الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَإِذَا لَقُوا۟ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوٓا۟ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:76] الآية.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا أي أن صاحبكم محمد رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم.
طائفة منهم تقول: آمنا أنه نبي ولكنه إلى العرب خاصة، وطائفة أظهروا الإيمان، ونافقوا، فكانوا يقولون نفاقاً: إن هذا هو النبي حقاً، ونحن نؤمن به، فعلى كل حال مشاربهم في ذلك مختلفة، لكن منهم من كان يقول للمؤمنين ذلك.
قوله: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ يقول ابن كثير: لا تحدثوا العرب بهذا يعني أنه نبي، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم: معنى تستفتحون هنا يعني تستنصرون؛ لأنهم كانوا يقولون: سيبعث نبي قد أضل زمانه، وسنقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولن نبقي منكم أحداً.
وقوله: بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ يعني من العلم بأوصاف النبي، فيكون ذلك حجة عليكم لهم، فيلزمكم الإيمان به، وإلا حاجوكم به عند ربكم بما فتح الله عليكم من العلم به.
ويمكن أن يفسر قوله: بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ بمعنى بما حكم عليكم، وهنا يكون المعنى آخر؛ لأن الفُتَاحة هي الحكم، والفاتح والفتاح هو الحاكم، كما في قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف:89] يعني احكم، وكقوله: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19] يعني إن تطلبوا الفصل والحكم بينكم فقد جاءكم الحكم والفصل بنصر رسول الله ﷺ، ومن معه فيما وقع في غزوة بدر، حيث إن المشركين ومنهم أبي جهل دعوا على الطائفة المبطلة بأن يهلكها الله  فقال الله : إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ أي: إن تطلبوا الحكم فقد جاءكم الحكم بالانتصار الكبير للمسلمين عليكم في غزوة بدر، فيكون على هذا التفسير بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ أي بما حكم عليكم من مسخ بعضكم قردة وخنازير، وأمور وقعت لهم معروفة عاقبهم الله بها.
ولهذا فإن بعض أهل العلم يوردون هنا مثل هذا المعنى، ويقولون: النبي ﷺ لما جاء بعد الأحزاب إلى قريظة وقف عند بعض حصونهم وقال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله[1] فقال بعضهم لبعض: "إنما عرفوا ذلك منكم".
فالفتح هنا يكون بمعنى الحكم، والفُتاحة هي الحكم، والفاتح هو الحاكم، والفتاح هو الحاكم، استفتح فلان أي طلب الفتح، وهو الحكم، والله أعلم.
  1. تاريخ الطبري (ج2 /ص 98) وسيرة ابن هشام (ج 4 / ص 193).

مرات الإستماع: 0

"قَالُوا آمَنَّا قالها رجل ادعى الإسلام من اليهود، وقيل: قالوها ليدخلوا إلى المؤمنين، ويسمعوا إلى أخبارهم."

يعني: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا هذا في منافقي اليهود؛ لأن المنافقين كان بعضهم من المشركين من أهل المدينة، وبعضهم من الأعراب، وبعضهم من أهل الكتاب من اليهود.

"أَتُحَدِّثُونَهُمْ توبيخ. بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه ثلاثة أوجه: بما حكم عليهم من العقوبات، وبما في كتبهم من ذكر محمد ﷺ وبما فتح الله عليهم من الفتح، والإنعام، وكل، وجه حجة عليهم؛ ولذلك قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ قيل: في الآخرة، وقيل: أي في حكم ربكم، وما أنزل في كتابه، فعنده بمعنى حكمه."

هنا يُنكر بعضهم على بعض إلى خلوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ يعني تحدثون المسلمين، بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بما حكم عليهم من العقوبات، بأن الفتح بمعنى الحكم، فالحكم يقال له: فتح رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89]، يعني: احكم، والحكم يُقال له: فُتاحة.

والحاكم يقال له: فاتح، وفتاح. إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19]، يعني: تطلبوا الفصل، والحكم بينكم أن الله - تبارك، وتعالى - يُهلك المبطل، فقد جاءكم الفتح، فهذا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني بما حكم عليكم من العقوبات، وأنزل بكم من المثُلات هذا الأول. وبما في كتبهم من ذكر محمد ﷺ.

هذا الثاني، وهذه أقوال في تفسير الآية يعني أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الأول: أنتم تخبرونهم بما أوقع عليكم من الأحكام، والعقوبات لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ يقولون: انظروا ما فعل الله بكم، وأنتم تدعون أنكم أولياء الله - تبارك، وتعالى - وأحبابه، وأنه لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111].

والثاني: وبما في كتبهم من ذكر محمد ﷺ. يقولون: أنتم تخبرونهم عن صفته فيحتجوا بذلك عليكم، ويقولون: هذا وصفه عندكم فلماذا تكفرون به. لا تخبرونهم عن ما جاء في كتبكم مما يكون تصديقًا لهم في وصف هذه الأمة، ووصف نبيها ﷺ.

وهذا قول مشهور في تفسير الآية: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيكون الفتح هنا بمعنى العلم، تقول: فتح الله عليك. بما فتح عليكم من العلم، فيحتجون بذلك عليكم حيث لم تؤمنوا به.

قال: وبما فتح الله عليهم من الفتح، والإنعام. أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يقولون هنا من باب الحسد: لا تخبرونهم عن ما خصكم الله - تبارك، وتعالى - به من العلم، وما إلى ذلك فيحتجون بذلك عليكم.

وكذلك أيضًا لا يريدون أن تستووا معهم في العلم بما خصكم الله - تبارك، وتعالى - به يعني حسدًا من عند أنفسهم، والفتح يأتي بمعنى النصر، وهو يرجع إلى معنى الحكم - والله وتعالى أعلم - ولذلك تقول: فتح مكة، فتح المغلق، فتح الله عليك، ونحو ذلك، يأتي بمعنى النصر، ويأتي بمعنى القضاء، والحكم.

ابن جرير لما ذكر هذه المعاني يقول: وعليه فالمعنى أتحدثونهم بما حكم به عليكم، وقضاه فيكم من الإيمان بمحمد ﷺ وأن جعل منكم القردة، والخنازير هذا في المثُلات، والعقوبات، هناك بصفته ﷺ وأخذ عليهم من الإيمان به، وهنا في العقوبات، والمثلات، قال: وغير ذلك من أحكامه فيهم[1].

لاحظ عممها ابن جرير أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حكم من الإيمان بمحمد ﷺ وأعلمكم بصفته الكاشفة التي لا تلتبس، وكذلك بما أوقع عليكم من العقوبات، يقول: وأول الآية يدل على أن تلاومهم إنما كان في إظهار الإيمان، والتصديق بنبوة محمد ﷺ وهو المثبت في كتابهم.

يقول: أنتم حينما تُظهرون الإيمان، وتقولون: هذا النبي الذي نجد وصفه في كتابنا. يقولون: فأنتم بهذا تعطونهم الحجة التي يحتجون بها عليكم.

وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ هم الآن اتفقوا على النفاق، لكنهم إذا جاءوا إلى المسلمين، وحصل حديث، وانبساط، فمما يتكلم به بعضهم أن هذا النبي هو الذي نجده بصفته، ونحو ذلك، فإذا رجعوا تلاوموا قالوا: أنتم صرحتم بأشياء ما كان ينبغي التصريح بها، قولوا لهم آمنا فقط، دون أن تذكروا أمورًا تكون حجة عليكم. يقولون: هذا النبي نجد وصفه، وكان الاتفاق على الإيمان أول النهار، ثم بعد ذلك الكفر في آخر النهار من أجل ضعضعة أهل الإيمان، ومن أجل صد غير المؤمنين عن الدخول في الإيمان باعتبار أن هؤلاء اليهود أهل كتاب فدخلوا في هذا الدين، فعرفوه من الداخل، فوجدوا فيه ما يوجب الرجوع عنه، لكن إذا قلتم لهم: هذا النبي الذي نجده في كتابنا، ونحو ذلك فأنتم ثبتموهم، وأعطيتموهم الحجة التي يحتجون بها عليكم. أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ.

"أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية كلامهم توبيخًا لقومهم." 
  1. تفسير الطبري (2/254).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات التي يذكرها فيها خبر بني إسرائيل، وما وقع منهم من ألوان العنت والكفر: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:76] فهذا لون من كفرهم، وهو حديث عن طائفة منهم كانوا قد نافقوا وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا إذا لقوا أهل الإيمان من آمنوا بالنبي ﷺ قالوا: آمنا بألسنتهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن طائفة من هؤلاء: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة آل عمران:72] وذلك أنهم أرادوا أن يظهروا للناس أنهم قد دخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- وهم أهل كتاب، ثم بعد ذلك يحصل منهم ارتداد، فإذا حصل هذا الارتداد قالوا الآخرون: بأن هؤلاء ما تركوا هذا الدين إلا عن دين ومعرفة حيث رأوا فيه ما يوجب تركه، فكان ذلك مكيدة منهم.

فهنا أيضًا: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا يعني: بدينكم وبنبيكم الذين بُشر به في التوراة وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ خلى بعض هؤلاء المنافقين إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ المؤمنين، أتخبرونهم: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يعني: من العلم بما جاء بشأن النبي ﷺ وصفته وأنه المبشَّر به في التوراة، هذا على قول جمع من أهل العلم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجوا عليكم بذلك أنكم قد أقررتم بصفته وعرفتم حاله وصدقه، ثم بعد ذلك لم تؤمنوا بما جاء به.

وبعضهم يقول: بأن المراد بالفتح هنا هو الحكم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني: بما حكم عليكم، مما قضى ربنا -تبارك وتعالى- في أسلافهم وما جرى عليهم، وهذا القول الأول هو المشهور والعلم عند الله .

أَفَلا تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:76] يعني: كيف تحدثونهم بمثل هذا ليكون حجة عليكم.

ويؤخذ من هذه الآية ما جُبِل عليه هؤلاء اليهود أو ما طبعوا عليه أو ما كان غالبًا في صفتهم من الغدر والمكر والحيلة والخيانة: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا فهم أهل تلون واحتيال، وكما سبق أنهم أرادوا المكر بهذا الدين وأهله بإظهار الإيمان في أول النهار ثم بعد ذلك يكفرون من أجل الفت في أعضاد المؤمنين، ومن أجل تشكيك الناس بما جاء به النبي ﷺ.

وقولهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ هذا أيضًا يؤخذ منه أن من كتم النصوص التي يحتج بها المخالف من يخالفه، كالذي يريد تجهيل الناس، وترك التحديث بالنصوص التي تُبين الحق والتي يحتج بها أهل السنة والجماعة مثلاً في باب من الأبواب، فإن هذا يفعلونه من أجل ألا يُحتج للحق أو على الباطل بمثل هذه النصوص أن هذا له شبه بهؤلاء اليهود، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: كحال بعض أهل البدع الذين يكتمون بعض الحق الذي جاء به الرسول ﷺ ولا يريدون روايته، ولا سماعه، ويستعيضون عنه بما يذكرون من التحريف الذي يسمونه بالتأويل حتى إن بعضهم لربما أمر القارئ من القُراء أن يقرأ الآية على غير وجهها، أن يقرأ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] أن يقرأها هكذا: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) يعني أن يكون المتكلم هو موسى ؛ لأنهم ينفون صفة الكلام، ولكن هذا القارئ وهو من القراء المشاهير أئمة القراءة رد عليه على البديهة قال: "هب أني قرأتها هكذا فما تصنع بقوله -تبارك وتعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143]"[1]. هذه لا تحتمل أن يُغير في تشكيل الكلمة لينقلب المعنى.

ويؤخذ من هذه الآية: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ على هذا المعنى المشهور: أن العلم من الفتح، ولا شك أنه فتح من الله -تبارك وتعالى- يفتح به على قلب العبد، فيستنير القلب بذلك، ولهذا يقال: فتح الله عليك، ونحو هذا مما يقصدون به التبصير، وبيان الحق ومعرفته والوقوف عليه.

فالعلم فتح من الله ورزق يؤتيه من يشاء، فلا يصح لأحد أن يحسد على عطاء الله كما أن ذلك أيضًا لا يُنال بمجرد جهد الإنسان وكده وسهره وتعبه، فكم ممن يسهر في طلب العلم ويواصل الليالي والأيام ويهجر الراحة ولكنه لا يخرج بكبير طائل، وغيره قد يبذل دون هذا الجهد بكثير ومع ذلك يحصل أضعاف ما يحصله الأول.

ثم تأمل أيضًا في هذا التوبيخ: أَفَلا تَعْقِلُونَ باعتبار أن ذلك من كلام الله يوبخ به اليهود أَفَلا تَعْقِلُونَ وهذا على هذا المعنى على هذا الاعتبار يؤخذ منه أنه ينبغي للعبد ألا يتصرف بتصرف من شأنه أن يكون خلاف العقل أَفَلا تَعْقِلُونَ مع أن الآية في ظاهر السياق -والله تعالى أعلم- أن ذلك من قول اليهود، من قول بعضهم لبعض -والله أعلم. 

  1.  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 303). 

مرات الإستماع: 0

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [سورة البقرة:276]، والمحق بمعنى الإبطال وقد فُسر بإذهاب وإزالة بركته يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، وقد يكون المال الذي في يد الإنسان كثيرًا من حيث العد ولكنه منزوع البركة لا يفي بحاجاته ومطالبه، فلا يحصل مطلوبه ومقصوده من كثرة المال وجمعه والتهافت عليه؛ لأنه قد مُحق وهذا جزاء وفاقا، لما كان قصد المرابي التكثر بالمال بأخذ الزيادة بغير وجه حق قابله الله -تبارك وتعالى- بالمحق فالجزاء من جنس العمل، فكان مقصوده الاستحواذ على أموال الناس بطرق محرمة فكان العائد إليه من ذلك هو المحق فجوزي بخلاف قصده، لما احتال على أموال الناس بأخذها بهذه الطرق كانت هذه عاقبته بخلاف مقصوده يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا.

وإذا كان الله -تبارك وتعالى- يمحق الربا فهذا المحق كما في هذه الآية جاء مطلقًا، والأصل أن المطلق باقٍ على إطلاقه فيكون هذا المحق في الدنيا بذهاب ونزع بركته، ويكون المحق أيضًا في الآخرة كما جاء عن بعض السلف ، فالله يبطله، فإذا تصدق فالله طيب لا يقبل إلا طيبا، لا ينتفع بصدقته هذه، وإذا حج أو فعل فعلاً يتقرب به إلى الله -تبارك تعالى- بهذا المال فالمحق هو حكمه الثابت، يمحق الله الربا، وجاء التعبير بالفعل المضارع يمحق يدل على أن هذا المحق يتجدد فلكل آخذ للربا نصيب من هذا المحق يمحق، وهذه اللفظة في كتاب الله -تبارك وتعالى- جاءت في هذا المقام.

والمقام الآخر: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:141]، فإذا كان هذا الكافر قد جمع بين الكفر وبين أخذ الربا فما ظنكم؟! فهو محق مضاعف، وإذا كان الله -تبارك وتعالى- يمحق الربا فهل يُظن بحال من الأحوال أن الربا هو قوام اقتصاد الناس، وأن معايشهم ومصالحهم لا تتحقق إلا به والله يمحقه، وهل يمكن أن يمحق الله -تبارك وتعالى- شيئًا تقوم عليه مصالح الخلق؟!

هذا لا يكون، والله -تبارك وتعالى- عليم حكيم، فإذا أيقن المؤمن بذلك واستقر في نفسه هذا الحكم، فإنه لا يمكن أن يتصور أو يعتقد أو يظن أن هذا الربا يمكن أن يُحقق مصلحة للأفراد أو المجتمعات أو الأمم، كيف يتحقق هذا والله يمحقه، وهذا المحق أيضًا يدل على التحريم، بل على تحريمٍ غليظٍ شديد؛ لأن ذلك كما سبق لم يرد في غير الربا، لم يرد في أكل مال اليتيم ولا في أنواع المكاسب المحرمة.

ذكر الله الأحبار والرهبان إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة التوبة:34]، ولم يذكر المحق مع أنها ممحوقة لكن التصريح بالمحق في هذا المقام يدل على شدة تحقق ذلك في الأموال الربوية يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، ثم قابله أحسن مقابلة وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، فهذه الصدقة التي تبدوا لربما في ظاهر من النظر لدى بعض الناس أنها نقص في المال، أخبر الله -تبارك وتعالى- وحكم بأنه يُربيها لصاحبها وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ

وهذه المادة ربا تدل على ارتفاع فيُنميها فتقول هذه ربوة من الأرض يعني مرتفعة: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [سورة البقرة:265]، يُربي: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [سورة الحج:5]، يعني: ارتفعت بالنبات لما نزل عليها المطر، فالربا يبدو كثيرًا وأنه أخذ زيادة على رأس المال بغير حق فقابله بالمحق، والصدقات تبدو أنها نقص من المال، نقص من رأس المال، يحسب بعض الناس حسابات كثيرة قبل أن يُخرج هذا الريال صدقة؛ والواقع أن الله يُنميه ويُربيها لصاحبه ويُربي الصدقات.

فالذي يملك العطاء والمنع هو الغني الملك المُدبر المتصرف في أمر الخليقة، هو الذي قسم الأرزاق، وهو الذي وسع على بعض الخلق فجعله غنيًا، وقدر على آخرين فصار فقيرًا، فكل ذلك بيده وإليه وحده دون ما سواه، ليست القضية بمزاولات أو ذكاء أو حِرف أو مهارات أو خبرات أو دورات يتعلمها الإنسان فيُحصل الأموال الطائلة، أبدًا، تجد الرجل عنده من الذكاء، والمهارات، والعمل، والجد، والسعي يخرج في البكور ولا يرجع إلا في الظلام في آخر النهار، ولا يكاد يرجع بشيء، شهادات دورات خبرات يذهب بها هنا وهناك ولا يكاد يرجع بشيء، وغاية ما هنالك لربما أجير يعمل عند غيره.

وتجد آخر وهو في الهاتف بمكالمة واحدة ضربة ملايين ما يجمعها ذاك ولا ذووه ولا عشيرته العمر من أوله إلى آخره، لو بقوا طول الأعمار أحيانًا لا يجمعون، مكالمة واحدة في صفقة يُحصل منها هذا لربما كان قليل الذكاء قليل الخبرة قليل المعرفة قليل المهارات وليس لربما عنده شهادة ابتدائي، وهذا مُعلق شهاداته ومُعلق دروع ومُعلق شهادات شكر ومُعلق كل شيء، فالذي يوسع ويُضيق على من شاء هذه قسمة قسمها الله وهو عليم حكيم هو الله -تبارك وتعالى.

إذًا: على العبد أن يتحرى الحلال، وفي الحديث: لن تموت نفسٌ[1]، "لن" أقوى صيغة من صيغ النفي، النفي له صيغ وهي على مراتب في اللغة وعند الأصوليين أقوى صيغة من صيغ النفي لن، لن تموت نفسٌ حتى، وحتى للغاية حتى تستوفي رزقها وأجلها، "تستوفي" تستوفي يعني إلى آخر هللة أو أقل من الهللة، "تستوفي"، والأجل إلى آخر لحظة، لو نزلت فيه أمراض الدنيا لن يتقدم الأجل ثانية، ولو قال له الأطباء: أنت صحيح مائة بالمائة لن يتأخر الأجل لحظة، الأجل هو الأجل، بالمرض وبالصحة وبالحمية وبكل شيء نفس الأجل، لكن نحن مأمورون بالأخذ بالأسباب، والله -تبارك وتعالى- قد ربط هذه الأسباب بمسببات لكن لا يكون شيء إلا بإرادته ومشيئته، فإذا كان الإنسان لن يموت حتى يستوفي الرزق والأجل، والرزق يطارده كما يُطارده الأجل إذًا لماذا يأخذ من الحرام، هي ستأتيه إن صبر من الحلال، لن تموت نفسٌ.

وهنا قال: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ، ولهذا قال النبي ﷺ: ما نقص مال من صدقة[2]، ما نقص فجاء بالنفي ما نقص، ومال نكرة في سياق النفي أي مال لزيد وعمرو تقول فلان نقص وأنا ما نقص وإلى آخره، لا لا، ما نقص مال، أي مال قليل أو كثير، بعض الناس يقول: أنا كل الذي عندي قليل، ما نقص مال من صدقة، الصدقة كانت قليلة أو كثيرة فتكون ذلك بركة في هذا المال ونماء، وتنموا هذه الصدقة عند الله يُربي الصدقات، هل تظن أن هذا الريال الذي تصدقت به تلقاه يوم القيامة صدقة ريال؟

أبدًا! هذا لا يكون بحال من الأحوال، يُربيها بيمينه كما يُربي أحدنا فلوه[3]، المُهر الفرس الصغير، يعتني به العرب غاية العناية يربونه بأنفسهم لا يكلون ذلك إلى الخدم والعمال والمماليك والأجراء حتى تكون مثل الجبل، الصدقة هذه تكون مثل الجبل، التمرة تكون مثل الجبل تنمو، فيأتي الإنسان يوم القيامة وحسنات، أشياء أحيانًا أعطى هذا ماء، وأعطى هذا عشرة ريالات، وأعطى هذا خمسة، وأعطى هذا مائة، وكذا، يأتي يوم القيامة جبال، فما بالك بأكثر من هذا ماذا ستكون! والحسنة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كما سبق أضعاف كثيرة، والله واسع العطاء، وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.

ثم قال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، "كل" هذه أقوى صيغة من صيغ العموم "كل"، صيغ العموم على مراتب أيضًا، كل وجميع هذه من أقوى صيغ العموم، فهذه الصيغة كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، كفّار صيغة مبالغة من الكافر؛ فبعض أهل العلم يقولون: محمل ذلك على المذكورين ممن يستحلون الربا وهو يشير إليهم الذين قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فاستحلوه هذا الاستحلال الذي بالغوا فيه.

وبعض أهل العلم يوجه ذلك بتوجيه لا يتنافى مع ما سبق يقول: لما كان هذا المُرابي من الناحية العملية لم يقنع بما أعطاه الله ، ولم يقنع بالوسائل المشروعة والصحيحة والنظيفة في الكسب فحمله الطمع على أخذ ما لا يحل وارتكاب هذه المحظورات الكبار طلبًا للكسب كان بذلك كافرًا لما أعطاه الله وأنعم به عليه، ما اقتنع ولا رضي لا بما أعطاه الله من المال حتى طلب ما عند الناس بطريق غير صحيح، وأيضًا لم يرض بتشريع الله وبهذه المعاملات الواسعة من الحلال؛ لأن الأصل قاعدة في المعاملات الحِل، وهذا من رحمة الله، الأصل في المعاملات الحِل، لا تظنون أن كل شيء حرام وأن الأصل المنع، لا، في المعاملات الأصل الحِل توسعة هذا الأصل، في اللباس الأصل الحِل، في الترفيه الأصل الحِل، في الطب والعلاج الأصل الحِل، الأصل المنع في العبادات، فلا يُعبد الله إلا بما شرع لا يأتي إنسان ببدع ويتقرب إلى الله فيها: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[4].

فالأصل في العبادات المنع، زاد بعض أهل العلم نوعين أيضًا الأصل فيهما المنع، بعضهم قال: الأصل في الذبائح المنع، وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121]، ليس الأصل الحِل وإنما تأكل مما ذُكر اسم الله عليه وطعام أهل الكتاب المقصود ذبائح أهل الكتاب حِل أيضًا لنا، الكلام في الذبائح، أما المطعومات فالأصل فيها الحِل من النباتات وأنواع المطهيات والأخلاط ما لم يثبت به ضرر أو يكون من الأمور المستقذرة عند العرب.

وزاد بعض أهل العلم: الأصل في الفروج المنع، يعني: لا يُقدم على مواقعة امرأة حتى يعقد عليها عقدًا صحيحًا أو يتملك بملك اليمين بتملك صحيح، لكن إذا بقيت القضية فيها شك مثلا: جاءت امرأة وقالت: أنا أرضعتكما أو نحو ذلك فيتوقف، يُقال: الأصل المنع احترازًا للأعراض، هذه ثلاثة أشياء: الذبائح، والفروج، والعبادات، والباقي الأصل الحِل.

فهنا هذا الذي لم يقتنع بهذا الباب الواسع، هذا المهيع الواسع، هذا الحِل الواسع وطلب الحرام، أنواع المكاسب والمعاملات التي تستجد في كل عصر ويبحث عن الحرام فهذا قيل له: كفّار بهذا الاعتبار لم يقنع لم يرض بما شرع الله، وبما قسم الله له من الرزق فتطلعت نفسه إلى ما في أيدي الناس أن يأخذه، وأن يستحوذ عليه بغير حق، يستغل حاجة المحتاجين، وكَفَّارٍ صيغة مبالغة، أَثِيمٍ أيضًا صيغة مبالغة، يعني: كثير الآثام أَثِيمٍ، فدل على أن شأن الربا خطير من جهة وصفه، ومن جهة تبعته من الآثام، لكن من تعاطى الربا من غير استحلال له فإنه لا يكفر كما هو معلوم، وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الكبائر لا يكفر الإنسان بفعلها مجردًا هكذا: شهوة، أو طمعًا، أو غلبة هوى إلا إذا استحلها، فهذا يكون كافرًا، استحل ما حرم الله -تبارك وتعالى. 

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، برقم (2144)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2742).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (1674)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة قاص أهل فلسطين، وعمر بن أبي سلمة- وهو ابن عبد الرحمن بن عوف- ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به".
  3. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب لقوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة:276]، برقم (1410)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم (1014).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم (1718).