الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا۟ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ۝ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:75-77] يقول تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنون أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ أي: ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك؟الطمع تقول: أطمعته فطمع، والطمع إنما يكون بقوة الرجاء في ذلك الذي طُمع فيه، إذا كان الإنسان يرى الشيء أنه قريب المنال فإن تعلق النفس به يقال له: طمع، يعني إذا كان قريباً يمكن أن يحصل الإنسان عليه، ويتأتى له فهذا طمع كما قال الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] أي يرى أنها قريبة المأخذ، ويمكن أن تنقاد له، أما الشيء الذي يكون بعيد المنال فإنه يكون من قبيل التمني لا يقال له طمع، فالطمع بهذا الاعتبار يشبه الرجاء.
فقوله: أَفَتَطْمَعُونَ يعني أنكم ترجُّون إيمانهم ودخولهم في الإسلام، وترون أن ذلك أمراً قريباً وهم في تلك الحال التي وصفت يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي: التوراة، ويقول بعضهم: هؤلاء هم السبعون الذين كانوا مع موسى ﷺ الذين اختارهم واصطفاهم من بني إسرائيل كانوا يسمعون الله يكلم موسى ثم بعد ذلك يحرفون كلام الله.
فإن قلنا: هؤلاء هم السبعون فمعنى يحرفونه أنهم يقولون: سمعناه يخاطبه، ويأمره، وينهاه، ثم بعد ذلك قال له: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل، وهذا القول من الإسرائيليات.
وإذا قيل: إنهم عموم بني إسرائيل، أو العلماء منهم لأنهم هم الذين استحفظوا على كتاب الله، وكانوا عليه شهداء؛ فالعوام تبع، والعلماء هم الذين كانوا يحرفون الكتاب حيث يخرجونه قراطيس يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، فيكون ذلك ليس في السبعين فقط بل في عموم بني إسرائيل حيث كانوا يسمعون كلام الله الذي هو التوراة.
قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] هذا كقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة النساء:46].
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [سورة البقرة:75] أي: يتأولونه على غير تأويله.يتأولونه على غير تأويله: هذا نوع من التحريف، وهو ما يسمى بالتحريف المعنوي، وهذا النوع من التحريف وقعت فيه هذه الأمة وهو كثير عند طوائف أهل البدع، ولربما وقع فيه بعض متعصبة الفقهاء، حيث يلوي أعناق النصوص، ويتكلف جداً في حملها على المحامل البعيدة من أجل أن توافق اعتقاده، أو مذهبه، وأما أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فلا تسأل عن تحريفهم، وأعظم من هؤلاء جميعاً طوائف الباطنية.
فالمعتزلة مثلاً في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] يقولون: أي: جرحه بمخالب الحكمة؛ لينفوا صفة كلام الله أليس هذا من التحريف؟ هذا من التحريف ولا شك.
وحينما يقول الرافضة: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] يعني عائشة، فهذا من التحريف المعنوي، وحينما يحرف الباطنية الصلاة، والصوم، والحج، فيقولون مثلاً: الحج قصد الولي، والصوم كتم أسرار المذهب، وأشباه ذلك هذا من أعظم التحريف.
وأما التحريف اللفظي فقد وقع لبعض طوائف هذه الأمة مثل الرافضة الذين يزيدون في سورة الشرح: وجعلنا علياً صهرك.
إلا أن التحريف قليل في هذه الأمة؛ لأن هذا القرآن حفظه الله، فلا يقع في تحريفه إلا أكذب الناس، وأفجر الناس، فلذلك حاول بعض المعتزلة ببعض أئمة القراءة كأبي عمرو بن العلاء في قوله - تبارك وتعالى -: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] أن يقرأها بفتح لفظ الجلالة - وكلم اللهَ - حيث رأى أن معنى جرحه بمخالب الحكمة معنىً بعيد، فقال له: فما تفعل بقوله: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143] فألقمه حجراً، ومنهم من قال: وددت لو أحكها من المصحف، فالله المستعان.
مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة.التحريف الذي وقع فيه بنو إسرائيل هو تحريف معنوي، وتحريف لفظي كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] فتارة يكتمون الحكم المنزل فلا يظهرونه كأوصاف النبي ﷺ، وتارة يبدلونه يعني يجدون عندهم في وصف النبي ﷺ أنه ربعة من الرجال فيصفونه بأنه طويل، ويجدون في صفته ﷺ مثلاً أنه جعد الشعر، وشعور العرب المعروفة يقال لها جعدة، وشعور الروم - أو الغربيين اليوم - توصف شعورهم بغير ذلك، فيصفون النبي ﷺ بأنه سبط الشعر، ويصفونه بأنه أزرق العينين، وهذه في الحقيقة مواصفات الأوروبيين، فهم يحرفون أوصاف النبي - عليه الصلاة والسلام -، فقريش لما سألتهم قالوا: ليس ذلك منا، يعني هذا الأزرق الطويل سبط الشعر ليس منا.
فالحاصل أنهم يحرفون تارة بتبديل الكلام، وتارة بالمعنى، وتارة بالكتمان، وكل ذلك من تحريفهم، والعلماء تكلموا كثيراً على ما وقع في التوراة هل حرفت هي فعلاً، أم أن الذي حرف هو ما يبدونه في القراطيس فقط، فهذا قول لبعض أهل العلم، ولكن الواقع يشهد أنها قد حرفت أعظم التحريف، وإذا نظرت إلى كتبهم وجدتها مختلفة متخالفة متباينة غاية التباين والاختلاف حتى في أبسط الأمور، فقد عبثوا بها كثيراً، فالله يقول: بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ [سورة المائدة:44]، فأضاعوا ما استحفظوه.
وهم يعلمون أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13].
قال قتادة في قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، ووعوه، وقال مجاهد: الذين يحرفونه، والذين يكتمونه هم العلماء منهم.
لا إشكال في هذا، فهذا لا يخالف ما سبق، فالفعل قد ينسب إلى الأمة وإن كان ذلك قد وقع من طائفة منها، وهو أسلوب معروف في القرآن، وفي كلام العرب لا إشكال فيه، فهذا من هذا القبيل، العلماء هم الذين كانوا يقومون بالتحريف، ويتبعهم على ذلك العامة، والله قال عن عوامهم: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ [سورة التوبة:31] فهم يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال؛ فاتبعوهم في ذلك.
وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [سورة البقرة:75] قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محِق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس له فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء؛ أمروه بالحق، فقال الله لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44].أي أنهم إنما يبدون بحسب أهوائهم، إن كان طلب الحكم فيه رشوة أخرجوا ما يتناسب مع مطلوب هذا الراشي، فإن كان الذي في الكتاب يخالف هواه حرفوه، وبدلوه، وإن كان الراشي هو صاحب الحق أخرجوا له حقيقة ما في الكتاب، فإن لم يكن ثمة رشوة، ولا هوى؛ فإنهم يخرجون ما في الكتاب، وخبرهم معروف في قصة الزاني الذي حمموه، وداروا به على حمار وقد نكس، وقالوا: إن هذا هو الحكم الذي عندهم في التوراة، ثمَّ جاؤوا إلى النبي ﷺ وسألهم عن ذلك، وطلب منهم التوراة، فجاؤوا بها، فكان الحبر قد وضع أصبعه على آية الرجم في التوراة، فقال عبد الله بن سلام : "مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، فرفع أصبعه فإذا آية الرجم تلوح، فغضب الحبر، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، كابر من شدة الغضب، فألقمه الله حجراً: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي: أنت تقول: ما أنزل الله على بشر من شيء، و"شيء" نكرة مسبوقة بنفي فهي للعموم، وقد سبقت بـ"من" فجعلها ذلك منقولة من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فألقمه الله حجراً بهذا الرد، ومعناه: ينتقض عليك قولك هذا بما نزل على موسى هل تكفر به؟ وهذا ما يسمونه في علم الجدل بالنقض.
على كل حال التحريف أحياناً هو أن يُبدوا غير الموجود في الكتاب، وإن لم يغيروا ما في أصل الكتاب، فكل ذلك من التحريف.
لما سئلوا بعد ذلك عن هذا التحريف الذي وقع في قضية الزنا قالوا: وجدناه قد فشا في كبرائنا، فأردنا على الأقل أن يكون الحكم مستوياً في الناس، يعني ما أرادوا أن يقيموا الحدود على الضعفاء، والفقراء، والعامة، والمساكين، ويتركون الكبراء والعظماء فقالوا: نحن نريد حكم يستوي فيه الجميع، فوضعوا هذا التحميم أي يسود وجه الزاني بالسواد، ويوضع على حمار معكوساً، ويطاف به.

مرات الإستماع: 0

"أَفَتَطْمَعُونَ خطاب المؤمنين. أن يُؤْمِنُوا يعني: اليهود، وتعدّى باللام لما تضمن معنى الانقياد."

تعدى باللام في قوله: أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ لما تضمن معنى الانقياد. تقول: آمن به. يُعدى بالباء، ويُعدى باللام يقال: آمن له. وقد مضى الكلام على الإيمان في اللغة، والفروقات بينه، وبين التصديق، ذكرت كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- وما ذكره من الفروقات السبعة بين الإيمان، والتصديق في اللغة، فلفظ الإيمان غير لفظ التصديق، والمعنى يختلف أيضًا، فإن لفظ الإيمان يختلف في تعديته عن التصديق، وفي لفظ الإيمان معنى الأمن، وتقول: صدقه. ولا تقول: آمنه. التصديق عُدي بنفسه، تقول: آمن به، وآمن له.

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] التعدية هنا باللام تدل على معنى الانقياد، ولهذا يقول شيخ الإسلام: بأن الإيمان في اللغة هو تصديق خاص، فلا يفسر بالتصديق وإنما يقال: تصديق انقيادي. التصديق بمعنى الإقرار، والانقياد، والإذعان، وليس مطلق التصديق، وهذا مهم، تجد كثيرًا في كتب التفسير، وغيرها، تفسير الإيمان بالتصديق. أما التضمين فقد مضى الكلام عليه، فبالتعدية تُعرف معاني الأفعال كما هو معلوم، فإن معاني الأفعال تُعرف على ضوء ما تتعدى به فَآمَنَ لَهُ فإذا عدي بحرف فإن ذلك يُبين عن المعنى، معنى هذا الفعل، فإن كان لا يتعدى بهذا الحرف فإنه يكون قد ضُمّن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بهذا الحرف، ومثلنا لهذا بأمثلة مثل: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا [الإنسان: 6]، قلنا: العين لا يُشرب بها، وإنما يُشرب منها. فالكوفيون يقولون: إن الباء بمعنى من. ضُمن الحرف معنى الحرف، قلنا: إن مذهب البصريين أوفى، وأدق، البصريون لا يقولون بتضمين الحرف هنا معنى الحرف، إنما يقولون: تضمين الفعل معنى الفعل. يشرب ضُمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بالباء: يرتوي بها، يلتذ بها، فدل على أنه شُرب بارتواء، شرب مع الالتواء، والالتذاذ فزاد المعنى، عرفنا هذا من التعدية بحرف الباء.

"فَرِيقٌ مِنْهُمْ السبعون الذين سمعوا كلام الله على الطور، ثم حرفوه، وقيل: بنو إسرائيل حرفوا التوراة. مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بيان لقبح حالهم."

يعني كون الإنسان يحرف بعدما عقل غير لما يحرف عن جهل فذلك أشد، يعني يقولون: إنهم سمعوا الله - تبارك وتعالى - يأمر موسى، وينهاه، وأنزل عليه وحيه، قالوا في النهاية قال: فإن شئتم فاعملوا به، وإن شئتم فاتركوه. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه غير ملزم، فألغوا العمل بالوحي بهذه الزيادة، والتحريف، هكذا قال بعض أهل العلم.

مرات الإستماع: 0

نواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات التي يذكر الله -تبارك وتعالى- فيها قصص بني إسرائيل، وما جرى منهم، وما جرى عليهم، فبعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- خبرهم في قصة القتيل الذي تدارءوا قتله وتدافعوه، ثم بعد ذلك أمرهم نبيهم موسى أن يذبحوا بقرة بأمر الله فكان منهم من التعنت ما كان، ثم بعد ذلك أراهم الله هذه الآية وهي إحياء هذا القتيل، فكان نتيجة ذلك وعاقبته أن قست قلوبهم في موطن ترق فيه القلوب وتلين، وتستكين وتخضع إلى ربها وباريها بعد أن رأت هذه الآيات العظام.

فالله -تبارك وتعالى- بعد هذا يسلي نبيه ﷺ وأهل الإيمان: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] هؤلاء لا مطمع في إيمانهم، هؤلاء لا يرجى انقيادهم وقد كانوا بتلك المثابة يسمعون كلام الله ثم يحرفونه بعد أن فهموا وعقلوا معناه، يصرفونه إلى غير مراد الله -تبارك وتعالى- يصرفون ألفاظه كما يصرفون أيضًا معانيه، وهم يعلمون ذلك، يعلمون هذا الجرم الذي صدر عنهم فلم يكن ذلك قد وقع بطريق الخطأ.

فهذا فيه تسلية للنبي ﷺ ولأهل الإيمان بأن لا يحزنوا، ولا يأسوا على كفر هؤلاء وإعراضهم مهما ظهر لهم من البينات والآيات الدالة على حقية ما جاء به رسول الله ﷺ فهم قوم عتاة، عتاة على الله وعتاة على رسله -عليهم الصلاة والسلام- وهم عتاة على الحق، ففي مثل هذه الحال التي يسمعون فيها كلامه -تبارك وتعالى- يقع منهم التحريف.

ويؤخذ من ذلك أن من لم يؤمن بما هو أظهر وأبين لا يرجى منه أن يؤمن بما هو أخفى، يعني إذا كانوا في هذه الحالة يسمعون كلام الله ثم يحرفونه بعد عقلهم له: مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فكيف يكون إيمانهم بما هو ليس بهذه المرتبة؟

فهذا الذي يسمع كلام الله ثم يقع منه التحريف بعدما عقله أبعد ما يكون عن الاستجابة والاهتداء، فلا يُطمع في إيمانه.

كذلك أيضًا هنا خص الله -تبارك وتعالى- اليهود بتحريف كلامه في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى من كتاب الله -تبارك وتعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [سورة المائدة:41] ولا زال الحال على ذلك إلى يومنا هذا، ولو قرأتم في تاريخ ترجمة القرآن ومبتدأ ذلك ستجدون أن أول من قام بالترجمة هم أحبار اليهود، وكذلك أيضًا وقع ذلك من قبل بعض النصارى.

هؤلاء حرفوه منذ زمن بعيد بطريق الترجمة، لكنهم حبسوا تلك الترجمات من أجل أن يرجعوا إليها عند الحاجة، ولم تظهر المطابع آنذاك، يعني هذا قبل قرون طويلة، قبل أكثر من سبعة قرون، فما أظهروها، ولكن لما ظهرت المطابع أظهرت بعض الترجمات، فاضطر المسلمون إلى الدخول في هذا الباب، باب الترجمة، ولم يكن ذلك قد فتح فيما مضى؛ لأن الناس كانوا في غنية، وكان الإسلام عزيزًا، وإذا فتح شيء من البلاد تعلم أهلها العربية، ويقرؤون القرآن باللغة العربية، وغاية ما هنالك في كتب أهل العلم كتب الفقه إنما هو الكلام في ترجمة الفاتحة ونحو ذلك لمن دخل في الإسلام ولم يمكنه أن يتعلم ذلك باللغة العربية، هل يُترجم له؟ وهل يصح أن يقرأها بالفارسية أو لا؟

نقل هذا عن بعض الفقهاء من أهل الكوفة، ولكن ترجمة القرآن من أوله إلى آخره لم يكن ذلك على بالهم، فضلاً عن أن يكون ذلك عملاً واقعيًّا، ولكن لما وجدت المطابع وطبع هؤلاء تلك الترجمات التي كتبها يهود ونصارى تشوه دين الإسلام، فهنا جاء الحديث عن الترجمة، ووقع في ذلك خلاف كثير وجدل كبير، فمن مانع لها ومن مجيز بضوابط إلى أن صار هذا القول هو السائد وتنوسي القول الأول، مع أنه قال به علماء كبار، وارجعوا إلى ما كتب في أوائل القرن الماضي، كانت هذه القضية محل جدل كثير وألف فيها مؤلفات وكتب فيها مقالات واختلف العلماء فيها اختلافًا مشهورًا إلا أن ذلك قد تنوسي مع الأيام، وصارت الترجمة أمرا سائغًا لا يستشكله الناس في مثل هذه الأيام، المقصود أن هؤلاء هم أول من قاموا بالترجمة، لكنها ترجمة محرفة تشوه الإسلام.

وقبل مدة ليست بالبعيدة قبل سنوات أعلنت وزارة خارجية دويلة إسرائيل بأنهم قد أطلقوا مشروعًا عالميًّا لتفسير القرآن بعنوان: "قرآن نت" وما ظنك بهؤلاء اليهود إذا كانوا يتعاملون مع التوراة يحرفونها كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام: 91] فما ظنكم بصنيعهم وفعلهم مع القرآن، إذا كان هذا يفعلونه مع كبير أنبيائهم موسى وحينما سمعوا الله يكلم موسى يقولون في النهاية: سمعناه يقول: إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، هؤلاء ليس فيهم طب كما يقال، ولا يرجى منهم إيمان؛ ولهذا جاء هذا الاستفهام بهذه الصيغة، الاستفهام الإنكاري أَفَتَطْمَعُونَ وهو مضمن معنى النفي، يعني هؤلاء لا مطمع فيهم.

وفيه معنى أيضًا التقدير لعدم إيمانهم ومعنى التعجب أيضًا، كل ذلك مضمن فيه فكأنه قيل: فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من طمعكم في إيمانهم، أمر يثير التعجب: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] يعني كيف يقع هذا؟ هذا أمر يثير العجب، هؤلاء لا مطمع فيهم.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] أن التحريف بعد عقل المعنى أعظم؛ وذلك لأن الجاهل قد يصدر بعض التصرفات عن جهل؛ لأنه لم يدرك المراد، ولكن من عقل الشيء وفهمه وعرفه فإن ذلك يكون أقبح في حقه، فقد اجترأ على محادة الله -تبارك وتعالى- مع علمه بذلك.

مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهذا فيه توبيخ لهؤلاء اليهود، وذلك يلحق المعاصرين للنبي ﷺ وذلك بأن المساوئ التي تكون صادرة من قبل الآباء فإنها تلحق، المذمة المتوجهة إلى الآباء تلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم ومسلكهم ومنهاجهم، وقد كان هؤلاء في عهد النبي ﷺ على طريقة أوائلهم، وهكذا كانوا يسلكون مسلكهم، فمثل هذا لا يرجى منه رشد ولا إيمان ولا خضوع، وإنما هنالك العناد والعتو والتمرد.

كذلك أيضًا هذا التكرار في هذه الأفعال ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فالعقل والعلم بينهما مقاربة من جهة المعنى، وهذا يدل على شدة قسوة قلوب هؤلاء، وعلى عظم جرمهم عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فالقضية لم تكن ملتبسة أو أن هناك احتمالات أو نحو هذا، وإنما كان ذلك بعد اتضاح هذا الأمر بحيث لا يبقى فيه أدنى التباس، عقلوا مراد الله -تبارك وتعالى- فحملوه على المحامل الفاسدة وهم يعلمون المراد.

وكذلك يؤخذ من هذه الآية عظم التحريف وإن سمي بالتأويل يُحَرِّفُونَهُ فإن التحريف يكون على نوعين كما هو معلوم تحريف الألفاظ والثاني هو تحريف المعاني، فاليهود وقعوا في تحريف الألفاظ وتحريف المعاني، حرفوا ألفاظ الكتاب المنزل وحرفوا معانيه، وهذه الأمة أخبر النبي ﷺ أنها ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، ولكن الله تكفل بحفظ هذا القرآن إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9] فهذا أمر تكفل الله -تبارك وتعالى- به، لكن وقع تحريف المعاني كثيرًا من قبل طوائف من أهل البدع والأهواء والضلالات ومن قبل أهل التعصب المذهبي أيضًا، فأهل البدع حرفوا المعاني، فهم كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: يؤلون المعنى، يعني يصرفونه عن ظاهره إلى معانٍ غير مراده[1] هذا إذا أمكنهم، فإن لم يستطيعوا سلبوا معناه المراد بحيث لا يدل على الحق، أو على قول المخالف، وهذا كثير كالذين حرفوا معاني صفات الله -تبارك وتعالى- وحرفوا دلائل الاعتقاد الصحيح في أبواب الإيمان والقدر ونحو ذلك.

وكذلك أيضًا أولئك الذين وقعوا في التعصب المذهبي فهم يتمحلون في لي أعناق النصوص من أجل أن توافق مذاهبهم، وقل مثل ذلك أيضًا في أصحاب الأهواء ممن يريدون أن يفهموا القرآن على وفق أهوائهم، فيفسرونه بما تمليه عليهم هذه الأهواء، وهذا لا شك أنه من التحريف، ولذلك تجد هؤلاء في هذا العصر يرفعون عقيرتهم وتجد الواحد منهم من أجهل الجاهلين ويتحدث عن الحجاب مثلاً ثم يقول: هذه الآيات لا تدل على الحجاب يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [سورة الأحزاب: 59] يقول: هذه ليست في الحجاب ولا علاقة لها بالحجاب.

وهكذا في الآية الأخرى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [سورة الأحزاب:53] يقول: هذه أيضًا لا تتعلق بموضوع الحجاب وإنما هذه عادة من العادات التي ابتكرها الناس، ثم بعد ذلك نشأ عليها الصغير وشاب عليها الكبير، ونسبوها إلى دين الله فهو لا يؤمن بالحجاب، ويتكلم ويجادل ويتفلسف في لقاء في قناة فضائية يشاهده الملايين، فهذا من التحريف، يعني إذا أوردت عليه النصوص حرفها، وحملها على معانٍ أخرى غير مرادها، وهكذا فيما يتعلق بالأحكام الفقهية.

  1.  انظر: مجموع الفتاوى (33/ 180)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 128).