الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبيَّنه الله تعالى لنا.يقول ابن كثير: وقد كان معيناً في نفس الأمر: معنى هذا الكلام أنه لو سألنا سؤالاً، وقلنا: ما هو الجزء الذي ضربوا به القتيل من البقرة؛ فلا شك أن الجواب هو أنهم ضربوه بجزء من البقرة، ورموه به؛ لا بكاملها، إذن هذا الجزء معين في نفس الأمر، أي أن الإحياء لهذا الميت قد وقع برميه بجزء منها لا ندري ما هو، فهو معين في نفس الأمر لا بتعيين موسى ﷺ لهم هذا الجزء، وإنما حصل بضربه بجزء منها لا نعلمه، فهو معين في نفس الأمر، ولو افترضنا إمكانية أن نسأل الذين ضربوه أو حضروا لأخبرونا عنه، لكن لا شأن لنا بمعرفته؛ إذ لا فائدة من جراء ذلك، والله أعلم.
ولكنه أبهمه، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله.في مقدمة أصول التفسير يقول شيخ الإسلام: إن العلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما عليه دليل معلوم يعني من النظر، ثم ذكر القسم الآخر الذي لا سبيل إلى الوقوف على صحته، والمقصود به مثل هذه الأخبار الإسرائيلية إذ ليس لها أسانيد، فكيف نستطيع أن نحكم أن هذا الراوي ضعيف أو سيء الحفظ، أو أنه رجل متهم أو غير ذلك؛ إذ ليس له أسانيد أصلاً، فهذا لا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق الوحي، وإلا فتبقى فيها القسمة الثلاثية المعروفة: توافق ما عندنا، أو تخالف، أو لا توافق ولا تخالف؛ بمعنى أنه لم يرد عندنا شيء يتصل بها، فنتوقف فيها.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى [سورة البقرة:73] أي فضربوه فحيي.
معناه كذلك الإحياء يحيي الله الموتى، أو كذلك الإحياء الذي شاهدتموه يحيي الله الموتى.
ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل - تبارك وتعالى - ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56]، وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.
في الصعق الذي سبق ذكره قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55] قلنا: الراجح أنه موت حقيقي؛ لأنه قال بعده: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [سورة البقرة:56] وليس الصعق غشية كما قال بعض أهل العلم، فيكون ذلك هو الموضع الأول في سورة البقرة ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي أنهم ماتوا فأحياهم الله .
وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.
ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها، وشاهد هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ ۝ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [سورة يس:33-35].

مرات الإستماع: 0

"اضْرِبُوهُ القتيل، أو قبره."

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ الأصل أنه يُضرب القتيل، أو قبره: يُضرب القبر باعتبار أنه دفن، واشتغلوا من الذي قتله؟ فيضرب قبره، لكن هذا خلاف الظاهراضْرِبُوهُ هذا يدل على أن المقصود ضرب القتيل نفسه.

"بِبَعْضِها مطلق، وقيل: الفخذ، وقيل: اللسان، وقيل: الذنب."

مطلق يعني لم يحدد بجزء معين منها، فنطلق ما أطلقه الله - تبارك، وتعالى - اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لم يحدد هنا، فدل على أنهم لم يقيدوا بجزء معين.

"كَذلِكَ إشارة إلى حياة القتيل، واستدلال بها على الإحياء للبعث، وقبله محذوف، ولا بدّ منه تقديره: ففعلوا ذلك فقام القتيل."

 فقام القتيل، وأخبرهم عن قاتله، والعرب تطوي من الكلام كما يقول ابن جرير ما تثق معه بفهم المخاطب، وهذا كثير.

"فائدة: استدل المالكية بهذه القصة على قبول قول المقتول: فلان قتلني[1] وهو ضعيف؛ لأن هذا المقتول قام بعد موته، ومعاينة الآخرة، وقصته معجزة لنبي، فلا يتأتى أن يكذب المقتول، بخلاف غيره، واستدلوا أيضًا بها على أن: القاتل لا يرث، ولا دليل فيها على ذلك."

لاحظ الآن المؤلف - رحمه الله - مالكي، يقول: استدل المالكية بهذه القصة ... ثم قال: هذا ضعيف. يعني يضعف مذهبهم، وهذا يدل على أنه - رحمه الله - لم يكن ممن يتعصب للمذهب، قوله: على قبول قول المقتول: فلان قتلني. هذا ما يسمى عند الفقهاء؟ قتيل وجد في ناحية، في حي بين قوم فالتهمة متوجهة إليهم؟ هذا التي يسمونها اللوث، فهذا عند المالكية من جملته، لو أنه يتشحط بدمه قبل أن تفارق الروح الجسد، قال: فلان قتلني. يقولون: يُصدق. لماذا يُصدق؟ قالوا: لأنه في حال مفارقة الدنيا، فليس له بالكذب حاجة. يعني في هذه اللحظات يفارق الدنيا ما عاد له في الكذب من حاجة، فلا يقول إلا حقًا في هذه اللحظات التي نفسه تخرج فيها. أما الاستدلال بهذه الآية ابن جزي يقول: ضعيف. لماذا ضعيف؟ لأن هذا مات، وعاين الآخرة، وذاك ما عاين الآخرة، لا زال في الدنيا، بينما هذا مات فعاين الآخرة، يعني انتقل إلى عالم البرزخ، ثم رجع إلى الدنيا، ففرق بينه، وبين هذا الذي يتشحط في دمه، ولم تفارق روحه جسده، فيقول: لا يُقاس عليه. وهذا قياس مع الفارق، وأن الفارق هذا مؤثر، إنسان عاين الآخرة، وإنسان ما عاين الآخرة.

يقول: وقصته معجزة لنبي فلا يتأتى أن يكذب المقتول. يعني النبي يقول لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، يعني: سيخبركم من هو القاتل، فهذه معجزة لا يمكن أن يقوم، ويخبرهم بغير القاتل. قال: واستدلوا أيضًا بها على أن القاتل لا يرث، ولا دليل فيها على ذلك. بأي اعتبار استدلوا بهذا على القاتل؟ هو باعتبار أن الذين قتله قريب له، يريد أن يرثه، لا وارث له سوى هذا القريب، هذا إنسان ليس له أولاد، ليس له أصول، ولا فروع، فأحد هؤلاء القرابات هو الوارث فقتله؛ ليرث، لكن الآية ليس فيها ما يدل على شيء من هذا: أنه حُرم الميراث. طبعًا هو لا يقصد أن القاتل يرث، هذا لا يقصد هذا، لكن يقصد الاستدلال بهذه الآية، هل هي دليل أو لا؟.

  1. المقدمات الممهدات (3/307)، المعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 1347).

مرات الإستماع: 0

نواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل وما كانوا عليه من العنت والتمرد على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله، فذكر خبرًا جديدًا من أخبارهم ينضاف إلى ما ذكر قبله.

فقال الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] هؤلاء يُذكِّرهم الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى واذكروا إذ قال موسى: يا بني إسرائيل، خاطبهم بهذا الخطاب: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وذلك أنه قُتل قتيل فتدارءوا قتله، كل طائفة تتنصل منه وتضيفه إلى غيرها، كما سيأتي في آخر هذه القصة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] يعني: تدافعتم فيها، فهذا الذي يقولون: إنه من المؤخر الذي يكون مقدمًا في الوقوع، يعني أُخر ذكره، وسيأتي ما يتصل بتأخير ذكره وما فيه من الفائدة، لكن من حيث الوقوع أنه وقع بينهم التدارؤ أولاً: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72] فهذا كان قبل أن يؤمروا بذبح البقرة، عندها أمرهم موسى بوحي من الله أن يذبحوا بقرة، فهذا أمر صادر عن نبي كريم هو كبير أنبياء بني إسرائيل، ومع ذلك قابلوه بهذا العنت، بل بالاستكبار أولاً أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ أتتخذنا موضعًا للسخرية والاستخفاف؟ فاستعاذ بالله واستجار به أن يكون من الجاهلين.

هذه الآية: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فهنا أنهم أمروا بذبح بقرة، وبقرة هنا نكرة في سياق الإثبات، وهي بمعنى المطلق، بمعنى أنها تصدق على أي بقرة كانت، ومعلوم عند الأصوليين أن المطلق له شمولٌ بدلي، يعني سواء كان ذبح هذه البقرة أو هذه أو هذه أو هذه، كما يقال: اعتق رقبة، المطلوب اعتاق رقبة واحدة، فإذا اعتق هذه أجزأ وإذا اعتق هذه أجزأ، فالشمول بدلي، يعني هو يشمل هذه جميعًا أنها رقاب، ولكن إذا أعتق واحدة منها أي واحدة، المطلوب واحدة فإن هذا يجزئ، كما أن هذا يجزئ، كما أن هذا، هذا الشمول البدلي.

أما العام ففيه شمول لكنه استغراقي، تقول: اعتق الرقاب، يعني كل الرقاب، لو قال لهم: اذبحوا البقر، فإن كل بقرة يتعين ذبحها، لكن حينما يقول: اذبحوا بقرة واحدة، فالشبه بين العموم والإطلاق هذا مفصله ومحزه الذي قد يخفى على كثير من طلاب العلم، الفرق بين المطلق والعام أن الشمول في المطلق بدلي لا يراد به الاستغراق، والشمول في العام هو استغراقي، فالعام ما استغرق ما يصلح له دفعة بلا حصر من اللفظ، فهذا الآن: تَذْبَحُوا بَقَرَةً أي بقرة، يصدق عليها هذا سواء كانت كبيرة أم صغيرة، مذللة بالعمل أم غير مذللة، أو كانت سوداء أو صفراء أو بيضاء أو غير ذلك، فإن ذلك يحصل به المقصود.

فهم لم يتأدبوا الأدب اللائق، أول ما قابلوا به نبيهم هذا الرد البارد: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا هل يُظن بعاقل في قضية كهذه قوم يتدافعون قتيلاً أن يكون ذلك موضع سخرية واستخفاف حينما يلجأ إليه قومه، عاقل ليس بعالم وليس بنبي أو رسول، هذا لا يليق بآحاد الناس فكيف بنبي كريم ورسول عظيم من أعظم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- من قال الله -تبارك وتعالى- فيه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه:41] قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [سورة طه:39] فهنا وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي يعني: أن الله -تبارك وتعالى- قد هيأه وأعده إعدادًا خاصًا من أجل القيام بهذه المهام العظام، الحاصل أن هؤلاء أساءوا الظن بنبيهم فأساءوا الجواب، وأساءوا الفهم فأساءوا الرد: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا.

وهكذا من ساءت فهومهم أو ساءت ظنونهم فإن حاصل ذلك وما ينتج عنه من مقابلتهم لمن خاطبهم بما فيه مصلحتهم هو مثل هذه الردود الباردة الفاسدة: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بعض العلماء كما ذكر الماوردي -والله أعلم- بهذا ذكر حكمة، وهذه قضية غيبية، لكن لا بأس أن أذكرها، لكن لا نبني عليها ولا نصححها، قد يكون ذلك صحيحًا أو لا يكون.

يقول الماوردي[1]: بأن الحكمة في أمرهم أن يذبحوا بقرة بالذات بقرة، يعني لم يذبحوا شاة أو نحو ذلك هو أن هؤلاء قد تعلقوا بالعجل صغير البقر، وبقي في نفوسهم هذا المعبود، كما قال الله : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:93] فالإشراب يعني: تغلغل ذلك في النفوس، فصار ذلك كالشيء المشرب في قلوبهم، فالماوردي يقول: "أمروا بذبح بقرة لكسر ما بقي وكان عالقًا بالنفوس من التعلق بولد البقر وهو العجل، فيقوموا هم بأنفسهم بذبح البقرة، فهي لا تصلح أن تكون معبودًا بحال من الأحوال، وإذا كان البقرة الكبيرة لا تصلح لأن تعبد فالعجل من باب أولى".

ثم تأملوا جواب موسى حينما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ استجار بالله والتجأ إليه مستعيذًا أن يكون من الجاهلين أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا استهزاء، نوع أخص من المزاح فهو مع استخفاف وشيء من السخرية، فهذا الاستهزاء الذي يكون بهذه المثابة هو يتضمن الاحتقار لهذا المستهزَئ به والانتقاص، وهذا لا يليق بالعاقل فضلاً عن مقام الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فدل ذلك كما يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي وقاله قبله أيضًا بعض المفسرين: "أن الذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم أنه من الجاهلين، الذي يستهزئ بالناس ويسخر منهم يهزأ بهم أنه من الجاهلين"[2] وهذه الآية واضحة في تقرير هذا المعنى أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يعني: أن الذي يتخذ الناس هزوًا يستهزئ بهم ويسخر منهم أنه من الجاهلين أيًا كانت هذه السخرية، سواء كان يسخر من أشكالهم ويتندر بهم، وهذا فيه زيادة على الجهالة أن ذلك يعود إلى عيب الصانع؛ لأن عيب الصنعة إنما هو عيب لصانعها.

وكذلك الذي يسخر من الناس ويستهزئ بهم باعتبار المهن والأعمال، أو باعتبار الأنساب والقبائل والأصول، أو باعتبار البلاد التي يرجعون إليها، فهو يسخر من هذا ويستهزئ بهذا أنه من القبيلة الفلانية أو من البلد الفلاني، أو من الأسرة الفلانية أو نحو ذلك، فهذا كله من أفعال الجاهلين.

أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يستهزئ بالناس، وهذا المستهزئ يدل على أنه مستخف، وهذا الاستخفاف ينبئ عن سوء طوية وتربية هشة، كما أنه ينبئ عن ترفع وتعالي على الناس، لو كان يتواضع لهم لم يسخر ولم يستهزئ بهم، فموسى تبرأ من ذلك ولجأ إلى الله مستجيرًا به كيف يقع ذلك منه، كيف يقع منه الاستهزاء بالناس أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ما قال: أعوذ بالله أن أستهزئ بكم، لا، قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ من الجاهلين يعني في جملة الجاهلين، فأعطانا ذلك بعدًا في المعنى، وسعة فيه دلت على أن من وقع منه ذلك دخل في زمرة الجاهلين، وكل من فعل معصية الله -تبارك وتعالى- أو تجاوز الحد الذي حده له الشارع، أو اعتدى على الناس بيده أو لسانه بأديانهم أو عقولهم أو أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم فهو أيضًا من الجاهلين؛ لأن الجهل يأتي بمعنى العدوان على الناس.

وهذه السخرية والاستهزاء هي لون من العدوان، ولو عرف الإنسان أن هؤلاء مثله لما استهزأ بهم، حينما يستهزئ بآخر ويستخف به لأنه ينتسب إلى الناحية الفلانية، أو البلدة الفلانية، أو المنطقة الفلانية، أو القبيلة الفلانية، أو القوم الفلانيين أو غير ذلك، هذا كلهم يرجعون لآدم، فلا يليق أن يسخر من أحد؛ لأنه يشترك معه في وصف الإنسانية، يسخر منه لأصله هو وهو سواء، والعبارات المؤذية العبارات الجارحة التي يطلقها بعض من لا يحسب حسابًا لكلماته هذه الكلمات أحيانًا تنبئ عن استهزاء وسخرية ونحو ذلك.

ومن الناس من إذا جلست معه لا تدري ما الذي يصل إليك منه، في كلامه يجرح، يعني هو يجرح من جميع الاتجاهات، فإذا أراد أن يأخذ الماء سأل جليسه: هل ولغت فيه؟ فيجيبه ذلك على البديهة ويقول: إنما أنا مثلك، يعني إن كان ذلك ولوغًا، والولوغ يقال: للكلب، فيقول: أنا مثلك، فإن كان ذلك ولوغًا فكذلك أنت حينما تشرب فذلك ولوغ، كان اللائق ألا يسأل أصلاً هل شربت منه؛ لأنه يدل على أنه يتقذر منه، فكيف إذا خاطبه بمثل هذه العبارة: هل ولغت فيه؟

وقد يكون هذا ممن ينتسب للعلم أو ظاهره الصلاح والتدين، ولكن هذا اللسان غير مهذب، تجد الكلمات هنا وهناك، إذا وضع الطعام قال: كل من هذا إذا قال: لا أشتهيه، قال: لا تجده في أرض قومك؟ يشير إلى بلده التي يتنقص أهلها، هذا ما يليق أن يؤذي الناس بهذا أو بغيره مما ينبئ عن استهزاء وسخرية واستخفاف وكبر وصلف وجفاء أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هذه أخلاق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فلا يصح أن تستهزئ المرأة بغيرها، أو يستهزئ الرجل بغيره، أو يستهزئ الإنسان بأحد من الناس، لاسيما من كان في موضع القدوة، المعلم حينما يستهزئ بالطلاب ويسخر من لباسهم أو من أسمائهم أو يسخر من تصرفاتهم أو نحو ذلك فيقول كلامًا يجرح، وأحيانًا يشبههم بأشياء لا يليق التشبيه بها، فمثل هذا لا يجوز شرعًا، فهؤلاء عندهم مشاعر كما أنك تملك مشاعر، ثم يتذكر الإنسان: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [سورة النساء: 94].

في هذه الآية يؤخذ منها أن الإنسان عمومًا أنه يتذكر الحال التي كان عليها قبل ذلك، في المناقشات في الرسائل الجامعية أحيانًا تجد لونًا من التعالي والصلف والاستكبار في العبارات التي تؤذي وتجرح، سخرية من الباحث والكاتب وأحيانًا من مشرفهِ، وكأن هذا صار فرصة لإخراج مثل هذه الأخلاق الرديئة بمجمع من الناس، وللأسف لو كان الإنسان يعقل لعلم أن مثل هذه المناقشات إنما هي إفادة وإثراء يستفيد منها الحضور، ويستفيد منها الباحث، ويستفيد منها المشرف، ويستفيد منها المناقشون وليست مجالاً للقدح والتجريح والعبارات القاسية والمؤذية -الله المستعان- والموفق من وفقه الله ما على الإنسان ما على المرء حينما يعرض ما عنده بطريقة تقبلها النفوس، ويكون ذلك المجلس مجلس فائدة وإفادة وإثراء لطلاب العلم، من حضر يستفيد، أما رفع الأصوات والكلام الذي لا يليق، وتهزيء الباحث.

حدثني بعضهم أنه يخرج من القاعة إلى المستشفى، وبعضهم يبكي أمام الناس، لاسيما إذا كان الحضور أول من يحضر هم طلابه إذا كان يدرس، هو معيد في الكلية أو محاضر، فيحضر طلابه، وطلابه هؤلاء من المحب المشفق ومنهم الشامت، هذا الذي لربما لا يجتاز عنده، من الذي يُنصف من نفسه ويقول: أنا مقصر وأنا الضعيف وأنا الذي، ما هو يأتي للشماتة، فيرى ما يسره ألا يكون شيء من هذا.

وهنا هؤلاء شددوا على أنفسهم لما قال لهم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ حين أمرهم بذبح البقرة، بدأوا يشددون ويطلبون أشياء: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68] يسألون عن السن، ثم سألوا عن اللون، ثم سألوا عن العمل، هل هي مذللة عاملة أو غير مذللة بالعمل، فهؤلاء شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فلو امتثلوا من أول وهلة من أول مرة فإنه يحصل المطلوب وتحصل الكفاية، ولكن تعنتوا فهذا العنت مذموم شرعًا، ولذلك فإن النبي ﷺ أخبر أن: من أعظم الناس في المسلمين جرمًا الذي سأل عن شيء لم يُحرَّم فحرم من أجل مسألته [3].

وقال النبي ﷺ: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي ﷺ ثم قال: لو قلتها لوجبت[4] وأمرهم ﷺ ونهاهم: ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فمثل هذه السؤالات التي ترد من غير موجب تكون مذمومة، ومن هنا قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101].

وقد ذكرت في بعض المناسبات ما جاء من الذم لبعض السؤالات، قلنا: يدخل في هذا السؤال عن شيء لم يُحرَّم في وقت التنزيل، أو شيء لم يكتب ويفرض في وقت التنزيل فيفرض أو يحرم من أجل مسألته، ويدخل في هذا الأغاليط صعاب المسائل، تتبع صعاب المسائل حتى بعد التنزيل، الذي يسأل عن أشياء، وكما ذكرنا عن الإمام مالك -رحمه الله- الرجل الذي جاءه فقال له، سأله عن رجل على دابته قد وطئت دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فقست عنده البيضة، هل هي حلال أو حرام البيضة؟[5] لأنها خرجت من دجاجة ميتة وطأتها هذه الدابة، هو يسأل عن حكمها، يعني هذا سؤال تعنت، مسائل نادرة في الوقوع، الأغاليط صعاب المسائل، كذلك في وقت التنزيل.

وهذا ذكر جملة منها النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم[6].

وكذلك الحافظ ابن رجب في الأربعين "جامع العلوم والحكم"[7] والشاطبي في "الموافقات"[8] ذكروا أحوالاً يكره فيها السؤال يدخل فيه هذا وأشباهه، - والله تعالى أعلم .

فهنا هؤلاء سألوا عن أشياء كان ينبغي أن لا يسألوا عنها، وهذا يحصل ويتكرر، أشياء لم يُسأل عنها، تجد حتى الطلاب في الاختبارات يأتي السؤال قريبًا سهلاً ليس فيه طلب تفاصيل، ما حكم كذا. يقول: نذكر الأقوال والأدلة والترجيح؟ لا أحد قال لك هذا، لو أردناه لذكرناه، تفضل نعم هاتوا الأقوال والأدلة والترجيح، ينبري واحد ويسأل عن قضايا مثل هذه هي لم تطلب، ما القول الراجح في المسألة الفلانية، في معنى الآية الفلانية، يقول: أذكر القول الآخر؟ لا أحد طلب منك القول الآخر.

ما الدليل على كذا؟ يقول لك: ونذكر الرد على المخالفين؟ نحن قلنا: ما الدليل، ما قلنا: كيف ترد على المخالفين، ما الدليل على كذا، يقول: نذكر وجه الاستدلال؟ لم يطلب منك وجه الاستدلال، فمثل هذا أحيانًا يعاقب بأن يقال له: نعم، هات وجه الاستدلال، هاتوا، وهاتوا الأقوال الأخرى وأدلتها والرد على كل قول وبيان وجه ذلك، فمثل هذه الأشياء لا حاجة إليها.

ويؤخذ من هذا الآية أيضًا حاجة الخلق جميعًا إلى الالتجاء إلى الله -تبارك وتعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فالعوذ بمعنى اللجوء والاستجارة بالله -تبارك وتعالى- من الأمور المكروهة والمخوفة، وبعض أهل العلم يفرق بين العوذ واللوذ، فيقولون: اللوذ يكون في المحاب، الأمور المطلوبة، والعوذ في الأمور المخوفة: أَعُوذُ بِاللَّهِ فإذا كان هؤلاء الأنبياء الكبار من أولي العزم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يلجؤون إلى الله -تبارك وتعالى- في كل ما نابهم غيرهم من باب أولى.

نواصل الحديث بالكلام على ما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل، وما كان من عنتهم مع أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- وذلك في خبر موسى معهم حينما أمرهم بذبح البقرة ليضربوا القتيل بجزء منها فيحيا بإذن الله فيدلهم على قاتله حيث تدارءوا في ذلك، فحينما بادروه وقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] بدأوا بسؤلات العنت، والطبيعة كما قيل: غلابة قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:68].

هنا يسألون عن العمر، هل هي بقرة كبيرة أو صغيرة، هل هي بكر أو فارض أو متوسطة بين بين، ففهم مرادهم فقال: إِنَّهُ يَقُولُ وهذا يبين أن ذلك كان بأمر من الله وبوحي منه وأنهم يعلمون ذلك: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ما قالوا: ما هي يا موسى، وإنما قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ثم أجابهم: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ فهذا صريح بأن ذلك من الله وأنه معلوم لديهم، ومع ذلك يقولون: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] ليست بفارض أي: مسنة كبيرة، ولا بكر يعني: صغيرة فتية، وإنما هي متوسطة بينهما فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بادروا سارعوا إلى الامتثال.

هذا معنى الآية على سبيل الإيجاز، ونحن نذكر المعنى موجزًا من أجل ألا يبقى إشكال في المراد ثم بعد ذلك نستخرج الفوائد وهي المقصودة.

يؤخذ من هذه الآية استكبار هؤلاء اليهود وما كانوا عليه من الصلف كما أشرنا سابقًا، فقد خاطبوا نبيهم بهذا الخطاب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ما قالوا: ادع ربنا، كأنه ليس بربٍ لهم ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ومثل هذا في خطاب الناس فيما بينهم حينما يتخاطبون بمثل هذا هو مؤشر ومشعر بدرجة القرب والارتباط، فحينما يقول الإنسان لذويه أو لقرابته أو لأصحابه أو نحو ذلك يخاطبهم يقول لهم: ما فعلتم من كذا، أو ما حصل لكم من كذا، أو ما أردتم من كذا، أو ما فاتكم من كذا، كأنه ليس بجزء منهم، وإنما من كان قريبًا، من كان ذا وشيجة قوية فإن ذلك يكون بمنزلة النفس الواحدة كما ذكرنا في بعض المناسبات فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] يعني: يقتل بعضكم بعضًا، نزلهم منزلة النفس.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] يعني: لا يأكل مال أخيه، فنزل منزلة النفس وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [سورة المجادلة:8] على القول الآخر المشهور في الآية: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ أي: يقول بعضهم لبعض سرًا، فهنا في مثل هذه المخاطبات حينما يخاطب غيره ويقول: نحن فيما حصلنا، أو فيما أردنا، أو فيما غفلنا عنه، أو فيما فاتنا، أو فيما عوقبنا به، أو فيما فرطنا، أو نحو ذلك، يتكلم بهذه الطريقة، لكن حينما يوجه إليهم الخطاب فهذا، فكيف إذا كان ذلك فيما يتصل بمعبودهم .

ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ما قالوا: ادع الله أو ادع ربنا، وإنما: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وهم في مقام حاجة وفي حرج يتدافعون ويتدارءون قتيلاً قتل يريدون أن يعرفوا قاتله، وأن يدفعوا عن أنفسهم التهمة ولكن هكذا كانوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [سورة البقرة:68] يعني: وسط، وخير الأمور الوسط.

وهذا الموضع يذكر فيه العلماء لونًا من الأمثال يسمونها الأمثال الكامنة، بالميم والنون الكامنة، بمعنى أن هذا الكلام يكمن فيه مثل، فهنا: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ يكمن في هذه الجملة مثل معروف عند الناس وهو أن خير الأمور الوسط، وكان الحسين بن الفضل معروفًا باستخراج الأمثال من القرآن، لديه سرعة بديهة وقدرة على هذا الاستخراج، وسواء كانت أمثال العرب أو أمثال العجم، العرب عندهم أمثال، أمثال فصيحة وأمثال عامية ويوجد فيها مؤلفات معروفة، ويوجد لدى الأمم أمثال، هناك أمثال إنجليزية، وأمثال روسية، وأمثال هندية، وأمثال صينية، وأمثال، لو وضعت الآن طلبت في النت وقلت مثلاً: الأمثال الصينية يأتيك سرد من الأمثال.

وبعض هذه الأمثال تحمل دلالات ومعاني جيدة، فكل الأمم عندهم أمثال، بصرف النظر عن هذه الأمثال هل هي دقيقة أو صحيحة سواءً عند العرب أو عن غير العرب، القضية لا تتوقف على عرب أو عجم، لكن أحيانًا يولد الناس بعض الأمثال ويتلقفونها ويتلقونها كأنها وحي منزل، وهذا هو الخطير، وتكون تحمل دلالات سلبية غير صحيحة، فيأخذونها على أنها مسلمات، خاصة الأمثال العامية، وهي ليست بصحيحة.

يعني مثلاً من الأمثال الذي عند الناس بما يتعلق بالنساء: "شاوروهن وخالفوهن" من قال هذا؟ ليس بوحي وليس بصحيح، وكم من امرأة كانت ذات رأي رشيد أرشد من كثير من الرجال، فكيف يُجعل هذا على أنه مثل، فيتلقاه من لا بصر له ويعمل بمقتضاه، "لا تأمن الأنثى الخؤون.." إلى آخر ما قال القائل، هذا الكلام غير صحيح، معاذ الله، المرأة مثل الرجل، فالخيانة توجد في بعض الرجال وتوجد في بعض النساء، وتوجد الأمانة في الرجال وتوجد في النساء: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [سورة النساء: 34] فهذا من الأمثال الفاسدة.

وبعضهم يُلقن ولده أو من يشير عليه برأي غير سديد إذا تزوج أو كان مقبلاً على الزواج ويعطيه أحيانًا في مضامين ذلك من هذه الأمثال، انتبه ترى كذا، وترى كذا، وترى كذا، والدليل هذا المثل الأعوج من كلام بعض العامة، وهو مثل مبني على تصور وفهم غير صحيح، فانتبهوا لهذا؛ لأنه يسير الكثيرين، وكما قيل: الناس أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، لما ترسخ عنده هذه أنها قاعدة يبدأ يتعامل بمقتضاها، ويصعب تغيير سلوك هذا الإنسان؛ لأنه قد بناه على تصور فاسد، ويتصور عن مثلاً تعامل الرئيس مع مرؤوسيه، التعامل مع بعض الناس مع العمال أو مع غيرهم، بتصورات فاسدة، فيظلم ويتصرف بشيء من العسف والقهر ونحو ذلك بناء على تصور فاسد.

رأيت بعض الناس قد ينتسب للعلم عنده هكذا تصور، أن المرأة والطالب لا يمكن أن - لا أحفظ العبارة لكن هذا معناها - أن هؤلاء انتبه أن يعني تلقي لهم بالاً[9] وهذا من أفسد الكلام، الإنسان يكون علاقته بأهله وبذويه وقراباته من أخواته ونحو ذلك أحسن ما يكون، وخيركم خيركم لأهله [10] المشكلة لما يكون عند الإنسان هذا التصور يبدأ يتعامل بنوع من الظلم الذي يصعب تغييره وإزاحته؛ لأنه سيطر على فكره هذه التصور الفاسد والمثل الأعوج.

وهكذا علاقة الإنسان مع طلابه يعاملهم بالرحمة ويحبهم، يحب لهم الخير، وإن قسى عليهم، فإنما يقسو عليهم وهو محب وقلبه يتألم؛ لأن مقصوده هو نصح هؤلاء، هم تمامًا مثل أولاده بل مثل نفسه، يضع نفسه مكان من يخاطبه قبل أن يتكلم وقبل أن يتصرف، يضع نفسه مكان المقابل، ما هي مشاعره؟ ماذا يريد؟ ولذلك يقول لهم: لا حاجة أن تأتي وتقول: أنا جئتك من طرف فلان، طرف فلان أو من طرف لست من طرف أحد حقك محفوظ على التمام.

فالحسين بن الفضل هذا كان يستخرج الأمثال فقيل له: هل تجد في كتاب الله "خير الأمور أوساطها"[11]؟ قال: نعم في أربعة مواضع، هذه الآية: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] وكذلك: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] الاعتدال في النفقة، وأيضًا: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:110] التوسط، وأيضًا: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء:29] هذه أربعة مواضع.

فهذه كلها يسمونها الأمثال الكامنة، يعني يكمن فيها مثل وهو خير الأمور الوسط، الأمثال التي عند الناس يتكلمون بها هذه لا يوجد شيء منها في القرآن وحاشا وكلا فالله أجل وأعظم من أن يتمثل بكلام أحد من الناس قاله في مناسبة، كما ذكرنا في الكلام على الأمثال، الأمثال التي نتداولها هذه الأمثال عند الأدباء كما يقال هي عبارة قيلت، عبارة موجزة معبرة قيلت في مناسبة فصارت تقال في نظائرها، بحيث صارت سارية في الناس متداولة منتشرة يضربونها في مناسبتها أو ما يقارب هذه المناسبة.

ومن الأمثال التي قد تقال في مناسبات مثل: ذلك الرجل الذي خطب امرأة في الصيف فرفضت، وكان الرجل ذا يسار وغنى وصاحب دواب، فجاءت إليه في الشتاء، والشتاء حاجة وشدة وجوع ليس كالصيف، من جهتين أن الأرض تكون ممحلة عادة وإنما يكون الثمر عادة في الخريف والصيف حيث تطيب الثمار، الخريف يكون بعد الصيف يعني في آخر الصيف تكون الثمار، ولذلك فإن الخريف أفضل من الربيع، والناس يعبرون يقولون: عمر فلان قد بلغ العشرين ربيعًا، لا تجد في النصوص يسير الراكب تحتها ما قال: عشرين ربيعًا قال: عشرين خريفًا [12] مائة سنة لا يقطعها[13] فتقول أنت في حديث: يسير الراكب كذا، تقول مثلاً، في الأحاديث: هذا حجر ألقي -يعني في النار- منذ سبعين خريفًا [14] فالتعبير يأتي بالخريف، لا يأتي التعبير بالربيع، الذين يعبرون بالربيع من المتأخرين نظروا إلى الأزهار والأزهار إنما ينتفع بالنظر إليها، وما يبعث ذلك على البهجة، لكن الحاجة والجوع والشبع ونحو ذلك والغَناء إنما يحصر بالثمار بأنواعها.

فالعرب تستعمل الخريف في التعبير عن العام؛ لأنه وقت الوفرة، فإذا قيل لك: كم تبلغ من العمر؟ تقول: أبلغ العشرين خريفًا مثلاً، الخريف تتساقط فيه أوراق الشجر لكن يكثر الثمر، والعبرة بالمعاني وليست بالصور.

المهم هنا هذه المرأة جاءت في الشتاء في وقت الحاجة تطلب المساعدة فقال لها: الصيف ضيعتي اللبن، فصارت مثلاً، صارت مثلاً تقال في هذه المناسبة وما شابهها، يطلب إنسان من آخر شيئًا فيمتنع ثم يحتاج المطلوب منه ويأتي فيقول له: الصيف ضيعتي اللبن، يعني أن منعك الأول تسبب عن حرمان الآن، هكذا يستعملون هذا المثل.

فهذه الأمثال لا يوجد شيء منها في القرآن؛ لأن الناس يتمثلون بكلام قاله قائل في مناسبة، الله أعظم وأجل من أن يتمثل بكلام أحد من الناس، لكن يوجد في القرآن هذا النوع الذي اسمه الأمثال الكامنة، أن المضمون ينطبق على أو يصدق على أو يوافق مثلاً تعرفه العرب، وكذلك يوجد في القرآن النوع الآخر من الأمثال التي تقرب المعقول بصورة المحسوس مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة:17] إلى آخره، وهذا هو المشهور في أمثال القرآن.

وهنا قال: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وسط بين ذلك فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] فارض: كبيرة، ويقولون: فاطر للناقة الكبيرة، أو التي تقادم عليها الزمن فاطر.

وبعض الناس إذا أراد أن يقول: أنا مفطر قال: أنا فاطر.

فالحاصل أن هذه الآية يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [سورة البقرة:68] المبادرة دون تلكؤ ولا تردد ولا انتظار، ولهذا موسى قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [سورة طه:84] المبادرة والاستجابة في الإقبال على الله كل شيء تذم العجلة، والتأني خير، لكن إذا جاء أمر الله فهنا لا مجال للتأني، أذن المؤذن لا داعي للانتظار، تبادر مباشرة لطاعة الله دخلت العشر، لا داعي للتباطؤ والتسويف، تستطيع اعتكف مباشرة من مغرب ذلك اليوم، وقل مثل ذلك في المطالب الشرعية.

فانظروا إلى هؤلاء اليهود كيف أبطأوا ثم بعد ذلك لم ينتهوا، فأعادوا السؤال ثانيةً يسألون عن اللون؟ فقالوا وبنفس الأسلوب: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] بقرة صفراء شديدة الصفرة فاقع لونها، تسر من نظر إليها، والصفرة معروفة فإذا قيل ذلك في الألوان أو لون البقر بقرة صفراء لاسيما إذا وصفت بالفقوع أصفر فاقع فهي الصفرة المعروفة، ولا يصح أن تفسر بالسواد.

والقول: بأن الصفرة هنا صفرة سواد قول غلط في التفسير، وهو قول شاذ غير صحيح، إنما الذي عليه ما يشبه الإطباق أن الصفرة الصفرة المعروفة ووصفها بالفقوع، وأن الصفرة لا تقال مرادًا بها السواد إلا في ألوان الإبل فقط، ألوان الإبل، يقول الله عن النار أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ۝ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [سورة المرسلات:32، 33] جمالة على قول لربما هو الأشهر في التفسير أنه الجمال الإبل (صُفرٌ) ما المقصود بالصُفر هنا؟ سود.

فالصفرة إذا قيلت في ألوان الإبل خاصة عند العرب كما يقوله ابن جرير[15] وغيره، فالمقصود بها السود، هذا الشرر كأنه جمالة لضخامته سود، طيب النار ما لونها؟ سوداء مظلمة كما جاء في الحديث: أنه أوقد عليها مائة عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها مائة عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها مائة عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة [16] والنار الحمراء كما هو معروف أقل حرارة، ومن نظر إلى نار الحداد فإنها تتحول إلى لون الزرقة والبياض فهذا أشد من الحمرة أقوى، فهذا يذيب الحديد، فكيف إذا صارت سوداء، إذا كانت زرقاء فهي شديدة الحرارة، فإذا زاد ذلك وتحولت إلى سوداء وهذا لا يعرف في نار الدنيا فهذا أشد.

فهنا قال: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْر يعني: سود، ولهذا يُخطئ من يستنبط من هذه الآية، يعني بعض من يتحدث عن التدبر، يقول: كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْر أن الشرر لا ينطفئ كشرر النار العادية المعروفة أنه بمجرد ما يتطاير يذبل وينطفئ، لا، هذا يبقى متوهجًا، فوصفه بالصفرة، يظن أن الصفرة هنا بمعنى اللون المعروف لون الشرر الذي عندنا في الدنيا، وهذا معنى غير صحيح، وهذا التدبر مبني على تصور فاسد للآية، وبعض أنواع الاستخراجات والتدبرات في المعاني مبنية على تصور غير صحيح لمعنى الآية أصلاً.

ويقول الشاعر يصف إبلاً يقول:

  هن صفر أولادها كالزبيب.

هن صفر يعني سود وأولادها كالزبيب، الزبيب بين بين يعني يضرب إلى السواد لكنه دونه، أولادها كالزبيب، فهذا في كلام العرب يذكرون الصفرة ويقصدون بها السواد، هذا خاص بألوان الإبل، فإذا قال في البقرة:صفراء، فهي الصفرة المعروفة، فإذا وصف ذلك أيضًا بالفقوع فهذا آكد، فلا يقال: فاقع في الأسود، أسود فاقع، وإنما يقال: أسود غربيب، وأسود حالك، وما أشبه ذلك من العبارات التي يذكرها العرب في وصف السواد بالشدة، أسود حالك غربيب، ونحو ذلك من العبارات التي يعبرون بها.

فهنا صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [سورة البقرة:69] لما كانت الألوان أشياء ثابتة في الموصوف قال هنا عبر بالاسم: صَفْرَاءُ ما قال مثلاً: يصفر لونها أو نحو ذلك، فهذه الألوان ثابتة لا تتجدد فَاقِعٌ لَوْنُهَا أكده بهذا، وهذا آكد من قوله: صفراء فاقعة، فاللون هو اسم للهيئة وهي الصفرة.

تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] جاء الوصف هنا بالفعل "تسر" صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا لون ثابت فعبر بالاسم، وفي هذا الموضع تَسُرُّ عبر بالفعل، فهذا يدل على التجدد والحدوث، فكل من رآها سره النظر إليها، فهي ذات لون جميل تسر من رآها ونظر إليها، وجمع هنا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وأدخل أيضًا الألف واللام عليه ليدل على العموم والاستغراق، ليوضح أن ذلك ليس بذوق خاص لبعضهم، وإنما كل من نظر إليها سرته، فكأن هذا الجمال وهذا الحسن مما تتفق عليه أذواق الناس تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

أحيانًا بعض الناس يجذبه بعض الأشياء، وتعجبه وتسره بالنظر إليها، لكن الآخرين لا يوافقونه على هذا، فهذه قضايا ذوقية، أما هذه البقرة فهي تسر من نظر إليها وشاهدها، ولاحظ هذا التشديد تَسُرُّ النَّاظِرِينَ

سنواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات، وما يستخرج من الهدايات فيما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل وعنتهم على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- ومن جملة ما وقع لهم في هذه القصة التي ذكرها الله في سورة البقرة، حينما أمروا بذبح بقرة؛ ليضرب القتيل ببعض منها فكان منهم هذا العنت: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:70] هذا هو السؤال الثالث بعدما قابلوه وواجهوه بقولهم: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] فلما اطمأنوا إلى أنه ليس كما ظنوا بظنهم السيئ هذا رجعوا عليه بهذه السؤالات، سألوه عن سنها أولاً ثم سألوه عن لونها، ثم هذا هو السؤال الثالث عن حال هذه البقرة هل هي مروضة بالعمل، وبنفس الطريقة، وبنفس الجفاء قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ كأنه ليس برب لهم.

فمثل هذا ينبؤ عن جفاء وصلف وسوء أدب واستخفاف فهم يقولون: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:70] يميز لنا هذه البقرة بوصف كاشف لا تلتبس فيه مع غيرها: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [سورة البقرة:70] هم أمروا بأن يذبحوا بقرة، والأمر لا يتطلب شيئًا من هذا العنت، ومن ثم فإنه لا مجال للالتباس والتشابه، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم.

قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:70] في هذه المرة الأخيرة ذكروا الاستثناء والمشيئة إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وذلك لم يقولوه في المرتين قبلها، فهذا حينما توسط بين اسم "إن" وَإِنَّا يعني: وإننا، هذا أصله وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أصله وإنا لمهتدون، فوسطوا هذا بين طرفي الجملة، هذا يفيد هنا توافق رؤوس الآي: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وكذلك للاهتمام بتعليق الأمر بمشيئة الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يكون شيء إلا بإرادته ومشيئته وتقدست أسماؤه.

ثم جاء خبر "إن" وَإِنَّا وإننا، هكذا تقدير الكلام إِنْ شَاءَ اللَّهُ الخبر لَمُهْتَدُونَ فجاء مؤكدًا جاء اسمًا، فهذا يدل على الثبوت، وكذلك أيضًا أنه جاء بمؤكدين: وَإِنَّا أصلها كما قلنا: وإننا فـ"إن" مؤكدة واسمها الضمير "نا" وإننا، وكذلك دخول اللام على الخبر لَمُهْتَدُونَ فهذا كله يفيد التوكيد.

وقد قال بعض أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أنهم لو لم يقولوا ذلك لما اهتدوا إليها[17] وهذا كما وقع وإن كان مع الفارق ليأجوج ومأجوج حينما ذكر النبي ﷺ أنهم في كل يوم ينقرون في السد ثم يقولون: نعود في الغد من أجل استكماله ولا يستثنون، فلما يكون اليوم أو كان الذي يؤذن لهم في الخروج يقولون: نعود غدًا إن شاء الله [18] يعني من أجل مواصلة النقر والحفر، فيفتحونه ويخرجون على الناس، والله قال عن أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين قال: وَلا يَسْتَثْنُونَ [سورة القلم:18] يعني ما قالوا: إن شاء الله.

وقال الله لنبيه ﷺ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:23، 24] فاللائق بأهل الإيمان إذا أرادوا أن يتحدثوا عن أمر في المستقبل مما يعزمون على فعله أو تركه أو نحو ذلك أن يعلق ذلك بالمشيئة، فإذا نسي فإنه يقول ذلك تأدبًا مع الله : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ هذا هو الراجح في معنى هذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني: نسيت الاستثناء تأدبًا مع الله -تبارك وتعالى- وليس ذلك بنافع في اليمين من جهة أنه يكون حانثًا أو لا يكون كذلك، يعني لو أنه حلف فقال: إن شاء الله، والله لأفعلن كذا إن شاء الله فإنه إن لم يفعل لا يكون حانثًا بيمينه، وليس عليه كفارة، لكن لو أنه حلف أنه يفعل كذا ولم يذكر المشيئة ثم استثنى بعد مدة بعد انقطاع فإن ذلك إذا حصل له إخلال بهذه اليمين ففعل ما حلف على عدم فعله فإنه يكون حانثًا، هذا هو معنى آية الكهف -والله تعالى أعلم- وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني: نسيت الاستثناء في قولك لشيء أنك تفعله غدًا أو لا تفعله.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: جهل هؤلاء من بني إسرائيل، يعني هم قالوا لموسى : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ۝ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:70، 71] قال لهم موسى : إنها بقرة غير مذللة للعمل قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ أي: الله إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ يعني: ليست مذللة للعمل في الحرث لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أيضًا كذلك ليست مذللة بالعمل بالسقي، فهذا على قول لبعض المفسرين.

وبعضهم يقول: إن المعنى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ [سورة البقرة:71] يعني: فصلوا بين الجملتين قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فيكون الوقف على قوله: لا ذَلُولٌ على القول الآخر، فيكون من صفتها: أنها تثير الأرض ولا تسقي الحرث، يعني: جاءت الأوصاف مفصلة لربما يصعب عليهم أن يجدوا واحدة بهذه الصفة، لكن المشهور -والله تعالى أعلم- هو الأول، أنها ليست مذللة بالعمل مطلقًا لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْث لا تستعمل في الحرث ولا تستعمل في السقي، هذا هو المشهور، وهو المتبادر الظاهر من السياق -والله تعالى أعلم.

لا شِيَةَ فِيهَا ليس فيها عيب، وليس فيها علامة من لون غير جلدها قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ في هذه البقرة، وإلا لو قصدوا أنه الآن جاء بالحق مطلقًا لكانوا كفارًا، فإنه قد جاءهم بالتوراة، جاءهم بالحق من عند الله إنما يقصدون الآن جئت بالحق في وصف هذه البقرة، بعد هذه الأسئلة والعنت فَذَبَحُوهَا بعد طول المراجعة والتمحل، وما قاربوا يعني: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فكاد هذه على المشهور أنها إذا كانت منفية فإن ذلك يدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة.

وقد تكلمنا على هذا المعنى في قوله -تبارك وتعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] في الكلام على الأمثال في القرآن بأنها تدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة، تقول: ما كاد فلان يصل، ما كاد يأتي، فهو حصل لكن بصعوبة، فهنا أنهم ذبحوها لكن بعد عنت طويل وتمحل كثير، هكذا شددوا فشدد الله عليهم.

المقصود أنه يؤخذ من هذا جهل هؤلاء من بني إسرائيل، حينما قالوا لنبيهم : الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ وقد جاءهم بالحق من أول مرة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] فلو أخذوا بقرة أي بقرة لحصل المقصود، ولم يكن المجيء بالحق بعد هذا التحقق والمراجعة والعنت، وإنما كان ذلك ابتداءً.

وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71]؛ لكثرة عنتهم وعصيانهم وأيضًا تعسر وجود البقرة الموصوفة بهذه الصفات، فإن الأوصاف مقيدة غير الأوصاف الكاشفة، يعني نحن ذكرنا الأوصاف الكاشفة أنها لا تقيد الموصوف، كما في قوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] فالطائر يطير بجناحية، هذه صفة كاشفة تكشف عن الحقيقية لا تقيد، يعني لا يوجد طائر يطير بجناحية وطائر يطير برجليه، فتسمى هذه الصفة كاشفة.

وهكذا حينما يقول الله : يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] هذه صفة كاشفة؛ لأنهم يكتبون بأيديهم ويقولون بأفواههم، لكن إذا كانت الأوصاف وهو الغالب الصفة المقيدة حينما مثل هذه الأوصاف، في البداية بقرة مطلقة، أي بقرة تذبح يحصل بها المقصود، فسألوا عن السِن، فقال: إنها وسط ليست بكبيرة مسنة ولا بكر، فهنا خرج الأبقار المسنات وخرج أيضًا الأبكار، بقي الوسط، فأعادوا سؤالاً عن اللون فقال: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] هذه ثلاثة أوصاف في اللون، فخرج غير الصفراء وخرج الصفراء غير الفاقع لونها، وخرج الصفراء الفاقعة اللون لكن لا تسر الناظرين، لابد من هذه الأوصاف الثلاثة في اللون.

ثم بعد ذلك سألوا هذه السؤال الأخير: هل هي عاملة أو غير عاملة؟ مذللة أو غير مذللة، مروضة أو غير مروضة يعني بالعمل؟ فقال لهم: إنها ليست بمذللة، فوجود بقرة بهذه الأوصاف جميعًا هذه قيود، كما لو قال الإنسان: أريد كتابًا باللغة العربية بقدر مجلد يتحدث عن موضوع السلوك، وفي حسن الخلق خاصة، وبدأ يذكر هذه القيود، فأخرج الكتب الأخرى بغير اللغة العربية، وأخرج كتب التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والتاريخ، وما إلى ذلك، وأخرج كتب السلوك الأخرى التي تتحدث عن قضايا وجوانب غير هذه الجزئية، فهذه قيود.

حينما يقول الإنسان مثلاً: بأنه يريد أن يتزوج امرأة، امرأة مطْلَقة أي امرأة، لكن حينما يقول: امرأة مسلمة، أخرج الكافرات، فإذا قال: تقية، أخرج الفاسقات، فإذا قال: شابة، أخرج الكبيرات، فإذا قال: عربية، أخرج الأعجميات، فإذا قال: طالبة علم، أخرج غير طالبات العلم، فإذا قال: حافظة لكتاب الله، أخرج غير الحافظات، فإذا قال: جميلة، أخرج غير الجميلات، وينتهي في النهاية إلى أوصاف لربما لا يجدها إلا في الحور العين، فالقيود هذه تضيق الموصوف بحيث لا يكاد يوجد أحيانًا.

فهؤلاء ما كادوا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] بأي اعتبار؟ كثرة التمرد والأسئلة عنت، عنت، عنت وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ كل مرة يعيدون ويطلبون أوصافًا جديدة، وأيضًا هذه الأوصاف قيل: بأنهم لم يجدوا هذه البقرة إلا عند أيتام، وقيل: عند رجل ليس عنده سواها، فأبى أن يسمح إلا بملء جلدها من الذهب لا ينقص منه شيء، هذه أخبار إسرائيلية، لكن إن كان ذلك صحيحًا فيكون وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أيضًا لغلاء ثمنها، مع أن ظاهر السياق أنهم ما كادوا يفعلون من أجل كثرة العنت والسؤالات، وهكذا أيضًا لقلة وجود بقرة بهذه الأوصاف، بدأوا يبحثون يفتشون عن بقرة بهذه الصفات النادرة، فهذا كله من سوء الأدب مع الأنبياء والتعامل مع النصوص، واللائق هو المبادرة.

وكثرة التعنت وكثرة التمحل وكثرة السؤال وكثرة القول وكثرة الجدل كل ذلك ينبئ عن قلة العمل، الناس الذين يعملون ليس عندهم وقت لشيء، يحسبون الدقائق والثواني، ما عندهم وقت لشيء، لكن من استرخى وقعد عن العمل عنده أوقات طويلة يبحث عن أحد يجلس معه، عنده معاناة مع الوقت، ومثل هؤلاء تجدهم حتى في العشر الأواخر، افتح في النت أو في تويتر وانظر، وقد يكون بعض هؤلاء ممن سيماهم الخير والصلاح، وتعجب من أين له هذا الوقت، من أين له هذا الوقت؟ تقرأ أحيانًا تبحث في الموسوعة الشاملة وفيها بعض الموسوعات من الشبكة، موسوعات علمية، وتتعجب حينما تنظر إلى الكتابات والتعليقات، أشياء علمية لا بأس، لكن بالعشر الأواخر، والتعليقات: وشكرًا على مرورك، وشكرًا التعليق، فهل هؤلاء يجدون وقتًا في العشر يتفرغون فيه للكتابة في قضايا علمية ومناقشات وما إلى ذلك، وتعليقات، وشكرًا على المرور، يجد وقتًا لهذا في العشر الأواخر، هذا اشتغال بالعلم، فما بالك بمن شغله بغير هذا، القيل والقال، والوقيعة في أعراض الناس، أو من كان شغله في أمور أيضًا أخرى من الباطل.

وهكذا من كان شغله في أمور تافهة فكثرة القول، كثرة الجدل، وكثرة التعنت، وكثرة الأسئلة، هذا ينبئ عن قلة العمل.

وانظروا إلى أسئلة الصحابة  قليلة ولا يوجد عندهم جدل، ولا يعرفون ما يسمى بعلم الكلام والجدل؛ لأن الغالب كان هو العمل، واقرؤوا ما كتبه الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في رسالة نفيسة في "فضل علم السلف على علم الخلف" ذكر فيها فضل علم السلف، وأنهم كانوا أهل عمل، وما كانوا أهل جدل، ويطولون الكلام في أمور جدلية، كما وقع المتأخرين حتى عرف طوائف بأهل الكلام، يجادلون في كل شيء مما يليق الجدل به وما لا يليق الجدل به فيما يتصل بذات الله وصفاته، وكأنما يتحدثون عن أحد من المخلوقين، مثل هذا، وملأت الكتب، وتجد للواحد من هؤلاء يُذكر أن له أكثر من مائة كتاب، لكن أين هذه الكتب؟ لا قيمة لها، بل هي كتب ضارة مليئة بمثل هذه المجادلات والردود في أمور لا تعود عليهم بالنفع، ولذلك ما عُرف هؤلاء بكثرة الذكر والعبادة وما إلى ذلك، وإنما قسوة القلوب.

ولهذا أقول: ينبغي أن يكون لدى المؤمن نظر صحيح في مثل هذه القضايا ومسلك صحيح، ابتعد عن الجدل، وإذا رأيت من يضيع الزمان في أمور لا طائل تحتها ممن يريد أن يقر الباطل أو يرد الحق ولا يطلب الحق هو أصلاً، أو يجادل في الواضحات، يأتيك من يريد أن يجادل، الآن نجد أناس يجادلون في أوضح الواضحات، هناك من يقول: بأن عيسى هل كان رسولاً أو كان نبينًا لم يكن رسولاً، أين الدليل على أنه رسول؟ وأسئلة من هذه القبيل في أمور واضحة، فمثل هذا غاية يقال له: كم بلغ سعر الحنطة؟ ثم انصرف، ولا تشتغل به ولا تضيع الزمان، ترد على هذا القضايا الواضحة يريد أن يجادل فيها، والبعض ما عنده قضية واضح.

رأيت من يجادل في الحجاج بن يوسف الثقفي ويتبناه ويدافع عنه ويثير القضية في المجالس، ما عندك غير هذا تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا [سورة البقرة:134] تدافع عنه وتتبناه، وتذب عنه، ثم تشترك معه في فعله وحاله، ما الحاجة لهذا؟

ورأيت من يدافع عن أبي العلاء المعري شاعر الزندقة، ما وجدت غير هذا؟ كل ما جلس في مجلس أثار، يريد يستفز الآخرين، يريد مجادلة، يريد أنه يثير قضية، ما عنده شيء ما وجد إلا المعري.

فيوجد أناس ليس لهم اشتغال بالعمل، ولم يكن لهم من تهذيب النفوس وصلاحها والتقوى ما يحملهم على الإقبال على ما ينفعهم، فيضيع العمر في مماحكات ومجادلات وقضايا ليست تحتها طائل، وهذه الوسائل وسائل التواصل أيها الأحبة وجد فيها الكثيرون سلوة، فصار الواحد منهم يجلس الأوقات الطويلة ليلاً طويلاً وهو لا يشعر بالوقت، ولربما جلس إلى ارتفاع الضحى وهو لا يشعر بالوقت، ولو قيل له: اقرأ وجهًا واحدًا لرأيت الكسل والضعف وقعود الهمم.

ولذلك انظر إلى كثرة السؤال الذي يرد عن حكم وضع وجه من المصحف في اليوم، كل يوم يضعون وجهًا من المصحف، وجه من المصحف لماذا؟ قالوا: من أجل أنه يقرأ في اليوم وجه من المصحف، ثم اللي يقرأ يضع علامة نجمة، تخبرون عن عبادتكم وطاعتكم وأعمالكم، ثم ما هذا؟ فهل غاية ما هنالك غاية الهمة حينما تسمو أن الواحد منكم يقرأ وجهًا من المصحف كل يوم، لكن انظر إلى الجلوس الطويل أمام هذه الوسائل تجد الساعات في الليل والنهار تقضى في مثل هذا، هل خُلق الإنسان لمثل هذا التضييع والتفريط، ثم يأتي يوم القيامة بعمل لا يُسعف، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس.

الآخرة تحتاج إلى عمل، فإذا كثر القول وكثر الجدل والاشتغال بما لا ينفع فلا تسأل عن حال أصحابه من قلة العبادة والذكر والعمل الذي يقربهم إلى الله والاشتغال بالعلم النافع -والله المستعان.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] هذا أقرب إلى الذم، هم لا يمدحون بهذا الفعل؛ لأنهم ما فعلوه ولا امتثلوا إلا بعد جهد جهيد، وإنما تكون الاستجابة لأول مرة، والنبي ﷺ قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى [19] فهذا الذي يمدح به الإنسان ويرتفع.

نواصل الحديث عن هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل لما أمرهم موسى بذبح البقرة، وما أجابوه به، وما حصل منهم من التباطؤ والتكلف في السؤال إلى أن ذبحوا هذه البقرة، فأحيا الله القتيل ودلهم على قاتله.

قال الله -تبارك وتعالى- تعقيبًا على هذه الواقعة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] واذكروا وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا يعني حين قتلتم نفسًا، فأضاف هذا القتل إلى المجموع باعتبار أنه صدر من بعضهم، فهو ليس بخارج عنهم، فصاروا يتدافعون ذلك.

فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا كل فئة تدرأ ذلك عنها، وتدفعه إلى غيرها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وتخفون بشأن هذا القتيل.

فهذه الآية التي جاء التعقيب بها جاءت متأخرة بعد القصة، وفي البداية حصل القتل وحصل التدافع فأمرهم موسى بأن يذبحوا البقرة، لكن ذلك جاء مؤخرًا في الذكر وإلا فالواقع أن ذلك من حيث الحصول أنه متقدم على أمرهم بذبح البقرة.

وبعض أهل العلم يقولون في توجيه هذا التأخير: أنه في مقام، هذا المقام مقام ذكر مساوئ بني إسرائيل، ومثالب بني إسرائيل، ومعايب بني إسرائيل على سبيل التفصيل، فلو أنه ذكر هذا في البداية لكان السياق واحدًا، يعني أنهم قتلوا قتيلاً فتدارؤوا فيه فموسى أمرهم لحل هذا الإشكال أن يذبحوا بقرة، لكن لما قدم الأمر بذبحهم بقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] هذا يعتبر بمفرده، يعني هذه الآيات التي أجابوا موسى وأجابهم في هذه السؤالات، وما قالوا قبل ذلك: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] أن هذا يدل على عنتهم وتمردهم.

ثم بعد ذلك أيضًا قتل هذا القتيل، وكل طائفة تتهم به الأخرى، وتدفع التهمة عنها، فهذه كأنها منفصلة، فمقام بيان العيوب والمثالب يقتضي التفصيل، فهذا ليس بمقام إجمال -والله تعالى أعلم.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [سورة البقرة:72] أن إظهار الحقائق للناس والبيان الذي يبينه الله -تبارك وتعالى- لهم فيما يحتاجون إليه أن هذه من نعمه الجزيلة على عباده التي يمتن عليهم بها، الله -تبارك وتعالى- أيضًا يخرج ما يكتمه أهل الباطل، ويبين الحق ويظهره، فيحذر الإنسان من أن يكتم شيئًا من الباطل والشر وما إلى ذلك، فإنه لا يخفى على الله والله -تبارك وتعالى- يفضحه بذلك متى شاء.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] اضربوا هذا القتيل بجزء منها، ففي البداية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] هنا مباشرة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أوحى إلى موسى ذلك، فهو مبلغ عن الله، وجاء هنا الأمر مباشرة من الله -تبارك وتعالى- فيحيا هذا القتيل الذي فارق الحياة ويخبركم بقاتله، ففعلوا فأحياه الله وأخبرهم، فهذا الإحياء الذي شاهدوه قال: كَذَلِكَ يعني: كذلك الإحياء: يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى هذا الإنسان الذي خرجت روحه من جسده، وصار جثة هامدة تمامًا كهذا الجماد يعيد الله إليه الحياة من جديد فيتحرك ويتكلم ويعقل وهذا من أعظم آياته الدالة على قدرته وأنه يحيي الموتى.

وقلنا: إن هذا أحد الشواهد الخمسة في سورة البقرة التي تندرج تحت نوع من أدلة قدرته على البعث وهو أن أقوامًا قد ماتوا فأحياهم الله -تبارك وتعالى- من جديد، كل ذلك يريهم ربهم -تبارك وتعالى- الآيات الدالة، يعني العلامات الدالة على قدرته وكمال علمه وأنه -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يحيي الموتى قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73].

ومن أهل العلم من يفسر "لعل" في جميع القرآن بأنها للتعليل، كل "لعل" في القرآن يقولون: فهي للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، والمصانع فسرت في الآية بمعانٍ من أشهرها أن المصانع هي القصور، يعني ما كأن الإنسان سيوضع في لحد، كأنه يخلد حينما يبني هذه القصور الفارهة، وما علم أنه سينتقل منها إلى حفرة جوانبها غبر، ليس فيها فراش ولا وساد، وليس هناك غطاء غير التراب، وليس معه زاد إلا العمل الصالح.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] من أجل أن تعقلوا بأن الله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يبعث من في القبور، وأنه -تبارك وتعالى- يجازي العباد على أعمالهم، ويحاسبهم، وأنه -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، وأنه يظهر ما خفي على الناس، أو أخفوه متى شاء، كيف شاء ولو بطريقة لا يتوقعونها، يعني من الذي يتوقع أن هذا القتيل سيحييه الله من جديد وينطق ويخبر عمن قتله، فهذا يحمل العبد دائمًا على مراقبة الله والاتعاظ والاعتبار.

يؤخذ من هذه الآية: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] هذا البعض مبهم غير محدد، فمثل هذا المبهم يتحقق المراد بأي فرد أو بأي جزء أو بأي بعض منه، يعني لو ضربوه بيدها أو برجلها أو برأسها أو ضربوه بكبدها فإن الله -تبارك وتعالى- يحييه فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [سورة البقرة:73] فهذا الإبهام يدل على أن ذلك يصدُق على أي جزء كان.

ثم أيضًا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا يعني الأخذ بمثل هذا والبعد عن التكلفات والسؤالات الخارجة عنه اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا بأي شيء كان، لكنهم بدأوا يسألون سؤالات لم يكلفوا بها، فالخروج عن المقصود لا شك أنه يؤدي إلى مفاسد كثيرة، تارة يؤدي إلى المشقة في التكليف، وكما ذكرنا سابقًا فيما يُذم من السؤال، وكذلك أيضًا يدخل فيه أو يحصل بسبب ذلك ضياع موطن العظة والعبرة وهذا كثير في حياة الناس، فإن مثل هذا يصرف الإنسان عما هو حري بالعناية ليحصل المقصود بالاتعاظ والاعتبار، سواء كان مما يتعلق بالقرآن أو بغيره، بالقرآن انظروا إلى كثرة التكلفات فيما يسمى بالمبهمات من القرآن، حينما يذكر الله -تبارك وتعالى- خبر أصحاب الكهف، أين يقع هذا الكهف؟! وتجارب ودراسات، والشمس ودخول الشمس والزوايا وما إلى ذلك، وما الذي يفيد؟!

يوسف ألقي في بئر فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [سورة يوسف:10] أين هذا البئر؟! وما الفائدة، موسى تجلى ربه -تبارك وتعالى- للجبل فجعله دكا، أين هذا الجبل؟! تحديد هذا الجبل، لو كان في هذا فائدة لذكره الله ولكنه اشتغال بما لا طائل تحته، سفينة نوح من أي أنواع الخشب؟!، وكم عدد الطوابق؟! ومن أول من ركب في السفينة؟! ومن آخر من ركب في السفينة؟! وما الذي يعنينا من هذا ما الفائدة؟!

يقولون: آخر من ركب الحمار، وتعلق إبليس بذيل الحمار، فخرجت الفأرة في السفينة تفسد، وخاف الناس من الأسد، فألقى الله عليه الحمى فعطس فخرجت الهرة من عطسته، فخافت الفأرة فاستخفت، هذا كله أخبار لا قيمة لها، أخبار بني إسرائيل، ما الفائدة من هذا وذاك؟! فتضيع مواطن العبر ويشتغل بمثل هذا، ما لون كلب أصحاب الكهف؟! وما اسمه؟! يذكرون أسماء لهذا الكلب، ما الفائدة؟!

العبرة هنا في ذكر القصة ليست في لون الكلب أو في عدد هؤلاء الفتية أو في موقع الكهف، وهكذا ما يذكر من عرش بلقيس، ما مقدار هذا العرش، ما طوله وما عرضه وما ارتفاعه؟ يذكرون تفاصيل، وكلها مبناها على أخبار إسرائيلية لا تصح، ولا يُبنى عليها علم، ولا غلبة ظن.

وهكذا ألف بعض أهل العلم مؤلفات خاصة بهذا الموضوع "المبهمات في القرآن" سواء كان ذلك من الأشخاص أو المواضع الأماكن، أو كان ذلك من الأوقات، أو غير هذا من أنواع المبهمات.

هذا بالنظر إلى كتاب الله -تبارك وتعالى- وفيما يجري في العبر والعظات في الحياة تسوق الخبر فيه عظة وعبرة، فيترك الناس موطن العبرة وينشغلون بالأشياء الأخرى، ما نوع السيارة التي وقع لها هذا؟! كم عدد الأشخاص؟! منهم؟! من الذي كان يقود السيارة، وهل فلان هو أبوه فلان أو جده فلان؟! ثم تتحول القضية أحيانًا إلى جدل في قضايا لا علاقة لها بالموضوع، جدل.

فلان الذي يسكن في المكان الفلاني، يأتي الثاني ويقول: لا ما يسكن بالمكان الفلاني هو يسكن في المكان الآخر، هو في الحي الفلاني، وجدل، ثم تتحول القضية إلى نوع من الخصومة، أنت تكذبني، والثاني يقول: لا، أنا ما كذبتك، تحولنا الآن من قصة سيقت للعظة والعبرة أن هذا الإنسان أسرع، أن هذا الإنسان خاطر فوقع له مكروه، اعتبروا بهذا القدر فقط، تحولت القضية الآن هو فلان أو فلان، سيارته كذا، الثاني يقول: لا سيارة ما هي كذا، ثم تعال هذا الجدل الطويل، ثم الآخر يبدأ يتكلم: أنت معناها تكذبني، لا، أنت الذي تكذبني، أنا ما كذبتك أنا، ما شأننا بهذا؟! فتضيع..

بعض الناس هكذا يفكر وهكذا يناقش، هكذا يأخذ الأمور وهذا غلط، سواء كان هذا فلان أو ابن فلان أو الركاب خمسة أو أربعة أو لون السيارة أبيض أو لون السيارة أصفر أو لون السيارة أبقع، وماذا يعنيني أنا من هذا، أيًا كان، يسكن أين؟ أين تريده يسكن في أي حي، الحي الفلاني؟ هو في الحي الفلاني، كفاية؟ وأنت ماذا تقول؟ يسكن في الحي الفلاني الآخر؟ هو يسكن في حيين مع بعض، انتهى، أعطونا موطن العبرة بس، تحولت القضية إلى شيء آخر جدل، فهذا غلط، لا تؤخذ الأمور بهذه الطريقة، دعك من هذه التفاصيل، وهذه اللواحق والتوابع والذيول، فالعاقل ينظر إلى مواطن العبر، ويقف عندها. 

  1.  انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون) (1/ 137). 
  2.  تفسير السعدي (ص: 55). 
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، برقم (7289)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك، برقم (2358).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337). 
  5.  انظر: البيان والتحصيل (11/ 279). 
  6.  انظر: شرح النووي على مسلم (10/ 120، 121). 
  7.  جامع العلوم والحكم ت الأرناؤوط (1/ 248). 
  8.  انظر: الموافقات (1/ 49 - 53). 
  9. تراجع من الأصل 
  10.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في فضل أزواج النبي ﷺ برقم (3895)، وابن ماجه، أبواب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم (1977)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3314). 
  11.  انظر: الموسوعة القرآنية (2/ 296). 
  12.  أخرجه الآجري في الشريعة (2/ 1038)، برقم (625)، بلفظ: طوبى: شجرة في الجنة لا يعلم ما طولها إلا الله U يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ولم أقف على لفظ: عشرين خريفا
  13.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3251)، وبرقم (3252)، وبرقم (6552)، في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، برقم (2826). 
  14.  أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2844). 
  15.  تفسير الطبري (24/ 139). 
  16.  أخرجه الترمذي، في أبواب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ برقم (2591)، وصحح وقفه على أبي هريرة t والحاكم في المستدرك، برقم (8540)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2125). 
  17.  انظر: تفسير ابن كثير (1/295). 
  18.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (10632)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، وسعيد بن أبي عروبة، رواية روح عنه قبل اختلاطه، ثم هو متابع"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2276). 
  19.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، برقم (1302)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند أول الصدمة، برقم (926).