (2663). 
  4.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، برقم (3305). 
  5.  أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب، برقم (1949).