فقوله: أَفَتَطْمَعُونَ يعني أنكم ترجُّون إيمانهم ودخولهم في الإسلام، وترون أن ذلك أمراً قريباً وهم في تلك الحال التي وصفت يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي: التوراة، ويقول بعضهم: هؤلاء هم السبعون الذين كانوا مع موسى ﷺ الذين اختارهم واصطفاهم من بني إسرائيل كانوا يسمعون الله يكلم موسى ثم بعد ذلك يحرفون كلام الله.
فإن قلنا: هؤلاء هم السبعون فمعنى يحرفونه أنهم يقولون: سمعناه يخاطبه، ويأمره، وينهاه، ثم بعد ذلك قال له: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل، وهذا القول من الإسرائيليات.
وإذا قيل: إنهم عموم بني إسرائيل، أو العلماء منهم لأنهم هم الذين استحفظوا على كتاب الله، وكانوا عليه شهداء؛ فالعوام تبع، والعلماء هم الذين كانوا يحرفون الكتاب حيث يخرجونه قراطيس يحرفون فيها الكلم عن مواضعه، فيكون ذلك ليس في السبعين فقط بل في عموم بني إسرائيل حيث كانوا يسمعون كلام الله الذي هو التوراة.
قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] هذا كقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة النساء:46].
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [سورة البقرة:75] أي: يتأولونه على غير تأويله.يتأولونه على غير تأويله: هذا نوع من التحريف، وهو ما يسمى بالتحريف المعنوي، وهذا النوع من التحريف وقعت فيه هذه الأمة وهو كثير عند طوائف أهل البدع، ولربما وقع فيه بعض متعصبة الفقهاء، حيث يلوي أعناق النصوص، ويتكلف جداً في حملها على المحامل البعيدة من أجل أن توافق اعتقاده، أو مذهبه، وأما أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فلا تسأل عن تحريفهم، وأعظم من هؤلاء جميعاً طوائف الباطنية.
فالمعتزلة مثلاً في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] يقولون: أي: جرحه بمخالب الحكمة؛ لينفوا صفة كلام الله أليس هذا من التحريف؟ هذا من التحريف ولا شك.
وحينما يقول الرافضة: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] يعني عائشة، فهذا من التحريف المعنوي، وحينما يحرف الباطنية الصلاة، والصوم، والحج، فيقولون مثلاً: الحج قصد الولي، والصوم كتم أسرار المذهب، وأشباه ذلك هذا من أعظم التحريف.
وأما التحريف اللفظي فقد وقع لبعض طوائف هذه الأمة مثل الرافضة الذين يزيدون في سورة الشرح: وجعلنا علياً صهرك.
إلا أن التحريف قليل في هذه الأمة؛ لأن هذا القرآن حفظه الله، فلا يقع في تحريفه إلا أكذب الناس، وأفجر الناس، فلذلك حاول بعض المعتزلة ببعض أئمة القراءة كأبي عمرو بن العلاء في قوله - تبارك وتعالى -: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] أن يقرأها بفتح لفظ الجلالة - وكلم اللهَ - حيث رأى أن معنى جرحه بمخالب الحكمة معنىً بعيد، فقال له: فما تفعل بقوله: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143] فألقمه حجراً، ومنهم من قال: وددت لو أحكها من المصحف، فالله المستعان.
مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [سورة البقرة:75] أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة.التحريف الذي وقع فيه بنو إسرائيل هو تحريف معنوي، وتحريف لفظي كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] فتارة يكتمون الحكم المنزل فلا يظهرونه كأوصاف النبي ﷺ، وتارة يبدلونه يعني يجدون عندهم في وصف النبي ﷺ أنه ربعة من الرجال فيصفونه بأنه طويل، ويجدون في صفته ﷺ مثلاً أنه جعد الشعر، وشعور العرب المعروفة يقال لها جعدة، وشعور الروم - أو الغربيين اليوم - توصف شعورهم بغير ذلك، فيصفون النبي ﷺ بأنه سبط الشعر، ويصفونه بأنه أزرق العينين، وهذه في الحقيقة مواصفات الأوروبيين، فهم يحرفون أوصاف النبي - عليه الصلاة والسلام -، فقريش لما سألتهم قالوا: ليس ذلك منا، يعني هذا الأزرق الطويل سبط الشعر ليس منا.
فالحاصل أنهم يحرفون تارة بتبديل الكلام، وتارة بالمعنى، وتارة بالكتمان، وكل ذلك من تحريفهم، والعلماء تكلموا كثيراً على ما وقع في التوراة هل حرفت هي فعلاً، أم أن الذي حرف هو ما يبدونه في القراطيس فقط، فهذا قول لبعض أهل العلم، ولكن الواقع يشهد أنها قد حرفت أعظم التحريف، وإذا نظرت إلى كتبهم وجدتها مختلفة متخالفة متباينة غاية التباين والاختلاف حتى في أبسط الأمور، فقد عبثوا بها كثيراً، فالله يقول: بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ [سورة المائدة:44]، فأضاعوا ما استحفظوه.
وهم يعلمون أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13].
قال قتادة في قوله: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:75] قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، ووعوه، وقال مجاهد: الذين يحرفونه، والذين يكتمونه هم العلماء منهم.لا إشكال في هذا، فهذا لا يخالف ما سبق، فالفعل قد ينسب إلى الأمة وإن كان ذلك قد وقع من طائفة منها، وهو أسلوب معروف في القرآن، وفي كلام العرب لا إشكال فيه، فهذا من هذا القبيل، العلماء هم الذين كانوا يقومون بالتحريف، ويتبعهم على ذلك العامة، والله قال عن عوامهم: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ [سورة التوبة:31] فهم يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال؛ فاتبعوهم في ذلك.
وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [سورة البقرة:75] قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محِق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس له فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء؛ أمروه بالحق، فقال الله لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:44].أي أنهم إنما يبدون بحسب أهوائهم، إن كان طلب الحكم فيه رشوة أخرجوا ما يتناسب مع مطلوب هذا الراشي، فإن كان الذي في الكتاب يخالف هواه حرفوه، وبدلوه، وإن كان الراشي هو صاحب الحق أخرجوا له حقيقة ما في الكتاب، فإن لم يكن ثمة رشوة، ولا هوى؛ فإنهم يخرجون ما في الكتاب، وخبرهم معروف في قصة الزاني الذي حمموه، وداروا به على حمار وقد نكس، وقالوا: إن هذا هو الحكم الذي عندهم في التوراة، ثمَّ جاؤوا إلى النبي ﷺ وسألهم عن ذلك، وطلب منهم التوراة، فجاؤوا بها، فكان الحبر قد وضع أصبعه على آية الرجم في التوراة، فقال عبد الله بن سلام : "مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، فرفع أصبعه فإذا آية الرجم تلوح، فغضب الحبر، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، كابر من شدة الغضب، فألقمه الله حجراً: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي: أنت تقول: ما أنزل الله على بشر من شيء، و"شيء" نكرة مسبوقة بنفي فهي للعموم، وقد سبقت بـ"من" فجعلها ذلك منقولة من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فألقمه الله حجراً بهذا الرد، ومعناه: ينتقض عليك قولك هذا بما نزل على موسى هل تكفر به؟ وهذا ما يسمونه في علم الجدل بالنقض.
على كل حال التحريف أحياناً هو أن يُبدوا غير الموجود في الكتاب، وإن لم يغيروا ما في أصل الكتاب، فكل ذلك من التحريف.
لما سئلوا بعد ذلك عن هذا التحريف الذي وقع في قضية الزنا قالوا: وجدناه قد فشا في كبرائنا، فأردنا على الأقل أن يكون الحكم مستوياً في الناس، يعني ما أرادوا أن يقيموا الحدود على الضعفاء، والفقراء، والعامة، والمساكين، ويتركون الكبراء والعظماء فقالوا: نحن نريد حكم يستوي فيه الجميع، فوضعوا هذا التحميم أي يسود وجه الزاني بالسواد، ويوضع على حمار معكوساً، ويطاف به.