الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَٱدَّٰرَْٰٔتُمْ فِيهَا ۖ وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:72-73].
قال البخاري: فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا اختلفتم، وهكذا قال مجاهد.
وقال عطاء الخراساني، والضحاك: اختصمتم فيها، وقال ابن جريج: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا قال بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ قال مجاهد: ما تُغَيبُون.
فقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من المؤخر الذي حقه التقديم، ولا شك أن ذلك من حيث الواقع هو كذلك، ولكن ترتيب الآيات إنما هو شيء توقيفي، ولا شك أن الواو أيضاً لا تقتضي الترتيب، فالله يذكر خبرهم، فعطف على ما سبق بالواو قولَه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ولا يعني ذلك أن هذا التدارؤ حصل بعد ما قال لهم موسى ﷺ: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67].
المقصود أنهم قتلوا هذا القتيل فتدارؤوا، فأمرهم موسى ﷺ أن يذبحوا بقرة، ثم أمرهم: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] يعني أن الترتيب في الواقع يكون: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ثم وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67]، ثم: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا هذا إذا أردنا أن نرتب الأحداث ترتيباً بحسب وقوعها، وعلى كل حال هذا التعقيب بعد ذكر القصة ظاهر لا إشكال فيه، ولا خفاء من جهة المعنى، فهو ذكر لهم قول موسى ﷺ، ثم ذكر لهم علة هذا القول، موسى ﷺ أمرهم بجملة من الأوامر ومن ذلك أنه أمرهم أن يذبحوا بقرة، فحصل منهم هذا الشغب؛ لأن المقصود بذلك هو تعداد النعم على بني إسرائيل، وأيضاً الله يذكر في ضمن ذلك شغب هؤلاء القوم، وتعنتهم، وتكلفهم، وتمردهم على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فذكر قصة موسى ﷺ معهم حينما أمرهم فأجابوه بما أجابوا به، ثم ذكرهم بنعمته في إحياء القتيل وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فهذا تعليل لما قبله وهو أمر موسى ﷺ لهم أن يذبحوا بقرة.
بعض أهل العلم يحاول أن يحمل ذلك على محامل لا تخلو من تكلف وبُعد، وما ذكرته - والله أعلم - لربما يكون أقرب مما ذكروا.
وقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا نسب القتل إليهم، وذلك لا إشكال فيه في كلام العرب؛ لأن العرب من شأنها أن تنسب الفعل إلى العموم أو المجموع، وإن كان ذلك قد وقع من بعضها، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ [سورة البقرة:61] وما أشبه ذلك، فالفعل أو القول يصدر من بعض الطائفة، وينسب إلى المجموع أو الكل؛ لأنهم منه، وذلك معروف في كلام العرب، وهو كثير جداً في القرآن، وفي أشعارهم، فلا إشكال في هذا، فالذين قتلوا هذه النفس لربما شخص واحد، ولكنه حصل أن نسب إليهم هذا الفعل؛ لأنه منهم.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] ومعنى ادارأتم تدارئتم بمعنى تدافعتم، فالتدارؤ هو التدافع، بمعنى أن كل واحد منهم يدفعه عن نفسه، وكل طائفة تدفع ذلك عن نفسها بمعنى أنها تتنصل من ذلك وتدفعه إلى غيرها، فهؤلاء يقولون: نحن لم نقتله أنتم الذين قتلتموه، وأولئك يقولون: نحن لم نقتله أنتم الذين قتلتموه، وجاء في بعض المرويات التي ترجع إلى أخبار بني إسرائيل أن الذين قتلوه ألقوه بين قريتين، فكل قرية صارت تدفع قتله عن نفسها، وترمي به الأخرى، والله أعلم.
وقوله: وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] أي في شأن هذا القتيل الذي أخفوا قتله، أو أخفوا شأنه، وأخفوا قاتله.

مرات الإستماع: 0

"وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هو أول قصة البقرة."

لاحظ يعني الآن لماذا قال: اضربوه ببعضها؟ لأنهم قتلوا نفسًا وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا تدافعتم فيها، فأخره، يعني يقول: إن هذا هو منشأ الأمر بأمرهم بضربه بالبقرة. فهذا أول، هذا في البداية، فلماذا أخره؟ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هي نفس التي تدارؤوها، تدافعوا قتلها، كل طائفة تضيفه إلى الأخرى، فلماذا أخره؟

"فمرتبته التقديم قبل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ."

فمرتبته التقديم قبل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يعني: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فقيل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً هذا المراد.

"قال الزمخشري: إنما أخر لتعدّد توبيخهم لقصتين، وهما: ترك المسارعة إلى الأمر، وقتل النفس، ولو قدّم لكان قصة واحدة بتوبيخ واحد[1]."

يعني: لو كان السياق هكذا منذ البداية: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فقال لهم موسى ﷺ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً،صارت قصة واحدة، لكن يقول: لما أُخر صار ذلك يتضمن فائدة زائدة مع أنه يتعلق بنفس القصة. الفائدة الزائدة هذه هي أنه فيه مزيد من التوبيخ، فالأول يتحدث عن تعنتهم، وحينما تقرأ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فهنا حديث عن عنت بني إسرائيل، وتكلفهم، ولما قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فهنا جناية أخرى صارت، كأنها جناية أخرى مع أن القصة هي نفس هذا في أولها، لكن لما فصل، وجعله في الأخير فصار هذا من جملة ما يوبخهم به قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا فهذا من مفاسدهم، ومعايبهم، فهذا مقام ذم، يحسن فيه تكثير المعايب، وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري، ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -.

"فَادَّارَأْتُمْ أي: اختلفتم، وهو من المدارأة أي المدافعة. ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ،من أمر القتيل، ومن قتله."
  1. انظر: تفسير الزمخشري (1/154).

مرات الإستماع: 0

نواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل وما كانوا عليه من العنت والتمرد على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله، فذكر خبرًا جديدًا من أخبارهم ينضاف إلى ما ذكر قبله.

فقال الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] هؤلاء يُذكِّرهم الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى واذكروا إذ قال موسى: يا بني إسرائيل، خاطبهم بهذا الخطاب: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وذلك أنه قُتل قتيل فتدارءوا قتله، كل طائفة تتنصل منه وتضيفه إلى غيرها، كما سيأتي في آخر هذه القصة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] يعني: تدافعتم فيها، فهذا الذي يقولون: إنه من المؤخر الذي يكون مقدمًا في الوقوع، يعني أُخر ذكره، وسيأتي ما يتصل بتأخير ذكره وما فيه من الفائدة، لكن من حيث الوقوع أنه وقع بينهم التدارؤ أولاً: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] فهذا كان قبل أن يؤمروا بذبح البقرة، عندها أمرهم موسى بوحي من الله أن يذبحوا بقرة، فهذا أمر صادر عن نبي كريم هو كبير أنبياء بني إسرائيل، ومع ذلك قابلوه بهذا العنت، بل بالاستكبار أولاً أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ أتتخذنا موضعًا للسخرية والاستخفاف؟ فاستعاذ بالله واستجار به أن يكون من الجاهلين.

هذه الآية: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فهنا أنهم أمروا بذبح بقرة، وبقرة هنا نكرة في سياق الإثبات، وهي بمعنى المطلق، بمعنى أنها تصدق على أي بقرة كانت، ومعلوم عند الأصوليين أن المطلق له شمولٌ بدلي، يعني سواء كان ذبح هذه البقرة أو هذه أو هذه أو هذه، كما يقال: اعتق رقبة، المطلوب اعتاق رقبة واحدة، فإذا اعتق هذه أجزأ وإذا اعتق هذه أجزأ، فالشمول بدلي، يعني هو يشمل هذه جميعًا أنها رقاب، ولكن إذا أعتق واحدة منها أي واحدة، المطلوب واحدة فإن هذا يجزئ، كما أن هذا يجزئ، كما أن هذا، هذا الشمول البدلي.

أما العام ففيه شمول لكنه استغراقي، تقول: اعتق الرقاب، يعني كل الرقاب، لو قال لهم: اذبحوا البقر، فإن كل بقرة يتعين ذبحها، لكن حينما يقول: اذبحوا بقرة واحدة، فالشبه بين العموم والإطلاق هذا مفصله ومحزه الذي قد يخفى على كثير من طلاب العلم، الفرق بين المطلق والعام أن الشمول في المطلق بدلي لا يراد به الاستغراق، والشمول في العام هو استغراقي، فالعام ما استغرق ما يصلح له دفعة بلا حصر من اللفظ، فهذا الآن: تَذْبَحُوا بَقَرَةً أي بقرة، يصدق عليها هذا سواء كانت كبيرة أم صغيرة، مذللة بالعمل أم غير مذللة، أو كانت سوداء أو صفراء أو بيضاء أو غير ذلك، فإن ذلك يحصل به المقصود.

فهم لم يتأدبوا الأدب اللائق، أول ما قابلوا به نبيهم هذا الرد البارد: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا هل يُظن بعاقل في قضية كهذه قوم يتدافعون قتيلاً أن يكون ذلك موضع سخرية واستخفاف حينما يلجأ إليه قومه، عاقل ليس بعالم وليس بنبي أو رسول، هذا لا يليق بآحاد الناس فكيف بنبي كريم ورسول عظيم من أعظم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- من قال الله -تبارك وتعالى- فيه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه:41] قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] فهنا وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي يعني: أن الله -تبارك وتعالى- قد هيأه وأعده إعدادًا خاصًا من أجل القيام بهذه المهام العظام، الحاصل أن هؤلاء أساءوا الظن بنبيهم فأساءوا الجواب، وأساءوا الفهم فأساءوا الرد: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا.

وهكذا من ساءت فهومهم أو ساءت ظنونهم فإن حاصل ذلك وما ينتج عنه من مقابلتهم لمن خاطبهم بما فيه مصلحتهم هو مثل هذه الردود الباردة الفاسدة: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بعض العلماء كما ذكر الماوردي -والله أعلم- بهذا ذكر حكمة، وهذه قضية غيبية، لكن لا بأس أن أذكرها، لكن لا نبني عليها ولا نصححها، قد يكون ذلك صحيحًا أو لا يكون.

يقول الماوردي[1]: بأن الحكمة في أمرهم أن يذبحوا بقرة بالذات بقرة، يعني لم يذبحوا شاة أو نحو ذلك هو أن هؤلاء قد تعلقوا بالعجل صغير البقر، وبقي في نفوسهم هذا المعبود، كما قال الله : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:93] فالإشراب يعني: تغلغل ذلك في النفوس، فصار ذلك كالشيء المشرب في قلوبهم، فالماوردي يقول: "أمروا بذبح بقرة لكسر ما بقي وكان عالقًا بالنفوس من التعلق بولد البقر وهو العجل، فيقوموا هم بأنفسهم بذبح البقرة، فهي لا تصلح أن تكون معبودًا بحال من الأحوال، وإذا كان البقرة الكبيرة لا تصلح لأن تعبد فالعجل من باب أولى".

ثم تأملوا جواب موسى حينما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ استجار بالله والتجأ إليه مستعيذًا أن يكون من الجاهلين أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا استهزاء، نوع أخص من المزاح فهو مع استخفاف وشيء من السخرية، فهذا الاستهزاء الذي يكون بهذه المثابة هو يتضمن الاحتقار لهذا المستهزَئ به والانتقاص، وهذا لا يليق بالعاقل فضلاً عن مقام الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فدل ذلك كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي وقاله قبله أيضًا بعض المفسرين: "أن الذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم أنه من الجاهلين، الذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم يهزأ بهم أنه من الجاهلين"[2] وهذه الآية واضحة في تقرير هذا المعنى أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يعني: أن الذي يتخذ الناس هزوًا يستهزئ بهم ويسخر منهم أنه من الجاهلين أيًا كانت هذه السخرية، سواء كان يسخر من أشكالهم ويتندر بهم، وهذا فيه زيادة على الجهالة أن ذلك يعود إلى عيب الصانع؛ لأن عيب الصنعة إنما هو عيب لصانعها.

وكذلك الذي يسخر من الناس ويستهزئ بهم باعتبار المهن والأعمال، أو باعتبار الأنساب والقبائل والأصول، أو باعتبار البلاد التي يرجعون إليها، فهو يسخر من هذا ويستهزئ بهذا أنه من القبيلة الفلانية أو من البلد الفلاني، أو من الأسرة الفلانية أو نحو ذلك، فهذا كله من أفعال الجاهلين.

أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يستهزئ بالناس، وهذا المستهزئ يدل على أنه مستخف، وهذا الاستخفاف ينبئ عن سوء طوية وتربية هشة، كما أنه ينبئ عن ترفع وتعالي على الناس، لو كان يتواضع لهم لم يسخر ولم يستهزئ بهم، فموسى تبرأ من ذلك ولجأ إلى الله مستجيرًا به كيف يقع ذلك منه، كيف يقع منه الاستهزاء بالناس أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ما قال: أعوذ بالله أن أستهزئ بكم، لا، قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ من الجاهلين يعني في جملة الجاهلين، فأعطانا ذلك بعدًا في المعنى، وسعة فيه دلت على أن من وقع منه ذلك دخل في زمرة الجاهلين، وكل من فعل معصية الله -تبارك وتعالى- أو تجاوز الحد الذي حده له الشارع، أو اعتدى على الناس بيده أو لسانه بأديانهم أو عقولهم أو أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم فهو أيضًا من الجاهلين؛ لأن الجهل يأتي بمعنى العدوان على الناس.

وهذه السخرية والاستهزاء هي لون من العدوان، ولو عرف الإنسان أن هؤلاء مثله لما استهزأ بهم، حينما يستهزئ بآخر ويستخف به لأنه ينتسب إلى الناحية الفلانية، أو البلدة الفلانية، أو المنطقة الفلانية، أو القبيلة الفلانية، أو القوم الفلانيين أو غير ذلك، هذا كلهم يرجعون لآدم، فلا يليق أن يسخر من أحد؛ لأنه يشترك معه في وصف الإنسانية، يسخر منه لأصله هو وهو سواء، والعبارات المؤذية العبارات الجارحة التي يطلقها بعض من لا يحسب حسابًا لكلماته هذه الكلمات أحيانًا تنبئ عن استهزاء وسخرية ونحو ذلك.

ومن الناس من إذا جلست معه لا تدري ما الذي يصل إليك منه، في كلامه يجرح، يعني هو يجرح من جميع الاتجاهات، فإذا أراد أن يأخذ الماء سأل جليسه: هل ولغت فيه؟ فيجيبه ذلك على البديهة ويقول: إنما أنا مثلك، يعني إن كان ذلك ولوغًا، والولوغ يقال: للكلب، فيقول: أنا مثلك، فإن كان ذلك ولوغًا فكذلك أنت حينما تشرب فذلك ولوغ، كان اللائق ألا يسأل أصلاً هل شربت منه؛ لأنه يدل على أنه يتقذر منه، فكيف إذا خاطبه بمثل هذه العبارة: هل ولغت فيه؟

وقد يكون هذا ممن ينتسب للعلم أو ظاهره الصلاح والتدين، ولكن هذا اللسان غير مهذب، تجد الكلمات هنا وهناك، إذا وضع الطعام قال: كل من هذا إذا قال: لا أشتهيه، قال: لا تجده في أرض قومك؟ يشير إلى بلده التي يتنقص أهلها، هذا ما يليق أن يؤذي الناس بهذا أو بغيره مما ينبئ عن استهزاء وسخرية واستخفاف وكبر وصلف وجفاء أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هذه أخلاق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فلا يصح أن تستهزئ المرأة بغيرها، أو يستهزئ الرجل بغيره، أو يستهزئ الإنسان بأحد من الناس، لاسيما من كان في موضع القدوة، المعلم حينما يستهزئ بالطلاب ويسخر من لباسهم أو من أسمائهم أو يسخر من تصرفاتهم أو نحو ذلك فيقول كلامًا يجرح، وأحيانًا يشبههم بأشياء لا يليق التشبيه بها، فمثل هذا لا يجوز شرعًا، فهؤلاء عندهم مشاعر كما أنك تملك مشاعر، ثم يتذكر الإنسان: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [سورة النساء: 94].

في هذه الآية يؤخذ منها أن الإنسان عمومًا أنه يتذكر الحال التي كان عليها قبل ذلك، في المناقشات في الرسائل الجامعية أحيانًا تجد لونًا من التعالي والصلف والاستكبار في العبارات التي تؤذي وتجرح، سخرية من الباحث والكاتب وأحيانًا من مشرفهِ، وكأن هذا صار فرصة لإخراج مثل هذه الأخلاق الرديئة بمجمع من الناس، وللأسف لو كان الإنسان يعقل لعلم أن مثل هذه المناقشات إنما هي إفادة وإثراء يستفيد منها الحضور، ويستفيد منها الباحث، ويستفيد منها المشرف، ويستفيد منها المناقشون وليست مجالاً للقدح والتجريح والعبارات القاسية والمؤذية -الله المستعان- والموفق من وفقه الله ما على الإنسان ما على المرء حينما يعرض ما عنده بطريقة تقبلها النفوس، ويكون ذلك المجلس مجلس فائدة وإفادة وإثراء لطلاب العلم، من حضر يستفيد، أما رفع الأصوات والكلام الذي لا يليق، وتهزيء الباحث.

حدثني بعضهم أنه يخرج من القاعة إلى المستشفى، وبعضهم يبكي أمام الناس، لاسيما إذا كان الحضور أول من يحضر هم طلابه إذا كان يدرس، هو معيد في الكلية أو محاضر، فيحضر طلابه، وطلابه هؤلاء من المحب المشفق ومنهم الشامت، هذا الذي لربما لا يجتاز عنده، من الذي يُنصف من نفسه ويقول: أنا مقصر وأنا الضعيف وأنا الذي، ما هو يأتي للشماتة، فيرى ما يسره ألا يكون شيء من هذا.

وهنا هؤلاء شددوا على أنفسهم لما قال لهم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ حين أمرهم بذبح البقرة، بدأوا يشددون ويطلبون أشياء: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68] يسألون عن السن، ثم سألوا عن اللون، ثم سألوا عن العمل، هل هي مذللة عاملة أو غير مذللة بالعمل، فهؤلاء شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فلو امتثلوا من أول وهلة من أول مرة فإنه يحصل المطلوب وتحصل الكفاية، ولكن تعنتوا فهذا العنت مذموم شرعًا، ولذلك فإن النبي ﷺ أخبر أن: من أعظم الناس في المسلمين جرمًا الذي سأل عن شيء لم يُحرَّم فحرم من أجل مسألته [3].

وقال النبي ﷺ: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي ﷺ ثم قال: لو قلتها لوجبت[4] وأمرهم ﷺ ونهاهم: ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فمثل هذه السؤالات التي ترد من غير موجب تكون مذمومة، ومن هنا قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101].

وقد ذكرت في بعض المناسبات ما جاء من الذم لبعض السؤالات، قلنا: يدخل في هذا السؤال عن شيء لم يُحرَّم في وقت التنزيل، أو شيء لم يكتب ويفرض في وقت التنزيل فيفرض أو يحرم من أجل مسألته، ويدخل في هذا الأغاليط صعاب المسائل، تتبع صعاب المسائل حتى بعد التنزيل، الذي يسأل عن أشياء، وكما ذكرنا عن الإمام مالك -رحمه الله- الرجل الذي جاءه فقال له، سأله عن رجل على دابته قد وطئت دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فقست عنده البيضة، هل هي حلال أو حرام البيضة؟[5] لأنها خرجت من دجاجة ميتة وطأتها هذه الدابة، هو يسأل عن حكمها، يعني هذا سؤال تعنت، مسائل نادرة في الوقوع، الأغاليط صعاب المسائل، كذلك في وقت التنزيل.

وهذا ذكر جملة منها النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم[6].

وكذلك الحافظ ابن رجب في الأربعين "جامع العلوم والحكم"[7] والشاطبي في "الموافقات"[8] ذكروا أحوالاً يكره فيها السؤال يدخل فيه هذا وأشباهه، - والله تعالى أعلم .

فهنا هؤلاء سألوا عن أشياء كان ينبغي أن لا يسألوا عنها، وهذا يحصل ويتكرر، أشياء لم يُسأل عنها، تجد حتى الطلاب في الاختبارات يأتي السؤال قريبًا سهلاً ليس فيه طلب تفاصيل، ما حكم كذا. يقول: نذكر الأقوال والأدلة والترجيح؟ لا أحد قال لك هذا، لو أردناه لذكرناه، تفضل نعم هاتوا الأقوال والأدلة والترجيح، ينبري واحد ويسأل عن قضايا مثل هذه هي لم تطلب، ما القول الراجح في المسألة الفلانية، في معنى الآية الفلانية، يقول: أذكر القول الآخر؟ لا أحد طلب منك القول الآخر.

ما الدليل على كذا؟ يقول لك: ونذكر الرد على المخالفين؟ نحن قلنا: ما الدليل، ما قلنا: كيف ترد على المخالفين، ما الدليل على كذا، يقول: نذكر وجه الاستدلال؟ لم يطلب منك وجه الاستدلال، فمثل هذا أحيانًا يعاقب بأن يقال له: نعم، هات وجه الاستدلال، هاتوا، وهاتوا الأقوال الأخرى وأدلتها والرد على كل قول وبيان وجه ذلك، فمثل هذه الأشياء لا حاجة إليها.

ويؤخذ من هذا الآية أيضًا حاجة الخلق جميعًا إلى الالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فالعوذ بمعنى اللجوء والاستجارة بالله -تبارك وتعالى- من الأمور المكروهة والمخوفة، وبعض أهل العلم يفرق بين العوذ واللوذ، فيقولون: اللوذ يكون في المحاب، الأمور المطلوبة، والعوذ في الأمور المخوفة: أَعُوذُ بِاللَّهِ فإذا كان هؤلاء الأنبياء الكبار من أولي العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يلجؤون إلى الله -تبارك وتعالى- في كل ما نابهم غيرهم من باب أولى.

نواصل الحديث بالكلام على ما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل، وما كان من عنتهم مع أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- وذلك في خبر موسى معهم حينما أمرهم بذبح البقرة ليضربوا القتيل بجزء منها فيحيا بإذن الله فيدلهم على قاتله حيث تدارءوا في ذلك، فحينما بادروه وقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] بدأوا بسؤلات العنت، والطبيعة كما قيل: غلابة قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68].

هنا يسألون عن العمر، هل هي بقرة كبيرة أو صغيرة، هل هي بكر أو فارض أو متوسطة بين بين، ففهم مرادهم فقال: إِنَّهُ يَقُولُ وهذا يبين أن ذلك كان بأمر من الله وبوحي منه وأنهم يعلمون ذلك: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ما قالوا: ما هي يا موسى، وإنما قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ثم أجابهم: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ فهذا صريح بأن ذلك من الله وأنه معلوم لديهم، ومع ذلك يقولون: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] ليست بفارض أي: مسنة كبيرة، ولا بكر يعني: صغيرة فتية، وإنما هي متوسطة بينهما فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بادروا سارعوا إلى الامتثال.

هذا معنى الآية على سبيل الإيجاز، ونحن نذكر المعنى موجزًا من أجل ألا يبقى إشكال في المراد ثم بعد ذلك نستخرج الفوائد وهي المقصودة.

يؤخذ من هذه الآية استكبار هؤلاء اليهود وما كانوا عليه من الصلف كما أشرنا سابقًا، فقد خاطبوا نبيهم بهذا الخطاب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ما قالوا: ادع ربنا، كأنه ليس بربٍ لهم ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ومثل هذا في خطاب الناس فيما بينهم حينما يتخاطبون بمثل هذا هو مؤشر ومشعر بدرجة القرب والارتباط، فحينما يقول الإنسان لذويه أو لقرابته أو لأصحابه أو نحو ذلك يخاطبهم يقول لهم: ما فعلتم من كذا، أو ما حصل لكم من كذا، أو ما أردتم من كذا، أو ما فاتكم من كذا، كأنه ليس بجزء منهم، وإنما من كان قريبًا، من كان ذا وشيجة قوية فإن ذلك يكون بمنزلة النفس الواحدة كما ذكرنا في بعض المناسبات فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] يعني: يقتل بعضكم بعضًا، نزلهم منزلة النفس.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] يعني: لا يأكل مال أخيه، فنزل منزلة النفس وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [سورة المجادلة:8] على القول الآخر المشهور في الآية: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ أي: يقول بعضهم لبعض سرًا، فهنا في مثل هذه المخاطبات حينما يخاطب غيره ويقول: نحن فيما حصلنا، أو فيما أردنا، أو فيما غفلنا عنه، أو فيما فاتنا، أو فيما عوقبنا به، أو فيما فرطنا، أو نحو ذلك، يتكلم بهذه الطريقة، لكن حينما يوجه إليهم الخطاب فهذا، فكيف إذا كان ذلك فيما يتصل بمعبودهم .

ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ما قالوا: ادع الله أو ادع ربنا، وإنما: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وهم في مقام حاجة وفي حرج يتدافعون ويتدارءون قتيلاً قتل يريدون أن يعرفوا قاتله، وأن يدفعوا عن أنفسهم التهمة ولكن هكذا كانوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [سورة البقرة:68] يعني: وسط، وخير الأمور الوسط.

وهذا الموضع يذكر فيه العلماء لونًا من الأمثال يسمونها الأمثال الكامنة، بالميم والنون الكامنة، بمعنى أن هذا الكلام يكمن فيه مثل، فهنا: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ يكمن في هذه الجملة مثل معروف عند الناس وهو أن خير الأمور الوسط، وكان الحسين بن الفضل معروفًا باستخراج الأمثال من القرآن، لديه سرعة بديهة وقدرة على هذا الاستخراج، وسواء كانت أمثال العرب أو أمثال العجم، العرب عندهم أمثال، أمثال فصيحة وأمثال عامية ويوجد فيها مؤلفات معروفة، ويوجد لدى الأمم أمثال، هناك أمثال إنجليزية، وأمثال روسية، وأمثال هندية، وأمثال صينية، وأمثال، لو وضعت الآن طلبت في النت وقلت مثلاً: الأمثال الصينية يأتيك سرد من الأمثال.

وبعض هذه الأمثال تحمل دلالات ومعاني جيدة، فكل الأمم عندهم أمثال، بصرف النظر عن هذه الأمثال هل هي دقيقة أو صحيحة سواءً عند العرب أو عن غير العرب، القضية لا تتوقف على عرب أو عجم، لكن أحيانًا يولد الناس بعض الأمثال ويتلقفونها ويتلقونها كأنها وحي منزل، وهذا هو الخطير، وتكون تحمل دلالات سلبية غير صحيحة، فيأخذونها على أنها مسلمات، خاصة الأمثال العامية، وهي ليست بصحيحة.

يعني مثلاً من الأمثال الذي عند الناس بما يتعلق بالنساء: "شاوروهن وخالفوهن" من قال هذا؟ ليس بوحي وليس بصحيح، وكم من امرأة كانت ذات رأي رشيد أرشد من كثير من الرجال، فكيف يُجعل هذا على أنه مثل، فيتلقاه من لا بصر له ويعمل بمقتضاه، "لا تأمن الأنثى الخؤون.." إلى آخر ما قال القائل، هذا الكلام غير صحيح، معاذ الله، المرأة مثل الرجل، فالخيانة توجد في بعض الرجال وتوجد في بعض النساء، وتوجد الأمانة في الرجال وتوجد في النساء: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [سورة النساء: 34] فهذا من الأمثال الفاسدة.

وبعضهم يُلقن ولده أو من يشير عليه برأي غير سديد إذا تزوج أو كان مقبلاً على الزواج ويعطيه أحيانًا في مضامين ذلك من هذه الأمثال، انتبه ترى كذا، وترى كذا، وترى كذا، والدليل هذا المثل الأعوج من كلام بعض العامة، وهو مثل مبني على تصور وفهم غير صحيح، فانتبهوا لهذا؛ لأنه يسير الكثيرين، وكما قيل: الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، لما ترسخ عنده هذه أنها قاعدة يبدأ يتعامل بمقتضاها، ويصعب تغيير سلوك هذا الإنسان؛ لأنه قد بناه على تصور فاسد، ويتصور عن مثلاً تعامل الرئيس مع مرؤوسيه، التعامل مع بعض الناس مع العمال أو مع غيرهم، بتصورات فاسدة، فيظلم ويتصرف بشيء من العسف والقهر ونحو ذلك بناء على تصور فاسد.

رأيت بعض الناس قد ينتسب للعلم عنده هكذا تصور، أن المرأة والطالب لا يمكن أن - لا أحفظ العبارة لكن هذا معناها - أن هؤلاء انتبه أن يعني تلقي لهم بالاً[9] وهذا من أفسد الكلام، الإنسان يكون علاقته بأهله وبذويه وقراباته من أخواته ونحو ذلك أحسن ما يكون، وخيركم خيركم لأهله [10] المشكلة لما يكون عند الإنسان هذا التصور يبدأ يتعامل بنوع من الظلم الذي يصعب تغييره وإزاحته؛ لأنه سيطر على فكره هذه التصور الفاسد والمثل الأعوج.

وهكذا علاقة الإنسان مع طلابه يعاملهم بالرحمة ويحبهم، يحب لهم الخير، وإن قسى عليهم، فإنما يقسو عليهم وهو محب وقلبه يتألم؛ لأن مقصوده هو نصح هؤلاء، هم تمامًا مثل أولاده بل مثل نفسه، يضع نفسه مكان من يخاطبه قبل أن يتكلم وقبل أن يتصرف، يضع نفسه مكان المقابل، ما هي مشاعره؟ ماذا يريد؟ ولذلك يقول لهم: لا حاجة أن تأتي وتقول: أنا جئتك من طرف فلان، طرف فلان أو من طرف لست من طرف أحد حقك محفوظ على التمام.

فالحسين بن الفضل هذا كان يستخرج الأمثال فقيل له: هل تجد في كتاب الله "خير الأمور أوساطها"[11]؟ قال: نعم في أربعة مواضع، هذه الآية: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] وكذلك: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] الاعتدال في النفقة، وأيضًا: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:110] التوسط، وأيضًا: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء:29] هذه أربعة مواضع.

فهذه كلها يسمونها الأمثال الكامنة، يعني يكمن فيها مثل وهو خير الأمور الوسط، الأمثال التي عند الناس يتكلمون بها هذه لا يوجد شيء منها في القرآن وحاشا وكلا فالله أجل وأعظم من أن يتمثل بكلام أحد من الناس قاله في مناسبة، كما ذكرنا في الكلام على الأمثال، الأمثال التي نتداولها هذه الأمثال عند الأدباء كما يقال هي عبارة قيلت، عبارة موجزة معبرة قيلت في مناسبة فصارت تقال في نظائرها، بحيث صارت سارية في الناس متداولة منتشرة يضربونها في مناسبتها أو ما يقارب هذه المناسبة.

ومن الأمثال التي قد تقال في مناسبات مثل: ذلك الرجل الذي خطب امرأة في الصيف فرفضت، وكان الرجل ذا يسار وغنى وصاحب دواب، فجاءت إليه في الشتاء، والشتاء حاجة وشدة وجوع ليس كالصيف، من جهتين أن الأرض تكون ممحلة عادة وإنما يكون الثمر عادة في الخريف والصيف حيث تطيب الثمار، الخريف يكون بعد الصيف يعني في آخر الصيف تكون الثمار، ولذلك فإن الخريف أفضل من الربيع، والناس يعبرون يقولون: عمر فلان قد بلغ العشرين ربيعًا، لا تجد في النصوص يسير الراكب تحتها ما قال: عشرين ربيعًا قال: عشرين خريفًا [12] مائة سنة لا يقطعها[13] فتقول أنت في حديث: يسير الراكب كذا، تقول مثلاً، في الأحاديث: هذا حجر ألقي -يعني في النار- منذ سبعين خريفًا [14] فالتعبير يأتي بالخريف، لا يأتي التعبير بالربيع، الذين يعبرون بالربيع من المتأخرين نظروا إلى الأزهار والأزهار إنما ينتفع بالنظر إليها، وما يبعث ذلك على البهجة، لكن الحاجة والجوع والشبع ونحو ذلك والغَناء إنما يحصر بالثمار بأنواعها.

فالعرب تستعمل الخريف في التعبير عن العام؛ لأنه وقت الوفرة، فإذا قيل لك: كم تبلغ من العمر؟ تقول: أبلغ العشرين خريفًا مثلاً، الخريف تتساقط فيه أوراق الشجر لكن يكثر الثمر، والعبرة بالمعاني وليست بالصور.

المهم هنا هذه المرأة جاءت في الشتاء في وقت الحاجة تطلب المساعدة فقال لها: الصيف ضيعتي اللبن، فصارت مثلاً، صارت مثلاً تقال في هذه المناسبة وما شابهها، يطلب إنسان من آخر شيئًا فيمتنع ثم يحتاج المطلوب منه ويأتي فيقول له: الصيف ضيعتي اللبن، يعني أن منعك الأول تسبب عن حرمان الآن، هكذا يستعملون هذا المثل.

فهذه الأمثال لا يوجد شيء منها في القرآن؛ لأن الناس يتمثلون بكلام قاله قائل في مناسبة، الله أعظم وأجل من أن يتمثل بكلام أحد من الناس، لكن يوجد في القرآن هذا النوع الذي اسمه الأمثال الكامنة، أن المضمون ينطبق على أو يصدق على أو يوافق مثلاً تعرفه العرب، وكذلك يوجد في القرآن النوع الآخر من الأمثال التي تقرب المعقول بصورة المحسوس مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة:17] إلى آخره، وهذا هو المشهور في أمثال القرآن.

وهنا قال: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وسط بين ذلك فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] فارض: كبيرة، ويقولون: فاطر للناقة الكبيرة، أو التي تقادم عليها الزمن فاطر.

وبعض الناس إذا أراد أن يقول: أنا مفطر قال: أنا فاطر.

فالحاصل أن هذه الآية يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] المبادرة دون تلكؤ ولا تردد ولا انتظار، ولهذا موسى قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [سورة طه:84] المبادرة والاستجابة في الإقبال على الله كل شيء تذم العجلة، والتأني خير، لكن إذا جاء أمر الله فهنا لا مجال للتأني، أذن المؤذن لا داعي للانتظار، تبادر مباشرة لطاعة الله دخلت العشر، لا داعي للتباطؤ والتسويف، تستطيع اعتكف مباشرة من مغرب ذلك اليوم، وقل مثل ذلك في المطالب الشرعية.

فانظروا إلى هؤلاء اليهود كيف أبطأوا ثم بعد ذلك لم ينتهوا، فأعادوا السؤال ثانيةً يسألون عن اللون؟ فقالوا وبنفس الأسلوب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] بقرة صفراء شديدة الصفرة فاقع لونها، تسر من نظر إليها، والصفرة معروفة فإذا قيل ذلك في الألوان أو لون البقر بقرة صفراء لاسيما إذا وصفت بالفقوع أصفر فاقع فهي الصفرة المعروفة، ولا يصح أن تفسر بالسواد.

والقول: بأن الصفرة هنا صفرة سواد قول غلط في التفسير، وهو قول شاذ غير صحيح، إنما الذي عليه ما يشبه الإطباق أن الصفرة الصفرة المعروفة ووصفها بالفقوع، وأن الصفرة لا تقال مرادًا بها السواد إلا في ألوان الإبل فقط، ألوان الإبل، يقول الله عن النار أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ۝ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [سورة المرسلات:32، 33] جمالة على قول لربما هو الأشهر في التفسير أنه الجمال الإبل (صُفرٌ) ما المقصود بالصُفر هنا؟ سود.

فالصفرة إذا قيلت في ألوان الإبل خاصة عند العرب كما يقوله ابن جرير[15] وغيره، فالمقصود بها السود، هذا الشرر كأنه جمالة لضخامته سود، طيب النار ما لونها؟ سوداء مظلمة كما جاء في الحديث: أنه أوقد عليها مائة عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها مائة عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها مائة عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة [16] والنار الحمراء كما هو معروف أقل حرارة، ومن نظر إلى نار الحداد فإنها تتحول إلى لون الزرقة والبياض فهذا أشد من الحمرة أقوى، فهذا يذيب الحديد، فكيف إذا صارت سوداء، إذا كانت زرقاء فهي شديدة الحرارة، فإذا زاد ذلك وتحولت إلى سوداء وهذا لا يعرف في نار الدنيا فهذا أشد.

فهنا قال: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْر يعني: سود، ولهذا يُخطئ من يستنبط من هذه الآية، يعني بعض من يتحدث عن التدبر، يقول: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْر أن الشرر لا ينطفئ كشرر النار العادية المعروفة أنه بمجرد ما يتطاير يذبل وينطفئ، لا، هذا يبقى متوهجًا، فوصفه بالصفرة، يظن أن الصفرة هنا بمعنى اللون المعروف لون الشرر الذي عندنا في الدنيا، وهذا معنى غير صحيح، وهذا التدبر مبني على تصور فاسد للآية، وبعض أنواع الاستخراجات والتدبرات في المعاني مبنية على تصور غير صحيح لمعنى الآية أصلاً.

ويقول الشاعر يصف إبلاً يقول:

  هن صفر أولادها كالزبيب.

هن صفر يعني سود وأولادها كالزبيب، الزبيب بين بين يعني يضرب إلى السواد لكنه دونه، أولادها كالزبيب، فهذا في كلام العرب يذكرون الصفرة ويقصدون بها السواد، هذا خاص بألوان الإبل، فإذا قال في البقرة:صفراء، فهي الصفرة المعروفة، فإذا وصف ذلك أيضًا بالفقوع فهذا آكد، فلا يقال: فاقع في الأسود، أسود فاقع، وإنما يقال: أسود غربيب، وأسود حالك، وما أشبه ذلك من العبارات التي يذكرها العرب في وصف السواد بالشدة، أسود حالك غربيب، ونحو ذلك من العبارات التي يعبرون بها.

فهنا صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [سورة البقرة:69] لما كانت الألوان أشياء ثابتة في الموصوف قال هنا عبر بالاسم: صَفْرَاءُ ما قال مثلاً: يصفر لونها أو نحو ذلك، فهذه الألوان ثابتة لا تتجدد فَاقِعٌ لَوْنُهَا أكده بهذا، وهذا آكد من قوله: صفراء فاقعة، فاللون هو اسم للهيئة وهي الصفرة.

تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] جاء الوصف هنا بالفعل "تسر" صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا لون ثابت فعبر بالاسم، وفي هذا الموضع تَسُرُّ عبر بالفعل، فهذا يدل على التجدد والحدوث، فكل من رآها سره النظر إليها، فهي ذات لون جميل تسر من رآها ونظر إليها، وجمع هنا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وأدخل أيضًا الألف واللام عليه ليدل على العموم والاستغراق، ليوضح أن ذلك ليس بذوق خاص لبعضهم، وإنما كل من نظر إليها سرته، فكأن هذا الجمال وهذا الحسن مما تتفق عليه أذواق الناس تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

أحيانًا بعض الناس يجذبه بعض الأشياء، وتعجبه وتسره بالنظر إليها، لكن الآخرين لا يوافقونه على هذا، فهذه قضايا ذوقية، أما هذه البقرة فهي تسر من نظر إليها وشاهدها، ولاحظ هذا التشديد تَسُرُّ النَّاظِرِينَ

سنواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات، وما يستخرج من الهدايات فيما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل وعنتهم على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- ومن جملة ما وقع لهم في هذه القصة التي ذكرها الله في سورة البقرة، حينما أمروا بذبح بقرة؛ ليضرب القتيل ببعض منها فكان منهم هذا العنت: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:70] هذا هو السؤال الثالث بعدما قابلوه وواجهوه بقولهم: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] فلما اطمأنوا إلى أنه ليس كما ظنوا بظنهم السيئ هذا رجعوا عليه بهذه السؤالات، سألوه عن سنها أولاً ثم سألوه عن لونها، ثم هذا هو السؤال الثالث عن حال هذه البقرة هل هي مروضة بالعمل، وبنفس الطريقة، وبنفس الجفاء قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ كأنه ليس برب لهم.

فمثل هذا ينبؤ عن جفاء وصلف وسوء أدب واستخفاف فهم يقولون: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:70] يميز لنا هذه البقرة بوصف كاشف لا تلتبس فيه مع غيرها: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [سورة البقرة:70] هم أمروا بأن يذبحوا بقرة، والأمر لا يتطلب شيئًا من هذا العنت، ومن ثم فإنه لا مجال للالتباس والتشابه، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم.

قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:70] في هذه المرة الأخيرة ذكروا الاستثناء والمشيئة إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وذلك لم يقولوه في المرتين قبلها، فهذا حينما توسط بين اسم "إن" وَإِنَّا يعني: وإننا، هذا أصله وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أصله وإنا لمهتدون، فوسطوا هذا بين طرفي الجملة، هذا يفيد هنا توافق رؤوس الآي: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وكذلك للاهتمام بتعليق الأمر بمشيئة الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يكون شيء إلا بإرادته ومشيئته وتقدست أسماؤه.

ثم جاء خبر "إن" وَإِنَّا وإننا، هكذا تقدير الكلام إِنْ شَاءَ اللَّهُ الخبر لَمُهْتَدُونَ فجاء مؤكدًا جاء اسمًا، فهذا يدل على الثبوت، وكذلك أيضًا أنه جاء بمؤكدين: وَإِنَّا أصلها كما قلنا: وإننا فـ"إن" مؤكدة واسمها الضمير "نا" وإننا، وكذلك دخول اللام على الخبر لَمُهْتَدُونَ فهذا كله يفيد التوكيد.

وقد قال بعض أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أنهم لو لم يقولوا ذلك لما اهتدوا إليها[17] وهذا كما وقع وإن كان مع الفارق ليأجوج ومأجوج حينما ذكر النبي ﷺ أنهم في كل يوم ينقرون في السد ثم يقولون: نعود في الغد من أجل استكماله ولا يستثنون، فلما يكون اليوم أو كان الذي يؤذن لهم في الخروج يقولون: نعود غدًا إن شاء الله [18] يعني من أجل مواصلة النقر والحفر، فيفتحونه ويخرجون على الناس، والله قال عن أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين قال: وَلا يَسْتَثْنُونَ [سورة القلم:18] يعني ما قالوا: إن شاء الله.

وقال الله لنبيه ﷺ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:23، 24] فاللائق بأهل الإيمان إذا أرادوا أن يتحدثوا عن أمر في المستقبل مما يعزمون على فعله أو تركه أو نحو ذلك أن يعلق ذلك بالمشيئة، فإذا نسي فإنه يقول ذلك تأدبًا مع الله : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ هذا هو الراجح في معنى هذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني: نسيت الاستثناء تأدبًا مع الله -تبارك وتعالى- وليس ذلك بنافع في اليمين من جهة أنه يكون حانثًا أو لا يكون كذلك، يعني لو أنه حلف فقال: إن شاء الله، والله لأفعلن كذا إن شاء الله فإنه إن لم يفعل لا يكون حانثًا بيمينه، وليس عليه كفارة، لكن لو أنه حلف أنه يفعل كذا ولم يذكر المشيئة ثم استثنى بعد مدة بعد انقطاع فإن ذلك إذا حصل له إخلال بهذه اليمين ففعل ما حلف على عدم فعله فإنه يكون حانثًا، هذا هو معنى آية الكهف -والله تعالى أعلم- وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني: نسيت الاستثناء في قولك لشيء أنك تفعله غدًا أو لا تفعله.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: جهل هؤلاء من بني إسرائيل، يعني هم قالوا لموسى : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ۝ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:70، 71] قال لهم موسى : إنها بقرة غير مذللة للعمل قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ أي: الله إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ يعني: ليست مذللة للعمل في الحرث لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أيضًا كذلك ليست مذللة بالعمل بالسقي، فهذا على قول لبعض المفسرين.

وبعضهم يقول: إن المعنى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ [سورة البقرة:71] يعني: فصلوا بين الجملتين قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فيكون الوقف على قوله: لا ذَلُولٌ على القول الآخر، فيكون من صفتها: أنها تثير الأرض ولا تسقي الحرث، يعني: جاءت الأوصاف مفصلة لربما يصعب عليهم أن يجدوا واحدة بهذه الصفة، لكن المشهور -والله تعالى أعلم- هو الأول، أنها ليست مذللة بالعمل مطلقًا لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْث لا تستعمل في الحرث ولا تستعمل في السقي، هذا هو المشهور، وهو المتبادر الظاهر من السياق -والله تعالى أعلم.

لا شِيَةَ فِيهَا ليس فيها عيب، وليس فيها علامة من لون غير جلدها قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ في هذه البقرة، وإلا لو قصدوا أنه الآن جاء بالحق مطلقًا لكانوا كفارًا، فإنه قد جاءهم بالتوراة، جاءهم بالحق من عند الله إنما يقصدون الآن جئت بالحق في وصف هذه البقرة، بعد هذه الأسئلة والعنت فَذَبَحُوهَا بعد طول المراجعة والتمحل، وما قاربوا يعني: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فكاد هذه على المشهور أنها إذا كانت منفية فإن ذلك يدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة.

وقد تكلمنا على هذا المعنى في قوله -تبارك وتعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] في الكلام على الأمثال في القرآن بأنها تدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة، تقول: ما كاد فلان يصل، ما كاد يأتي، فهو حصل لكن بصعوبة، فهنا أنهم ذبحوها لكن بعد عنت طويل وتمحل كثير، هكذا شددوا فشدد الله عليهم.

المقصود أنه يؤخذ من هذا جهل هؤلاء من بني إسرائيل، حينما قالوا لنبيهم : الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ وقد جاءهم بالحق من أول مرة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] فلو أخذوا بقرة أي بقرة لحصل المقصود، ولم يكن المجيء بالحق بعد هذا التحقق والمراجعة والعنت، وإنما كان ذلك ابتداءً.

وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71]؛ لكثرة عنتهم وعصيانهم وأيضًا تعسر وجود البقرة الموصوفة بهذه الصفات، فإن الأوصاف مقيدة غير الأوصاف الكاشفة، يعني نحن ذكرنا الأوصاف الكاشفة أنها لا تقيد الموصوف، كما في قوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] فالطائر يطير بجناحية، هذه صفة كاشفة تكشف عن الحقيقية لا تقيد، يعني لا يوجد طائر يطير بجناحية وطائر يطير برجليه، فتسمى هذه الصفة كاشفة.

وهكذا حينما يقول الله : يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] هذه صفة كاشفة؛ لأنهم يكتبون بأيديهم ويقولون بأفواههم، لكن إذا كانت الأوصاف وهو الغالب الصفة المقيدة حينما مثل هذه الأوصاف، في البداية بقرة مطلقة، أي بقرة تذبح يحصل بها المقصود، فسألوا عن السِن، فقال: إنها وسط ليست بكبيرة مسنة ولا بكر، فهنا خرج الأبقار المسنات وخرج أيضًا الأبكار، بقي الوسط، فأعادوا سؤالاً عن اللون فقال: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] هذه ثلاثة أوصاف في اللون، فخرج غير الصفراء وخرج الصفراء غير الفاقع لونها، وخرج الصفراء الفاقعة اللون لكن لا تسر الناظرين، لابد من هذه الأوصاف الثلاثة في اللون.

ثم بعد ذلك سألوا هذه السؤال الأخير: هل هي عاملة أو غير عاملة؟ مذللة أو غير مذللة، مروضة أو غير مروضة يعني بالعمل؟ فقال لهم: إنها ليست بمذللة، فوجود بقرة بهذه الأوصاف جميعًا هذه قيود، كما لو قال الإنسان: أريد كتابًا باللغة العربية بقدر مجلد يتحدث عن موضوع السلوك، وفي حسن الخلق خاصة، وبدأ يذكر هذه القيود، فأخرج الكتب الأخرى بغير اللغة العربية، وأخرج كتب التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والتاريخ، وما إلى ذلك، وأخرج كتب السلوك الأخرى التي تتحدث عن قضايا وجوانب غير هذه الجزئية، فهذه قيود.

حينما يقول الإنسان مثلاً: بأنه يريد أن يتزوج امرأة، امرأة مطْلَقة أي امرأة، لكن حينما يقول: امرأة مسلمة، أخرج الكافرات، فإذا قال: تقية، أخرج الفاسقات، فإذا قال: شابة، أخرج الكبيرات، فإذا قال: عربية، أخرج الأعجميات، فإذا قال: طالبة علم، أخرج غير طالبات العلم، فإذا قال: حافظة لكتاب الله، أخرج غير الحافظات، فإذا قال: جميلة، أخرج غير الجميلات، وينتهي في النهاية إلى أوصاف لربما لا يجدها إلا في الحور العين، فالقيود هذه تضيق الموصوف بحيث لا يكاد يوجد أحيانًا.

فهؤلاء ما كادوا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] بأي اعتبار؟ كثرة التمرد والأسئلة عنت، عنت، عنت وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ كل مرة يعيدون ويطلبون أوصافًا جديدة، وأيضًا هذه الأوصاف قيل: بأنهم لم يجدوا هذه البقرة إلا عند أيتام، وقيل: عند رجل ليس عنده سواها، فأبى أن يسمح إلا بملء جلدها من الذهب لا ينقص منه شيء، هذه أخبار إسرائيلية، لكن إن كان ذلك صحيحًا فيكون وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أيضًا لغلاء ثمنها، مع أن ظاهر السياق أنهم ما كادوا يفعلون من أجل كثرة العنت والسؤالات، وهكذا أيضًا لقلة وجود بقرة بهذه الأوصاف، بدأوا يبحثون يفتشون عن بقرة بهذه الصفات النادرة، فهذا كله من سوء الأدب مع الأنبياء والتعامل مع النصوص، واللائق هو المبادرة.

وكثرة التعنت وكثرة التمحل وكثرة السؤال وكثرة القول وكثرة الجدل كل ذلك ينبئ عن قلة العمل، الناس الذين يعملون ليس عندهم وقت لشيء، يحسبون الدقائق والثواني، ما عندهم وقت لشيء، لكن من استرخى وقعد عن العمل عنده أوقات طويلة يبحث عن أحد يجلس معه، عنده معاناة مع الوقت، ومثل هؤلاء تجدهم حتى في العشر الأواخر، افتح في النت أو في تويتر وانظر، وقد يكون بعض هؤلاء ممن سيماهم الخير والصلاح، وتعجب من أين له هذا الوقت، من أين له هذا الوقت؟ تقرأ أحيانًا تبحث في الموسوعة الشاملة وفيها بعض الموسوعات من الشبكة، موسوعات علمية، وتتعجب حينما تنظر إلى الكتابات والتعليقات، أشياء علمية لا بأس، لكن بالعشر الأواخر، والتعليقات: وشكرًا على مرورك، وشكرًا التعليق، فهل هؤلاء يجدون وقتًا في العشر يتفرغون فيه للكتابة في قضايا علمية ومناقشات وما إلى ذلك، وتعليقات، وشكرًا على المرور، يجد وقتًا لهذا في العشر الأواخر، هذا اشتغال بالعلم، فما بالك بمن شغله بغير هذا، القيل والقال، والوقيعة في أعراض الناس، أو من كان شغله في أمور أيضًا أخرى من الباطل.

وهكذا من كان شغله في أمور تافهة فكثرة القول، كثرة الجدل، وكثرة التعنت، وكثرة الأسئلة، هذا ينبئ عن قلة العمل.

وانظروا إلى أسئلة الصحابة  قليلة ولا يوجد عندهم جدل، ولا يعرفون ما يسمى بعلم الكلام والجدل؛ لأن الغالب كان هو العمل، واقرؤوا ما كتبه الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في رسالة نفيسة في "فضل علم السلف على علم الخلف" ذكر فيها فضل علم السلف، وأنهم كانوا أهل عمل، وما كانوا أهل جدل، ويطولون الكلام في أمور جدلية، كما وقع المتأخرين حتى عرف طوائف بأهل الكلام، يجادلون في كل شيء مما يليق الجدل به وما لا يليق الجدل به فيما يتصل بذات الله وصفاته، وكأنما يتحدثون عن أحد من المخلوقين، مثل هذا، وملأت الكتب، وتجد للواحد من هؤلاء يُذكر أن له أكثر من مائة كتاب، لكن أين هذه الكتب؟ لا قيمة لها، بل هي كتب ضارة مليئة بمثل هذه المجادلات والردود في أمور لا تعود عليهم بالنفع، ولذلك ما عُرف هؤلاء بكثرة الذكر والعبادة وما إلى ذلك، وإنما قسوة القلوب.

ولهذا أقول: ينبغي أن يكون لدى المؤمن نظر صحيح في مثل هذه القضايا ومسلك صحيح، ابتعد عن الجدل، وإذا رأيت من يضيع الزمان في أمور لا طائل تحتها ممن يريد أن يقر الباطل أو يرد الحق ولا يطلب الحق هو أصلاً، أو يجادل في الواضحات، يأتيك من يريد أن يجادل، الآن نجد أناس يجادلون في أوضح الواضحات، هناك من يقول: بأن عيسى هل كان رسولاً أو كان نبينًا لم يكن رسولاً، أين الدليل على أنه رسول؟ وأسئلة من هذه القبيل في أمور واضحة، فمثل هذا غاية يقال له: كم بلغ سعر الحنطة؟ ثم انصرف، ولا تشتغل به ولا تضيع الزمان، ترد على هذا القضايا الواضحة يريد أن يجادل فيها، والبعض ما عنده قضية واضح.

رأيت من يجادل في الحجاج بن يوسف الثقفي ويتبناه ويدافع عنه ويثير القضية في المجالس، ما عندك غير هذا تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا [سورة البقرة:134] تدافع عنه وتتبناه، وتذب عنه، ثم تشترك معه في فعله وحاله، ما الحاجة لهذا؟

ورأيت من يدافع عن أبي العلاء المعري شاعر الزندقة، ما وجدت غير هذا؟ كل ما جلس في مجلس أثار، يريد يستفز الآخرين، يريد مجادلة، يريد أنه يثير قضية، ما عنده شيء ما وجد إلا المعري.

فيوجد أناس ليس لهم اشتغال بالعمل، ولم يكن لهم من تهذيب النفوس وصلاحها والتقوى ما يحملهم على الإقبال على ما ينفعهم، فيضيع العمر في مماحكات ومجادلات وقضايا ليست تحتها طائل، وهذه الوسائل وسائل التواصل أيها الأحبة وجد فيها الكثيرون سلوة، فصار الواحد منهم يجلس الأوقات الطويلة ليلاً طويلاً وهو لا يشعر بالوقت، ولربما جلس إلى ارتفاع الضحى وهو لا يشعر بالوقت، ولو قيل له: اقرأ وجهًا واحدًا لرأيت الكسل والضعف وقعود الهمم.

ولذلك انظر إلى كثرة السؤال الذي يرد عن حكم وضع وجه من المصحف في اليوم، كل يوم يضعون وجهًا من المصحف، وجه من المصحف لماذا؟ قالوا: من أجل أنه يقرأ في اليوم وجه من المصحف، ثم اللي يقرأ يضع علامة نجمة، تخبرون عن عبادتكم وطاعتكم وأعمالكم، ثم ما هذا؟ فهل غاية ما هنالك غاية الهمة حينما تسمو أن الواحد منكم يقرأ وجهًا من المصحف كل يوم، لكن انظر إلى الجلوس الطويل أمام هذه الوسائل تجد الساعات في الليل والنهار تقضى في مثل هذا، هل خُلق الإنسان لمثل هذا التضييع والتفريط، ثم يأتي يوم القيامة بعمل لا يُسعف، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس.

الآخرة تحتاج إلى عمل، فإذا كثر القول وكثر الجدل والاشتغال بما لا ينفع فلا تسأل عن حال أصحابه من قلة العبادة والذكر والعمل الذي يقربهم إلى الله والاشتغال بالعلم النافع -والله المستعان.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] هذا أقرب إلى الذم، هم لا يمدحون بهذا الفعل؛ لأنهم ما فعلوه ولا امتثلوا إلا بعد جهد جهيد، وإنما تكون الاستجابة لأول مرة، والنبي ﷺ قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى [19] فهذا الذي يمدح به الإنسان ويرتفع.

نواصل الحديث عن هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل لما أمرهم موسى بذبح البقرة، وما أجابوه به، وما حصل منهم من التباطؤ والتكلف في السؤال إلى أن ذبحوا هذه البقرة، فأحيا الله القتيل ودلهم على قاتله.

قال الله -تبارك وتعالى- تعقيبًا على هذه الواقعة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] واذكروا وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا يعني حين قتلتم نفسًا، فأضاف هذا القتل إلى المجموع باعتبار أنه صدر من بعضهم، فهو ليس بخارج عنهم، فصاروا يتدافعون ذلك.

فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا كل فئة تدرأ ذلك عنها، وتدفعه إلى غيرها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وتخفون بشأن هذا القتيل.

فهذه الآية التي جاء التعقيب بها جاءت متأخرة بعد القصة، وفي البداية حصل القتل وحصل التدافع فأمرهم موسى بأن يذبحوا البقرة، لكن ذلك جاء مؤخرًا في الذكر وإلا فالواقع أن ذلك من حيث الحصول أنه متقدم على أمرهم بذبح البقرة.

وبعض أهل العلم يقولون في توجيه هذا التأخير: أنه في مقام، هذا المقام مقام ذكر مساوئ بني إسرائيل، ومثالب بني إسرائيل، ومعايب بني إسرائيل على سبيل التفصيل، فلو أنه ذكر هذا في البداية لكان السياق واحدًا، يعني أنهم قتلوا قتيلاً فتدارؤوا فيه فموسى أمرهم لحل هذا الإشكال أن يذبحوا بقرة، لكن لما قدم الأمر بذبحهم بقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] هذا يعتبر بمفرده، يعني هذه الآيات التي أجابوا موسى وأجابهم في هذه السؤالات، وما قالوا قبل ذلك: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] أن هذا يدل على عنتهم وتمردهم.

ثم بعد ذلك أيضًا قتل هذا القتيل، وكل طائفة تتهم به الأخرى، وتدفع التهمة عنها، فهذه كأنها منفصلة، فمقام بيان العيوب والمثالب يقتضي التفصيل، فهذا ليس بمقام إجمال -والله تعالى أعلم.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] أن إظهار الحقائق للناس والبيان الذي يبينه الله -تبارك وتعالى- لهم فيما يحتاجون إليه أن هذه من نعمه الجزيلة على عباده التي يمتن عليهم بها، الله -تبارك وتعالى- أيضًا يخرج ما يكتمه أهل الباطل، ويبين الحق ويظهره، فيحذر الإنسان من أن يكتم شيئًا من الباطل والشر وما إلى ذلك، فإنه لا يخفى على الله والله -تبارك وتعالى- يفضحه بذلك متى شاء.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] اضربوا هذا القتيل بجزء منها، ففي البداية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] هنا مباشرة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أوحى إلى موسى ذلك، فهو مبلغ عن الله، وجاء هنا الأمر مباشرة من الله -تبارك وتعالى- فيحيا هذا القتيل الذي فارق الحياة ويخبركم بقاتله، ففعلوا فأحياه الله وأخبرهم، فهذا الإحياء الذي شاهدوه قال: كَذَلِكَ يعني: كذلك الإحياء: يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى هذا الإنسان الذي خرجت روحه من جسده، وصار جثة هامدة تمامًا كهذا الجماد يعيد الله إليه الحياة من جديد فيتحرك ويتكلم ويعقل وهذا من أعظم آياته الدالة على قدرته وأنه يحيي الموتى.

وقلنا: إن هذا أحد الشواهد الخمسة في سورة البقرة التي تندرج تحت نوع من أدلة قدرته على البعث وهو أن أقوامًا قد ماتوا فأحياهم الله -تبارك وتعالى- من جديد، كل ذلك يريهم ربهم -تبارك وتعالى- الآيات الدالة، يعني العلامات الدالة على قدرته وكمال علمه وأنه -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يحيي الموتى قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73].

ومن أهل العلم من يفسر "لعل" في جميع القرآن بأنها للتعليل، كل "لعل" في القرآن يقولون: فهي للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، والمصانع فسرت في الآية بمعانٍ من أشهرها أن المصانع هي القصور، يعني ما كأن الإنسان سيوضع في لحد، كأنه يخلد حينما يبني هذه القصور الفارهة، وما علم أنه سينتقل منها إلى حفرة جوانبها غبر، ليس فيها فراش ولا وساد، وليس هناك غطاء غير التراب، وليس معه زاد إلا العمل الصالح.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] من أجل أن تعقلوا بأن الله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يبعث من في القبور، وأنه -تبارك وتعالى- يجازي العباد على أعمالهم، ويحاسبهم، وأنه -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، وأنه يظهر ما خفي على الناس، أو أخفوه متى شاء، كيف شاء ولو بطريقة لا يتوقعونها، يعني من الذي يتوقع أن هذا القتيل سيحييه الله من جديد وينطق ويخبر عمن قتله، فهذا يحمل العبد دائمًا على مراقبة الله والاتعاظ والاعتبار.

يؤخذ من هذه الآية: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] هذا البعض مبهم غير محدد، فمثل هذا المبهم يتحقق المراد بأي فرد أو بأي جزء أو بأي بعض منه، يعني لو ضربوه بيدها أو برجلها أو برأسها أو ضربوه بكبدها فإن الله -تبارك وتعالى- يحييه فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] فهذا الإبهام يدل على أن ذلك يصدُق على أي جزء كان.

ثم أيضًا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا يعني الأخذ بمثل هذا والبعد عن التكلفات والسؤالات الخارجة عنه اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا بأي شيء كان، لكنهم بدأوا يسألون سؤالات لم يكلفوا بها، فالخروج عن المقصود لا شك أنه يؤدي إلى مفاسد كثيرة، تارة يؤدي إلى المشقة في التكليف، وكما ذكرنا سابقًا فيما يُذم من السؤال، وكذلك أيضًا يدخل فيه أو يحصل بسبب ذلك ضياع موطن العظة والعبرة وهذا كثير في حياة الناس، فإن مثل هذا يصرف الإنسان عما هو حري بالعناية ليحصل المقصود بالاتعاظ والاعتبار، سواء كان مما يتعلق بالقرآن أو بغيره، بالقرآن انظروا إلى كثرة التكلفات فيما يسمى بالمبهمات من القرآن، حينما يذكر الله -تبارك وتعالى- خبر أصحاب الكهف، أين يقع هذا الكهف؟! وتجارب ودراسات، والشمس ودخول الشمس والزوايا وما إلى ذلك، وما الذي يفيد؟!

يوسف ألقي في بئر فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [سورة يوسف:10] أين هذا البئر؟! وما الفائدة، موسى تجلى ربه -تبارك وتعالى- للجبل فجعله دكا، أين هذا الجبل؟! تحديد هذا الجبل، لو كان في هذا فائدة لذكره الله ولكنه اشتغال بما لا طائل تحته، سفينة نوح من أي أنواع الخشب؟!، وكم عدد الطوابق؟! ومن أول من ركب في السفينة؟! ومن آخر من ركب في السفينة؟! وما الذي يعنينا من هذا ما الفائدة؟!

يقولون: آخر من ركب الحمار، وتعلق إبليس بذيل الحمار، فخرجت الفأرة في السفينة تفسد، وخاف الناس من الأسد، فألقى الله عليه الحمى فعطس فخرجت الهرة من عطسته، فخافت الفأرة فاستخفت، هذا كله أخبار لا قيمة لها، أخبار بني إسرائيل، ما الفائدة من هذا وذاك؟! فتضيع مواطن العبر ويشتغل بمثل هذا، ما لون كلب أصحاب الكهف؟! وما اسمه؟! يذكرون أسماء لهذا الكلب، ما الفائدة؟!

العبرة هنا في ذكر القصة ليست في لون الكلب أو في عدد هؤلاء الفتية أو في موقع الكهف، وهكذا ما يذكر من عرش بلقيس، ما مقدار هذا العرش، ما طوله وما عرضه وما ارتفاعه؟ يذكرون تفاصيل، وكلها مبناها على أخبار إسرائيلية لا تصح، ولا يُبنى عليها علم، ولا غلبة ظن.

وهكذا ألف بعض أهل العلم مؤلفات خاصة بهذا الموضوع "المبهمات في القرآن" سواء كان ذلك من الأشخاص أو المواضع الأماكن، أو كان ذلك من الأوقات، أو غير هذا من أنواع المبهمات.

هذا بالنظر إلى كتاب الله -تبارك وتعالى- وفيما يجري في العبر والعظات في الحياة تسوق الخبر فيه عظة وعبرة، فيترك الناس موطن العبرة وينشغلون بالأشياء الأخرى، ما نوع السيارة التي وقع لها هذا؟! كم عدد الأشخاص؟! منهم؟! من الذي كان يقود السيارة، وهل فلان هو أبوه فلان أو جده فلان؟! ثم تتحول القضية أحيانًا إلى جدل في قضايا لا علاقة لها بالموضوع، جدل.

فلان الذي يسكن في المكان الفلاني، يأتي الثاني ويقول: لا ما يسكن بالمكان الفلاني هو يسكن في المكان الآخر، هو في الحي الفلاني، وجدل، ثم تتحول القضية إلى نوع من الخصومة، أنت تكذبني، والثاني يقول: لا، أنا ما كذبتك، تحولنا الآن من قصة سيقت للعظة والعبرة أن هذا الإنسان أسرع، أن هذا الإنسان خاطر فوقع له مكروه، اعتبروا بهذا القدر فقط، تحولت القضية الآن هو فلان أو فلان، سيارته كذا، الثاني يقول: لا سيارة ما هي كذا، ثم تعال هذا الجدل الطويل، ثم الآخر يبدأ يتكلم: أنت معناها تكذبني، لا، أنت الذي تكذبني، أنا ما كذبتك أنا، ما شأننا بهذا؟! فتضيع..

بعض الناس هكذا يفكر وهكذا يناقش، هكذا يأخذ الأمور وهذا غلط، سواء كان هذا فلان أو ابن فلان أو الركاب خمسة أو أربعة أو لون السيارة أبيض أو لون السيارة أصفر أو لون السيارة أبقع، وماذا يعنيني أنا من هذا، أيًا كان، يسكن أين؟ أين تريده يسكن في أي حي، الحي الفلاني؟ هو في الحي الفلاني، كفاية؟ وأنت ماذا تقول؟ يسكن في الحي الفلاني الآخر؟ هو يسكن في حيين مع بعض، انتهى، أعطونا موطن العبرة بس، تحولت القضية إلى شيء آخر جدل، فهذا غلط، لا تؤخذ الأمور بهذه الطريقة، دعك من هذه التفاصيل، وهذه اللواحق والتوابع والذيول، فالعاقل ينظر إلى مواطن العبر، ويقف عندها. 

  1.  انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون) (1/ 137). 
  2.  تفسير السعدي (ص: 55). 
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7289)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2358).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337). 
  5.  انظر: البيان والتحصيل (11/ 279). 
  6.  انظر: شرح النووي على مسلم (10/ 120، 121). 
  7.  جامع العلوم والحكم ت الأرناؤوط (1/ 248). 
  8.  انظر: الموافقات (1/ 49 - 53). 
  9. تراجع من الأصل 
  10.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في فضل أزواج النبي ﷺ برقم (3895)، وابن ماجه، أبواب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم (1977)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3314). 
  11.  انظر: الموسوعة القرآنية (2/ 296). 
  12.  أخرجه الآجري في الشريعة (2/ 1038)، برقم (625)، بلفظ: طوبى: شجرة في الجنة لا يعلم ما طولها إلا الله U يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ولم أقف على لفظ: عشرين خريفا
  13.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3251)، وبرقم (3252)، وبرقم (6552)، في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، برقم (2826). 
  14.  أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2844). 
  15.  تفسير الطبري (24/ 139). 
  16.  أخرجه الترمذي، في أبواب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ برقم (2591)، وصحح وقفه على أبي هريرة t والحاكم في المستدرك، برقم (8540)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2125). 
  17.  انظر: تفسير ابن كثير (1/295). 
  18.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (10632)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، وسعيد بن أبي عروبة، رواية روح عنه قبل اختلاطه، ثم هو متابع"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2276). 
  19.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، برقم (1302)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند أول الصدمة، برقم (926). 

مرات الإستماع: 0

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- في الآية التي تحدثنا عنها في الليلة الماضية وهي قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [سورة البقرة:271]، فبين لهم أن الإظهار والإسرار في الصدقات كل ذلك يعود على صاحبه بالثواب والأجر، وقد مدحه الله -تبارك وتعالى- بقوله: فَنِعِمَّا هِيَ، يعني: المُظهرة، وكذلك إذا أخفاها فهو خير له من الإظهار، فحث على الإسرار؛ لأنه أدعى إلى الإخلاص.

بعدها بين أيضًا أن هذه الصدقات حينما توجه للأبرار وأهل الإيمان أو تعطى لمن هم دون ذلك فإن ذلك يصل ثوابه إلى صاحبه، يصل الثواب والأجر إلى هذا المنفق المتصدق، فكون هذه الصدقات تعطى لمن لديه شيء من التقصير بل قد تعطى صدقة التطوع للكافر فذلك مما يؤجر عليه الإنسان.

فهنا في هذه الآية بين أن اختلاف أحوال المُعطين من جهة الصلاح وأضداد ذلك الاستقامة وأضدادها أن ذلك لا يضر المتصدق، فقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، لست مسؤولاً عن هداية الكافرين، والهداية هنا المقصود بها هداية التوفيق، وليست هداية الإرشاد؛ لأن النبي ﷺ مُكلف بدعوة الناس إلى الإيمان، ولكن ليس عليه هداية القلوب فذلك إلى الله وحده، والمعنى لا تمتنعوا من الصدقة والإحسان إلى الكافر أو المقصر أعني الفاسق بحجة أنه غير تقي، أو الكافر بحجة أنه غير مسلم، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ذلك إلى الله، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، والهداية هنا بمعنى هداية التوفيق؛ لأن الله قد هدى بمعنى البيان والإرشاد جميع الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، لكن هداية التوفيق: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة القصص:56].

ثم بين لهم أن هذه الصدقات لا تذهب بصرف النظر عن حال هذا المُعطى لهذه الصدقة، قال: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، وما تنفقوا من خير فذلك يعود إليكم أنتم، تقدمون وتبذلون وتحسنون إلى أنفسكم فحسب، هذه الجملة الأولى.

والجملة الثانية: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أنتم تتعاملون مع الله لا شأن لك بهذا من حيث الصلاح وعدمه لا شأن لك به، الهداية عند الله ، لكن قدم لنفسك أنت وأنت تتعامل مع الله : وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.

والجملة الثالثة: أن الأجر والثواب يرجع إليك وافيًا كاملاً غير منقوص، إذًا: لا عليك في أن تحسن وتكون كالمطر يقع على الأراضي المختلفة، أما أن يقال هذا مقصر وهذا فاسق ونحو ذلك فيُحرم من الصدقة فإن ذلك لا يسوغ، وتعرفون الحديث في الرجل الذي تصدق بصدقة: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخرج الصدقة في الليالي الثلاث فوقعت في ليلة بيد سارق، فأصبح الناس يتحدثون تُصدق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على سارق، ثم أخرج صدقة أخرى في ليلة أخرى وإذا هي على زانية، فأصبح الناس يتحدثون تُصدق الليلة على زانية، فقال: الحمد لله على زانية، كأن ذلك لم يُعجبه ولم يرضه، ثم تصدق أيضًا فوقعت بيد غني فأصبح الناس يتحدثون تُصدق الليلة على غني، فقال: الحمد لله على غني، لكنه بعد ذلك جاءه في المنام أنها حينما وقعت في يد هذا السارق فلعله يكف عن السرقة[1] وهذه الزانية أن تستعف بذلك عن الزنى، وهذا الغني كذلك، أن يتذكر حال هؤلاء الفقراء والمحتاجين، ونحو ذلك.

فهذه الصدقة قُبلت ومضت عند الله -تبارك وتعالى- وما ضره أن وقعت في يد هؤلاء الثلاثة، ولذلك فالصدقة لا ينبغي على الإنسان أن يستشعر الغبن والخديعة فيها، جاء إليك إنسان وأظهر الحاجة فأعطيته ثم تحدث من تحدث بأن هذا الإنسان صاحب حيل وفراء ويكذب ويختلق المعاذير والأسباب التي يتوصل بها إلى أموال الناس فهذا لا يضره، يعني: لا تندم، هي بلغت عند الله: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، لا غبن، الغبن يقع في البيع والشراء، الغبن في أن يقدم العبد على الله -تبارك وتعالى- في الآخرة وليس عنده عمل قد ضيع الزمان، الغبن أن يُضيع رمضان بأيامه ولياليه هنا وهناك بين نوم وسهر لا يُجدي عليه نفعا، هذا هو الغبن الحقيقي.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ أن الذي يملك القلوب هو الله فالله هو ملك القلوب، الهدى بيده وحده، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة القصص:56]، فالآيات التي جاء فيها نفي الهداية عن النبي ﷺ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، أن ذلك المقصود به هداية التوفيق، دائمًا الهداية المنفية عن النبي ﷺ هي هداية التوفيق، التوفيق إلى الإيمان هداية القلوب، والهداية المثبتة له وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، فأثبت له الهداية فليس هناك تناقض ولا تعارض، فالهداية المثبتة بمعنى هداية الإرشاد والدلالة فهو يدل على الله، ويوضح الطريق الموصل إليه ويُبين حقائق الإيمان ويُعرف بالمعبود -جل جلاله، وتقدست أسماءه.

هذا وجه الجمع بين هذه الآيات التي جاء فيها نفي الهداية عن النبي ﷺ وإثبات الهداية له فلا تعارض، وهذا الذي يسميه العلماء موهم الاختلاف، وصنف فيه بعض أهل العلم مصنفات فيما يتعلق بالقرآن من أجلها كتاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب" وهو من أنفع الكتب، وفي السنة ألف العلماء أيضًا مؤلفات، ومن ذلك الإمام الطحاوي -رحمه الله- في كتابه "مُشكل الأثر" وهو كتاب حافل، وتكلم على هذه المعاني جمع من أهل العلم كابن قتيبة -رحمه الله وغيره، فالذي يصرف القلوب هو الله.

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، وفي هذه الجملة أيضًا تسلية للنبي ﷺ، لَيْسَ عَلَيْكَ فكلمة على تدل على الإيجاب والإلزام ونحو ذلك، يعني: لست مُكلفًا بهداية الناس هداية التوفيق، إذًا: حينما يحصل الإباء والإعراض من هؤلاء الناس فإن ذلك لا يضر النبي ﷺ أو الدعاة إلى الله من بعده، ولهذا سلى الله نبيه ﷺ في مواضع فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ، أي: مُهلك نفسك، عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6]، تتأسف عليهم، تذهب نفسك عليهم أسفًا، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:112]، نهاه عن الحزن والأسف على هؤلاء الكافرين، وهنا يُسليه لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، إذًا ينبغي على الإنسان أن يبذل جهده في بيان الحق والدعوة إليه وهداية الخلق هداية الإرشاد، والموفق هو الله .

وهكذا فيما يتعلق بالتربية لمن تحت يده من الأولاد، الأبناء والبنات، وهكذا القرابات ونحو ذلك، يحرص على تربيتهم تربية صالحة، ويبذل الأسباب في ذلك، ولا يُقصر ولا يُعرض عنهم ويشتغل بغيرهم إما بدعوة، أو أن يشتغل بدنيا، أو نحو ذلك ثم بعد ذلك تأتي النتائج على غير ما يريد، لا، وإنما يبذل جهده ويحرص، لكن إن لم يكن هؤلاء على حال مرضية فالموفق هو الله هذا إذا بذلنا الجهد.

فهذا نوح قال الله -تبارك وتعالى- في ولده: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [سورة هود:46]، ابن نبي، هؤلاء الذين توجه إليهم الدعوة: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة هود:40]، نوح حتى قالوا: إن الذين معه في السفينة هم القلة؛ هم أزواج بناته وعدد من أولاده، عدد قليل، الله أعلم بعدد هؤلاء، لكن هم قلة، والله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، مهما بذلت ومهما فعلت فالهداية بيد الله، ولذلك ميزان الخسارة والهدر في هذا الجانب غير معتبر، بمعنى أن الإنسان يبذل جهده ويدعوا إلى الله قد لا يستجيب أحد فلا يقال: ضاع العمر وضاع الزمان أبدًا: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ.

ويدخل في هذا نفقة العلم والدعوة إلى الله والجهد الذي يبذله وإن كانت الآيات في سياق نفقة المال فذلك يدخل فيها دخولاً أوليًا أعني المال، لكن أنت تقدم لنفسك أنت تبذل لنفسك أنت حينما تعلم الناس أو تدعوهم إلى الله هذا تقدمه لنفسك، وإن هؤلاء استقاموا وانتفعوا ولذلك كما قلت في بعض المناسبات هذا لا يجري فيه قياس الأثر، الدعوة التي تبذل للناس لا يجري فيها قياس الأثر؛ لأنه يجب أن تكون الدعوة مبذولة وأن تصل إلى الناس وإقامة الحجة وإظهار حقائق الدين، فلا يكون خفيًا لكن يبقى الاستجابة والهداية والقبول، كل ذلك إلى الله وحده، مهما كان الإنسان في إخلاصه وحرصه وبذله وفصاحته وعلمه ومعرفته بأساليب الخطاب والدعوة، الموفق والهادي هو الله، تجد الأبناء أحيانًا هؤلاء ليسوا أشقاء فقط؛ بل قد يكونا توأمين، وتجد هذا طينة صالحة بحرصه ومحبته للخير وتقبله وإشراق وجهه منذ الصغر.

وتجد الآخر مُظلم الوجه كثير الإعراض كثير التسخط، كثير النفور من الخير يكره الموعظة ويكره النصيحة، ويكره مجالس الذكر منذ الصغر، فالناس منابت مثل الأرض هذه أرض صالحة ينزل عليها مطر قليل ومع ذلك تخرج من كل زوج بهيج، والأخرى سباخ ينزل عليها المطر الكثير ولا تنبت شيئًا، فهذا مثل: الحرث في أرض ليست موضعًا للبذر والنبات فجهد ضائع لكن لا يضيع عند الله، ضائع في هذا لكنه عند الله لا يضيع.

وآخر في غاية الإقبال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، ولذلك من بذل جهده أيضًا فإنه لا يُلام سواء كان من المربيين من الآباء والأمهات وكذلك أيضًا الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى، بعض الناس قد يلوم الأب إذا كان صالحًا مُصلحًا أن أولاده لم يكونوا على حال مرضية، إن كان قد بذل وسعه فهو غير ملوم، والخضر قتل الغلام وقال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80]، يعني: إذا شب أن يحمل أبويه على الكفر والطغيان إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [سورة التغابن:14]، وهذه العداوة كما قال ابن القيم -رحمه الله- الجالب لها الشفقة والمحبة[2] ليست عداوة بغض، لكن يلحون عليه ويطالبونه نريد ونريد ويقعدونه عن طاعة الله فإذا أراد حجًا أو عمرة أو خروجا إلى المسجد أو إلى العلم وتحصيل العلم اجلس هذا العيد معنا، رمضان معنا لا تذهب إلى العمرة كفاية، لا تذهب إلى الحج، فيفعلون به فعل عدوه فيقعدونه عن كل معروف.

فهذا الغلام الذي قتله الخضر الأب كان مؤمنًا بشهادة الله علاّم الغيوب يعلم أحوال الخلق، ويقول عن أبويه أنهما كانا مؤمنَينِ.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272]، أن الذمة تبرأ بالتعليم والبلاغ وبذل الجهد، وبهذا تسقط عن الإنسان التبعة.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، فقدم الخبر، ترتيب الكلام هكذا ليس هداهم عليك، وإنما قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، فهذا فيه من المعاني البلاغية في كل موضع بحسبه، في هذا المقام يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- ليس عليك قدم ما يتعلق بالنبي ﷺ، هنا لَيْسَ عَلَيْكَ؛ لأن ذلك كان يشغله من جهة ويقلقه ويزعجه، وكذلك أيضًا هذا الامتناع الذي يكون عن الصدقة على البعيد والكافر ونحو ذلك غير المهتدي أن ذلك ليس له مُبرر، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، فقدم ما يتعلق بالنبي ﷺ وما يدل أيضًا على التكليف والإلزام لست مُلزمًا بهداية الخلق يعني هداية التوفيق وإلا فهداية الإرشاد كما سبق يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [سورة المائدة:67]، فهذه هداية الإرشاد.

وهكذا أيضًا فإنه يؤخذ من هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، الخطاب موجه إلى النبي ﷺ وهو خطاب لعموم الأمة، وهذا هو الأصل في مخاطبات الشارع، إذا خُوطب النبي ﷺ فالأصل أنه خطاب للأمة؛ لأن الأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها -عليه الصلاة والسلام- إلا لدليل يدل على تخصيصه بذلك، وهنا يوجد قرينة تدل على العموم لأنه قال بعد ذلك: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ، فوجه الخطاب للمجموع: وَمَا تُنفِقُوا ولم يقل: وما تنفق من خير فتحول الخطاب، وهذا نوع من الالتفات عند البلاغيين، انتقل من المفرد إلى الجمع، وذلك أن المقصود بذلك هو عموم الأمة كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [سورة الطلاق:1] فهذا خطاب للنبي ﷺ، ثم قال: إِذَا طَلَّقْتُمُ فجاء بصيغة الجمع: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ [سورة الطلاق:1].

وهكذا أيضًا قد يكون القرينة غير ذلك كقوله -تبارك وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء:23]، وجاء بصيغة الجمع والأول مفرد، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ [سورة الإسراء:23]، فرجع إلى المفرد والنبي ﷺ لم يُدرك ذلك، يعني: أن أبويه ماتا وهو في الصغر فـ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [سورة الإسراء:23]، فالخطاب موجه إلى النبي ﷺ والمقصود بذلك الأمة، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن من أبويه أحد على قيد الحياة، وهكذا في هذه الآية الكريمة في قوله -تبارك وتعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [سورة البقرة:271]، هذا عام، ثم قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، فتمتنع، ثم قال: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ فذلك يكون لعامله، هل هذا يدل على أن الإنسان لا يجوز أن يتبرع لعمل لغيره؟

ليس ذلك بنص صريح في هذا المعنى فمجموع النصوص يدل على أن يمكن أن يتبرع الإنسان بشيء من عمله لغيره، لكن العلماء اختلفوا في تفاصيل ذلك فبعضهم خصه بالنوع، يعني من جهة الأفراد من جهة العاملين فقالوا يكون ذلك للولد، الولد الذكر أو الأنثى؛ لأن النبي ﷺ قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر منها: أو ولد صالح يدعو له [3] فقالوا: الولد من كسبه، وبعض أهل العلم قيده بنوع من الأعمال، فالأعمال والعبادات منها مالية منها ما هو مالي ومنها ما هو بدني.

وبعض أهل العلم قال: هناك نوع ثالث وهو مركب من المالي والبدني وهو الحج والعمرة، فالمالي يصل ثوابه؛ فسعد بن عبادة سأل النبي ﷺ عن أمه حينما ماتت سأل النبي ﷺ: "أفأتصدق عنها؟ "[4] فأقره النبي ﷺ على ذلك، فهذا في التبرعات المالية لا إشكال في هذا، وإن كان أولئك يقولون: بأن السائل هو ولدها، ولكن الذي عليه الجمهور أن الصدقات المالية والنفقات المالية تصل إلى المُتبرع له.

النوع الثاني: وهو المركب من المالي والبدني في الحج والعمرة فهل يُجزئ عن غيره؟

المرأة التي سألت عن أبيها الذي لا يثبت على الراحلة سألت أن تحج عنه فأقرها النبي ﷺ على ذلك[5] لكن أولئك يقولون السائل هي البنت أو ولد صالح يدعوا له.

وكذلك ما جاء في أثر ابن عباس: "لبيك عن شُبرمة"[6] الرجل الذي قال هذا فذكر أنه قريب له، أو ابن عم، الحج والعمرة يمكن أن يحج الإنسان عن غيره أو يعتمر فرضًا أو نفلاً.

النوع الثالث: الأعمال البدنية المحضة هل له أن يتبرع بتلاوة القرآن عن غيره؟ هل له أن يتبرع بالطواف يطوف سبعة أشواط، ويقول هذا لفلان ونحو ذلك؟

هذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم وهي من المسائل التي خالف فيها ابن القيم -رحمه الله- شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، ولعل الأقرب أن ذلك يصل ولكنه لا يُشرع؛ لأن الشارع لم يُرشد إليه بالنسبة للأعمال البدنية العبادات البدنية، لكن قد توجد بعض الأدلة تدل عليه.

وأما قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [سورة النجم:39]، فالمقصود أنه لا يستحوذ على سعي غيره لكن لو أن غيره أعطاه سعيه وتبرع به إليه صار إليه، كما أنه لا يستحوذ على أملاك غيره لكن لو تبرع بها وهبها له فإن ذلك يصل إليه، المسألة فيها خلاف كثير ولعل الأقرب -والله أعلم- أن ذلك يصل لكن لا يُشرع، لا يُشرع بمعنى أنه لم يندب إليه الشارع وإنما اللائق بالإنسان أن يجتهد في العمل لنفسه فهو بحاجة إلى العمل وقت إمكان الفرصة، ويدعوا لغيره من الأحياء والأموات.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).
  2. انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:64).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت، برقم (2760).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، برقم (1513)، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، أو للموت، برقم (1334).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، برقم (1811)، وابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج عن الميت، برقم (2903)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1589).
  7. تفسير القرطبي (3/ 339).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
  9. أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244).

لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].

تحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة وما يُستخرج من الهدايات والفوائد، كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:272]، فـ"ما" هذه تفيد العموم، و"خير" نكرة في سياق أيضًا الشرط، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، فهذا للعموم وسُبقت خير التي هي نكرة بـ"من" التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم فهي نص صريح في العموم، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، يعني: أن كل ما تبذل أن ذلك يرجع إليك، فإذا استشعر المنفق ذلك لم يقع في نفسه مِنة، أو يصدر منه أذى، أو يقع منه إدلال على المُعطى والمُنفق عليه، ولم ينتظر من الآخرين الشكر والثناء والمدح والإطراء وما إلى ذلك؛ لأنه يقدم لنفسه فلا حاجة لأن يُلقب بالمُحسن الكبير، هو يُقدم لنفسه، ولهذا حُكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرًا من المعروف كما يقول القرطبي -رحمه الله[7] ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرًا، فقيل له في ذلك، فقال: إنما فعلت مع نفسي ويتلوا هذه الآية: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:272]، فهذا إنما يصنعه الإنسان لنفسه ليرفعها لينفعها، يُقدم لنفسه، يبذل لنفسه.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ أن الحرام لا يُقبل ولا يصح الإنفاق منه؛ لأنه ليس بخير، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ، فإذا أنفق الحرام فذلك شر، وهكذا كل نفقة على غير الوجه المشروع فهي ليست موصوفة بأنها خير.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- في الجملة الثانية، الجملة الأولى عظيمة ولها مدلول كبير: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، تقدم لنفسك إذًا لا تنتظر من الآخرين شيء، ولا تعتقد أن لك يدًا على أحد، أو فضل على أحد، هذه الجملة الأولى تقدم لنفسك، اجتهد واعمل فذلك يعود إليك، تُحسن إليها.

الجملة الثانية: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [سورة البقرة:272]، هذه قال بعض أهل العلم: بأنها خبر على ظاهره؛ لأن الصيغة خبرية، وأن ذلك مدح للصحابة بأنهم أصحاب إخلاص في نفقاتهم.

والمعنى الثاني: أن الصيغة خبرية ولكنها تُرشد إلى الإخلاص وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، إذًا إذا كان الأمر كذلك أن الإنفاق ابتغاء وجه الله لا شأن لك بهذا فتقول هذا يستاهل وهذا ما يستاهل، هذا كفؤ وهذ غير كفؤ، هذا ليس بأهل أو نحو ذلك، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272]، فأنت تقدم لنفسك ثم أيضًا أنت تتعامل مع الله، وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أنتم تريدون ما عنده -تبارك وتعالى- وهذا يُرشد إلى الإخلاص، ودفع الرياء والمقاصد السيئة فذاك الذي يُنفق طلبًا للمحمدة، أو تحصيل المنزلة في قلوب الخلق، أو نحو ذلك هذا لا ينطبق عليه هذا الوصف: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.

والذي ينفق ليُحصل غرضًا دنيويًا لا ينطبق عليه هذا الوصف، بعض الناس يقدم تبرعات ونحو ذلك من أجل أن يحصل على مزايا تُمنح للمنفقين، ومن لهم يد في الإحسان في المجتمع، فيذهب ويقول: أنا قدمت كذا وكذا أريد مزايا كذا وكذا وكذا، فهذا قد لا يصدق عليه هذا الوصف، فلابد من الإخلاص: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فإذا كان الإنسان ينفق بهذا الاعتبار فإنه لا يُبالي بعد ذلك بما قد يكون من جحد الناس وتنكرهم لبذله وإنفاقه، تتعامل مع الله فإذا أنكر هذا الذي أحسنت إليه أنكر الجميل، أنكر المعروف الذي أعطيته كما ذكرنا في قول الله -تبارك وتعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22].

نزلت في أبي بكر وَلا يَأْتَلِ، يعني: ولا يحلف من الألية وهي الحلف، حلف أن لا يصل مسطحًا؛ لأنه كان قريبًا له ابن خالته وينفق عليه لأنه فقير، ثم بعد ذلك صدر منه ما قد عُلم من الإفك فوقع في عرض عائشة -رضي الله عنها وأرضاها[8]، فالله يقول: وَلا يَأْتَلِ لا يحلف أولوا الفضل أصحاب المنازل والمقامات الرفيعة، أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ، الغنى، أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، فالتعامل مع الله -تبارك وتعالى، إذًا لا ينقطع الإنسان من البذل والخير والنفقة ونحو ذلك إذا لم يرَ من الناس تقديرًا لهذا الجهد، أو هذا الإحسان، أو هذا الإنفاق.

كذلك في هذا الموضع في قوله: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فيه إثبات صفة الوجه لله -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق به، على ما يليق بجلاله وعظمته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11].

وكذلك أيضًا في قوله: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فإذا كان الإنسان ينفق ابتغاء وجه الله وجاء بصيغة الحصر، وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ، أقوى صيغة من صيغ الحصر النفي والاستثناء، فنفقتكم لهذا، إذًا لا موضع للمن والأذى، وأيضًا تخير الرديء من النفقات من الأموال ليُخرجه الإنسان، أنت تتعامل مع الله، تريد وجه الله، تتقرب إليه بالرديء من الطعام والشراب والأثاث ونحو ذلك! هذا لا يليق.

كذلك أيضًا هذا السياق: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أيضًا هذه صيغة خبرية لكنها متضمنة معنى النهي، يعني: ينهى على أن ينفق المُنفق إلا ابتغاء وجه الله، لا تنفق إلا على هذا الأساس، فهذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده.

كذلك أيضًا هنا: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، فكرر لفظ الإنفاق ثلاث مرات في هذه الآية، وجيء به مرتين بصيغة الشرط، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، فهنا جيء بالصيغة الشرطية لبيان الثواب والجزاء أنه أمر حاصل للمنفق، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، فذلك يعود إليها، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ فهاتان جملتان شرطيتان.

وكذلك أيضًا فيها: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، تعليم للإخلاص وتصحيح القصد.

وفي هذه الآية كيف تضمنت هذه الجُمل الخمس: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، فلم تُجعل جملة واحدة وإنما فُصلت كل جملة كأنها مستقلة للاهتمام بتقرير هذه المعاني الكبار، وهذه الجملة الأخيرة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، هذه ليست بتكرار مع الجملة الأولى، يعني: الجملة الأولى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، يعني: أن ذلك يرجع إليكم.

والجملة الأخيرة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، هنا في بيان كمال الأجر والجزاء أن ذلك لا ينقص، ولا يضيع عند الله -تبارك وتعالى، بل يعود إليك وافيًا، الجملة الأولى أنك تقدم لنفسك، الجملة الأخيرة أن الأجر يكون كاملاً غير منقوص فهذا يحصل به كمال الاطمئنان، يعني: تصور الآن حينما يستقر في نفس المؤمن هذه المعاني أن ما ينفقه يرجع إليه إذًا أنا المنتفع، ولذلك كان بعض السلف يعتقد أن هذا الذي يأتيه بحاجته أنه مُحسن إليه حيث عرض حاجته وهيأ الأسباب للإحسان، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ.

فالتعامل مع الله إذًا لا تنتظر الشكر، أو أن يقول لك: جزاك الله خيرًا، ثم ذلك يرجع إليك كاملاً فيطمئن الإنسان إذا كان العمل لنفسه، والتعامل مع الله الكريم الغني، وأن الجزاء يرجع وافيًا، فلماذا يتردد؟! ولماذا يتوقف؟!، ولماذا يمتنع من إعطاء النفقة لمن يعتقد أنه ليس كما ينبغي؟!، نعم إن كان يستعين بها على معصية الله فلا يُعطى، لكن إن كان لا يستعين بها على المعصية، أو يمكن إيصالها بطريق لا يستعين بها على المعصية فلا إشكال، لا شك أن الأتقياء الأبرار أولى بالنفقة والإحسان ولكن: في كل كبد رطبة أجر،[9] إذا كانت هذه المرأة التي سقت الكلب غُفر لها وهو كلب؛ فكيف بابن آدم!.

كذلك أيضًا في قوله: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [سورة البقرة:272] ولم يذكر الموفي وهو الله -تبارك وتعالى؛ لأن ذلك معلوم، يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272]، وأنتم ولم يقل: يوف إليكم ولا تظلمون يعني أنتم، وإنما قال: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ فهذا لمزيد الاعتناء بما يتصل بهم فقدم الضمير المتعلق بالمنفقين المخاطبين وأنتم؛ لأنه هو أهم ما عنده أنه ما يرجع إليه ما يتعلق بنفسه بمصلحته، فيقول: اطمئنوا كل الاطمئنان أنتم لا تظلمون، قد يؤجرون على هذا ولكن ببخس، عند الله لا يكون هذا، ويكون وافيًا، وهذا الوفاء كما ذكره الله -تبارك وتعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160]، الحسنة بعشر، وكما في الآية السابقة في المثل المضروب للمنفقين: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:261]، فهذه النفقات تُضاعف من العشر إلى سبعمائة إلى أكثر من ذلك، وبعضهم يقول في قوله: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ، يعني: من العشر إلى السبعمائة يعني هذه المضاعفة.

وبعضهم يقول: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فوق السبعمائة وكأن هذا هو الأقرب، -والله تعالى أعلم. 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، برقم (1022).
  2. انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:64).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم (1631).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت، برقم (2760).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، برقم (1513)، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، أو للموت، برقم (1334).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب الرجل يحج عن غيره، برقم (1811)، وابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج عن الميت، برقم (2903)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1589).
  7. تفسير القرطبي (3/ 339).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
  9. أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244).