الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:74].
يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل، وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [سورة الحديد:16].
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس - ا- : "لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط".
قوله: أحيا ما كان قط: يعني أكمل ما يكون من الحياة.
فقيل له: من قتلك؟ قال: بنو أخي قتلوني، ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ يعني أبناء أخي الشيخ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.على كل حال على هذا الخبر المأخوذ عن بني إسرائيل أن قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم أي ما حصل من الجحد - إن كان حصل - من هؤلاء الذين قتلوه بعد أن نطق وأحياه الله ، وأخبر عن قتله، حيث لما مات ثانية جحدوا، وكذبوا، وقالوا: لم نقتله، فأنكروا ذلك، فهذا قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم وهذا والله أعلم ليس بظاهر، وإنما ظاهر الآية المتبادر ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ أي من بعد رؤية هذا القتيل حيث أحياه الله ، وهذه آية كبرى، ومعجزة عظمى لموسى ﷺ تبعث على مزيد من الإيمان، والإقبال على الله ، والخوف منه، ومراقبته، ولين القلب، وذهاب الغفلة عنه؛ إلا أن الذي حصل هو عكس ذلك، فمثل هؤلاء الذين رأوا هذا القتيل يحيا ثم يتكلم، ثم يموت مرة أخرى؛ هذه معجزة عظمى تحملهم على الإيمان، ومع ذلك قست قلوبهم ثانية وكأن شيئاً لم يكن.
فمن شهد آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإن ذلك يبعث الإيمان في قلبه، والذي أقل ما يعبر عنه بأنه إيمان ثابت راسخ، فحينما يقابل بقسوة القلب، وإنما قست القلوب لأنهم نظروا إلى معنى ذكره بعض أهل العلم وهو أن أولئك الذين صعقوا من بني إسرائيل لما قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] من العلماء من يقول: هؤلاء انقطع عنهم التكليف؛ لأنهم ماتوا ثم أحياهم الله فقد عاينوا الحقيقة التي تحملهم على الإيمان القهري، فلا تكليف بعد ذلك.
وهذا الكلام فيه نظر، إذ لم ينقطع عنهم التكليف بل هم مكلفون، ولا دليل على أنهم غير مكلفين.
فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات.
شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ذكر وجوه مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب، وكان مما ذكر: قسوة القلب، وأورد هذه الآيات، وهذه الأمة منهية عن التشبه ببني إسرائيل فأشبهتهم في هذه القضية، وفي غيرها كثير، وقسوة القلوب المراد بها الصلابة، والشدة ونحو ذلك.
فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منه العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه.
يعني أن الله أعطى هذه المخلوقات والكائنات من الإدراك كل بحسبه، فهي تخشى الله حقيقة، كما قال الله : تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44]، وقال سبحانه: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الحديد:1]، وقال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة الجمعة:1] فهي تسبح الله تسبيحاً حقيقياً، وتخشى الله خشية حقيقية، وفي الصحيح يقول النبي ﷺ: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن[1].
قوله - تبارك وتعالى - هنا: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] (أو) تأتي أحياناً للشك فتقول: رأيت زيداً أو عمراً، عندي درهم أو نصفه، لكن هذا لا يتأتى بالنسبة لله الذي يعلم خفيات الأمور، فالله لا يشك في شيء بل علمه محيط بكل شيء، فإذا حملت (أو) هنا على الشك فيمكن ذلك على أن تخرج على قاعدة مفادها أن الخطاب قد يرد باعتبار نظر المخاطب، أي: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فهي كالحجارة أو أشد قسوة يعني بالنظر إلى تقييمكم وتقديركم أنتم، فمن نظر إليها، وأراد أن يصنفها، أو يوصفها؛ فهي عنده كالحجارة أو أشد قسوة.
ومثل هذا قوله تعالى عن يونس : وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، إذا خرجناها بهذا التخريج فالمعنى أن من نظر إليهم من الناس فإنهم يقدرهم بمائة ألف أو أكثر.
ومثل ذلك أيضاً حينما سمى الله الشبه التي يتعلق بها الكفار قال: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ [سورة الشورى:16] فالله سمّاها حجة لما كانوا هم يعتبرونها حجة، وإن كانت ليست بحجة في الواقع، ومثل ذلك أيضاً لما قال عن معبوداتهم الباطلة بأنها آلهة وهي ليست آلهة، لكنه عبر عن اعتقادهم هم.
وكذلك أيضاً حينما أجرى على هذه الآلهة أو ما ليس بعاقل من الخلوقات صيغ مثل جمع العقلاء، ومثل بعض ضمائر العقلاء، ومثل جمع المذكر السالم كقوله: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195] لما كانوا يعتبرونها آلهة أجرى الله  عليها مثل هذا الاستعمال يَمْشُونَ يَبْطِشُونَ يُبْصِرُونَ يَسْمَعُونَ مع أنها لا تمشي، ولا تتحرك، ولا تسمع، ولا تبصر، فهو خاطبهم بحسب نظرهم باعتبار أنهم جعلوها آلهة، وهذا الاستعمال كثير جداً.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] تحمل على هذا المحمل إذا خرجناها على أن (أو) للشك أي بالنظر إلى تقييمكم أنتم هي كالحجارة في قسوتها أو أشد.
وتأتي (أو) أحياناً للتخيير فتقول مثلاً: اقرأ المُغني أو المجموع، يعني أياً قرأت منها حصل المقصود، وتأتي أحياناً بمعنى الإضراب أي بمعنى (بل)، وهذا معروف ومشهور في كلام العرب، والمعنى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد قسوة من الحجارة، وهذا أقرب المعاني إلى الصواب هنا، والله تعالى أعلم.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء [سورة البقرة:74].
لمعرفة الفرق بين الانبجاس والانفجار نقول: بداية خروج الماء يسمى انبجاساً، فإذا صار يخرج الماء بقوة وغزارة فهذا هو الانفجار، فالانفجار يكون بقوة واندفاع، والانبجاس يكون يسيراً بحيث يبدو منه الماء.
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [سورة البقرة:74] أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة، كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [سورة الكهف:77] قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا.
الرازي والقرطبي يثبتان المجاز، ومع ذلك يقولان: لا حاجة إلى هذا يعني هنا؛ لأن الله قال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء [سورة البقرة:74]، فالحجارة يحصل منها هذا حقيقة، فلا حاجة للمجاز.
وحينما نسألهم عن قوله: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [سورة الكهف:77] فهذا أشهر مثال يمثلون به على وقوع المجاز، ومثله قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف:82] ولا مجال لمناقشة هذه القضية الآن، وهل يوجد مجاز في القرآن أو في اللغة العربية، لكن المقصود أنه يمكن لمثبت المجاز أن ينفيه هنا، ويقول: هذه الخشية المذكورة في الآية حقيقة وليس بمجاز، وهذا مما يرد به المجاز.
ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [سورة الأحزاب:72]، وقوله: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة الإسراء:44] الآية وقال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [سورة الرحمن:6]، أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ [سورة النحل:48] الآية، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت:11]، لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [سورة الحشر:21] الآية: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ [سورة فصلت:21] الآية.
وفي الصحيح: هذا جبل يحبنا ونحبه[2]، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن[3]، وفي صفة الحجر الأسود: إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة، وغير ذلك مما في معناه.
"تنبيه:
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو.
فقوله هنا: بعد الإجماع على استحالة كونها للشك بمعنى أن لا يكون ذلك بالنسبة لله المتكلم بذلك، وهذا معلوم؛ لأن الله يعلم خفايا الأمور، وبواطنها، وعلمه محيط بكل شيء، فلا يمكن الشك من الله ، لكن يمكن أن يكون ذلك على سبيل الشك بالنسبة إلى نظر المخاطب بناءً على القاعدة المعروفة، ولذلك نجد بعض أقوال السلف تحمل على هذا، ولا شك أن هذا الإجماع أمر لا تردد فيه؛ إذ لا يمكن أن يكون ذلك من قبيل الشك بالنسبة لله فهو يعلم كل شيء، لكن قد يكون كذلك باعتبار نظر المكلف بمعنى أن الناظر إلى أصحاب هذه القلوب وفي أحوالهم لربما يحصل له التردد بين أن تكون قلوبهم كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة، فهذا لا يكون شك بالنسبة لله .
ومثل ذلك قوله تعالى عن فرعون: لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44] فالله يعلم أنه لن يتذكر، ولن يخشى، لكن إما أن يقال بأن "لعلَّ" هنا بمعنى التعليل أي لأجل أن يتذكر أو يخشى أي إنها ليست للترجي، أو يقال: لعله يتذكر أو يخشى على رجائكما يا موسى وهارون، فاعتُبر هنا نظر المخاطب، والله أعلم.
فقال بعضهم "أو" هاهنا بمعنى الواو تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [سورة الإنسان:24] وقوله تعالى: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [سورة المرسلات:6]، وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى "بل" فتقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة وكقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77] وقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [سورة النجم:9]، وقال آخرون: معنى ذلك فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً عندكم، حكاه ابن جرير.
قول من قال: "عندكم": يعني من جهة الشك عند المخاطبين أي: هي عندكم كالحجارة أو أشد قسوة.     
وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة.
يعني أن قلوبهم تتنوع هذا التنوع، منها ما يكون قاسياً قسوة الحجر، ومنها ما يكون أشد قسوة من الحجر، وظاهر كلام ابن القيم - رحمه الله يشبه هذا، حيث يقول: إن هذه القلوب لا تقل قساوة عن الحجارة، فإن لم تزد عليها فإنها لا تنقص منها، فهي كالحجارة أو أشد قسوة لكنها ليست أقل قسوة من الحجر، يعني أن هذه القلوب عظيمة، شديدة القسوة، والله تعالى أعلم.
على كل حال هذه الأقوال بينها تقارب فكلها تدور على أن هذه القلوب قاسية قد بلغت القسوة فيها إلى حد مشابهة الحجر في قساته وأعظم من ذلك، وهذا سواءً قلت: إن الواو عاطفة بمعنى كالحجارة، وأشد قسوة من الحجارة، أو أن ذلك بالنسبة للشك باعتبار نظر المخاطب هي كالحجارة أو أشد، أو غير ذلك مما قيل، والله أعلم.
قال ابن جرير: ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة، وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراًَ [سورة البقرة:17] مع قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء [سورة البقرة:19].
في هذين المثلين ابن كثير يرى أن المثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراًَ في قوم من المنافقين غير من ضرب لهم المثل الثاني أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء، فأصحاب المثل الأول وصفهم الله بأنهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18]، فهؤلاء أشد؛ حيث إنهم مطموسون في النفاق، بينما المثل الثاني يرى الحافظ أنه في طائفة من المنافقين أخف من الأولين بحيث إنهم كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]، أي: تارة وتارة، فهم في حال الرخاء تستقيم أحوالهم، وفي حال الشدائد يظهر نفاقهم ويتراجعون، فهو يرى أن هذا في طائفة، وهذا في طائفة أخرى، وكذلك يرى أن قوله: كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74] يعني أن منهم من يكون قلبه كالحجر، ومنهم من يكون دون ذلك.
وكقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [سورة النـور:39] مع قوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ [سورة النور:40] الآية، أي: إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم.
  1. أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل - باب: فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2277) (ج 4 / ص 1782).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الخدمة في الغزو (2732) (ج 3 / ص 1058) ومسلم في كتاب الحج - 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي ﷺ فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها (1365) (ج 2 / ص 993).
  3. سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

"قَسَتْ قُلُوبُكُمْ: خطاب لبني إسرائيل. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: بعد إحياء القتيل، وما جرى في القصة من العجائب، وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات."

هذه أحد المواضع الخمسة في سورة البقرة التي تدل على قدرة إحياء الله الموتى، فيها إحياء للموتى، وقد ذكرنا هذه المواضع، فهذا منها: قتيل بني إسرائيل، فشأن القلوب في مثل هذا المقام يرون ميتًا يحييه الله من جديد أن تلين القلوب، وتخضع، وتخشع لله - تبارك، وتعالى - ومع ذلك هؤلاء قست قلوبهم بعد هذه الواقعة، وكأن شيئًا لم يكن، يعني الناس لما يرون مثل هذا: إنسان قُتل، ومات، ثم بعد ذلك يحييه الله من جديد، سيقفون، ويجدون ما لا مدفع له في نفوسهم، ويقولون: لا إله إلا الله. فيبقى هذا لا يفارق ناظرهم، لكن هؤلاء عادوا من جديد إلى حالهم الأولى.

"أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف أو خبر ابتداء، أي: هي أشدّ، وأو هنا إما للإبهام، أو للتخيير: كأن من علم حالها مخيّر بين أن يشبهها بالحجارة، أو بما هو أشدّ قسوة كالحديد، أو التفصيل أي: فيهم كالحجارة، وفيهم أشد، وإنما قال: (أشد قسوة) ولم يقل أقسى مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل، لكون أشدّ أدلّ على فرط القسوة."

هنا قوله: أَوْ أَشَدُّ يقول: عطف على موضع الكاف. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ كـ الحجارة، أو أشد عطف على موضع الكاف، إذا كانت بمعنى الواو، (أو) هذه يكون التقدير: فهي كالحجارة، وأشد قسوة.

 كقوله: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24]، يعني: وكفورًا، وإذا كانت بمعنى بل كما يقوله الواحدي، وابن عاشور، فهي كالحجارة بل - يعني للإضراب - أشد قسوة من الحجارة. فهذا كقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77]، يعني: بل أشد خشية، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147]، يعني: على القول بأنه بمعنى بل، بل يزيدون، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم: 9] بل أدنى، وبعضهم يقول: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي باعتبار نظركم.

يعني هذا يكون من الخطاب الذي خرج مراعًا فيه حال المخاطب، وهذا أنواع كما ذكرنا في مناسبة سابقة، روعي حال المخاطب يعني أنه في نظركم، إذا نظر الناظر منكم يقول: كالحجارة، أو أشد.

مثل إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] إذا نظر إليهم الناظر يقول: مائة ألف، أو يزيدون. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44]، يعني: هذا بحسب نظركما، يعني هذا بحسب تقديرات البشر، وإلا فالله - تبارك، وتعالى - لا يخفى عليه خافية، يعني: منشأ هذا كله فهي كالحجارة، أو أشد خشية هل هذا بمعنى الشك، والتردد أنها كالحجارة، أو أشد؟ الله لا يرد عليه هذا، فبعضهم يقول: هي بمعنى بل، بل أشد قسوة. أو أن ذلك باعتبار نظر المخاطب، يعني المخاطب البشر ينظر إليها باعتبار أنها كذا، أو كذا، أو يقال: هذا بمعنى الواو كالحجارة، وأشد قسوة من الحجارة، وظاهر اختيار ابن جرير - رحمه الله - أن ذلك باعتبار نظر المخاطب، يعني هي عندكم كالحجارة، أو أشد قسوة[1] وبعضهم يقول: هي لا تخرج عن أحد هذين الوصفين. أن هذا هو المراد، المعنى أنها لا تخرج عن أحد هذين الوصفين: إما كالحجارة، أو أشد قسوة، وابن جرير، وجه هذا القول الأخير يعني باعتبار أن بعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد من الحجارة، يعني هذا الذي ذكره ابن جزي الذي عدلنا قبل قليل: أو التفصيل أي فيهم كالحجارة، وفيهم أشد. هذا للتفصيل أنهم يتفاوتون في القسوة، فبعضهم بلغ من القسوة قلبه صار كالحجر، وبعضهم أشد من الحجر.

الآن نرجع إلى عبارة ابن جزي أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف. كالحجارة أو أشد، أو خبر ابتداء أي هي أشد، و (أو) هنا إما للإبهام يعني أبهم لم يقيدها بأحد هذين الوصفين، فهي مترددة بينهما، أو للتخيير كأن من علم حالها مخير بين أن يشبهها بالحجارة، أو بما هو أشد كالحديد. مع أن بعض أهل العلم كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي مثلًا يقول: لماذا لم يشبهها بالحديد، فهي كالحديد؟ قال: باعتبار أن الحديد إذا ادخل النار ذاب، والحجارة لا تذوب في النار، فشببها بالحجارة، ولم يشبهها بالحديد.

مع أنه فيما يبدو أن الحديد أقسى من الحجارة، لكن هنا على هذا التقدير فهي كالحجارة أو أشد يعني الحديد، لكن ليس بالضرورة، ولذلك أقول لكم: بأن هذه اللفتات، والمُلح أنها ليست متيقنة، فهذا الكلام جميل، أنه لم يشبهها بالحديد؛ لأنه يذوب في النار، والحجارة لا تذوب، أن هذا ليس بمؤكد، ليس بمقطوع به. يقول: مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل يعني أقسى فهنا قال: أَشَدُّ قَسْوَةً لكون أشد أدل على فرط القسوة. هنا قضية أخرى يعني لماذا لم يبن من لفظ القسوة أفعل تفضيل، يقول: فهي أقسى من الحجارة.

لماذا لم يقل: أقسى من الحجارة. وقال: أشد قسوة؟ يعني من الألفاظ ما لا يُبنى منه أفعل التفضيل، فيؤتى بلفظ آخر، لكن هذا القسى يُبنى منه أفعل التفضيل يقال: هذا أقسى من هذا. أقسى من الحجر، فقال: أَشَدُّ بنى أفعل التفضيل من غيره، من غير مادة اللفظ؟ يقول: هذا مبالغة في بيان شدة القسوة.

"وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية تفضيل الحجارة على قلوبهم.

وفي نسخة: تفضيل للحجارة على قلوبهم. "

فهذا لا بأس به.

"يَهْبِطُ أي يتردّى من علو إلى أسفل، والخشية عبارة عن انقيادها، وقيل: حقيقة. وأن كل حجر يهبط فمن خشية الله."

يعني إنما يهبط من خشية الله وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فيكون ذلك على ظاهره، الخشية يقول: عبارة عن انقيادها. هذا تأويل للخشية أنها ليست لها خشية حقيقية، الحجر ليس له خشية، وإنما المقصود أن كل ما في الكون منقاد لله - تبارك، وتعالى - لكن هذا خلاف الظاهر وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فدل على أن الحجارة تخشى الله، ويدل على هذا أمور:

منها: أن الله قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ فإن هنا نافية يعني ما من شيء، وهذه أقوى صيغة من صيغ الحصر، إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وشيء هنا نكرة في سياق النفي سُبقت بمن فهي نص في العموم، فيدخل فيه الجمادات، والحيوانات، والنباتات، وأيضًا الجن، والإنس من أهل الإيمان.

ومنها: ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال النبي ﷺ: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن[2].

ومنها: حديث حنين الجذع[3] فهذه الجمادات يجعل الله لها من الإدراكات ما تعرف به ربها، وتخشاه، فلا حاجة لتفسيرها بمعنى الانقياد. 

  1. تفسير الطبري (2/235).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، رقم: (2277).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: (3583).

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله -تبارك وتعالى- مبينًا الحال التي آلت إليها أمور هؤلاء القوم، كان المتوقع أن هؤلاء بعدما رأوا هذه الآيات رأوا هذا القتيل أحياه الله رأوا هذا القتيل أحياه الله -تبارك وتعالى- أن قلوبهم تلين، وتخضع.

فهذه آية عظيمة، إنسان مات فأحياه الله فيكون هؤلاء في غاية الخشوع والخضوع والتذلل لله والاستكانة واليقين التام، الذي حصل هو عكس هذا تمامًا: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:74].

يقول: لم تنتفعوا بهذا ولا بشيء منه بعد هذه الآيات وخوارق العادات التي تسمى بالمعجزات ما زادكم ذلك إلا قسوة، لم تلن هذه القلوب أمام هذه الآيات الباهرات التي رأيتموها بأعينكم حتى صارت القلوب بهذه المثابة: كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً لأن من الحجارة ما يتفطر، يشّقّق، يتفجر منه الأنهار، ومنها كذلك ما يحصل به التشقق فيخرج منه الماء، الحجر القاسي الغليظ في غاية الصلابة يتشقق، ويتفطر، ونوع منها يسقط ويخر من الأعلى من قمم الجبال، وأعاليها من خشية الله -تبارك وتعالى- وهذه القلوب في غاية الصلابة.

فهذا يدل على لؤم هؤلاء القوم وسوء حالهم وقسوة قلوبهم، فمهما رأوا من الآيات فإن ذلك لا يؤثر فيها بل يزيدها غلظة وقسوة.

ثم قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ فهذا حصل منهم بعد رؤية هذا الأمر الذي يستبعد معه القسوة، فكيف تقع وتتحقق وبهذه الدرجة، أعلى درجات القسوة كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أشد قسوة؛ لأن الحجارة يحصل فيها تشقق وتفطر فيخرج الماء ويتفجر، أو تسقط من خشية الله، هذه القلوب لا يخرج منها ماء ولا تلين ولا تستكين ولا يحصل منها ولا من أصحابها خرور من خشية الله -تبارك وتعالى.

قد يقول قائل: لماذا لم تشبه بالحديد؟ فيما يبدو لأول وهلة أن الحديد أشد قسوة من الحجارة، هذا أجاب عنه جمع من أهل العلم بأن ذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أن الحديد يلين في النار، والله -تبارك وتعالى- قال عن داود : وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سورة سبأ:10] فهو يلين، بل النحاس الذي هو أشد قوة وصلابة من الحديد: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سورة سبأ:12] النحاس، لكن الحجارة، ولذلك أخبر الله عن النار أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة التحريم:6] لو كان فيها حديد لسال، ولكن الحجارة قيل: حجارة الكبريت؛ لأنها أشد توقدًا، وقيل: الأصنام التي كانوا يعبدونها نكاية بهم تسعر بها النار فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74].

ولاحظ ترقى وصفها شبهها بالحجارة ثم قال: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بالاعتبار السابق، فشبه هذا الأمر المعنوي قسوة القلوب بأمر محسوس، والتعبير هنا بقوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ما قال: فهي كالحجارة أو أقسى ثُمَّ قَسَتْ فهي أقسى، وإنما قال: أَشَدُّ جاء بأفعل التفضيل من غير مادة الفعل "قست" ما قال: ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أقسى من الحجارة، لا، قال: أَشَدُّ قَسْوَةً فعبر هنا بالمصدر الصريح قسوة، وجاء بأفعل التفضيل، وما جاء به من مادة الفعل "أقسى من الحجارة" فهذا أكثر دقة وقوة في التعبير عن شدة القسوة أَشَدُّ جاء بأفعل التفضيل أَشَدُّ وجاء بالمصدر قَسْوَةً قسى يقسو قسوة فهو قاسٍ، فهذا يدل على فرط هذه القسوة، ووصفها بالشدة، فالقسوة تتفاوت ولكن هذه بلغت الغاية في القسوة.

الذي لا تدمع عينه ولا يخشع قلبه حينما يسمع كلام الله يتلى من أوله إلى آخره ولا تدمع له عين ولا يخشع له قلب لا شك أن هذا يدل على قسوة في قلبه، والله يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [سورة الحديد:16] شهر كامل نحن نكاد أن نفارقه وأن يتصرَّم والقرآن يتلى مع الصيام، وتصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، ثم بعد ذلك إذا بقيت هذه القلوب قاسية فهذا يحتاج إلى مزيد من المعالجات، هذا يدل على أن الأعلاق التي عليها والران أنه يمثل طبقة كثيفة غليظة لم يداوها ما سمعه العبد من الآيات، وما يحصل بسبب الصيام والقيام، فهذا للأسف لا ينبئ بخير، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- لما ذكر الملينات للقلب ذكر بعد ذلك النار[1] كير النار.

ثم تأمل هذه الآية: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ عبر بالقسوة، وما قال: قويت قلوبكم، ففرق بين قسوة القلب وقوة القلب وثبات القلب، قسوة القلب مذموم: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [سورة المائدة:13] وهذه القسوة تكون بسبب كثرة الذنوب والغفلة عن ذكر الله ، وكثرة الفضول، فضول الخلطة، وفضول النظر، وفضول الكلام، وفضول النوم، وفضول الأكل والشرب، كل هذه تسبب قسوة في القلب.

أما قوة القلب فهذا مطلب شرعي، قوة القلب تعني ثباته، تعني رباطة الجأش، تعني الشجاعة في مقامات الشجاعة والإقدام، تعني الثبات والصبر أمام المصائب، فلا يتزعزع ولا يتضعضع ولا ينهار، وإنما يبقى متماسكًا، فهذه قوة القلب.

قوة القلب أمام الشهوات، قوة القلب أمام الشبهات، فلا يكون القلب كالإسفنجة، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- لتلميذه ابن القيم، أوصاه نصحه فيما يتعلق بالشبهات قال: "اجعل قلبك مثل الزجاجة، ولا تجعله كالإسفنجة يتشرب الشبهة"[2].

يقول ابن القيم: "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك"[3].

والأصل أن الإنسان لا ينظر في الشبهات، ولا يقرأ ولا يسمع ولا يتيح لأحد أن يُلقي في قلبه شبهة ثم بعد ذلك لا يستطيع الخروج منها.

وهكذا أيضًا شيخ الإسلام -رحمه الله- يُفرق هذا التفريق الذي ذكرت بين قوة القلب وقسوة القلب، فالقسوة مذمومة والقوة محمودة، القلب القوي الثابت هو الذي لا يتضعضع أمام الشبهات، ولا ينهزم أمام الشهوات، ولا يسقط أمام المصائب والمكاره والشدائد، ونحو ذلك، فيكون قلبه قويًّا من غير عنف، ولينًا من غير ضعف[4] كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن الجمادات تعرف ربها وخالقها : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة البقرة:74] حجر، ولهذا جاء عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله نزل بذلك القرآن"[5]. قاله مجاهد بن جبر وهو من أجل تلامذة ابن عباس -رضي الله عنهما.

فهذا له دلائل كثيرة، الله -تبارك وتعالى- قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سورة سبأ:10] وكذلك قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44] فكل ما في هذا الكون مسبح لربه وخالقه .

وهكذا أيضًا يقول النبي ﷺ: إني لأعرف حجرًا كان يُسلم علي بمكة قبل أن أبعث [6].

وكان ﷺ يخطب إلى جذع، ثم بعد ذلك صنع له منبرًا، فلما وقف على المنبر ﷺ حن الجذع كحنين العشار، يعني كحنين الناقة العشراء، حتى نزل النبي ﷺ وجعل يسكنه، وأخبر أنه: لو لم يفعل لحن إلى يوم القيامة [7] هذا جماد حن، إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل التي تدل على أن هذه الجمادات قد يجعل الله لها من الإدراك ما تعرف به ربها وخالقها -جل جلاله وتقدست أسماؤه. 

  1.  انظر: الفوائد لابن القيم (ص: 97). 
  2.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 140). 
  3.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 140). 
  4.  انظر: مجموع الفتاوى (7/ 30)، و(10/ 677). 
  5.  انظر: تفسير الطبري (2/ 136)، وتفسير ابن كثير (1/ 304)، وتفسير مجاهد (ص:207). 
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277). 
  7.  أخرجه ابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في بدء شأن المنبر، برقم (1415)، وأحمد في المسند، برقم (2236)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5300).